المصدر: Getty
مقال

أيُّ مستقبل لإيران؟

يستعرض كريم سجادبور، في مقابلة معه، السيناريوهات المحتملة بعد خروج آية الله علي خامنئي من المشهد.

نشرت في ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٥

كريم سجادبور زميل أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تركّز أبحاثه على الشؤون الإيرانية والسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط. كتب سجادبور مؤخرًا مقالًا في مجلة فورين أفيرز بعنوان Autumn of the Ayatollahs: What Kind of Change is Coming to Iran? (خريف آيات الله: أيُّ تغيير ينتظر إيران؟). أجرت "ديوان" مقابلة معه في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر لمناقشة مقاله، ولاستشراف ما يحمله المستقبل للجمهورية الإسلامية.

مايكل يونغ: كتبتَ مؤخرًا في مجلة فورين أفيرز مقالًا مثيرًا للاهتمام تطرّقت فيه إلى نوع التغييرات التي قد تشهدها إيران بعد وفاة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. قبل الدخول في تفاصيل المقال، ما يلفت انتباه القارئ على الفور هو التباين الكبير بين الخلاصات التي توصّلت إليها – يمكنني القول إنها أكثر تشاؤمًا بكثير ربما – وبين الفرضيات المُعتادة في الغرب حول ما قد يحصل في البلاد عند زوال النظام الإسلامي. إلى أيّ مدى انطلق دافعك من الرغبة في تفنيد السيناريوهات المتفائلة التي يبدو أنها سائدة في النقاش؟

كريم سجادبور: لم تكن نيّتي صياغة سيناريوهات متفائلة أو متشائمة، بل سيناريوهاتٍ واقعية استنادًا إلى تاريخ إيران العريق وثقافتها السياسية الفريدة. في أعقاب حرب الاثني عشر يومًا – التي بدا خلالها مصير خامنئي غير مؤكّد – لفتتني دراسةٌ للباحثة في العلوم السياسية باربرا غيديس، تكشف فيها أن أقلّ من ربع حالات الانتقال من الحكم السلطوي فقط، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، أفضت إلى بروز نظامٍ ديمقراطي. بل أدّت في أغلب الأحيان إلى شكلٍ آخر من أشكال السلطوية. ومن الأمثلة على ذلك الثورة الإيرانية في العام 1979، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وحصيلة معظم انتفاضات الربيع العربي. وعندما يتسبّب عنف داخلي أو صراع خارجي بانهيار الحكومات السلطوية، تكون احتمالات تحقيق الانتقال الديمقراطي أقلّ حتى.

المسألة التي أردتُ تناولها في مقالي هي ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية بعد خامنئي ستبقى، أم ستتحوّل، أم ستنهار، وما شكل النظام الذي قد ينبثق بعدها. أعتقد أن الوضع القائم حاليًا لا يمكن أن يستمر، لكن إن كان النظام سينهار في وقت قريب، سيكون البديل السلطوي هو الأوفر حظًّا في تسلّم السلطة من النموذج الديمقراطي.

كتبتُ أيضًا أن إيران لديها جميع المقوّمات التي تخوّلها أن تصبح إحدى دول مجموعة العشرين: شعبٌ متعلّم، ومنفتحٌ على العالم، وموارد طبيعية هائلة، وهوية حضارية يعتزّ بها الإيرانيون. لكن الظروف الدولية غير مؤاتية إطلاقًا في الوقت الراهن للديمقراطيين الإيرانيين. فالولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى التي حملت سابقًا راية الديمقراطية قلّصت مستوى الدعم والموارد، وانهمكت بتقهقر العملية الديمقراطية في الداخل. في هذا السياق، من المُرجَّح أكثر أن تتبع إيران الاتجاهات الإقليمية والدولية الأوسع، حيث يصعد نجم القادة السلطويين من خلال التركيز على فضائل الحفاظ على النظام والاستقرار بدلًا من الوعد بالحرية. ثمة بصيص من النور في آخر النفق، لكنّ الديمقراطيين في إيران ما زالوا يحاولون بناء هذا النفق.

