حين وافق العراق في العام 2021 على تزويد لبنان بزيت الوقود الثقيل للتخفيف من حدّة أزمة الكهرباء، صُوِّر الاتفاق على أنه بادرة تضامن، غير أنه كان في الواقع انعكاسًا لأوجه الهشاشة المشتركة بين البلدَين. فقد سلّط هذا الترتيب الضوء على نمط متكرّر في العراق ولبنان، وتحديدًا في مجالات الطاقة والمال والدين، حيث يعكس التعاون بين البلدَين خصائص أسلوب الحكم في كلٍّ منهما، أي: الشبكات غير الرسمية، والشخصانية، وغياب الشفافية. وقد جرى ذلك ضمن علاقة من الاعتماد المُتبادل، حيث فاقمت دولتان هشّتان أوجه الخلل لدى بعضهما البعض.
نصّ اتّفاق الوقود مقابل الخدمات على التزام العراق بتزويد لبنان بما يقارب مليون طن من زيت الوقود الثقيل سنويًّا، مقابل خدمات طبية وغيرها من الخدمات "العينية". لكن معامل الكهرباء في لبنان غير قادرة على استخدام الوقود العراقي الثقيل، ما اضطرّ السلطات إلى استبداله بوقود أخفّ قابل للاستخدام عبر وسطاء لم تُكشَف هويّتهم، في عمليةٍ وُصفت لاحقًا بأنها "أُجرِيَت عبر سماسرة وعن طريق الوساطة السياسية". وعند احتساب فترة التمديد لستة أشهر إضافية في آذار/مارس 2025، يتبيّن أن لبنان أصبح مدينًا للعراق بنحو مليارَي دولار بموجب الاتفاق، لم يُسدَّد منها سوى نحو 118 مليون دولار. وقد أتاح هذا الترتيب للحكومتَين الاستمرار بالعمل من دون أي رقابة: فحصل لبنان، من جهته، على الكهرباء من دون إصلاح قطاع الطاقة؛ أمّا العراق، ففتح قناة جديدة للمحسوبية يستفيد منها السماسرة ذوو العلاقات السياسية.
وينطبق المنطق نفسه على القطاع المالي أيضًا. فتشير التقديرات إلى قيام سياسيين ورجال أعمال ووكالات حكومية عراقية بإيداع ما يصل إلى 18 مليار دولار في المصارف اللبنانية قبل انهيار النظام المصرفي اللبناني في العام 2019. وقد جذبت المصارف اللبنانية الودائع العراقية بفضل السيولة الدولارية السهلة في لبنان، الذي شكّل نظامه المصرفي منفذًا نادرًا إلى العملة الصعبة في منطقة تعاني من شحّ السيولة النقدية، فباتت تلك الودائع امتدادًا خارجيًا للاقتصاد السياسي العراقي. وعندما انهار النظام المالي اللبناني، جُمِّد الكثير من تلك الأموال أو تبدّد، ما كشف مدى تشابك النظامَين الماليَين العراقي واللبناني من خلال تدفّقات رأس المال بين النخب. فكانت المصارف اللبنانية تعتمد على الودائع العراقية المُستمدّة من مصادر سياسية للحفاظ على وهم الاستقرار، فيما استخدمتها النخب العراقية للاستفادة من السرّية المصرفية في لبنان وضعف الرقابة فيه لإخفاء ثرواتها وحمايتها من التدقيق.
يرتكز هذا الترابط على بنية سياسية مشتركة. فالنظام الطائفي في لبنان وصيغة "المحاصصة" في العراق بعد العام 2003 يوزّعان السلطة وفق كوتا طائفية، ما يعني أن التوافق بين النخب في البلدَين يحلّ محل المساءلة. فضلًا عن ذلك، انضمّت الميليشيات في البلدَين، أي حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق على وجه التحديد، إلى الحياة السياسية، ما طمَس الحدود بين الدولة والفصائل المسلّحة. هذه الأنظمة قادرةٌ على إدارة الأزمات، لكنها لا تُبادر إلى الإصلاح، إذ إنها تولي التسويات على الكفاءة. وبما أنّ كلًّا من العراق ولبنان يعملان عبر شبكات زبائنية لا من خلال هياكل مؤسّسية، فإن تعاونهما يتبع النمط نفسه من التبادلات بين النخب، ما يُبقي الوضع القائم على حاله.
