هادون بارث كاتب مستقل وطالب تاريخ في جامعة برينستون، شارك في إعداد أبحاث حول سورية والعراق، وصدرت له مقالاتٌ في مجلة فورين بوليسي وموقع Lawfare الإلكتروني ومنصّة L’Orient Today الإخبارية. ركّز في عمله مؤخرًا على العملية الانتقالية في سورية، ولا سيما مسألة إعادة الإعمار، من خلال الاستناد إلى معلومات المصادر المفتوحة. وقد ساعد سابقًا في المشاريع البحثية لدى مكتب المنظمة الدولية للهجرة في الأردن والمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية في تونس. أجرت "ديوان" مقابلة معه في أواخر أيلول/سبتمبر لمناقشة الاستنتاجات التي توصّل إليها حول مسار إعادة الإعمار في سورية، بما في ذلك العقبات التي تعترض هذه العملية.
مايكل يونغ: لقد تابعتَ عن كثب عملية إعادة إعمار سورية من خلال معلومات المصادر المفتوحة. ما النقاط الأساسية التي أثارت قلقك؟
هادون بارث: في أعقاب سقوط بشار الأسد، أمام سورية اليوم مهلة قصيرة لاتّخاذ قرارات ستحدّد معالم اقتصادها على مدى السنوات المقبلة. هنا، تُطرح أسئلة مهمة: إلى أيّ درجة سيتم خصخصة المؤسسات العامة؟ وإلى أي حدٍّ ستكون إدارة الثروة العامة شفّافة؟ وهل سيتمكّن المستثمرون الأجانب من الاعتماد على المحاكم السورية لضمان تنفيذ الاتفاقات؟
أكثر ما يثير قلقي أن تكون الإجابات عن هذه الأسئلة تُصاغ خلف الأبواب المغلقة، وأن الإجابات التي قُدِّمت لغاية الآن تخدم مصالح السلطات الانتقالية. ويبدو أن عملية إعادة هيكلة الاقتصاد السوري التي ينفّذها الرئيس أحمد الشرع تُعيد على ما يبدو تشكيل الأنماط الكليبتوقراطية نفسها التي كانت متجذّرةً في عهد سلفه، والتي أتاحت للمقرّبين من النظام مراكمة الثروات من خلال العمل وفق قواعد مختلفة عن تلك المُطبَّقة على غالبية الشعب السوري.
يونغ: أعلنت السلطات السورية في تموز/يوليو الماضي إحداث صندوق ثروة سيادي، كتبتَ حوله مقالًا على منصّة L’Orient Today. أيُّ جوانب من هذا الصندوق اعتبرتها الأكثر إشكاليةً وإثارةً للاستغراب؟
بارث: برأيي، شكّل إنشاء صندوق الثروة السيادي علامة الخطر الأولى، إذ تديره بالكامل شخصيات مقرّبة من الشرع. فهو يتولّى رئاسته بنفسه، وقد عيّن مجلسًا من سبعة أعضاء بموجب مرسوم رئاسي، وسمّى المدير العام، الذي يُعتبر المُمثّل القانوني للصندوق ومديره المالي. إذًا، يخضع الصندوق لرقابةٍ شكلية، يقدّم بموجبها المدقّقون الماليون التقارير مباشرةً إلى الشرع، متجاوزين بذلك وزارة المالية التي تكون عادةً مسؤولةً عن إدارة الثروة العامة.