يونغ: ما هي المآلات المحتملة لإيران بعد وفاة خامنئي؟

سجادبور: حاولتُ استخدام إطار عمل مُقارن لعرض هذه السيناريوهات بطريقة واضحة. لقد استوحيتُ ذلك من مقالٍ كتبه المؤرخ ستيفن كوتكين في مجلة فورين أفريرز بعنوان Russia’s Five Futures (خمسة سيناريوهات مُحتمَلة لمستقبل روسيا). لا شكّ في أن إيران ستسلك طريقها الخاص، لكن في ما يلي المسارات الخمسة التي كتبتُ عنها في مقالي، من دون ترتيب محدّد. أولًا، سيناريو إيران على خطى روسيا، حيث يتسلّم السلطة رجلٌ قوي ذو توجّه قومي. في هذه الحالة، ينهار النظام تحت وطأة العقوبات والفساد المستشري والاضطرابات الاجتماعية، ما يخلّف فراغًا تسارع النخب الأمنية والأوليغارشية إلى ملئه. وقد يبرز من قلب هذه الاضطرابات "بوتين إيراني"، يستبدل الإسلاموية بالقومية المدفوعة بالمظالم.

ثانيًا، سيناريو إيران على خطى الصين، الذي يتسّم بسلطوية براغماتية. هنا، يحاول القادة الإيرانيون صون النظام عبر التحوّل من الاندفاع الثوري إلى المصلحة الوطنية البراغماتية، التي تشمل الانفتاح الاقتصادي، والسعي إلى التقارب مع الولايات المتحدة. فيبقى النظام قمعيًا، لكن شرعيته تستند إلى النمو الاقتصادي والنزعة القومية أكثر من استنادها على الإيديولوجيا. 

ثالثًا، سيناريو إيران على خطى كوريا الشمالية، إذا استمرّت القيادة الدينية. في هذه الحالة، تصرّ الدولة على تقديم الإيديولوجيا على المصالح الوطنية، متمسّكةً بعزلتها ونهجها القمعي، ربما بقيادة نجل خامنئي مجتبى أو رجل دين آخر من التيّار المتشدّد، يكون مدعومًا بشكل أساسي من الحرس الثوري الإيراني. وسيعتمد بقاء مثل هذا النظام على سيطرة شمولية في الداخل وسلاح نووي لردع الضغوط الخارجية.

رابعًا، سيناريو إيران على خطى باكستان، الذي يتّصف بالهيمنة العسكرية. هنا يفوق نفوذ الحرس الثوري نفوذ رجال الدين، فيحكم بشكل مباشر أو غير مباشر بصفته حارس الوحدة الوطنية. وتصبح إيران دولة بريتورية يوجّهها الجنرالات أكثر مما توجّهها الإيديولوجيا، وتتأرجح علاقتها مع الغرب بين المواجهة حينًا والانفراج حينًا آخر.

أخيرًا، سيناريو إيران على خطى تركيا، حيث تبرز الديمقراطية الشعبوية. في هذه الحالة، تفسح السلطة الدينية المجال أمام إجراء انتخابات أكثر تنافسيةً، تأتي إلى الحكم بقادة شعبويين يمزجون بين القومية، والرمزية الدينية، والتأييد الشعبي. يوفّر هذا النموذج شرعية جماهيرية، لكنه معرَّضٌ للانزلاق إلى حكم سلطوي غير ليبرالي، بدلًا من التحوّل إلى ديمقراطية ليبرالية.

هذه السيناريوهات لا تستبعد بعضها البعض، بل يمكن أن تتداخل في ما بينها. فقد تشهد العملية الانتقالية في إيران مزيجًا من العناصر المذكورة، مثلًا إذا حكم البلاد رجل قوي شعبوي مدعومٍ من الجيش. أعتقد أن المجتمع الإيراني مستعدٌ لنظام ديمقراطي تمثيلي، لكن عملية الانتقال من السلطوية نادرًا ما تكون مسألة تنافس على الشعبية، بل غالبًا ما تُحسَم استنادًا إلى من يمتلك الوسائل القسرية. من البديهي أن تكون الجمهورية الإسلامية في المرحلة المقبلة غير ليبرالية إن كانت المعارضة الليبرالية أو الديمقراطية في البلاد غير قادرة على تنظيم صفوفها.

