في أوائل أيار/مايو 2022، اصطفّ المهاجرون والمغتربون اللبنانيون، من سيدني إلى لوس أنجلوس، أمام السفارات والقنصليات ومراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخاباتٍ برلمانيةٍ أحدثت فيها أصواتُهم للمرة الأولى فرقًا. آنذاك، فاقت نسبة المشاركة بكثير مثيلتَها في انتخابات العام 2018، حيث ساهمت أصوات اللبنانيين في الخارج في فوز سبعة مقاعد على الأقلّ، خمسة منها لمرشّحين من خارج المنظومة السياسية. ولكن عندما يصطفّ هؤلاء أنفسهم مجددًا للاقتراع في الانتخابات المقبلة، سيكونون أمام سؤال بسيط وعبثي في آن: هل ستُحتَسَب أصواتهم مجددًا في دوائرهم الأصلية ضمن المقاعد البرلمانية البالغ عددها 128 مقعدًا، أم ستنحصر بكتلةٍ منفصلةٍ للاغتراب مؤلّفة من ستّة مقاعد فقط؟
مع اقتراب موعد انتخابات العام 2026، عادت مسألة حقوق اقتراع المغتربين لتشكّل نقطة خلافٍ في المشهد السياسي المتشظّي في لبنان. فالمادة 112 من قانون الانتخاب للعام 2017 تنصّ على أنّ المغتربين ينتخبون ستّة نواب - نائب عن الجاليات اللبنانية في كل قارة من قارات العالم المأهولة - ولا يقترعون لانتخاب النواب الـ128 الذين يمثّلون الدوائر داخل لبنان. لكن العمل بالمادة 112 عُلّق بموجب تعديلٍ في الفترة التي سبقت انتخابات العامَين 2018 و2022، أي أنّ المغتربين اللبنانيين صوّتوا للمرشّحين المتنافسين على مقاعد في دوائرهم الأصلية في لبنان. أما الأمر المختلف هذه المرة، فهو أن رئيس مجلس النواب نبيه برّي رفض إدراج اقتراح قانون معجّل مكرّر يتيح للمغتربين التصويت لـ128 نائبًا مجدّدًا. وهكذا، مَن يسجّل اسمه للاقتراع في الخارج يفقد حقّه في التصويت في دائرته الأصلية، أما اللبنانيين الذين يعيشون في الخارج ولا يسجّلون أسماءهم هناك، فسيضطّرون للسفر إلى لبنان فقط من أجل الإدلاء بأصواتهم.
يشير المنتقدون إلى أن قانون الانتخاب للعام 2017 لا يزال مُبهمًا، حيث لا يزال من غير الواضح مثلًا على وجه التحديد كيف ستُخصَّص مقاعد المغتربين الستّة، أو كيف ستندرج ضمن النظام البرلماني الأوسع. في وقت سابق من هذا العام، تجمّع حوالى 50 متظاهرًا أمام مبنى بلدية بيروت وهم يهتفون "128، لا ستّة". وقد ردّدت مجموعات المجتمع المدني هذا المطلب، مُصِرّة على إدلاء المغتربين بأصواتهم في دوائرهم الأصلية بدلًا من دائرة جديدة مخصّصة للاغتراب. كذلك دخلت المرجعيات الدينية على خطّ النقاش، إذ أدان البطريرك الماروني بشارة الراعي خطة المقاعد الستّة واصفًا إيّاها بأنها "عملية إقصاء"، ومعتبرًا أنها تنتهك مبدأ المساواة الدستوري بحرمان المغتربين من حقّهم في التصويت لمرشّحي دوائرهم الأصلية.
ينتاب القلق أيضًا الأحزاب السياسية التي يُفترَض أن تستفيد من وضعٍ يكون فيه للبنانيين في الخارج رأيٌ في المشهد السياسي اللبناني. فإذا اقتصر اقتراع المغتربين على انتخاب ستة نواب فقط عن الاغتراب، لن يكون لعشرات الآلاف من الأصوات المؤثّرة المحتملة أيّ دورٌ في اختيار ممثّلي مختلف الدوائر في لبنان. إن لهذه الحسابات السياسية البحتة أهمية، إذ لم تنسَ الكتلة البرلمانية الحاكمة السابقة في لبنان، حزب الله، وحركة أمل، والتيار الوطني الحر، تأثير المغتربين في انتخابات العام 2022، الذي غيّر معادلات السياسة اللبنانية. فبينما اقترع في العام 2018 حوالى 47 ألف مواطن فقط في الخارج، ارتفع هذا الرقم في العام 2022 إلى ما يقرب من 140 ألفًا، ما يعادل تقريبًا 7 في المئة من إجمالي عدد الناخبين.
ولم يكن التغيير مجرّد مسألة أرقام، بل إن أنماط التصويت اختلفت اختلافًا حادًّا عن الأنماط داخل لبنان. ففي حين أن الناخبين داخل البلاد لم يمنحوا سوى 11 في المئة تقريبًا من أصواتهم للمرّشحين المناهضين للمنظومة الحاكمة، بلغت النسبة لدى المغتربين 34 في المئة. ناهيك عن ذلك، تضاعف دعم القوات اللبنانية بين المغتربين، فيما انهار دعم حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر. والنقاش البرلماني الدائر اليوم حول الاقتراع يكاد يعكس بالكامل هذه النتائج: فالأحزاب التي استفادت من أصوات المغتربين تسعى إلى الحفاظ عليها، بينما الأحزاب التي خسرت تريد تقليصها.
