تغييب قيمتى العدل والمساواة

لا ينكر قليل من الحكومات السلطوية المعاصرة عداءه الصريح لوجود مؤسسات قضائية مستقلة، ولا يتوقف عن التغول على المحاكم والتدخل فى أعمالها بطرق شتّى.

نشرت من قبل
الشروق
 on ١٧ أغسطس ٢٠١٨

المصدر: الشروق

على الطرف الآخر من الحكومات الديمقراطية، تأتي الحكومات السلطوية التي تشترك في إهدارها لقيمتي حكم القانون الأساسيتين. القيمة الأولى هي قيمة العدل المستندة إلى موضوعية القواعد القانونية وشفافية إجراءات التقاضي وضمانات حقوق الإنسان والحريات، والقيمة الثانية هي قيمة المساواة المستندة إلى امتناع المحاكم عن التمييز بين المواطنين وإقدامها على محاسبة المؤسسات العامة والخاصة حين تتورط في ممارسات تمييزية. وعلى الرغم من القواسم المشتركة بينهم، إلا أن السلطويين ليسوا دائما على حال واحد فيما يتعلق بتفاصيل وطرق تعاطيهم مع المؤسسات القضائية، وتوظيفهم لأداة التشريع ــ أي إصدار القوانين الجديدة وتمرير التعديلات على القوانين القائمة ــ لإدارة شئون الدولة والمجتمع والمواطن، وحدود الالتزام بتنسيب قراراتهم وسياساتهم وبغض النظر عن مضامينها إلى «القوانين واللوائح المعمول بها» بحيث تصطنع صورة الحكم المحترم لسيادة القانون.

فنجد أن قليلا من الحكومات السلطوية المعاصرة لا ينكر عداءه الصريح لوجود مؤسسات قضائية مستقلة، ولا يتوقف عن التغول على المحاكم والتدخل في أعمالها بطرق شتى. قليل منها يضرب عرض الحائط بالقوانين واللوائح، ويمعن في ممارسة القمع باتجاه المواطن والضبط باتجاه المجتمع والإخضاع باتجاه المؤسسات القضائية (وكذلك المؤسسات التشريعية) معتمدا فقط على المتاح له من أدوات القوة الجبرية والعنف الرسمي. قليل منها لا يسعى للتجمل بإبعاد شكلي للمكون الأمني عن واجهة الحكم وتمكينه من إدارة شئون الدول والمجتمعات من وراء ستار، بل يخرج على الناس، مهددا المعارضين بالإسكات والقمع وصولا إلى التصفية والإفناء ومحذرا العازفين من مغبة عدم تأييد الحكم. فقط القليل من الحكومات السلطوية هو الذي لا يعنيه تزييف وعي الناس بالترويج لكون حكم الفرد ليس حكما للفرد والحزب الحاكم ليس حزبا حاكما واحدا والانتخابات الرئاسية والبرلمانية معلومة النتائج سلفا ليست سوى انتخابات جادة تترجم الإرادة الشعبية بحرية ونزاهة، ولا يخجل من أن يعلن أن الحكم هو حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد وأن صناديق الاقتراع لا أهمية لها وأن دون ذلك ستسقط الدول وتدمر المجتمعات وينهار الأمن ويذهب إلى غير رجعة الاستقرار.

وإن كان هذا هو حال القليل من الحكومات السلطوية في التعاطي مع المؤسسات القانونية والقضائية، فأين يقف، إذن، العدد الأكبر من سلطويي القرن الحادي والعشرين؟ وأين تتشابه أو تتباين على سبيل المثال حكومات بلدان كروسيا والمجر وتركيا فيما خص التعاطي مع المؤسسات القضائية وتوظيف أداة التشريع وحدود تنسيب قرارات وسياسات الحكام إلى القوانين واللوائح المعمول بها؟

تصر أغلبية السلطويين المعاصرين وحكوماتهم على أنها تحترم سيادة القانون، وتعلن على رءوس الأشهاد امتناعها عن التدخل في أعمال المؤسسات القضائية والمحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها. تشدد أيضا على أن القضاء المستقل يمثل فرض ضرورة لتحقيق استقرار الدولة والمجتمع، ولا تمانع أن يتم النص دستوريا على استقلال المؤسسات القضائية وحياد القضاة وإرساء مبادئ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. غير أن تواتر إعلانات النوايا الحكومية الحميدة وحضور الضمانات الدستورية القاطعة لا يحولان دون السعي المستمر للسلطويين المعاصرين إلى استتباع القضاء وإخضاعه لأهوائهم، تماما مثلما يضغطون على المؤسسات التشريعية لتقزيمها إلى برلمانات دورها الوحيد هو تمرير مشروعات القوانين التي تطرحها الحكومات والموافقة على قرارات وسياسات الحكام دون إعمال جاد ومستقل للأدوات الرقابية. لا يريد العدد الأكبر من أولئك السلطويين في القرن الحادي والعشرين أن يبدو كمن ينتهك القوانين وهو يقمع ويتعقب ويضبط ويخضع أو أن يظهر العداء الصريح للمؤسسات القضائية المستقلة وهو يستتبع القضاء والقضاة. باستثناءات قليلة، يهدر سلطويو القرن الحادي والعشرين القيم الأساسية لحكم القانون وهم يدعون أنهم يحترمون سيادته، ويقضون على معاني العدل والمساواة في إدارة شئون الدولة والمجتمع بتمرير قوانين وتعديلات قانونية ظالمة وتمييزية. حكام بلدان كروسيا والمجر وتركيا ينسبون قراراتهم وسياساتهم إلى القوانين واللوائح، والأخيرة تتم هندستها لغرض وحيد هو التمكين للسلطوية وإطالة أمدها.

في روسيا يقمع الإعلام الحر ويراقب المجتمع المدنى أمنيا بالقوانين واللوائح. وفي المجر تنزع شرعية الوجود عن منظمات حقوق الإنسان ويتعقب من يعمل بالقوانين واللوائح.

وفي تركيا يعزل الرئيس رجب طيب أردوغان ومعه حكومة حزب العدالة والتنمية القضاة وأساتذة الجامعات وموظفي العموم وفقا لأهواء أردوغان السياسية لأن القوانين واللوائح تمكنه من ذلك. في تركيا أيضا، وافق البرلمان الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية في بدايات ٢٠١٧ على تعديلات دستورية تغير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي وتمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تنفيذية واسعة من بينها الاشتراك في تعيين القضاة ومدعى العموم وتلغى منصب رئاسة الوزراء. وفي ربيع ٢٠١٧، أقرت التعديلات الدستورية في استفتاء شعبي بأغلبية ضئيلة (٥‚٥۱٪).

تم نشر هذا المقال في جريدة الشروق.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.