يكتنف الغموض أيضًا الموارد المالية للصندوق، إذ ما من معلومات مؤكّدة حول مصدر رأس ماله الأوّلي. فالمرسوم الذي قضى بإحداث الصندوق السيادي يسمّي مصادر عدّة، إلّا أن نصفها الأول يُعدّ مكاسب سيحقّقها الصندوق في المستقبل، لا مصادر تمويل، بينما النصف الثاني - أي "الاعتمادات والأموال التي تخصّصها الدولة له" و"الإعانات والهبات والتبرعات التي يقبلها" – عبارة عن بنود فضفاضة غير محدّدة، وواسعة بما يكفي لتشمل أيّ أصولٍ يمكن أن تُدرج في الصندوق. من غير المعروف بعد كيف سيُستخدم الصندوق في نهاية المطاف. لكن ما أكّده لي خبراء في صناديق الثروة السيادية هو أن مثل هذه الصناديق توفّر آليةً ملائمة لإضفاء الشرعية على الإيرادات المُحقّقة بطريقة غير مشروعة من خلال إدراجها كرأس مالٍ تأسيسي. وبمجرّد رسملة الصندوق، سيسهّل غياب الرقابة تحويل الموارد إلى الدائرة الضيّقة للشرع.
يونغ: في 6 آب/أغسطس، أعلن الشرع عن إبرام اثنتَي عشرة مذكّرة تفاهم لعددٍ من المشاريع الاستثمارية بقيمة 14 مليار دولار أميركي. وهذا يبدو مثالًا مهمًّا على التقدّم المُحرَز، لكن راودتك بعض الأسئلة عندما أمعنت النظر في هذه المشاريع. هلّا تُطلعنا على ما اكتشفته؟
بارث: إنّ عددًا من هذه الجهات المستثمرة شركاتٌ وهمية. وأبرز مثالٍ على ذلك هو شركة "أوباكو أسانسوري" (Ubako Ascensori)، التي وافقت على استثمار مليارَي دولار لتنفيذ مشروع أبراج دمشق. في هذه الشركة موظفٌ واحد، وتبلغ قيمة إيراداتها السنوية التي تُعلن عنها بنفسها 216 ألف يورو فقط، ناهيك عن أنها تأسّست منذ ثلاثة أعوام فقط. يُضاف إلى ذلك أن موقعها الإلكتروني، الذي أُنشئ قبل ثلاثة أشهر من توقيع الاتفاق، يعتمد بشكل كبير على مقاطع فيديو ترويجية أُنشئت باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومليئة بالأخطاء الإملائية. وتتباهى الشركة بأنها "شركةٌ دولية رائدة في العالم"، وتزعم امتلاك خبرة في "التعدين"، و"الاستشارات"، مع وجود خطأ في كتابة الكلمتَين باللغة الإنكليزية [Minning بدل Mining، Conslutancy بدل Consultancy]، كما في كتابة ساعات عمل مكتبها. إحدى الجمل الترويجية تَعد بأن "[اسم الشركة] تجمع بين خبرتها التي تمتدّ عقودًا وبين التكنولوجيا المتطوّرة منذ [العام]". باختصار، لا شيء في المعطيات المتوفّرة عن هذه الشركة يشير إلى أنها قادرةٌ على إنجاز مشروعٍ بقيمة مليارَي دولار في سورية.
ومن بين الشركات المنخرطة في الاتفاق الهادف إلى تطوير مطار دمشق الدولي أيضًا الشركة التركية "بوليداف" (Polidef)، التي تروّج لشراكاتها مع العملاقَين التركيَين في الصناعات الدفاعية "أسيلسان" (Acelsan) و"هافيلسان" (Havelsan). لكن ما من دليل من هاتَين الشركتَين يُثبت صحّة هذا الادّعاء. علاوةً على ذلك، ما من مؤشرات على أن مكاتبها المزعومة في إسطنبول وأنقرة تعمل فعلًا، ولا يمكن العثور على معلومات حول أيٍّ من مسؤوليها التنفيذيين في السجلات أو على منصّة ليكند إن (LinkedIn). يُضاف إلى ذلك أن الموقع الإلكتروني للشركة أُنشئ باستخدام تصميم "ووردبريس" (WordPress) الجاهز.
