المصدر: Getty
مقال

احتلال "عن بُعد" في جنوب لبنان

تؤدّي المسيّرات الإسرائيلية اليوم أدوارًا شتّى، تتراوح بين تنفيذ اغتيالات، وتفتيش الحقائب، وتوجيه الجواسيس العاملين لصالح إسرائيل.

 مهنّد الحاج علي و محمد نجم
نشرت في ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥

منذ اندلاع الحرب بين "حزب الله" وإسرائيل في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، استخدم الجانبان الطائرات المسيّرة في مهامّ متنوعة، بدءًا من الاستطلاع والتجسّس، ووصولًا إلى بثّ الرسائل وتنفيذ الاغتيالات. ولم تفارق المسيّرات الإسرائيلية الأجواء اللبنانية حتى بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع "حزب الله" في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وهكذا، أصبح جنوب لبنان ميدان اختبارٍ لقدرات الأنظمة المسيّرة المتطوّرة، التي تتيح لإسرائيل احتلال أراضٍ لبنانية عن بُعد، من دون الحاجة إلى نشر قوات برية قد تتعرّض للهجمات والخسائر. إذًا، ساهم الاستخدام المكثّف للطيران المسيّر في ترجيح كفّة الاستنزاف أكثر لصالح إسرائيل، على حساب اللبنانيين الواقعين تحت الاحتلال.

سبق أن احتلّت إسرائيل جنوب لبنان لمدّة 22 عامًا بين العامَين 1978 و2000، مُعتمدةً على قواتها البرية المدعومة بسلاحها الجوّي. لكن هذا الاحتلال كان مُكلفًا، إذ أسفر عن مقتل أكثر من 900 جندي إسرائيلي. ولتقليص خسائرها، أنشأت إسرائيل ما سُمّي بجيش لبنان الجنوبي، الذي تألّف من مقاتلين لبنانيين موالين لها، بلغ عددهم نحو 3 آلاف عنصر. أمّا اليوم، فالاحتلال الذي تمارسه إسرائيل عن بُعد، باستخدام المسيّرات، أقلّ كلفةً بكثير، ويجنّب الجيش الإسرائيلي مخاطر المواجهة المباشرة في الميدان.

ما زالت إسرائيل تشنّ غاراتٍ يومية منذ اتفاق وقف إطلاق النار، أدّت إلى مقتل نحو 300 شخص، من بينهم أكثر من 100 مدني. يُشار إلى أن الكثير من هذه الهجمات نفّذتها المسيّرات، التي قامت كذلك بعمليات تفتيشٍ في بلداتٍ جنوبية مثل الخيام. على سبيل المثال، تحدّثت تقارير عن طائرةٍ مسيّرة لاحقت سيارةً تضع عازل رؤية على الزجاج في بلدة الخيام، وأرغمت صاحبها على فتح الشبابيك للكشف عليها، ثم عادت أدراجها. وأُفيد أيضًا عن إقدام مسيّرةٍ إسرائيلية على إيقاف مهندسة ديكور من البلدة أثناء سيرها في الشارع، قبل أن يصدر صوتٌ منها يطلب من المرأة فتح حقيبتها والتعريف بمحتواها. تستهدف هذه الحوادث في الكثير من الأحيان مدنيين، لترهيبهم وتذكيرهم بأنهم تحت المراقبة الدائمة. وقد وصف أحد المنشورات المتداولة على فايسبوك أنّ مسيّرةً دخلت إلى أحد المنازل أثناء تواجد أفراد العائلة فيه، وسألتهم: "عم تشربوا نسكافيه؟"، قبل أن تهمّ بالمغادرة. ووثّق شابٌّ كيف تبعته أكثر من مسيّرة خلال تدريباته اليومية، وحتى أثناء زيارته قبر أخيه. ونشر مراسل هيئة البث الإسرائيلية مقطع فيديو يُظهر ثعلبًا يختبئ داخل أحد المنازل المدمّرة، في دلالة رمزية تعكس قدرة إسرائيل على رصد أي حركة في جنوب لبنان.

يحاول بعض الجنوبيين التكيّف مع واقعهم الجديد تحت حصار المسيّرات: فإذا حلّقت طائرةٌ فوقهم، غيّروا موضوع الحديث إن مسّ السياسة، وتجنّبوا التواصل عبر الهواتف المحمولة ما دامت تحوم في السماء. إذًا، أصبحت هذه الطائرة الصغيرة بمثابة تذكيرٍ يومي بالحرب التي لم تنتهِ، وبالخطر الذي يتربّص بهم. ومن الطبيعي أن يؤثّر تحليقها المكثّف سلبًا على الحالة النفسية للسكان، إذ يؤرقهم أزيزها المستمرّ، الذي يتخلّله انقطاع إشارات البثّ التلفزيوني حين تدنو.

