ثمّة معادلةٌ جديدةٌ تشقّ طريقها رويدًا، ولكن بثبات، في المشهد السياسي اللبناني. إنها معادلةٌ لم تكن غير متوقّعة وليست بالضرورة سيّئة، ولكنها في سياق النظام السياسي اللبناني المتصلّب أبدًا قد تفضي إلى مرحلةٍ جديدةٍ بالكامل من العقد الطائفي المضطرب في البلاد.
والمعادلة هي: في ظلّ تعثّر جهود الدولة الرامية إلى نزع سلاح حزب الله، ولا سيما أن نزعه بالقوة ليس مطروحًا، ويجب ألّا يكون مطروحًا، سيبرز نهجٌ ثان، ألا وهو تقديم تنازلاتٍ سياسيةٍ للطائفة الشيعية مقابل تسليم السلاح. ويُفترَض ألّا يكون سلوك هذا المسار مثيرًا للقلق، إذ لطالما كان دمج حزب الله وبيئته في النظام الدستوري اللبناني موضع ترحيبٍ من خصوم الحزب.
لكن مصطلح "تنازلات سياسية" قد يكون غير دقيق. فهذه التنازلات لا بدّ أن تُقدَّم ضمن إطار اتفاق الطائف للعام 1989، الذي دعا مسؤولو الحزب، كما رئيس مجلس النواب نبيه برّي، إلى تطبيقه تطبيقًا كاملًا. وهذا ليس بالمطلب غير المعقول، فهو يعني، من جملة أمور أخرى، إلغاء الطائفية السياسية، وإنهاء المحاصصة الطائفية في مجلس النواب ومؤسسات الدولة. لكن الافتراض المبنيّ على سوء الظنّ هو أن حزب الله أيّد الفكرة لاعتقاده بأن تطبيقها سيلقى معارضة المسيحيين في لبنان، الذين سيكونون أكبر الخاسرين منها، ما سيجعل إحراز أيّ تقدّم في نزع سلاح الحزب أمرًا مستبعدًا. ولكن هل هذا صحيحٌ بالضرورة؟
يظهر أنّ عددًا متزايدًا من المسيحيين يؤيّد فكرة الفدرالية في لبنان، وهي إذا ما تحقّقت، قد يصبحون أكثر مرونةً لتطبيق اتفاق الطائف. لكن فهمهم للفدرالية تقريبيٌّ في أغلب الأحيان. فيبدو، عند الحديث عن الفدرالية، أن الكثير منهم يفكّرون فعليًا في إحداث قطيعةٍ مع الغالبية المسلمة في لبنان، ولا سيما الطائفة الشيعية وحزب الله، إذ يعتبرون أن منظورهما لا يمكن أن يتوافق مع ما يفضلّه المسيحيون للبلاد. وحتى إذا ما افترضنا أن هذا التعميم له قيمة، فما لا يقرّ به الكثير من الفدراليين هو أن الفدرالية لن تحلّ خلافات عدد كبيرٍ من المسيحيين مع مواطنيهم المسلمين على مدى العقود الأخيرة. ففي ظلّ نظامٍ فدرالي، ستبقى صلاحيات الدولة الرئيسة في يد الحكومة المركزية، وعلى رأسها الشؤون الخارجية، والدفاع، والتجارة الخارجية، وهي المسائل عينها التي ينقسم حولها اللبنانيون أشدّ انقسام.
مع ذلك، لا يزال المسيحيون ينظرون إلى الفدرالية على أنها طوق نجاة. ففي حين أن اتفاق الطائف لا يأتي على ذكر الفدرالية، يتيح مدخلًا قد يكون قريبًا منها، حيث كان أحد التنازلات التي قُدّمَت للمسيحيين في الطائف إدخال اللامركزية الإدارية. فلمّا كان قد طُلِب منهم التخلّي عن صلاحيات الرئاسة المهمّة، مُنِحوا مقابل ذلك هامشًا أكبر لتولّي شؤونهم الإدارية. لكن هذا التنازل اعتراه عيبٌ كبير، وهو أن اللامركزية الإدارية من دون لامركزية مالية لا معنى لها. فإذا احتفظت الحكومة المركزية في نهاية المطاف بالسيطرة المالية على جميع الأنشطة الوطنية، تصبح الاستقلالية الإدارية مجرّد وهم. وبالتالي، لا شيء اليوم سوى اللامركزيتَين الإدارية والمالية من شأنه أن يقنع المسيحيين بقبول التطبيق الكامل لاتفاق الطائف.
