أدّت الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد إلى إعادة تشكيل دور سورية ضمن توازن القوى الإقليمي، إذ سطّرت نهاية حقبةٍ كانت فيها دمشق خاضعة لهيمنة إيران، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة من التجاذبات على إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للبلاد. نشهد اليوم إذًا علاقاتٍ إقليمية جديدة تتشكّل بفعل التعاون التركي الخليجي، دعمًا للرئيس أحمد الشرع، وتحت إشرافٍ أميركي، حتى في ظلّ معارضة إسرائيل للنظام السوري الجديد. وفي خضمّ هذا المشهد الآخذ في التحوّل سؤالٌ يطرح نفسه: أين تلتقي أهداف إسرائيل مع أهداف القوى الداعمة لنظام الشرع، وأين تتباعد؟
لدى القيادة السياسية السورية وتركيا والمملكة العربية السعودية مصالح مشتركة تتمثّل في كبح نفوذ إيران في دمشق، وتحديدًا تفكيك شبكة التحالفات الإقليمية التي تربط وكلاءها عبر المنطقة وتمتدّ من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط. ويسلّط الشرع الضوء على هذه المسألة باستمرار، إدراكًا منه لأهميّتها في الحفاظ على استقرار نظامه في خضمّ التنافسات الدولية. كذلك، يشكّل هذا الهدف القاسم المشترك الرئيس بين حلفاء دمشق وإسرائيل.
فيما تعتبر تركيا والسعودية أن الأولوية تكمن في توطيد أركان دولةٍ سورية موّحدة وصديقة وذات قيادة متعاونة، تنظر إسرائيل بعين الريبة إلى أي دولة مجاورة موّحدة وقوية، ولا سيما إن كانت تقودها شخصية إسلامية مدعومة من أنقرة. وقد عبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن توجّسه إزاء القيادة السورية الحالية، قائلًا: "لست ساذجًا وأعرف مع من أتعامل". وتُرجم هذا الموقف من خلال دعم إسرائيل للتوجّهات الانفصالية أو الإثنية الطائفية في البلاد، وفرض منطقة عازلة في الجنوب السوري، وإعادة إحياء أفكارٍ قد تتسبّب بتفكُّك المنطقة. ليس مفاجئًا إذًا أن يتّهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسرائيل بمحاولة تقويض عملية إرساء الاستقرار في سورية.
وفي أعقاب الإطاحة بنظام الأسد، سارعت إسرائيل إلى إحباط أي محاولات لإعادة بناء القدرات العسكرية السورية. فشنّت ضربات دقيقة على منشآت لتصنيع الصواريخ ومخازن للأسلحة، وأبرزها المنشأة الواقعة في مدينة مصياف، إضافةً إلى غارات على مواقع في ريف دمشق وقواعد جوية بارزة، على غرار قاعدتَي "تي فور" (T4) وتدمر الجويتَين. لقد وجّهت هذه الهجمات رسالةً واضحةً مفادها أن الأسلحة الاستراتيجية يجب أن تظل بعيدةً عن متناول الجيش السوري الجديد. في موازاة ذلك، عمَدت إسرائيل إلى توسيع وجودها العسكري من خلال إنشاء منطقة عازلة في جنوب غرب سورية، بمحاذاة مرتفعات الجولان المحتلة، وسيطرت على مواقع جديدة في جبل الشيخ. وهكذا، تمركزت القوات الإسرائيلية في موقع يشرف على دمشق وسهل البقاع اللبناني الذي يُعتبر مركزًا استراتيجيًا لحزب الله، ووضعت في الوقت نفسه خطوطًا حمراء أمام الطموحات العسكرية التركية في سورية.
أما تركيا فقد كثّفت انخراطها مع الجيش السوري، من خلال إطلاق مبادرات تدريبية، وتوفير الدعم اللوجستي، وتنسيق عمليات مشتركة بهدف إعادة بناء مؤسسة عسكرية متّسقة. في الإطار نفسه، وعلى الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية، أيّدت السعودية عملية إعادة نشر قوات عسكرية سورية في مختلف أنحاء البلاد، معتبرةً أن هذه الخطوة تشكّل ركيزةً لإعادة إرساء الاستقرار والأمن. من هذا المنطلق، سعت القيادة السورية إلى الاستفادة من الدعم التركي والخليجي لتنفيذ عملية مدروسة من أجل إعادة بناء الجيش السوري. لكنها تُدرك أيضًا أن إسرائيل لن تتسامح مع استعادة قدرات عسكرية محدّدة، على غرار امتلاك صواريخ بالستية بعيدة المدى وأنظمة دفاع جوي متقدّمة، أو تحديث القوات الجوية السورية، أو إعادة تشكيل أيٍّ من الإمكانات العسكرية المتطوّرة الأخرى.