وفي إطار تكتيكات الترهيب الجماعي والحرب النفسية، استبدلت إسرائيل إلقاء المناشير بالطائرات المسيّرة المُجهّزة بمكبّرات صوت لتوجيه الرسائل إلى سكان القرى والبلدات الجنوبية. ومؤخرًا، بثّت إحدى هذه المسيّرات رسالة تحذير إلى المواطن طارق مزرعاني، وهو مهندس معماري من جنوب لبنان منخرط في مساعي إعادة الإعمار. فاتّهمته بالتعاون مع "حزب الله"، وهو ادّعاء نفاه مزرعاني علنًا، كما حذّرت الآخرين من العمل معه. يبدو أن استهداف مزرعاني يندرج في سياق سياسة هدفها منع أكثر من 100 ألف لبناني من العودة إلى بيوتهم في المنطقة الحدودية، ما يعكس رغبة إسرائيل في إنشاء منطقة عازلة غير مأهولة على الشريط الحدودي. ولهذا السبب أيضًا، تُمعن إسرائيل في استخدام المسيّرات لإحباط محاولات إعادة الإعمار، من خلال تدمير الجرّافات والحفّارات التي تعمل على إزالة الأنقاض في المنطقة الحدودية.

ونظرًا إلى الإمكانات الكثيرة التي تتمتّع بها الطائرات المسيّرة، فإن تصوّرات اللبنانيين حول قدراتها الواسعة على التجسّس وجمع البيانات ليست بعيدةً عن الحقيقة. فالمسيّرات الإسرائيلية، على غرار "هرمز 450" و"هرمز 900"، تعمل كأجهزة استشعار جوية عبر التقاط إشارات موجات الراديو وشبكات الاتصال الرقمية حولها. تُسمّى هذه العملية بالاستخبارات الإشارية (SIGINT)، وتنطوي على جمع البيانات الوصفية (Metadata) من الأجهزة المحيطة واعتراض مختلف أنواع التردّدات والموجات الكهرومغناطيسية، على غرار إشارات الواي فاي (WiFi)، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وأنظمة الشبكات الخليوية، وأجهزة النداء اللاسلكية المعروفة بـ"البيجر". ويمكن استخدام هذا الكمّ الهائل من المعلومات لتحديد أنماط السلوك، قبل أن يتمّ التحقّق منها عبر مقارنتها مع البيانات المتوافرة، باستخدام الذكاء الاصطناعي. وتسهم تقنيات الاستخبارات الإشارية كذلك في تعزيز أساليب المراقبة الرقمية المتقدّمة، ما يمكّن أجهزة الاستخبارات من استهداف مناطق أو أجهزة محدّدة بدقّة أكبر.

وقد استُخدمت الطائرات المسيّرة أيضًا لدعم الاستخبارات البشرية على الأرض. فقد أشارت تقارير إلى أن إحدى المسيّرات رافقت جاسوسًا لبنانيًا أثناء عبوره الحدود للقاء مشغّليه في إسرائيل. وأفاد الجيش اللبناني الذي ألقى القبض عليه، أنه جُنّد عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقال الرجل إن المسيّرة لم تدلّه فقط على الطريق كي يعبر الحدود من دون رصد، بل وفّرت له الحماية أثناء تنقّله أيضًا.

يشكّل جنوب لبنان إذًا ساحة حربٍ لم تعد فيها المسيّرات مجرّد أدواتٍ لتنفيذ الهجمات، بل باتت تُستخدم أيضًا لغاياتٍ شتّى مثل مراقبة السكان، وترهيبهم، والسيطرة عليهم. فمن خلال المهام الاستطلاعية، والهجمات الموجّهة، والعمليات النفسية، واعتراض البيانات وتحليلها، تُحدِث المسيّرات تحوّلًا في طبيعة الاحتلال. فبعد أن كان يتطلّب في السابق وجودًا عسكريًا دائمًا والتحامًا مباشرًا، بات اليوم يُنفَّذ عن بُعد، لتقليص المخاطر المُحدِقة بالجنود الإسرائيليين. يجسّد الطيران المسيّر إذًا نموذجًا لإحكام السيطرة من الجوّ، من دون الحاجة إلى نشر قواتٍ في الميدان، لا بل يتسلّل هذا السلاح بسهولةٍ إلى صميم حياة الناس اليومية ومساحاتهم الشخصية. لقد غيّرت المسيّرات بالفعل كلًّا من الاحتلال وعمليات مكافحة التمرّد.

 

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.