منذ أيلول/سبتمبر 2013 شهدت الثورة المسلحة في سورية تماسكاً واضحاً في الميدان وعلى مستوى القيادة على حدّ سواء. ويعدُّ هذا التطوّر الذي طال انتظاره إيجابياً للغاية. ومع ذلك، من المستبعد أن يكون هذا كافياً لهزيمة نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وفي حين لا تزال الثورة المسلحة بمنأىً عن الهزيمة، فإنها وصلت إلى مرحلة عدم الصعود على الصعيدين العسكري والسياسي.
في غضون ذلك تستمرّ حالة التشرذم والمنافسة المختلّة بين جماعات الثوار، حيث لم تُظهِر التحالفات الجديدة حتى الآن زيادة ملحوظة في الفعالية العملياتية. وعلاوة على ذلك، تشير تقديرات تحظى بالصدقية إلى أنه لم تطرأ أي زيادة على العدد الإجمالي للثوار خلال العام الماضي، ما يدلّ على أن الثورة تعاني من تقلّص مخزون المجندين الجدد المحتملين، كما لاحظ تقرير مركز كارتر الذي استند إلى بيانات ميدانية شاملة وصدر في آذار/مارس 2014 .
المعضلة الأساسية هي سياسية في المقام الأول. فتفاعل الصراع الطبقي والطائفي الذي ميّز الأزمة السورية منذ بدايتها يقود إلى تصنيف وتقسيم المعارضة بصورة أكبر. فكل طرف سياسي أو عسكري فاعل يعزّز مركزه ضمن دائرة اجتماعية وجغرافية تضيق باستمرار. وهذا ينطبق بشكل خاص على العدد المتزايد من الجماعات الثورية التي تفصح عن توجه إسلامي أو سلفي.تشير هذه الاتجاهات إلى تنامي الانفصال بين المكوّنات المختلفة للثورة السورية: المعارضة السياسية الرسمية، والثورة المسلحة، والقاعدة الشعبية للناشطين، والمسؤولو الإدارة المحلية في المناطق المحررة، و هيئات الإغاثة. فهناك أجزاء رئيسة من الثورة المسلحة هي إما غير راغبة أو غير قادرة على الاندماج في هذه الهيكلية الأوسع، واختارت بدلاً من ذلك محاولة الحلول محلّه. وما لم يتمكّن الثوار من التغلّب على التشرذم الداخلي الذي يعتري صفوفهم، ويصبحوا جزءاً من المعارضة الأوسع، فإن قدرتهم على عكس الاتجاهات في ساحة المعركة والبقاء على قيد الحياة على المدى الطويل ستكون موضع شكّ.
استمرار التشرذم والمنافسة
حقّقت الثورة المسلحة بعض المكاسب في تقوية نفسها من الناحية التنظيمية وتحسين فعاليتها القتالية. غير أن ما بدا للوهلة الأولى توحيداً ملحوظاً للثورة المسلحة في سورية منذ أواخر العام 2013 يدين بالكثير لجهود السعودية الرامية إلى تحقيق المزيد من الوحدة والتماسك بين جماعات الثوار. فقد زادت الرياض بشكل حادّ حجم تمويل الثوار منذ آب/أغسطس 2013 كجزء من محاولة لحمل الثوار على التقارب السياسي والعملياتي مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي يعتبر ظاهرياً الممثّل السياسي الرئيس للمعارضة. غير أن المكاسب الفعلية التي تحقّقت كانت أكثر تواضعاً مما كان متوقَّعاً.
على الرغم من أن وتيرة الإعلان عن تشكيلات الثوار الجديدة تضاءلت باطّراد منذ تشرين الثاني/نوفمبر تشرين الثاني 2012، لا يزال العديد من الثوار يفضّلون تشكيل مجموعاتهم وتحالفاتهم الخاصة بدلاً من الانضمام إلى أي من التكتلات الأكبر حجماً. وعلى الرغم من الضجّة الإعلامية الكبيرة في وسائل الإعلام العربية والغربية المتعاطفة، فإن تلك التكتلات هي نتاج عمليات إعادة تقديم وإعادة تسويق أكثر منها نتاج عمليات تحوّل خضعت لها الجماعات الموجودة.
