تلقي المعرفة أم بناء الإنسان؟

تطوير التعليم أكبر بكثير من مجرد تنقيحات معينة للمناهج بهدف تلبية احتياجات السوق، بل يجب أن يركز بشكل أكبر على تطوير عملية تعلمية تدفع بالمجتمع كله إلى الأمام.

نشرت من قبل
الغد
 on ١٧ أكتوبر ٢٠١٨

المصدر: الغد

كثر الكلام عن تطوير التعليم في العالم العربي، وتم ربطه في أغلب الأحيان بمواكبة مخرجات التعليم مع احتياجات العمل، وبهذا قصرت معظم جهود تطوير التعليم في المنطقة عن الهدف الأسمى لهذا التطوير وهو بناء الإنسان المتكامل الذي يستطيع التفاعل مع مجتمعه بالكامل ويمارس دوره الإيجابي في المواطنة.

تحتاج نظم التعليم العربية لخدمة احتياجات مجتمعات تحترم التعددية وبناء مواطنين فاعلين، يتم تهيئتهم للتعامل مع التحديات المعقدة والقدرة على تحقيق التغيير الإيجابي. بدلا من ذلك، فإن جل التركيز الحالي يعتمد على المؤشرات الرقمية متجاهلا النوعية، وبذلك لا يتم تحقيق الهدف الأسمى لهذا التطوير. إن التركيز الضيق على احتياجات سوق العمل يغفل حقيقة أن الازدهار الاقتصادي ليس وحده على المحك، بل الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي ايضا.

تطوير التعليم أكبر بكثير من مجرد تنقيحات معينة للمناهج بهدف تلبية احتياجات السوق، بل يجب أن يركز بشكل أكبر على تطوير عملية تعلمية تدفع بالمجتمع كله إلى الأمام، ويتكامل فيها ما يحدث داخل الغرفة الصفية مع ما يحدث خارجها في المجتمع بأكمله.

أما التركيز على تلقي منظومة معرفية معينة دون التكامل مع المجتمع بأكمله سينتج أجيالا من المواطنين غير الفاعلين. فالتركيز على الجانب الاقتصادي للتعليم وإغفال الجانب المواطني يمثل إشكالا أخلاقيا ويؤدي بالنهاية إلى هزيمة ذاتية.

لا بد من الاعتراف أن النظم التربوية العربية ليست مصممة لتحتضن قيما كالمواطنة التشاركية والديمقراطية. فالنظم المدرسية مصممة لتشجيع المدرسين والمدرسات لتعليم مهارات إدراكية منخفضة المستوى على حساب مهارات اعلى قيمة كالتفكير الناقد والتحليل والتقييم. لذا، فان مدارسنا تنتج خريجين وخريجات لديهم مؤهلات معينة لكنها منخفضة المستوى وهم غير مسلحين بالمهارات اللازمة للتعامل مع التحديات السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي تواجهنا - إضافة إلى أنها لم تنجح أيضا في تلبية احتياجات سوق العمل.

هناك حاجة ماسة لإعادة اختراع دور وزارة التربية والتعليم، فمركزيتها في صنع القرار التربوي أدى لانغلاقها المتزايد عبر العقود الماضية ولثقافة مفادها أنها وحدها المناطة بتطوير التعليم دون اعترافها بدور المجتمع بأكمله في ذلك. تحتاج عملية التطوير لجهد مجتمعي تلعب فيه الوزارة دور المشرف والميسر بدلا من دور الحاكم بأمره.

لقد أخذ الجدل حول تطوير التعليم في بلادي منحى سلبيا للأسف، بسبب انطباع البعض أن هذا التطوير يشجع الطلاب على التشكيك بأمور دينهم. هذا ليس نقاشا تربويا وإنما سياسي بامتياز. فالتعليم الديني في منطقتنا كان يتضمن تاريخيا التفكير الناقد وكان يهدف الى تعليم الطلاب ليس فقط حفظ النصوص وإنما أيضا تطبيق مفاهيم الدين الأساسية في حياتهم اليومية.

لا يعني كل هذا عدم وجود محاولات جادة في العالم العربي تعي كل هذه الحقائق وتعمل على تطوير نظم لتطوير التعليم بشكل تشاركي مع المجتمع، وتهدف إلى الارتقاء بالتعليم من التركيز على تلقين المعرفة إلى مساعدة الطلاب للتعبير الواضح والمقنع عن أنفسهم، وللتفكير الناقد، ولحل المسائل المعقدة في العلوم والرياضيات وحقول أخرى. من بين هذه المبادرات مثلا مشروع "تمام" (التطوير المستند الى المدرسة) وهو مشروع بحثي تعاوني بين الجامعة الأميركية في بيروت وعدد من المدارس في الأردن والسعودية ولبنان بدعم من مؤسسة الفكر العربي لتطبيق المفاهيم التي أوردتها أعلاه.

نحتاج إلى تعميم المشاريع التربوية مثل "تمام" ومشاريع أخرى في تونس وفلسطين والأردن التي تدرك أهمية النظرة المتكاملة للتطوير التربوي في العالم العربي لتنطلق من جزر منعزلة إلى نظم يتلقفها الجميع. هذا أكبر تحد يواجه مستقبل العالم العربي.

تم نشر هذا المقال في جريدة الغد.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.