هذا وتتصدّر مسألة إعادة اكتساب شرعية سياسية واقتصادية برعاية تركية سعودية، قائمة أولويات القيادة السورية. فخلال مدّة قصيرة للغاية، حضر الشرع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، مدعومًا بموجةٍ من التحرّكات الدبلوماسية على الساحة الدولية. فقد التقى الرئيس السوري بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن العاصمة في 10 تشرين الثاني/نوفمبر. وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأ رفع العقوبات عن سورية بالتبلور، إذ خفّف الاتحاد الأوروبي معظم القيود المفروضة عليها، وتعمل الولايات المتحدة بدورها على مراجعة إطار عقوباتها، ما يشير إلى توجّهٍ تدريجي نحو عودة العلاقات إلى طبيعتها، على الرغم من العقبات التشريعية الكبيرة التي لا تزال قائمة. وتسير تركيا والسعودية على قدم وساق في دعمهما للشرع: ففيما تركّز أنقرة على إعادة بناء شبكات البنية التحتية والممرّات التجارية التي تربط تركيا بمنطقة الخليج، تنتهج الرياض استراتيجية "إعادة الإعمار عبر الاستثمار" التي تجعل التمويل مرهونًا بالاستقرار السياسي.
هذا الزخم المتصاعد عزّزته مؤشّراتٌ أميركيةٌ إيجابية، ولا سيما من السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سورية، توم برّاك، إذ يشير هذا الزخم إلى مسارٍ من إعادة الاندماج المتسارع في الاقتصاد العالمي. ففي 20 أيلول/سبتمبر، أعرب برّاك عن تفاؤله بأن الكونغرس سيلغي قريبًا قانون قيصر، واصفًا ذلك بأنه خطوة حيوية من أجل "تمكين الاقتصاد السوري من التنفّس مجددًا". ومع ذلك، تستمر إسرائيل في الضغط على واشنطن للإبقاء على العقوبات، معتبرةً إيّاها أداةً ضروريةً للحفاظ على نفوذها الاستراتيجي على دمشق.
لقد انعكس سعي القيادة السورية إلى الحصول على الاعتراف الدولي أيضًا في المقاربة التي انتهجتها في إدارة شؤون سورية الداخلية، على وجه الخصوص في كلٍّ من شرق البلاد وجنوبها، وعلى طول الساحل. وتعطي استراتيجيتها الأولوية لخفض التصعيد والاحتواء بدلًا من فتح جبهات عسكرية جديدة. كذلك تسعى الحكومة السورية ضمن هذا الإطار إلى حلّ التوتّرات مع قوات سورية الديمقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية، من دون الدخول في مواجهة مباشرة معها. فقد التقى الشرع بصورة متكرّرة بمظلوم عبدي، قائد "قسد"، ما أسفر عن اتفاقات لم تُنفَّذ بعد، بسبب تباين الأجندات، حتى في ظلّ تكثيف تركيا ضغطها العسكري على "قسد" لدفعها إلى تسويةٍ من أجل دمجها في الدولة. فأنقرة تنظر إلى المسألة الكردية في سورية على أنها أساسية لأمنها الوطني، نظرًا إلى إمكانية امتداد تأثيرها إلى جنوب تركيا، حيث يعيش عددٌ كبير من السكان الأكراد.