أشار الإعلان عن تأسيس جيش الإسلام في 29 أيلول/سبتمبر 2013، والذي أعلن فيه توحيد 43 من ألوية وكتائب الثوار في الغوطة الشرقية قرب دمشق، إلى التحوّل نحو الدمج. وبعد ما يقرب من شهرين تحوّل ذلك التشكيل الجديد إلى "الجبهة الإسلامية" الأكبر حجماً. وبذلك فقد اندمج جيش الإسلام مع العديد من التشكيلات الثورية الأكبر التي أسّست نفسها على مدى السنة السابقة، وخصوصاً حول حلب ودمشق، وأبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية ولواء التوحيد. وسرعان ما حذت عدة تحالفات جديدة حذوها، بما فيها الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام وجبهة ثوار سورية في كانون الأول/ديسمبر وجيش المجاهدين في كانون الثاني/يناير 2014.
كما تضخمت صفوف المجلس العسكري الأعلى، الذي يمثّل القيادة الاسمية للجيش السوري الحر المرتبط بالائتلاف الوطني، بفضل وعود بتقديم التمويل والسلاح من المملكة العربية السعودية، وكذلك الضغط السياسي المتواصل من جانب المملكة، و تقّبل الولايات المتحدة الحديث الشأن في التعامل مع القوى الإسلامية التي لا ترتبط بتنظيم القاعدة. كانت فصائل رئيسة من الجبهة الإسلامية - بينها حركة أحرار الشام الإسلامية ، التي كانت متحالفة في السابق مع جبهة النصرة الجهادية وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق الشام الأكثر تطرّفاً- وجبهة ثوار سورية من بين القوى التي انضمّت إلى المجلس العسكري الأعلى.
ومع ذلك، فإن الزيادة الحادّة في التمويل السعودي واستعداد دولة قطر المستمرّ لرعاية جماعات متنافسة أخرى غير تلك التي تدعمها الرياض فعلت أكثر بكثير من مجرّد تحفيز عملية الدمج. بل أسهمت هذه الجهود أيضاً في إشعال فتيل المنافسة، ما أدّى إلى إذكاء ميل الثوار إلى التشرذم.
استمرت الجماعات والتحالفات المزعومة الجديدة بالظهور، بدلاً من الاندماج في التحالفات الكبرى التي تشكّلت منذ أواخر العام 2013، لأنها كانت تأمل في التنافس للحصول على دعم سياسي ومادي خارجي. ففي منطقة دمشق وحدها ظهرت كل من تجمّع مجاهدي دمشق القديمة وما حولها وتجمّع أمجاد الإسلام في تشرين الأول/أكتوبر، كما تشكّل تكتل ضباط أنصار الأمة والحركة السورية للإصلاح والبناء في شباط/فبراير 2014. وبالمثل، أعلن تحالف إسلامي أخر، جيش الشام، عن وجوده بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من محافظة إدلب.
إن حقيقة أن معظم التجمعات الجديدة أعلنت عن توجه إسلامي دون أن تتوحّد تدلّ بوضوح على قوة الدينامية التنافسية. ففي بعض الحالات يعكس الميل نحو الاستقلال إحجام الفصائل السياسية الراسخة عن التخلّي عن نفوذها. على سبيل المثال، يتكوّن فيلق الشام، الذي تشكّل في حلب في آذار/مارس 2014، من جماعات كانت في السابق جزءاً من هيئة حماية المدنيين، التي تعتبر مقرّبة من جماعة الإخوان المسلمين في سورية. وفي الوقت نفسه، أسّس إخواني مخضرم الحركة السورية للإصلاح والبناء، ورعت جماعة الإخوان شبكة من الجماعات الثورية التابعة بصورة فضفاضة تحت مظلة هيئة دروع الثورة منذ أواخر العام 2012 .
سعت الجماعات المعتدلة التي تسمي نفسها غير إسلامية أيضاً إلى المنافسة. على سبيل المثال، أعلن اتحاد السوريين الأحرار في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2013، أنه يمثّل "نواة الجيش السوري في المستقبل"، مدّعيا أنه تمكّن من توحيد 106 جماعات غير إسلامية في جميع أنحاء سورية. لكنه لم يقدّم أدلّة تثبت صحّة مزاعمه منذ ذلك الحين باستثناء إنشاء صفحة على موقع فيسبوك. في آذار/مارس 2014، عاد الرئيس السابق للمجلس العسكري الثوري للجيش السوري الحر في حلب، العقيد عبدالجبار العكيدي، الذي كان قد استقال من منصبه وغادر البلاد في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إلى سورية وسط تقارير تقول إنه أسّس "جيشاً وطنياً" آخر جديداً غير إسلامي. وادّعى مسؤول العلاقات العامة التابع له أنه تم تأسيس الجيش الوطني بدأ بوحدة من "قوات النخبة " تتألف من 500 من الثوار، يمكن أن تتوسّع لتصل إلى 15 ألف رجل إذا ما توفّر لها التمويل اللازم. وأعلنت كتائب شمس الشمال مؤخراً أنها أصبحت أحد المكوّنات الجديدة للجيش السوري الحر في حلب في 16 نيسان/أبريل 2014، وبالمثل وعدت بأنها ستعمل في نهاية المطاف على "توسيع عملياتها لتشمل كافة المحافظات السورية".
