يُعدّ تحريك العجلة الاقتصادية في لبنان ركيزةً أساسية لتحقيق تعافي البلاد من أزماتها المتعدّدة. لذا من الضروري إشراك السكان، رجالًا ونساءً، على نحوٍ فاعل في سوق العمل، وزيادة مساهماتهم في تعزيز رأس المال البشري للبلاد. ولكي يتحقّق ذلك، لا بدّ من إرساء نظامٍ قائم على مبدأ تكافؤ الفرص.
تمثّل إجازة الأمومة أحدَ أبرز الإجراءات التي تُسهم في تعزيز المساواة بين الجنسَين في مكان العمل. فعند صدور قانون العمل اللبناني بصيغته الأولى في العام 1946، مُنحت المرأة إجازة أمومة مدّتها 40 يومًا. صحيحٌ أن تلك المبادرة شكّلت خطوةً تقدّمية على مستوى المنطقة آنذاك، إلّا أنها لم ترقَ إلى معايير منظمة العمل الدولية. وفي العام 2000، أُدخِل تعديلٌ على مدّة إجازة الأمومة بموجب القانون رقم 207، فازدادت إلى 49 يومًا. ثم صدَر القانون رقم 267 في العام 2012 ليمدّدها أكثر، فباتت عشرة أسابيع براتبٍ كامل. وهذا هو القانون الساري في البلاد اليوم، علمًا أن معايير منظمة العمل الدولية تنصّ على إجازة أمومة لا تقلّ عن أربعة عشر أسبوعًا، في حين أن منظمة الصحة العالمية توصي بثمانية عشر أسبوع.
ومن السبُل الأخرى لتعزيز المساواة بين الجنسَين سدّ فجوة الأجور بينهما، فضلًا عن تطبيق سياسات توظيفٍ غير تمييزية. فعلى سبيل المثال، فرض قانون العمل الصادر في العام 1946 الكثير من القيود على التحاق النساء بقطاعات اعتُبرَت خطرة. وفي العام 1977، صادقت الحكومة اللبنانية على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 111، التي تُلزِم لبنان بحظر أشكال التمييز في التوظيف والعمل والأجر. لكن السلطات اللبنانية لم تنجح في تنفيذ مضمون الاتفاقية، ولم تضع أيّ آليةٍ لتطبيقها. ومع أن عدد النساء اللواتي دخَلن سوق العمل كان آخذًا في التزايد، قوّضت الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد بين العامَين 1975 و1990 مسارَ التقدّم في هذا المجال. ولم يجرِ تعديل قانون العمل لمنع التفاوت في الأجور بين الجنسَين إلّا في العام 2000، حين حظّرت المادة 26 أشكال التمييز على أساس الجنس. ومجدّدًا، لم يتضمّن القانون آلية إنفاذٍ واضحة، ولم ينصّ على عقوباتٍ في حال عدم الالتزام بأحكامه. وفي العام 2020، أقرّ لبنان القانون رقم 205 الذي قضى، وللمرة الأولى، بتجريم التحرّش الجنسي في أماكن العمل والمؤسسات التعليمية.
يُشار إلى أن عدم امتثال لبنان لمعايير منظمة العمل الدولية المتعلّقة بإجازة الأمومة لا يختلف كثيرًا عن واقع باقي دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقانون العمل الإماراتي مثلًا يمنح المرأة إجازة أمومة مدفوعة الأجر مدّتها 90 يومًا، وهي مدّةٌ لا تزال أقلّ من الفترة الموصى بها والبالغة أربعة عشر أسبوعًا. مع ذلك، يضمن القانون الإماراتي للأمّهات فترات رضاعة مدفوعة الأجر على مدى الأشهر الستة الأولى بعد الولادة، ما يسمح لهنّ بالاعتناء بأطفالهنّ بعد العودة إلى العمل من خلال تقليص ساعات الدوام. تُقدّم الكثير من دول المنطقة فترات رضاعة مماثلة، إنما من دون أن تلتزم بالحدّ الأدنى الذي توصي به منظمة العمل الدولية لإجازة الأمومة، ونذكر من بين هذه الدول المملكة العربية السعودية، والأردن، وتونس، ومصر، وغيرها.