تتجلّى هذه الديناميّات نفسها في قطاعَي الطاقة والمال، أي السلطة المُشخصَنة، والتبادلات غير الشفافة، والاعتماد على شبكات النخب، في المجال الديني أيضًا. فخلف الواجهة السياسية، تقوم بنيةٌ اجتماعية ودينية عميقة تربط بين النجف وبيروت. في هذا السياق، يُشار إلى أن الحركة الفكرية بين العراق ولبنان تسبق نشوء الدولتَين بشكلهما الحديث، وهي لا تزال تؤثّر في السياسات الشيعية المُعاصرة. فقد درس عددٌ من رجال الدين اللبنانيين البارزين، مثل محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وعباس الموسوي ومحمد يزبك، في حوزات النجف قبل أن يعودوا إلى وطنهم لإنشاء مؤسّسات دينية وسياسية.
ويمثّل مسار فضل الله مثالًا بارزًا على ذلك، إذ درس في النجف لأكثر من عشرين عامًا، وحافظ على علاقاته بالحوزات العراقية قبل أن يصبح من أبرز علماء الدين في لبنان. وقد ثبّت جيل فضل الله موقع التشيّع اللبناني ضمن الفلك الديني العراقي، فيما اتّبع الجيل اللاحق من رجال الدين مرجعية قُم الإيرانية. أمّا شمس الدين، الذي تلقّى تعليمه في النجف وتولّى لاحقًا رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، فيجسّد ترابط السلطة الدينية بين الساحتَين اللبنانية والعراقية.
وتُعزّز الروابط العائلية هذه الصلات الدينية. فعائلة الصدر، التي تتحدّر من جبل عامل في لبنان، والتي أدّت لاحقًا دورًا محوريًّا في قيادة المرجعية الشيعية في العراق، تمثّل كيف يمكن للنسب أن يتحوّل إلى رأس مال سياسي عابر للحدود. فقد شكّل نفوذ الصدريين، من موسى الصدر في لبنان إلى محمد باقر الصدر ومقتدى الصدر في العراق، جسرًا يربط بين كيانَين سياسيَين منقسمَين. فالسلطة الدينية لعائلة الصدر تمنح غطاءً معنويًّا للقوى السياسية في مواجهة الأزمات، إذ توفّر لهم شرعية مجتمعية تتيح لهم التهرّب من الإصلاح.
وهكذا، أصبحت شبكات التضامن الديني والعائلي بمثابة دعامة اجتماعية للهشاشة، إذ تحلّ محلّ الروابط المؤسّسية، وتؤمّن الثقة والنفوذ اللذَين يمكّنان النخب من الحفاظ على سلطتها حتى في خضمّ الانهيار. وينسحب هذا النمط على مجالَي الطاقة والمال أيضًا: فصفقة النفط أُبرِمَت عبر سماسرة لا عبر الوزارات، والعلاقة المصرفية أعطت الأفضلية للشخصيات النافذة والعلاقات مع النخب والشبكات غير الرسمية على حساب السياسات العامة الشفافة، ما أدّى إلى ترسيخ الزبائنية في المعاملات المالية العابرة للحدود.
تشكّل شبكة الاعتماد المتبادل العابرة للحدود هذه نوعًا من الاقتصاد السياسي القائم على الهشاشة. فقد تحوّلت مواطن الضعف في كلّ دولة إلى مورد ثمين للأخرى، إذ تعتمد النخب عليها للحفاظ على رأس المال وتجنّب المساءلة، ما يعزّز أوجه الهشاشة المتبادلة.
لكن العلاقة بين لبنان والعراق تجسّد أيضًا مفارقة إقليمية أوسع، حيث إن التضامن بين البلدان الهشّة غالبًا ما يُعيد إنتاج مكامن ضعفها بدلًا من معالجتها. صحيحٌ أن التعاون بين هذه الدول صادق، إلّا أنه يجري من خلال صفقات بين النخب تتجاوز المؤسّسات التي من المفترض أن تنفّذ الإصلاح. هذا الواقع أشبه بتفاهمٍ ضمني بين أنظمة تسعى إلى البقاء، إذ يسمح بتبادل أشكال الخلل بسهولة بدلًا من تبادل الكفاءة. وفي المحّصلة، يقوم في الشرق الأوسط نمطٌ من الحكم تحوّلت فيه البلدان الهشّة إلى مرآةٍ يعكس كلٌّ منها انحدار الآخر.