يونغ: ثمة أمرٌ لم تتطرّق إليه كثيرًا، وهو شبكة تحالفات إيران الإقليمية. كيف ترى موقعها في هذا الوضع الآخذ في التحوّل؟ وهل تلمس رغبةً في إعادة إحياء ما يُعرف بمحور المقاومة، أو أن الوصف الأدقّ هو أن طهران تريد الحفاظ على قيمة هذه الورقة، لأنها تُدرك أنها ستُضطرّ إلى تقديم تنازل بشأنها ضمن صفقة تفاوضية في المستقبل المنظور؟  

سجادبور: ما دام خامنئي يشغل منصب المرشد الأعلى، ستستمرّ الجمهورية الإسلامية في دعم وكلائها المناوئين لإسرائيل والولايات المتحدة. في نظر خامنئي، هذه المسألة ليست ورقة قابلة للمساومة، بل هي نهجٌ عقائدي طبع مسيرته. وعلى الرغم من تدهور قدرات النظام خلال العام الفائت، فإن إيديولوجيته ثابتة لم تتبدّل.

يكمن السؤال الحقيقي في ما إذا ستواصل طهران في مرحلة ما بعد خامنئي تغليب الإيديولوجيا الثورية على المصلحة الوطنية. برأيي، لقد قوّضت الشعارات الإيديولوجية التي رفعتها إيران – "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل" – مصالحها الوطنية، وبات الإيرانيون بسببها أكثر فقرًا وأقلّ أمانًا. يُدرك معظمهم أن بلادهم لن تتمكّن من تحقيق كامل إمكاناتها ما لم تُقدِم على تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. ويتطلّب ذلك إعادة النظر في سلوكها الإقليمي، وفي مقدّمته عداؤها لإسرائيل ودعمها لوكلائها المسلّحين.

يونغ: لقد ذكرتَ في المقارنات التي عقدتها بين إيران وروسيا احتمالَ بروز قائدٍ يعتمد على "القومية المدفوعة بالمظالم [...] بوصفها العقيدة التنظيمية لنظام سلطوي جديد". هل سيعتبر الكثير من الإيرانيين ذلك بالضرورة نتيجةً سيئة، أم أن الرغبة في نظامٍ تعدّدي وعلاقات جيدة مع الغرب هي أعمق؟

سجادبور: أعتقد أن لمعظم الإيرانيين تطلّعاتٍ أكبر من العيش في ظلّ دكتاتوريةٍ فاسدةٍ أخرى مثل دكتاتورية فلاديمير بوتين في روسيا، حتى لو كانت علمانية، وتوفّر لهم حرياتٍ اجتماعية. لكن التحوّلات السلطوية تُحسَم لصالح مَن يستطيع تسخير القوة القسرية بأفضل طريقةٍ لتحقيق مكاسب سياسية، مثلما فعل بوتين. ومع ذلك، ستظلّ روسيا والصين على الأرجح تعرّفان نفسَيهما دائمًا بأنهما قوّتان عُظمَيان منافستان للولايات المتحدة، بغضّ النظر عن نظامَيهما السياسيَّين. أما إيران، فهي قوةٌ إقليميةٌ تحالفت تاريخيًا مع واشنطن، جزئيًا لردع دولٍ مجاورة ذات أطماع توسّعية مثل روسيا. ولذا، يُعَدّ عداء الجمهورية الإسلامية للولايات المتحدة شذوذًا تاريخيًا، لا حتمية تاريخية.

يونغ: اسمح لي بأن أعود إلى نقطةٍ تطرّقتَ إليها آنفًا. في عصرنا هذا، وفي ظلّ نظام عالمي باتت أقطابُه أكثر تعدّدًا بكثير، وبالتالي ازدادت خيارات إقامة التحالفات، ما مدى أهمية أن تقيم إيران علاقات أفضل مع الولايات المتحدة إذا تخلّت عن تشدّدها الإيديولوجي بعد رحيل خامنئي؟ بتعبيرٍ آخر، هل سيكون من الأسهل على خليفة خامنئي الإبقاء على مسافة رسمية من الولايات المتحدة، إذا ما اقترن ذلك بقدرٍ من العدائية العلنية أقلّ مما نشهده اليوم، من دون الإضرار بقوة إيران السياسية والاقتصادية؟

سجادبور: هذا ممكن. ما من حكومة في العالم سخّرت قدرًا من رأسمالها السياسي والاقتصادي لمناوأة الولايات المتحدة أكبر مما سخّرته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد دفعت البلاد ثمنًا باهظًا لقاء هذا العداء. يشكّل سكان إيران، البالغ عددهم 92 مليون نسمة، أكبر شريحة سكانية في العالم معزولة عن النظام المالي والسياسي العالمي منذ عقود. ويُعَدّ الاقتصاد الإيراني من بين الأكثر تعرّضًا للعقوبات، وعملتها من بين الأكثر انخفاضًا في القيمة، وجواز سفرها من بين الأكثر رفضًا، وشبكة الإنترنت فيها من بين الأكثر خضوعًا للرقابة، وهواؤها من بين الأكثر تلوّثًا.

