المصدر: Getty

نظرة العرب إلى «المعجزة الاقتصادية التركية»

يعتبَر الانتقال الذي حققه الاقتصاد التركي على مدى العقدين الماضيين مصدر إعجاب لكثير من الدول العربية، مثل مصر التي تمر بمرحلة انتقال حرجة، ويشبه كثير من مؤشراتها ومواردها تركيا الصاعدة والممتدة نحو دول الشرق المتعثرة.

نشرت من قبل
الحياة
 on ٢٠ ديسمبر ٢٠١١

المصدر: الحياة

يعتبَر الانتقال الذي حققه الاقتصاد التركي على مدى العقدين الماضيين مصدر إعجاب لكثير من الدول العربية، فالاقتصاد الذي كان على حافة الانهيار في مطلع الثمانينات، بات يحتل المرتبة 17 على مستوى العالم لجهة الحجم، والدولة التي كان يعوزها الاستقرار وينتشر فيها الفساد باتت اقرب إلى نموذج يمكن أن تحتذيه دول أخرى، ومن ضمنها الدول العربية، مثل مصر التي تمر بمرحلة انتقال حرجة، ويشبه كثير من مؤشراتها ومواردها تركيا الصاعدة والممتدة نحو دول الشرق المتعثرة.

تتحدث الأرقام عن ذاتها في ما يخص التطور الذي حصل في تركيا، فالناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 231 بليون دولار عام 2001 إلى 736 بليوناً عام 2010، أي أن حجم الاقتصاد تضاعف ثلاث مرات تقريباً. وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 3500 دولار عام 2002 إلى 10000 دولار نهاية عام 2010. واعتمدت تركيا على توسيع القاعدة الإنتاجية، فارتفعت الصادرات السلعية إلى 114 بليون دولار من 36 بليوناً ما بين 2002 ونهاية 2010. كذلك ارتفع عائد السياحة من 8.5 بليون دولار إلى 20 بليوناً.

فكيف نجحت تركيا بتحقيق هذا التطور الاقتصادي؟ لا بد من التأكيد على أن الإنجاز التركي ليس وليد السنوات العشر الماضية، فالعمل لإرساء الإطار المؤسسي بدأ منذ منتصف السبعينات حين قررت تركيا الانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي، ومنذ ذلك الوقت بدأت تركيا بإصلاحات مؤسسية بدأت على مستوى البلديات والحكم المحلي، واهتمت تركيا بتحقيق ما يصطلَح على تسميته النموذج المتوازن للتنمية فلم يقتصر التركيز على المدن الكبيرة بل نالت الأطراف والمناطق الريفية الاهتمام الذي تستحقه، وتعزز هذا التركيز حين وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فالقاعدة الانتخابية للحزب تتركز في تلك المناطق.

كذلك ركز صناع السياسة الأتراك على البعد الإقليمي في التعاملات التجارية، وحدثت الاستدارة باتجاه الدول المحيطة بتركيا، وتم التوسع في القاعدة الإنتاجية التي تولد فرص العمل، ولم يهمَل ما يعرف بالقطاعات التقليدية والصناعات اليدوية، بل إن الحوافز كانت تعطى للعاملين في هذه القطاعات حتى يستمروا في أعمالهم ورُبطت تلك الصناعات والحرف، التي غالباً ما كانت خارج المدن الرئيسة، بالأسواق الكبيرة عبر أدوات تسويق محلية، الأمر الذي أمّن أسواقاً محلية كبيرة لتلك المنتجات سواء في داخل تركيا او في الدول المجاورة.

في موازاة ذلك، لم تهمل تركيا القطاع السياحي، فكان ان تضاعف عدد السياح في تركيا من خلال تسهيل اجراءات الدخول والخروج وتأمين المعلومات في شكل سهل لمن يرغب في السياحة، وتوجه الاستثمار إلى البنية التحتية الرئيسة، ومرة اخرى كان للمناطق الريفية نصيب من الاهتمام فجرى من خلال ذلك تنويع المنتج السياحي لكافة الراغبين بزيارة تركيا.

وعلى صعيد القطاعات ظل القطاع الزراعي أحد اهم القطاعات التي تساهم بتشغيل الايدي العاملة، وتساهم في رفد الناتج المحلي والقطاعات الاخرى بما تحتاجه من مدخلات انتاج للصناعات الغذائية المهمة في تركيا، وتحقق الارتقاء بنوعية العاملين في القطاع الزراعي من خلال دعم برامج التدريب الهادفة إلى رفع كفاءتهم الانتاجية.

هذه هي قصة النجاح التركي، التي يمكن استخلاص الدروس منها على الصعيد العربي، فما تم انجازه على مدى العقد الماضي يعتبر استثنائياً بكافة المقاييس، إلا ان كثيرين من المحللين الأتراك لا يحبذون النظر إلى تركيا على انها «نموذج» بل يشيرون إلى وجود العديد من المشكلات المتعلقة بالقطاعات التقليدية وفقدان التنافسية، ويجادل هؤلاء بأن المرحلة المقبلة في ما يخص الاقتصاد التركي هي الاصعب، خصوصاً الانتقال إلى القطاعات المولدة للقيمة المضافة المرتفعة التي تعتمد على التكنولوجيا واقتصاد المعرفة، وهذه اسئلة يثيرها من يختلفون في شكل اساسي مع حزب العدالة والتنمية، لكنها لا تثير قلق الشارع العربي الذي ينظر إلى تركيا على انها «معجزة» اقتصادية تحققت أمامهم وخلال فترة ليس بالطويلة.

والتساؤلات الملحة في أذهان الكثيرين، خصوصاً في الدول التي تمر بمراحل تحول غير واضحة: ما هي الدروس التي يمكن الاستفادة منها؟ فهل محاربة الفساد هي المدخل الوحيد لتحريك عجلة التنمية وتحقيق التنوع المطلوب في الاقتصاد؟ أم أن بناء المؤسسات وسيادة القانون هي المدخل الاقرب؟ وماذا عن الحوافز التي يمكن اعتمادها لتحقيق التوازن؟ أم أن الحل يكمن في مزيج من هذه السياسات التي تحتاج إلى إطار سياسي يقوم على الانتخابات الحرة وتداول السلطة من ضمن رؤية واضحة؟

في مقابل الإعجاب بالنموذج التركي في إحداث التنمية، التي كانت تمر بمشكلات قريبة من مشكلات بلداننا، هناك الحيرة من وسائل الانتقال في بلد مثل مصر التي لن تحمل قواها السياسية الصاعدة برنامجاً واضحاً لوسائل التحول المطلوب والحفاظ على التوازن على المدى القصير. الثابت الوحيد أن تركيا مستقرة، وهي نجحت في ما فشل فيه الآخرون في المنطقة، وتجربتها غنية بالدروس والتساؤلات حول إمكانيات تكرارها أم لا.

 تمّ نشر هذا المقال في جريدة الحياة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.