دانييلا ريختيروفا محاضرة بارزة في الدراسات الاستخباراتية في قسم دراسات الحرب في جامعة كينغز كولدج لندن. تركّز أبحاثها ومجال تدريسها على الاستخبارات خلال الحرب الباردة، إضافةً إلى قضايا معاصرة مرتبطة بالتهديدات الصادرة عن الدول ومكافحة الإرهاب. صدر لها مؤخرًا كتاب بعنوان Watching the Jackals: Prague’s Covert Liaisons with Cold War Terrorists and Revolutionaries (مراقبة الثعالب: العلاقات السرّية لبراغ مع الإرهابيين والثوريين خلال الحرب الباردة) (منشورات جامعة جورجتاون، 2025)، تصف فيه العلاقات بين جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي والفصائل الفلسطينية بصورة أساسية، بالاستناد إلى موادّ من أرشيف الجهاز ومصادر أخرى. أجرت "ديوان" مقابلة معها في أواخر أيلول/سبتمبر لمناقشة محتوى كتابها والدروس المستقاة منه.
مايكل يونغ: نشرتِ مؤخرًا كتابًا بعنوان "مراقبة الثعالب: العلاقات السرّية لبراغ مع الإرهابيين والثوريين خلال الحرب الباردة". ما الذي دفعكِ إلى تأليف هذا الكتاب، وما الجديد الذي يقدّمه؟
دانييلا ريختيروفا: تناولتُ هذا الموضوع من زاويتَيْن. في مرحلة الدراسات العليا، أثناء بحثي في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، لاحظتُ مرارًا الدور الخفي لموسكو وحلفائها. بعد ذلك، وكوني من مواليد تشيكوسلوفاكيا في أواخر حقبة الحرب الباردة، أدركتُ أن براغ نفسها كانت جزءًا من هذه القصة في محطّات عدّة، إذ استضافت زوّارًا من دمشق وبغداد وطرابلس، وبالطبع من الفصائل الفلسطينية. وعندما تعمّقتُ في البحث، وجدتُ مجموعة من الوثائق الدبلوماسية والاستخباراتية التي رُفعت عنها السرية، تكشف بتفصيل غير مسبوق كيف تطوّرت هذه العلاقات، من المجاملات الثقافية والدبلوماسية، مرورًا بالعلاقات التجارية والأمنية، وصولًا إلى المسائل الاستخباراتية. من النادر مصادفة هذا النوع من المصادر، إذ إن معظم الدول لا تكشف عن تفاصيل تعاملها مع أطراف غير حكومية مثيرة للجدل. وبالتالي، تحوّل المشروع إلى أطروحة دكتوراه، تلتها خمس سنوات إضافية من البحث في مواد الأرشيف وإجراء المقابلات، وصولًا إلى إعداد هذا الكتاب.
أعتقد أن الجديد في العمل يكمُن في مدى الدقّة والتفصيل. فالنظرة السائدة عادةً هي حكاية مبسّطة مفادها أن "السوفيات هُم من درّبوا الإرهابيين". أما الوثائق فتكشف واقعًا أكثر تعقيدًا، إذ كانت براغ مركزًا رحِبًا، تسمح بعقد اللقاءات وتوفّر المخابئ والدعم اللوجستي، لكنّها في الوقت نفسه تخشى من انعكاسات ذلك على سمعتها. وفي بعض الحالات أبعدت بعض الأشخاص، كما حدث مع أبو داوود وأتباع وديع حداد، أو مع كارلوس المعروف بـ"الثعلب". تكشف هذه الوثائق كيف كان المسؤولون يناقشون الأكلاف والفوائد، وكيف تعاملوا مع الفصائل الفلسطينية المختلفة، ومتى أُعطيَت الأولوية لحسابات إدارة المخاطر بدلًا من الإيديولوجيا. ينظر الكتاب إلى علاقات الحرب الباردة بوصفها طيفًا من التفاهمات لا شيكًا على بياض، وهي نظرة تشكّلت استنادًا إلى ملفّات أُتيحت للعلن مؤخرًا وإلى شهادات أشخاص عايشوا تلك المرحلة.
بشكل عام، يُظهر الكتاب مدى تعقيد سياسات الدولة تجاه هذه الجهات الفاعلة، وكيف كانت تُعيد ضبط إيقاعها باستمرار. كذلك، يسلّط الكتاب الضوء على الديناميات الداخلية للفصائل نفسها، مثل حاجاتها وقدراتها الأمنية والاستخباراتية، ويؤكد أنّ التحالفات خلال الحرب الباردة لم تكن قائمة على الإيديولوجيا فحسب، بل أيضًا على إدارة المخاطر والمصالح التجارية والعلاقات الشخصية.