والواقع أن الحكومة السورية اتّبعت نهجًا مماثلًا في احتواء الصراع في منطقتَي الساحل والسويداء. فالتوتّرات في المنطقة الساحلية، حيث تتركّز الطائفة العلوية في سورية، تحتلّ مكانةً بارزةً في تفاعل دمشق المتواصل مع روسيا، بدعمٍ هادئ من تركيا. أما في السويداء، فتتمحور استراتيجية الحكومة حول التواصل السياسي والاجتماعي، مع تجنّب أيّ اشتباكات جديدة في المحافظة. وتسعى هذه الاستراتيجية إلى كبح اللاعبين المحليين الذين يعارضون القيادة السورية، أمثال الزعيم الروحي الدرزي حكمت الهجري، وعزل السويداء بشكلٍ كبير عن إسرائيل والتأثيرات الخارجية الأخرى. ويرمي هذا النهج إلى إحكام سيطرة دمشق على السويداء أكثر، أو على الأقلّ إلى الحدّ من قدرتها على شنّ تمرّد فعّال ضدّ الحكومة. هذا وساهم تعزيز الحكومة للطريق السريع M5، الممتدّ من دمشق إلى الحدود الأردنية، في عزل السويداء عن الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وهو تدبيرٌ حظي بدعم كلٍّ من تركيا والسعودية.
ويبقى الوضع مع إسرائيل الأشدّ تعقيدًا، وربما الأكثر خطورةً لدمشق. فلا سورية ولا داعموها يرون أن التصعيد العسكري خيار قابل للتطبيق، بل يراهنون على مسار تفاوضي. من شأن هذه المفاوضات، إذا ما نجحت، أن تعزّز سلطة الشرع، وتسرّع عودة سورية إلى وضعها الطبيعي وتعافيها. أمّا إذا فشلت، فمن المتوقّع أن تواصل دمشق التحلّي بالصبر الاستراتيجي، ومواصلة المفاوضات، لتحقيق أقصى قدر من المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية، وتعزيز مكانتها تدريجيًا.
فضلًا عن ذلك، تؤثّر الأجندات الإقليمية المتنافسة في سورية أيضًا على التطوّرات على مستوى آخر، وتحديدًا في ما يتعلّق بكيفية ربط المناطق ذات الغالبية السنّية في تركيا وسورية والأردن بقلب العالم العربي عبر ممرّات برّية مثل الطريق السريع M5. فأنقرة والرياض تراهنان على محور برّي سياسي لوجستي واحد يمتدّ من هذه الدول الثلاث إلى الخليج، علمًا أن وزير التجارة التركي صرّح بأن من المُقرَّر أن يُفتتَح ممرّ تركيا-سورية العام المقبل. وهذا يعني تنسيق الإجراءات لتسهيل نقل البضائع، وتوحيد الإجراءات الجمركية على الحدود، وإعادة تأهيل بعض أجزاء الطريق، وهي كلّها خطوات تهدف إلى إنشاء شبكة لوجستية إقليمية أكثر تطوّرًا وتكاملًا.
في موازاة ذلك، تتعمّق الشراكات الدفاعية التركية الخليجية، وتشمل اتفاقًا سعوديًا تركيًا يقضي بتزويد المملكة بالطائرة التركية المسيّرة المسلحة "أكينجي"، إضافةً إلى اتفاقات تركيا الاستراتيجية مع الكويت في مجالات الاستثمار، والنقل البحري، والطاقة، والدفاع، ناهيك عن علاقتها الاستراتيجية الأوسع بقطر، ومشاريع أخرى مع دول الخليج. كما إن المسعى الرامي إلى تعزيز الروابط بين تركيا والخليج، عبر سورية والأردن، يهدف أيضًا إلى مواجهة أيّ خطط إسرائيلية محتملة لمنع ذلك، على سبيل المثال من خلال إنشاء خطّ نفوذ جغرافي من إسرائيل، مرورًا بجنوب سورية، إلى التنف ودير الزور، وصولًا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية في شمال شرق سورية، وإلى كردستان العراق.
لم ينتهِ الصراع على سورية بعد، ولن ينتهي في وقتٍ قريب. صحيحٌ أن مؤشّرات ترسيخ النظام الجديد تبدو أقوى من المؤشّرات الدالّة على عكس ذلك، إلا أن الموقف الأميركي يبقى العامل الحاسم. فإما أن تكبح واشنطن اندفاعات إسرائيل وقوات سورية الديمقراطية، وتوجّههما نحو تسويةٍ دائمةٍ مع النظام السوري الجديد، وإما أن تدخل سورية في دوّامة جديدةٍ من انعدام الاستقرار. لكن ذلك وحده لن يكون كافيًا، إذ ستثبت السياسات الداخلية للقيادة السورية أنها محوريةٌ بالقدر نفسه إما في تعزيز التماسك الاجتماعي والشعور بالهدف المشترك، أو في إعادة إشعال الانقسامات الداخلية وتجديد الصراع.


.jpg)