ما الهدف من استعراض استثمارات وهمية؟ الغاية الأكثر وضوحًا منها هي تجميل الصورة، وإعطاء الانطباع بأن سورية تجتذب رؤوس أموال خارجية. في المقابل، يمكن أن يكون المسؤولون الحكوميون قد حصلوا على رشاوى، أو استخدموا مذكرات التفاهم كغطاء من أجل إعادة تخصيص حقوق التطوير إلى المقرّبين منهم. ومن الممكن أيضًا أن تكون حكومة الشرع قد خُدعت فعلًا، واعتقدت أن هذه الشركات هي شريكة شرعية. لكن هذا الاحتمال يبدو مستبعدًا نظرًا إلى الحنكة التي أظهرتها السلطات في حالات أخرى.
يونغ: إذا افترضنا أن الهدف من بعض الإعلانات الصادرة عن السلطات السورية هو إعطاء انطباع بأن عملية تمويل جهود إعادة الإعمار تكتسب زخمًا، فهل هذا مُستغربٌ أو مُستهجنٌ في ظلّ الظروف التي تواجهها سورية؟ أليست الثقة هي أوّل ما تحتاج دمشق إلى ترسيخه بعد سنوات الحرب؟
بارث: هذه فكرة صائبة من حيث المبدأ. فقد ورث الشرع من الأسد اقتصادًا مشوَّهًا قائمًا على المحسوبيات ومراكمة الريع، وهو اقتصادٌ أدّى إلى إثراء مجموعة صغيرة من الأشخاص وترك الغالبية العظمى من السوريين يعيشون على قوت يومهم. لذا، فإن إعادة بناء ذلك الاقتصاد تقتضي استعادة ثقة المستثمرين الأجانب بالمؤسّسات.
تصبّ بعض خطوات الشرع فعلًا في هذا الاتجاه. فصناديق الثروة السيادية يمكنها، على سبيل المثال، جذب رؤوس الأموال إلى الاقتصادات الناشئة التي تنطوي على مخاطر من خلال المشاركة في الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والحدّ من المخاطر السياسية. كذلك، يمكن أن يشكّل الإعلان عن صفقات استثمارية كبرى آليةً للإيحاء بأن جهات أخرى باتت تعتبر أن الاستثمار في سورية يستحق المخاطرة.
لكن استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية يعتمد على الثقة. فإنشاء صندوق ثروة سيادي خاضع لإدارة غامضة وآليات تمويل غير واضحة سيُنفّر المستثمرين بدلًا من أن يطمئنهم، كما أن الإعلان عن مشاريع تنفّذها شركات وهمية سيزيد من منسوب المخاطر في نظر المستثمرين.
يونغ: كيف تعاملت السلطات السورية الجديدة مع طبقة رجال الأعمال التي نشأت في عهد الأسد، وكيف ينسجم ذلك في رأيك مع الاستراتيجية الاقتصادية للقيادة الجديدة في دمشق؟
بارث: هذا هو السؤال الجوهري الذي واجه السلطات الجديدة عند تولّيها الحكم. ففي عهد الأسد، كان الاقتصاد قائمًا على ركيزتَين، هما: شبكة من كبار رجال الأعمال الذين احتكروا القطاعات الأساسية عبر إبرام صفقات مع الأسد، وإمبراطورية الرئيس الاقتصادية الخاصة. ضمّت تلك الإمبراطورية أكثر من مئة شركة في مجالات الطيران والاتصالات والعقارات، وكانت مدعومةً بالانخراط العميق في تجارة الكبتاغون. إذًا، تمثّلت معضلة الشرع في كيفية التعامل مع تلك القطاعات ورجال الأعمال. وكما كشف تحقيق من إعداد وكالة رويترز، عمَدَ الشرع إلى معالجة هذه المسألة عبر إنشاء لجنة سرّية برئاسة شقيقه حازم لاستعادة الأصول من رجال أعمال حقبة الأسد. وبدلًا من محاكمتهم أمام القضاء، تفاوضت اللجنة معهم على تسويات: فأصدرت قرارات عفو مقابل تلقّي مبالغ مالية وحصص ملكية. وفي غضون أشهر قليلة، استردّت اللجنة أكثر من 1.6 مليار دولار. وقد تخلّت شخصيات بارزة عن أجزاء كبيرة من إمبراطورياتها الاقتصادية، من معامل تكرير السكر إلى مصانع الفولاذ وحصص في شركات الطيران.