يونغ: إحدى أبرز النقاط التي تطرحينها، كما أشرتِ للتو، هي أن العلاقات بين جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي (StB) والفصائل الفلسطينية (إذ يتركّز اهتمامكِ بشكل أساسي على علاقة براغ بالفلسطينيين) اتّسمت بدرجة من الحذر أكبر ممّا يُفترَض غالبًا، علمًا أنّ مقدار الحذر اختلف باختلاف طبيعة الفصيل المعني. هل يمكنكِ أن توضّحي لنا أسباب ذلك؟ مع أيّ نوع من الفصائل الفلسطينية أو غيرها تعاملت براغ، وكيف كانت تميّز بينها؟
ريختيروفا: تُظهر الوثائق أن براغ لم تتعامل مع جهة فلسطينية واحدة، بل مع عدد من الأطراف المختلفة للغاية، كما أنها اعتمدت سلوكًا مختلفًا تجاه كلٍّ منها. فقد اتّخذت العلاقة طابعًا رسميًا نسبيًا مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد منتصف سبعينيات القرن الماضي، وخصوصًا مع حركة فتح وجهاز الأمن التابع لمنظمة التحرير بقيادة أبو إياد. كذلك، امتلكت منظمة التحرير مكتبًا رسميًا في براغ تهيمن عليه فتح، بالإضافة إلى زيارات رفيعة المستوى بين الطرفَين، وشملت العلاقات أحيانًا تدريبات أمنية وتبادلًا للمعلومات. لكن جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي لم يكتفِ بالتعاون مع الفصائل الفلسطينية، بل سعى إلى ضبط حركتها، من خلال مراقبتها واختراقها ووضع خطوط حمراء واضحة تمنع تنفيذ أيّ عمليات من الأراضي التشيكوسلوفاكية، خشيةً من الإضرار بسمعة البلاد وعلاقاتها التجارية.
أما المجموعة الثانية فشملت الفصائل الأكثر تشدّدًا التي تدور في فلك منظمة التحرير، ولا سيما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش. فكانت براغ متوجّسة دائمًا من انخراط الجبهة المباشر في العمليات الإرهابية الدولية، وكذلك من سجلّها الطويل في هذا المضمار. صحيح أن المسؤولين أثنوا على خطاب الجبهة الماركسي، إلا أنّهم لم يثقوا بها، ولم يبنوا علاقة رسمية أو مؤسّسية معها كما فعلوا مع فتح. عمليًّا، أبقى التشيكوسلوفاكيون علاقاتهم مع مسؤولي الجبهة فاترة، وراقبوا تحرّكاتهم عن كثب، وقلّصوا مستوى تعاملهم مع الجبهة كلما ازداد خطر العواقب.
ولدينا أيضًا العناصر المستقلّون والخارجون عن الأُطُر التنظيمية، الذين تقاطعت مسيرتهم مع الشبكات الفلسطينية، وأشهرهم كارلوس "الثعلب". تصرّفت براغ كمُضيف قلِق: إذ سمحت بمرور كارلوس عبر أراضيها لفترات قصيرة وتحت رقابة مشدّدة، لكنها قرّرت إنهاء زياراته إلى الدولة الشيوعية حين بدأت سمعته تهدّد الدبلوماسية التشيكوسلوفاكية.
أمّا بالنسبة إلى تنظيم أبو نضال، فكان موقف براغ حازمًا أيضًا، لأن التشيكوسلوفاكيين خافوا من امتداد الصراع الدموي بين ياسر عرفات وأبو نضال إلى أراضيهم. وفي أواخر الحرب الباردة، عندما زار نائب أبو نضال تشيكوسلوفاكيا في مهمة سرّية وتواصل مع جهاز الأمن القومي مُقترِحًا إقامة تعاون أمني، رفضت براغ العرض. ويعكس هذا القرار السياسة العامة لبراغ في هذا الإطار، إذ حدّدت كيفيّة تعاملها مع كلّ طرف بناءً على المكانة والمنفعة والمخاطر التي قد تطال سمعتها.