هذا، و تشكّل "جبهة ثوار سورية" نموذج الجماعات "المعتدلة" الذي تم الترويج له أكثر من سواه. كما تعدّ أفضل مثال على لعبة "الكشتبان" المخادعة التي يمارسها بعض الثوار ومؤيّدوهم الخارجيون عندما يتعلّق الأمر بالسعي للحصول على دعم مادي أو لتفضيل تحالف ثوري على آخر. وتعتبر تقديرات قوة جبهة ثوار سورية التي تتراوح بين 5 آلاف و40 ألفاً، وهو رقم مستبعد جداً، نموذجاً للمبالغة التي رافقت تشكيلها. إذ قدم جمال معروف قائد جبهة ثوار سورية الجماعة في كانون الثاني/يناير باعتبارها "النواة الأساسية لتشكيل الجيش الوطني الحر"، وتنبّأ بثقة بأنها ستضمّ إليه "50 في المئة من كتائب [الثوار] التي تقاتل في سورية".
كثيراً ما يُروَّج في وسائل الإعلام الغربية لجبهة ثوار سورية، التي يقرّ معروف بأنها تلقّت تمويلاً من المخابرات السعودية، بأنها معتدلة وبراغماتية، وتُمتدَح لأنها تضم كتائب علمانية في صفوفها. غير أنها تلعب أيضاً بالورقة الإسلامية المعتدلة. على سبيل المثال، قال معروف في مقابلة أجريت معه في منتصف آذار/مارس إنه يعتقد أن الشريعة الإسلامية يجب أن تحكم سورية في المستقبل، في حين يسلّم بأن هذا ينبغي أن يكون رهناً بالتصويت الشعبي. كما دعا قائد آخر في جبهة ثوار سورية، العقيد هيثم عفيسي، في وقت سابق إلى قيام "دولة الحق والقانون ذات صبغة إسلامية".
غير أن ما هو أكثر إشكالية من الانتهازية السياسية لجمال معروف هي سمعته باعتباره أحد أمراء الحرب الذين يحقّقون أرباحاً فاحشة. ولعلّ هذا ما جعله يكتسب لقب جمال مخلوف ، في إشارة إلى أبناء خال بشار الأسد، من آل مخلوف، الذين جمعوا إمبراطوريات تجارية احتكارية في ظل سياسات التحرّر الاقتصادي الجائرة للنظام. وعلاوة على ذلك، إن حركة الإصلاح والبناء السورية "الوسطية"، على سبيل المثال، ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، حين اتّهمت معروف بأنه "جمع المال الوفير من خلال حماية وادي الضيف [أحد معاقل النظام] لمدة عامين".
لا يزال توحيد القوى، الذي يتمثّل بظهور العديد من التحالفات الثورية الكبرى، متوقفاً، على نحو مثير للقلق، على ديمومة التمويل والدعم السياسي الخارجي، الذي تعتمد عليه الثورة المسلحة بشكل كبير. وهذا يجعلها عرضة للتقلّبات السياسية لمؤيّديها الإقليميين الرئيسين الذين تقف خصوماتهم حجر عثرة في طريق تحقيق التكامل الحقيقي بين الثوار وتوحيد صفوفهم.
أقل من مجموع أجزائه
في الوقت نفسه، لا تتوفّر الثورة المسلحة على قيادة سياسية تتمتّع بالصدقيّة لتسوية هذه الديناميات المختلة أو التخفيف من وطأتها على الأقلّ. وبالتالي يستمر هذا العنصر المفقود في إضعاف تماسك الثورة. وهو يعطي قوات النظام مزايا تكتيكية كبيرة، بينما يعوق بشدّة قدرة الثوار على الانتقال إلى الهجوم الاستراتيجي.