لقد كانت أحيانًا لاثنتَين من الدول التي أشرتُ إليها في المقال، باكستان وتركيا، خلافاتٌ شديدةٌ مع واشنطن، ومع ذلك بقيتا شريكتَين للولايات المتحدة لفترةٍ طويلة. وفيتنام مثالٌ آخر، وهي دولة كانت في حالة حرب مع الولايات المتحدة ثم ازدهرت منذ تطبيع العلاقات مع هذه الأخيرة، وتحوّلت إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في آسيا، وأصبحت شريكةً رئيسةً للولايات المتحدة. وحتى حلفاء واشنطن المقرّبين، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، حافظوا على شراكات استراتيجية واقتصادية مع كلٍّ من الصين وروسيا. فالسؤال المطروح لإيران ما بعد خامنئي هو ما إذا كانت ستواصل تعريف نفسها على أساس معارضتها للولايات المتحدة، أم على أساس سعيها إلى تحقيق مصلحتها الوطنية.

يونغ: تصف الحرس الثوري الإيراني بأنه "مجموعة من الكارتلات المتنافسة، حيث تمّ احتواء التوتّرات الداخلية القائمة بين الأجيال، وبين مختلف الوحدات والمؤسسات، وكذلك بين المصالح التجارية التابعة للحرس، تحت سلطة خامنئي". هل يمكنك أن تشرح تداعيات هذا الأمر بعد خروج خامنئي من المشهد، وكيف قد يؤثّر برأيك على وضع الخلافة؟

سجادبور: اللافت، على الرغم من إخفاقات قيادة خامنئي، والانقسامات الحادّة في السياسة الإيرانية، لا يوجد فعليًا أيّ أمثلة على انتقاداتٍ علنيةٍ له من شخصيات سياسية بارزة، أو من قادة نَشِطين في الحرس الثوري. ومع ذلك، تترقّب الأمّة بأكملها بصمتٍ رحيله، وما سيأتي بعده. إن المؤسسة التي تتمتّع بالصلاحية الدستورية لاختيار المرشد الأعلى المقبل هي مجلس خبراء القيادة، الذي يتألّف من 88 رجل دين معظمهم من كبار السنّ. ولذا، يبقى أن نرى ما إذا سيستمرّ الحرس الثوري في الخضوع لرجال الدين في اختيار القائد الأعلى القادم، أم ما إذا سيسعى إلى الحكم على نحوٍ أكثر صراحة. والواقع أن الحرس الثوري ليس جهة فاعلة مُوحَّدة، بل يتألّف من أكثر من 150 ألف عنصر لديهم طموحات ورؤى متضاربة للبلاد.

وكما لاحَظَ سياماك نمازي، الذي احتجزه الحرس الثوري رهينةً لثماني سنوات، "إيران هي اليوم عبارة عن مجموعة من المافيات المتنافسة، التي يهيمن عليها الحرس الثوري وخرّيجوه، والتي لا ينصَبّ ولاؤها الأسمى على الوطن أو الدين أو الإيديولوجيا، بل على الإثراء الشخصي". لهذا السبب، ثمّة قلق حتى لدى أشدّ معارضي النظام من أنّ ما هو على المحكّ ليس استقرار الجمهورية الإسلامية فحسب، بل أيضًا تماسك الدولة الإيرانية نفسها، وهي مخاوف تعمّد النظام وأنصاره تضخيمها لجعل بقائهم مرادفًا لبقاء إيران.