يونغ: ما هي الدوافع المتناقضة غالبًا التي استندت إليها مقاربة جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي تجاه هذه الجماعات المسلّحة؟ هل يمكنكِ توضيحها لنا؟
ريختيروفا: تُظهر الوثائق (وكذلك المقابلات) عوامل دفع وجذب مختلفة. من جهة، برزَ تضامن إيديولوجي ودبلوماسي: فبعد العام 1967، ولا سيما بعد خطاب عرفات في الأمم المتحدة في العام 1974، بدا أنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تحمل لواء النضال ضد إسرائيل فعليًا. من هذا المنطلق، والتزامًا بالتوجّه العام للكتلة السوفياتية، فتحت تشيكوسلوفاكيا قنوات اتصال مع المنظمة، واستضافت مكتبًا لها، وأقامت تعاونًا معها مضبوطًا بإطار واضح. ولكن من جهة أخرى، مارست تشيكوسلوفاكيا حذرًا شديدًا على صعيد التجارة والسمعة. فأدرك المسؤولون تمامًا أن تصويرهم كـ"دمى لموسكو" تسلّح الإرهابيين قد يضرّ بالتجارة والدبلوماسية ويضعف قدرتهم على انتقاد الآخرين في الأمم المتحدة. لذلك، اقترنَ التعاون بخطوط حمراء صارمة، وهي: عدم تنفيذ عمليات من براغ، وعدم تشويه سمعتها، والحفاظ على هامش مناورة في التعامل مع الأطراف التي قد تسبّب أعمالها العنيفة عواقب وخيمة.
وتمثّلت مسألة حرجة أخرى، لا تقلّ أهمية عمّا سبق، في تحقيق توازن بين القيمة الاستخباراتية والخطر على الأمن الداخلي. فأراد جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي الحصول على المعلومات، عبر استجواب الدبلوماسيين والزائرين والمتدرّبين، لأنّ هذه المصادر كانت تزوّده بمعلومات عن الفصائل نفسها وعن دول المنطقة. لكنه رأى أيضًا أن المسلّحين الذائعي الصيت يشكّلون عبئًا عليه: فهُم يجذبون اهتمام أجهزة معادية، ويعرّضون البعثات الأجنبية للخطر، ويشكّلون تهديدًا دائمًا لسمعة البلد. لذلك، في حالة عددٍ من الفصائل الفلسطينية الأكثر تشدّدًا، انتقلت براغ من المراقبة اللصيقة إلى الإجراءات الفاعلة، التي شملت ممارسة ضغوط على مستوى التأشيرات، و"الاستضافة" المضبوطة، وطرد الشخصيات الإشكالية غالبًا تحت ذرائع زائفة.
باختصار، وازنَ جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي بين الإيديولوجيا، والرغبة في الحصول على معلومات استخباراتية، وإدارة المخاطر. ليست هذه التناقضات مجرّد عثرة في القصة، بل هي القصة نفسها، إذ تُخبرنا كيف حاولت دولة حذرة، تُعلي شأن التجارة والأمن، أن تجني المعلومات والنفوذ ضمن بيئة عنيفة من دون أن تنفجر الأوضاع في عقر دارها.
يونغ: هل تشعرين أن قراركِ عدم الغوص في تفاصيل الديناميات الفلسطينية–الفلسطينية أفقد كتابكِ عنصرًا أساسيًا؟ أطرح هذا السؤال لأن ضباط جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي في الشرق الأوسط أدركوا بلا شكّ أثر تلك الديناميات على سلوك الفصائل تجاه تشيكوسلوفاكيا، ورفعوا تقارير حول ذلك إلى مرجعيّاتهم في براغ، ومع ذلك فأنتِ لا تتناولين هذا البُعد بإسهاب.
ريختيروفا: عليكَ اختيار محطّ تركيز واضح في كلّ كتاب، وإلا فقدتَ اهتمام القارئ سريعًا. كتبتُ هذه السطور من منظور تشيكوسلوفاكيا: فتحدّثتُ عن فتح براغ قنوات تواصل مع جهات مسلّحة، وكيف أدارتها وأغلقتها أحيانًا. لذلك، تناولت الديناميات الفلسطينية الداخلية عندما ساعدتني في إيضاح هذا الجانب حصرًا، لا كمجال بحث قائم بذاته في الكتاب.
مع ذلك، اكتسبت الديناميات السياسية الداخلية أهمية كبرى، ورُفِعَت تقارير عنها إلى كبار الدبلوماسيين ورجال الاستخبارات في براغ عبر الأفراد العاملين ميدانيًا في بيروت ودمشق وأماكن أخرى في الشرق الأوسط. لذا، فأنا أتطرّق إليها عندما تتقاطع مع ملف براغ: فأذكُر لقاءات مع ممثلي عرفات، ومحادثات أجراها دبلوماسيون تشيكوسلوفاكيون مع جورج حبش، وحملات تشويه عدّة شنّتها الفصائل ضدّ بعضها البعض. على سبيل المثال، أذكُر حادثة لافتة وقعت في أواخر الحرب الباردة، حين وصل مبعوث أبو نضال، أبو بكر، إلى براغ وقدّم مذكرة لاذعة عن خصومه، محاوِلًا تصويرهم على أنّهم أنانيون وليسوا أهلًا للثقة. حتى إنه قال ساخرًا إن عرفات "يرتدي أوشانكا [قبّعة فرو روسية]، لكنها أميركية الصُنع"، في إشارة مجازية أمام جمهور من الكتلة السوفياتية، مفادها أنّ عرفات يبدو منسجمًا إيديولوجيًّا معهم، فيما هو في الواقع يتقرّب من واشنطن.