توفّر هذه المنظومة اليوم للشرع مجموعة مُتاحة من الموارد. في أفضل السيناريوهات، سيُعلَن عن اللجنة على الملأ وستخضع الثروة إلى آليات إشراف شفافة. أمّا في السيناريو المرجّح، فستُستَخدم هذه الثروة لتمويل مشاريع متنوّعة، من بينها رسملة صندوق الثروة السيادي الجديد. في تلك الحالة، ستُغسَل الأصول غير المُعلَن عنها، التي صودِرَت من كبار رجال الأعمال من حقبة الأسد، من خلال مؤسّسة "عامّة" يديرها أقرب حلفاء الشرع، بحيث يمكن استغلالها بسهولة لإثراء دائرة المقرّبين والحفاظ على شبكات المحسوبيّة.
تحمل هذه المصادرات تبعات بعيدة المدى. فإذا قرّرت الدولة الالتفاف على القضاء، وهو قرار برّره أعضاء اللجنة بالقول إنهم لا يثقون بقضاة عهد الأسد، لن يثق المستثمرون بالدولة، وسيخشون أن تُعيد الحكومة السورية التفاوض على عقودهم بالإكراه.
يونغ: لقد أشرتَ إلى الخطوات المطلوبة من سورية كي تتمكّن من طمأنة المستثمرين الأجانب بشكلٍ أكبر، ولا سيما الغربيين منهم، للمشاركة في جهودها الضخمة لإعادة الإعمار. ولكن ما هي تحديدًا المتطلّبات الأساسية لنجاح عملية إعادة الإعمار في البلاد؟
بارث: العامل الأهمّ هو المصداقية. ففي نهاية المطاف، ومهما أعلن الشرع من صفقات، تعتمد ثقة المستثمرين على تأكّدهم من التزام الدولة بسيادة القانون. غالبًا ما يدخل المستثمرون بيئات عالية المخاطر، شرط أن يكونوا على ثقة بأن عقودهم ستُحترَم وأن النزاعات ستُحسَم بشكلٍ عادل. ويتطلّب ذلك استعادة الثقة في المحاكم وضمان الإدارة الشفافة للمؤسّسات الاقتصادية، بدءًا من إصلاح صندوق الثروة السيادي ولجنة استرداد الأصول. يمكن أن يؤدّي الصندوق السيادي في سورية دورًا محوريًا في عملية إعادة الإعمار. فعلى الصعيد العالمي، تساعد هذه الصناديق على حشد رؤوس الأموال الأجنبية من خلال إنشاء هيكلية متينة للمشاريع وتقليص مخاطرها، وذلك عبر تحمُّل الخسائر الأوّلية أو وضع سقف لعائدات الدولة، ما يتيح للشركاء من القطاع الخاص تحقيق مكاسب أكبر. يمكن للصندوق السيادي في سورية أن يحقّق هذا الهدف، ولكنه بصيغته الحالية يهدّد بعرقلة الاستثمارات بدلًا من تشجيعها.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى دور الولايات المتحدة. فمن دوافع مشاركة الشرع في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي أنه أمِل في تخفيف المزيد من العقوبات من خلال إلغاء قانون قيصر. في حال مضَت واشنطن في هذا الاتجاه، ينبغي أن تشترط تعزيز الشفافية في كلٍّ من صندوق الثروة السيادي ولجنة استرداد الأصول لإلغاء قانون قيصر. أمّا المسار الحالي فلا يزال مقلقًا، إذ يُعاد تشكيل الاقتصاد في ظلّ إدارة مركزية غامضة تتمحور حول علاقات القرابة، وهو نموذج يبدو شبيهًا إلى حدٍّ لافت برأسمالية المحاباة التي سادت في السنوات الأخيرة من حكم الأسد.