ويدلّ هذا التحوّل بمعظمه على هوية المغتربين الجدد. فالكثيرون غادروا البلاد إما عقب الانهيار المالي في العام 2019، وإما بعد انفجار مرفأ بيروت في العام 2020. ولم يكن رحيلهم هذا طوعيًا، بل كان شكلًا من أشكال المنفى الناتج عن الأزمة وخيبة الأمل؛ وقد نقلوا إحباطهم هذا إلى الوطن حينما أدلوا بأصواتهم. ولكن ما لا شكّ فيه أن استمرار اتّجاهات التصويت هذه في العام 2026 أمرٌ غير مضمون على الإطلاق. فإذا كانت الانتخابات البلدية للعام 2025 مؤشّرًا يُعتَدّ به، يبدو أن مؤيّدي معسكر «الثورة»، الذين كانوا ناشطين في العام 2022، ينقسمون اليوم نتيجة استيائهم من أداء المرشّحين الذين انتخبوهم. ومع ذلك، تبقى نزعة الكتلة الحاكمة السابقة ثابتة: احتواء ما لا يمكن التحكّم به. فالمسعى الرامي إلى تقليص اقتراع المغتربين هو محاولة لتدجين قاعدةٍ انتخابيةٍ تأبى الالتزام بقواعد الوساطة والمحسوبية.
الواقع أن التوترات بين لبنان ومغتربيه ليست جديدةً أو عرضية. فعلى مدى عقود، تقرّبت الحكومات المتتالية من المهاجرين والمغتربين باعتبار أنهم يمثّلون شريان الحياة الاقتصادية ورموز الفخر الوطني، لكن نادرًا ما اعتبرتهم مشاركين في الحياة السياسية بشكل كامل. لقد نُظر إلى المغتربين كأنهم موارد، وسُخِّرت حياتهم ومدّخراتهم وحنينهم إلى وطنهم في خدمة دولةٍ نادرًا ما بادرتهم بالمثل. ولم يُدمج صوتهم أبدًا في التشكيل السياسي المحلي الدائم التبدّل في لبنان.
في العام 2025، أطلقت الحكومة حملةً هدفت، من جملة أمور أخرى، إلى جذب المغتربين اللبنانيين للعودة إلى بلادهم وقضاء فصل الصيف، مصورةً قدومهم على أنه استعادة للرابط الوطني ودعم لاقتصاد بلادهم. لكن الواقع كان قاتمًا. فعلى الرغم من وصول مئات آلاف اللبنانيين من الخارج، وفي جعبتهم قدرة شرائية ووهم إعادة التواصل مع جذورهم، لم يكن ذلك كافيًا. فعلى خلفية الغارات الإسرائيلية والحرب الإقليمية، خاب أمل العاملين في قطاع السياحة حين لم يرقَ فصل الصيف الذي بدا واعدًا في نهاية المطاف إلى مستوى توقعاتهم.
لم تكن هذه المرة الأولى التي استبدلت فيها الدولة اللبنانية الجوهر بالمظاهر. ففي العام 1955، أطلق الرئيس كميل شمعون حملة "صيف المغتربين"، التي ضمّت مسيرات ومهرجانات وطنية هدفت إلى تشجيع المغتربين والمهاجرين على العودة إلى وطنهم. لقد استثمرت الدولة في العروض الجماهيرية، لا في البنية التحتية، فأقامت للمغتربين الحفلات طيلة أسابيع، لكنها أخفقت في تحويل انخراطهم إلى مشروع وطني مستدام.
يتمحور النقاش المتعلّق باقتراع المغتربين في جوهره حول الهوية. فعلى الرغم من الاكتفاء بترديد أسطورة لبنان كوطن الاغتراب، تبقى المواطنة في منطق الدولة متجذّرةً في الوجود، في الأحياء والشبكات الطائفية وسلاسل المحسوبيات. ووفقًا لهذا المقياس يُعتبر المواطن الشخص المتواجد هنا (في لبنان). وعلى هذا الأساس، ينتهك الناخبون المغتربون هذه الفكرة، إذ إن غيابهم يُضفي على الادّعاء بالانتماء إلى لبنان طابع العالمية. إن أصواتهم تصل من بعيد، مشدّدةً على أن المواطنة لا تتعلّق بالجغرافيا، بل هي الأصل والذاكرة والمساءلة.
وهذا الأمر يُزعزع التصوّر السياسي الراهن في لبنان. فإذا عاش المواطنون في الخارج، واقترعوا في الخارج، واستطاعوا بالرغم من ذلك التأثير في النتائج، عندئذٍ سيتعيّن على السلطة، التي كان يُعتقد أنها مرتبطة بالأرض، أن تتكيّف مع الواقع الجديد. وستبدأ المحسوبيات والوساطة بالتعثُّر.
إن الفرق بين ستة مقاعد و128 مقعدًا ليس مجرّد فرق حسابي، بل هو تنافس حول ما إذا كان أولئك الذين غادروا البلاد ما زالوا يُعتبرون مواطنين يتمتّعون بدورٍ سياسي أم أنهم مجرّد خزّان عاطفي ومالي. الواقع أن الاختيار بين 6 و128 يعني الاختيار بين من يحقّ له تصوّر الجمهورية ومن يُصوَّر خارجها. مع ذلك، قد يفرض البرلمان التسوية المتمثّلة في ستة مقاعد، بحيث يحصر تمثيل المغتربين بحيّز رمزي منظّم. لكن سواء حصل ذلك أم لا، سبق أن أوضح المغتربون أنهم قوة يجب أن يعوّل عليها لبنان إن أراد حقًا التغيير.