يونغ: يبدو أنك تستبعد عودة الحكم المَلَكي على يد البهلويين. لماذا، وهل يسعى الإيرانيون فعلًا إلى هذه العودة؟

سجادبور: تضمّنت المسودة الأولى من مقالي قسمًا بعنوان "إيران على خطى إسبانيا"، يتناول سيناريو الانتقال مجدّدًا إلى النظام المَلَكي. هذا القسم حُذِف لضيق المساحة، ولكني كتبتُ أن الشخصية المُعارِضة الوحيدة للجمهورية الإسلامية، التي تتمتّع بشهرة واسعة وقاعدة شعبية ظاهرة، هي ولي العهد السابق رضا بهلوي، الذي كان في السابعة عشرة من عمره عندما غادر إيران نهائيًا، قُبيل ثورة العام 1979.

إن قيادة معارضةٍ من المنفى واستعادة نظامٍ ملَكيّ مخلوعٍ يمثّلان تحدّيَين جسيمَين، ولكنهما ليسا غير مسبوقَين. فقد أمضى لينين الروسي، وهو تشي منه الفيتنامي، وآية الله الخميني الإيراني، أكثر من خمسة عشر عامًا في المنفى قبل أن يعودوا ويقودوا ثوراتٍ أطاحت الأنظمة التي كانت نَفَتهم. يُضاف إلى ذلك أنّ عددًا من الدول التي سبق أن ألغت أنظمتها الملَكية، بما فيها إسبانيا وكمبوديا وبريطانيا (في عهد أوليفر كرومويل)، أعادتها لاحقًا على شكل ملَكياتٍ دستورية.

لكن بينما غالبًا ما يستشهد الملَكيون الإيرانيون بانتقال إسبانيا من الدكتاتورية إلى الديمقراطية في القرن العشرين، يبقى السياقان مختلفَين اختلافًا جذريًا. ففي إسبانيا، تولّى الجنرال فرانسيسكو فرانكو إعداد خوان كارلوس دي بوربون، وريث النظام الملَكي المخلوع، ليكون تلميذه وخليفته. ومع ذلك، عندما توفي فرانكو في العام 1975، خالف خوان كارلوس التوقّعات بتفكيكه الدكتاتورية وإرسائه دستورًا ديمقراطيًا. ما جعل انتقال إسبانيا إلى الديمقراطية ممكنًا كان الشرعية المزدوجة التي تمتّع بها خوان كارلوس، إذ أُعِدّ على يد فرانكو، ولكنه حمل أيضًا الثقل الرمزي للملَكية. أما السياق الخاص برضا بهلوي، فمختلفٌ تمامًا.

السؤال الأهم يتعلّق بنوع النظام الذي يطمح الملَكيون الإيرانيون إلى إعادة إرسائه. فلطالما أكّد رضا بهلوي أن هدفَه مساعدة إيران على الانتقال إلى الديمقراطية، وربما تولّي منصب ملك دستوري إذا ما اختاره الشعب. لكن أشدّ مؤيديه حماسةً يعبّرون صراحةً عن رغبتهم في استعادة نظام سلطوي مُطلق آخر. لقد أعاق هذا التوتّر قدرة بهلوي على بناء المعارضة الديمقراطية الواسعة النطاق التي يتطلّبها التغيير الحقيقي.

إن الدرس الأوسع الذي يمكن استخلاصه من التاريخ هو التواضع. فالتحوّلات السلطوية نادرًا ما تتّخذ مسارًا مستقيمًا أو يمكن التنبّؤ بها. كما أشرتُ في مقالي، لقد أساء كلٌّ من الباحثين الغربيين والمفكّرين الإيرانيين البارزين قراءة الخميني ومسار الثورة بشكلٍ كبير. فقلّةٌ منهم تصوّروا أن رجال الدين سيحكمون البلاد، لا بل إن بعضهم أشادوا بالخميني واصفين إيّاه بأنه "غاندي إسلامي". وفيما لا يزال الكثير من الإيرانيين يعتقدون أن القوى الأجنبية قادرةٌ على تحديد مصير الجمهورية الإسلامية، إن العبرة المشتركة التي استخلصها الحزبان الحاكمان في الولايات المتحدة من المغامرات الأميركية الفاشلة في كلٍّ من أفغانستان والعراق هي أن ما من قوةٍ أجنبيةٍ يمكنها أن تصنع الإجماع الوطني الذي ستحتاج إليه المعارضة الإيرانية في نهاية المطاف لتحقيق النجاح.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.