خاض الثوار حرباً شبه تقليدية ضد نظام الأسد - دافعوا فيها عن خطوط ثابتة وانتقلوا من تشكيلات أصغر إلى أكبر - و لكن ليس بصورة مقصودة ولا بفضل قدرتهم على التشبّث بكل بقعة أرض. بالأحرى كان ذلك نتيجة عجز النظام عن الزجّ بقوات كبيرة في ساحة المعركة والدفاع أو شنّ هجمات مضادة في جميع النقاط، وهو ما يعني أن الأسد تخلّى عن مساحات واسعة للثوار. غير أن كلفة هذا النوع من الصراعات مرتفعة، بينما تميل مدتها إلى أن تكون وجيزة نسبياً، كما قال اختصاصيا العلوم السياسية لايا بالسلز وستاثيس كاليفاس في مسح مقارن للحروب الأهلية أجرياه مؤخراً.
في منتصف نيسان/أبريل الماضي قال عبدالجبار العكيدي الرئيس السابق للمجلس العسكري الثوري في حلب إن الثوار السوريين تحوّلوا، بعد أن تعلموا الدرس، إلى تكتيكات الكرّ والفرّ على غرار حرب العصابات، غير أن هناك القليل من الأدلّة الحقيقية على ذلك. ولا يبدو أن الثورة قد زادت عدد مقاتليها الأساسيين المتاحين للعمل في أي مكان يتم إرسالهم إليه، باعتبار أنهم يتميّزون عن العدد الأكبر من أفراد الميليشيات المحلية الذين يدافعون عن قراهم وعن أحياء المدن. ومن المستبعد أن يتمكّن الثوار من التغلّب على العقبات الأساسية التي تواجههم إن هم استمروا في مسارهم الحالي.
في النهاية تبقى نجاحات الثوار تعتمد كثيراً على دور جماعات قليلة تملك قدرات متفوقة ومثبتة مثل جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة. ومع ذلك، أثبتت نقاط ضعف الثوار أنها تمثّل عقبة خطيرة خلال المواجهات مع قوات النظام في منطقة القلمون شمال غرب دمشق منذ بداية العام 2014. و لعبت دوراً كذلك بالاشتباكات الحادة مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام التي دارت في جميع أنحاء شمال سورية. إذ تمثّل أحد الأهداف الرئيسة للحملة السعودية في ترتيب تكوين تحالفات جديدة كبيرة للثوار لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذي سعى بدوره إلى استباق الجماعات الثورية المنافسة عن طريق اختراق مناطق سيطرتها. لكن على الرغم من أن خصوم الدولة الإسلامية في العراق والشام حققوا نجاحات كبيرة ضده، فإن المواجهة كشفت مرة أخرى قدرتهم المحدودة على تخطيط عمليات عسكرية واسعة النطاق والحفاظ عليها – خاصة على الصعيد الوطني و ليس فقط المحلي - وكشفت هشاشة تحالفاتهم الأخيرة حيث بقي بعض أعضاء تلك التحالفات محايدين أو التحقوا بالدولة الإسلامية في العراق والشام.
والواقع، كما أشارت دراسة تفصيلية صدرت عن مركز كارتر في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 فإن "الزيادة العامة في الربط والاتصال بين الجماعات المسلحة ... لم تؤدّ إلى تحسّن القدرة العملياتية للمعارضة". وقد أكّدت التطورات اللاحقة للمعركة صحّة هذا التقييم. فقد تمكّن الثوار في البداية من الردّ على، وفي بعض الحالات عكس، تقدّم النظام إلى الجنوب الشرقي من حلب وحول منطقة الغوطة الشرقية في دمشق، حيث أوشكوا، لفترة وجيزة، على كسر حصار الجيش لها في تشرين الثاني/نوفمبر. لكنهم تنازلوا للنظام على هاتين الجبهتين بحلول كانون الأول/ديسمبر. وفي أوائل نيسان/أبريل 2014، خسروا أيضاً منطقة القلمون، ما مكّن قوات النظام من تهديد الزبداني قرب دمشق، وهي آخر معقل للثوار على الحدود مع لبنان وكانت تخضع عملياً لسيطرة المعارضة منذ العام 2012 .
وبالمثل، حقّقت الجبهة الإسلامية وجبهة ثوار سورية وجيش المجاهدين تقدماً سريعاً ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في منتصف كانون الثاني/يناير 2014، ليخسروا مكاسبهم بالسرعة نفسها بسبب الهجمات المضادة. كان تنظيم الدولة الإسلامية أفضل استعداداً وأظهر قدراً أفضل من التماسك والانضباط. وقد رفضت عدة ألوية من الثوار المشاركة في الهجوم، لا بل إن بعضها ارتدّ إلى تنظيم الدولة الإسلامية، مثل لواء سيوف الحق، الذي انضم إلى أعضاء سابقين في تنظيم الدولة الإسلامية لتأسيس جيش الشام الجديد. وعلى الرغم من أنه كان في موقف دفاعي من الناحية الاستراتيجية، فقد عاد تنظيم الدولة الإسلامية إلى الظهور في نهاية آذار/مارس في معقل الثوار في الرستن في محافظة حمص، والتي كان خصومه قد أعلنوها منطقة خالية تماماً من أي وجود له، ثم انتزع التنظيم عدة بلدات من الثوار المنافسين في محافظة دير الزور شرق سورية في منتصف نيسان/أبريل.