يمكن الاطّلاع على أعمال ممتازة منشورة بالفعل تحلّل بعمق الديناميات الداخلية للفصائل، في طليعتها كتاب يزيد صايغ "الكفاح المسلّح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993". يحتاج هذا التحليل إلى مصادر مختلفة عمّا اعتمدتُه، مثل السجلات الفلسطينية، والصحافة العربية، والمذكّرات، والتاريخ الشفوي. صحيح أنني استخدمتُ بعضًا من هذه المصادر، لكنّ كتابي يرتكز أساسًا على وثائق دبلوماسية تشيكوسلوفاكية وملفات الحزب الشيوعي وجهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي، إضافةً إلى مقابلات مع مبعوثي براغ ورجال استخباراتها، وهي كانت العناصر الأساسية لسرد قصة دولة صغيرة وحذرة تتلمّس طريقها ضمن بيئة صاخبة للغاية.
يونغ: هلّا تخبريننا عن كيفية تعامل جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي، والسلطات التشيكوسلوفاكية بشكل عام، مع الفنزويلي كارلوس الثعلب، الذي يقضي راهنًا عقوبة السجن مدى الحياة في فرنسا، لتورّطه في الكثير من العمليات العنيفة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم؟
ريختيروفا: اشتُهر إيليتش راميريز سانشيز المعروف باسمه الحركي كارلوس الثعلب، بأعمال العنف التي تصدّرت عناوين الصحف خلال الأعوام التي ذكرتها. قاد كارلوس في كانون الأول/ديسمبر 1975 هجومًا على مقرّ منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) في فيينا واحتجز وزراء النفط كرهائن، وقتل ثلاثة أشخاص وهرب بعدها إلى الجزائر العاصمة. وأُدين أيضًا في هجومٍ بقنبلة يدوية في أيلول/سبتمبر 1974 على متاجر "دراغستور بوبليسيس" في باريس، ما أسفر عن مقتل شخصَين وإصابة العشرات. وفي وقت لاحق، حُمِّل مسؤولية سلسلةٍ من التفجيرات التي حصلت في فرنسا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وخلّفت الكثير من القتلى والجرحى. أُلقي القبض على كارلوس في السودان خلال العام 1994، ويقضي راهنًا أحكامًا بالسجن مدى الحياة في فرنسا.
تُظهر السجلات أن جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي تبنّى في تعامله مع كارلوس مقاربةً من ثلاث خطوات. تمثّلت الخطوة الأولى في المراقبة. حين ظهر كارلوس في تشيكوسلوفاكيا في أواخر العام 1978، تعامل معه الجهاز باعتبار أنه يشكّل خطرًا يتعيّن جمع المعلومات بشأنه مراقبته. وأخضعه الضباط المسؤولون لمراقبةٍ شديدة، واستخدموا سجلات الفنادق وتحقّقوا بسريّة عن اتّصالاته من خلال التنسيق مع أجهزة أخرى لمعرفة هوية الذين يلتقي بهم وسبب اللقاء. كشفت السجلات عن قلق الدولة المُضيفة: فقد كانت السلطات التشيكوسلوفاكية تسمح بفترات إقامة قصيرة خاضعة لمراقبة شديدة، إذ كانت تتوجّس من ضرر مُحتمل قد يلحق بسمعتها في حال وجّه إرهابي مشهور الأنظار إلى براغ.
والخطوة الثانية هي المنع. فبحلول العام 1979، حاولت السلطات التشيكوسلوفاكية إبقاء كارلوس خارج البلاد. فأدرجته مع شركائه على قوائم الرقابة الداخلية ومراقبة التأشيرات، وعمّمت هويّاته وحاولت منع دخولهم من خلال تعليق منح التأشيرات عبر القنوات القنصلية. كانت السلطات حريصةً على تقصير مدّة إقامته هو وشركاؤه، لأن وجوده يطرح تهديدًا لهيبة تشيكوسلوفاكيا ومصالحها التجارية على السواء. مع ذلك، لم يكن هذا النهج ناجحًا للغاية، إذ في كلّ مرّة كان كارلوس – الخبير في التنكّر والتمويه – يصل إلى براغ بهوية جديدة وجنسية جديدة وجواز سفر جديد. لذلك، اضطرت براغ في الثمانينيات إلى تبنّي استراتيجية أكثر حزمًا بكثير.