ولهذا السبب، إن لم نكن على وشك تنفيذ صفقةٍ كبرى بشأن سلاح حزب الله، فقد نكون على مشارف رسم الملامح الممكنة لهذه الصفقة. ولكن ما هي بعض الأمور التي يجب الانتباه إليها في ضوء هذه المقايضة المحتملة؟
أولًا، حتى لو بدت هذه الصفقة الكبرى جيدةً نظريًا، من المستبعد جدًّا أن تنجح إذا كانت آلية تنفيذها تقوم على نزع سلاح حزب الله وفي الوقت نفسه التفاوض على تغييرات دستورية تلبّي أبعاد الطائف كلّها. سيكون على حزب الله تسليم سلاحه أولًا، لأن أيّ خطوة نحو تحقيق الإصلاح الدستوري لا يمكن أن تتمّ إذا كان أحد الأحزاب وجماعته مسلّحَين، بينما بقية الأطراف غير مسلّحة. ولذا، إذا جرى التوصّل إلى اتفاق واسع يقضي بجعل سلاح حزب الله جزءًا من حزمة إصلاحات دستورية أشمل، فيجب أن يكون نزع السلاح المسبق شرطًا أساسيًا.
ثانيًا، أحد العوامل الأساسية في هذه الصفقة الكبرى سيكون موافقة إيران. ثمّة مَن يعتقد أنّ الإيرانيين لن يتخلّوا أبدًا عن سلاح حزب الله، وهو ما قد ينطبق على المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، الذي يحدّد مسار السياسات الإيرانية في مثل هذه القضايا. ولكن هل هذا الموقف غير قابل للتغيير؟ لقد تعطّل ما يُسمّى بمحور المقاومة إلى حدٍّ كبير، إذ إن حركة حماس باتت اليوم عاجزة عن استخدام غزة منصّةً لمهاجمة إسرائيل، وسورية خسرت، وحزب الله أصبح معزولًا تمامًا في لبنان، ويواجه قرارًا حاسمًا من الحكومة بنزع سلاحه. فمن غير المنطقي إعادة إحياء استراتيجيةٍ فاشلة، مع كل ما يترتّب عنها من تكاليف، وقد يبدأ الإيرانيون في نهاية المطاف بالتفكير في خطة بديلة. وهكذا، يبدو أن ترسيخ قوة الطائفة الشيعية في الأحكام الدستورية اللبنانية أكثر فائدةً من ترسيخها في سلاح حزب الله، الذي لم يجلب سوى دمار إسرائيلي هائل، وولّد نقمةً لدى الكثير من اللبنانيين ضدّ الحزب.
ثالثًا، قد تكون صفقةٌ كبرى موضع ترحيب، إلّا أن الواقع هو أن النظام الطائفي الدستوري أصبح معطّلًا إلى درجةٍ لا تسمح بوجود ضماناتٍ على أن ما سينبثق من عملية إعادة ضبطٍ سياسي سيُنتِج وضعًا أفضل ممّا هو قائمٌ اليوم، بل على العكس، سيكون ذلك على الأرجح ترقيعًا رديئًا يُبقي عللَ النظام على حالها. فمن غير المعقول مثلًا أن يؤدّي ذلك إلى تقويض السلطة العليا لزعماء الطوائف. وهذا أحد الأسباب التي تجعل من الأفضل للكثير من المسيحيين أن يفكّروا مليًّا في الشكل الذي يريدونه للنظام اللامركزي. لقد فرض تعدّد زعماء الطوائف في لبنان اليوم على كلٍّ منهم ضرورة تقديم تنازلات بشكل متكرّر، وهو ما يمكن أن يفضي إلى نتائج أفضل. لكن وجود نظام لامركزي حيث سلطة زعماء الطوائف في المناطق التي يهيمنون عليها لا يوازنها منافسون لهم هو أمرٌ قد لا يؤدّي سوى إلى ترسيخ دكتاتوريات طائفية مصغّرة.
أليس من المنطقي أكثر إعادة صياغة اتفاق الطائف بأكمله، بعد 35 عامًا كشفت عن عيوبه؟ وهذا لا يعني التخلّي عن الطائف، بل استخدامه أساسًا لنظام دستوري مُجدَّد بعد تسليم حزب الله سلاحه. ومهما حدث، يبدو أن الصلة حتميةٌ بين تخلّي الحزب عن سلاحه، وإجراء نقاش أوسع حول إصلاح الدستور، إذ لن يتحقّق أحدهما من دون الآخر.