في الواقع، أقرّت مصر هذا العام قانونًا جديدًا يمنح المرأة إجازة أمومة لمدّة أربعة أشهر، إضافةً إلى فترات رضاعة مدفوعة الأجر. ونظرًا إلى التفاوت الكبير بين الجنسَين في مصر، حيث قُدّرت نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة بـ15 في المئة فقط، يسعى القانون الجديد إلى تشجيع النساء المصريات على الانضمام إلى سوق العمل. ويضع هذا القانون البلاد في مرتبة متقدّمة لمنحه المرأة أطول إجازة أمومة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وحتى خارج المنطقة، ثمّة دولٌ كثيرة لا تلتزم بمعايير منظمة العمل الدولية المتعلّقة بإجازة الأمومة. فعلى سبيل المثال، يمنح القانون الفدرالي الأميركي إجازة أمومة غير مدفوعة الأجر لمدّة تصل إلى اثني عشر أسبوعًا، ما يجعل الولايات المتحدة الدولة المرتفعة الدخل الوحيدة في العالم التي لم تُقرّ قانونًا يضمن إجازة أمومة أو أبوّة مدفوعة الأجر. أمّا في كندا المجاورة مثلًا، فيمكن أن تمتّد إجازة الأمومة أو الأبوّة إلى 50 أسبوعًا، مع العلم بأن المزايا تصبح أقلّ كلّما طالت المدّة. يُعزى هذا الاختلاف إلى طريقة التمويل. فكندا، على غرار معظم الدول التي تتمتّع بأنظمة إجازة مُنصفة، تموّل هذه المزايا من خلال برامج التأمين الاجتماعي.
لكن في لبنان، من الصعب على الحكومة تمويل أيّ نوع من مزايا الإجازة نظرًا إلى تدهور الأوضاع المالية. مع ذلك، بإمكان الدولة تحسين ظروف النساء من خلال منحهنّ فترات رضاعة مدفوعة الأجر وتكريسها في القانون.
توصي منظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية بإجازة أمومة أطول لما في ذلك من فوائد على صحة الأمّ والطفل في آن. فالتعافي بعد الولادة يحتاج وقتًا، فضلًا عن أن الرعاية المتواصلة التي تقدّمها الأمّ لرضيعها تعزّز نموّه على المدى الطويل. في الواقع، أثبتت الدراسات وجود صلةٍ بين طول إجازة الأمومة وانخفاض معدّل وفيات الرضّع. يُضاف إلى ذلك أن إجازة الأمومة الأطول تسهّل الرضاعة الطبيعية التي ثبُت أنها تقوّي مناعة الطفل. وتُفيد مدّة الإجازة الأطول صحة الأمّ النفسية أيضًا، إذ تقلّل بشكلٍ كبير من خطر إصابتها بالاكتئاب والقلق في فترة ما بعد الولادة. علاوةً على ذلك، حينما تتحسّن صحة الأمّ والرضيع تخفّ الضغوط الملقاة على عاتق خدمات الرعاية الصحية.
أمّا في ما يتعلّق بالمساواة بين الجنسَين في مكان العمل، فإجازة الأمومة الأطول تحمي النساء من التعرّض للتمييز أو خسارة وظائفهنّ بسبب الحمل، وتضمن التدفّق المستمرّ والمستقرّ للدخل، وتوفّر الحماية الاجتماعية للنساء العاملات. كذلك، تتيح إجازة الأمومة المُنصفة للمرأة تحقيقَ أهدافها المهنية من دون التضحية بدورها الأساسي في المنزل. وتكتسي هذه المسألة أهميةً خاصة في السياق اللبناني، حيث دفع تدهور الأوضاع الاقتصادية الأُسرَ اللبنانية بشكل متزايد إلى الاعتماد على دخلَين لتأمين سبُل العيش. لكن إجازة الأمومة القصيرة قد تُرغم النساءَ على الاختيار بين العمل والعائلة.
سواء كان دافع المرأة الطموح المهني أم الحاجة المالية، فإنها ستنخرط بثقةٍ أكبر في سوق العمل حين تُصان حقوقها الأساسية. لذلك، لا بدّ من تحديث قوانين العمل اللبنانية بما يتماشى مع التحوّلات الاجتماعية الاقتصادية الراهنة. ويجب أن تستفيد الأمّهات العاملات، والنساء عمومًا، من معايير منظمة العمل الدولية التي تضمن حقوقهنّ في سوق العمل.