أما الخطوة الثالثة فكانت إخراجه من البلاد. فحين تعذّر حلّ المشكلة من خلال منعه من دخول البلاد، صعّدت تشيكوسلوفاكيا تحرّكاتها نحو الترحيل المُنظَّم. طَرد جهاز الأمن القومي أفرادًا من محيط كارلوس، وفي حزيران/يونيو 1986 نفّذ خدعةً، بحيث حذّر ضباط مسؤولون كارلوس من أنّ فريقًا فرنسيًا من القتلة المأجورين متواجدٌ في براغ وأن الدولة لا تستطيع ضمان سلامته. لكن بالرغم من أنه شكّ بدايةً في صحة هذه الخدعة المكشوفة نوعًا ما، غادر البلاد في غضون ساعات. وخلال تنفيذ عملية إخراجه من الأراضي التشيكوسلوفاكية، كانت براغ قلقةً للغاية من طبع كارلوس المتقلّب وميله إلى العنف، لدرجة أنّ وزارة الداخلية نشرت وحدة مكافحة الإرهاب التي كانت أنشأتها حديثًا لحماية السفارة الأميركية. تجسّد سلسلة الخطوات هذه – من المراقبة إلى المنع والطرد – النهجَ الذي اعتمدته تشيكوسلوفاكيا في إدارة المخاطر تجاه إرهابيي وثوريي الحرب الباردة.
يونغ: ما الدروس التي يتضمنها كتابك ويمكن أن تفيد الدول الراغبة اليوم في تطوير استراتيجية فعّالة لمكافحة الإرهاب؟ لقد توصّلت إلى استنتاج مفاده أن الطريقة التشيكوسلوفاكية للتعامل مع الإرهابيين على أراضيها "ولّدت مشاكل طويلة الأمد"، وأن جهاز الأمن القومي أخفق في السيطرة على شركائه غير الحكوميين، لذلك لم يكن قادرًا على بسط سلطته. هل يمكنكِ التفسير على ضوء هذَين الاستنتاجَين؟
ريختيروفا: يمكن استخلاص استنتاجَين مباشرَين من الكتاب. الأول أن "السماح بالإقامة في البلاد" مقابل الحصول على المعلومات يثير مشاكل على المدى الطويل. فاستضافة جهات غير حكومية عنيفة بهدف مراقبتها أو التأثير عليها تُكسب الدولة فوائد ظرفية قصيرة المدى فقط، فيما تُلحق الضرر بسمعة البلاد وتكبّدها تكاليف قانونية ودبلوماسية، وتُفسح المجال أمام جهات أخرى لتنفيذ عمليات مضادّة على أراضيها.
أما الاستنتاج الثاني فهو أن الحصول على المعلومات ليست تمامًا كالسيطرة. فقد كان بإمكان جهاز الأمن القومي التشيكوسلوفاكي الاجتماع بهؤلاء الشركاء ومراقبتهم وحتى في بعض الأحيان توجيههم، لكنه لم يستطع فرض أوامره، وبالتالي عجز عن بسط سلطته من خلالهم. وتمثّلت النتيجة في شكلٍ مقلق من القرب يُرضي الحاجة الفورية إلى الحصول على المعلومات الاستخباراتية، ولكن يقوّض في الوقت نفسه قدرة الدولة على وضع القوانين وإنفاذها.
أما في ما يتعلّق بالجزء الأول من سؤالك، فلا بدّ من صياغة استراتيجية مكافحة الإرهاب فعّالة تتلاءم مع طبيعة التهديد، وأهداف الدولة، وقدراتها الحقيقية. تكشف كلٌّ من تجربة تشيكوسلوفاكيا مع الإرهابيين والثوريين – الذين أدعوهم جميعًا بـ"الثعالب" – ومن النماذج المقارنة التي ناقشتها في الفصل الأخير من فرنسا والمملكة المتحدة وبلدان أخرى، أن الخبرة المتخصصة أساسية وضرورية. فمن دون المهارات اللغوية والمعرفة الثقافية والرؤية السياسية، من شأن أي شكل من أشكال التفاعل، سواءً كان من خلال التواصل أو التسلل أو التلاعب أو التعطيل النشط، أن يكون معقّدًا، وغالبًا غير فّعال، وفي بعض الأحيان قد يعود بنتائج عكسية.