في المقابل، كانت هجمات الثوار في بلدة كسب الحدودية في المنطقة الساحلية الشمالية وفي داخل وحول حلب في آذار/مارس ونيسان/ أبريل 2014 منسَّقة وفعالة. كما طرد الثوار قوات النظام من مورك وخان شيخون، ما منحهم السيطرة على جزء كبير من الطريق السريع بين مدينة حماة ومحافظة إدلب إلى الشمال. غير أن هذه كانت في معظمها عمليات محلية على جبهات ضيقة نسبياً، وتباطأت بعد المفاجأة الأوّلية، واعتمد بعضها اعتماداً كبيراً على قيادة جبهة النصرة وعلى فرق أجنبية مثل حركة شام الإسلام.
وكانت هناك مؤشرات أخرى على ضعف تماسك تحالفات الثوار الجديدة. فقد بيّن تصريح قائد جبهة ثوار سورية، جمال معروف، في نهاية آذار/مارس والذي قال فيه إن الجبهة ستطلق هجوما في المنطقة الساحلية أن المنافسة المختلّة تبقى عاملاً قوياً في صفوف الثورة. وكما هو متوقع، فإن الهجوم لم يتم؛ وبدلاً من ذلك، اتَّهم ناشطون جبهة ثوار سورية بالسعي لتوسيع المنطقة الخاضعة لسيطرتها في داخل المناطق المحرّرة في مطلع نيسان/أبريل.
وبالمثل، فإن سقوط يبرود بيد قوات النظام في منتصف آذار/مارس حدا بجيش الإسلام وجماعات ثورية أخرى لاتهام بعضها بعضاً بالتخلي عن مواقعها. وفي الوقت نفسه، دخل جيش الإسلام في صراع علني لتأكيد سلطة مجلس القضاء المحلي التابع له على منافسه الرئيس في الغوطة الشرقية المحاصَرة، الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، والذي كان يتوسّع بقوة من خلال استيعاب كتائب الثوار في المنطقة.
تبدو مثل هذه المنافسات والخلافات طبيعية في عملية ثوريّة معقدة، ولكن مضى ما يقرب من ثلاث سنوات منذ ظهور الجماعات المسلحة لأول مرة ردّاً على حملة النظام العنيفة على الاحتجاجات السلمية. وبالتالي فإن استمرار غياب التماسك في صفوف الثورة، وضعف اندماجها في هيكل سياسي وإداري واسع يوفّره الائتلاف الوطني، يعوق الاستفادة من الدروس والتوحيد. يضاف إلى ذلك أن وتيرة التحسّن بطيئة بصورة خطيرة. صحيح أن الثورة المسلحة لم تفقد زخمها وقوتها الدافعة، إلا أنها لا تزال أقلّ بكثير من مجموع أجزائها.
الاتجاهات السياسية
من المفارقات أن التوجّه السلفي المعلن من جانب الكثير من الثوار - والذي يميزهم بقوة أكبر باعتبارهم من أهل السنة من الناحية الطائفية - يكشف أنهم يركّزون بصورة ضيّقة أكثر من أي وقت مضى على ما يعتبرونها حاضنتهم الاجتماعية "الطبيعية". تتكون حاضنة السلفيين بشكل كبير من السكان الريفيين المهاجرين المحافظين والريفيين المتمدّنين في أحزمة الفقر حول المدن السورية الذين هم جنود الصراع ويتكبّدون معظم الخسائر. وهذا يحدّ من نطاق الثورة المسلحة ويقلّص قاعدة تأييدها. كما يعزّز الاتجاه نحو فكّ الارتباط السياسي والانسحاب من النشاط العلني بين دائرة كبيرة من الناشطين المدنيين الذين لم يتبنّوا اتجاه العسكرة، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو تلك التي تسيطر عليها المعارضة.
لا ريب أن الثورة المسلحة في سورية تضمّ الكثير من الجماعات المؤيّدة للديمقراطية، كما بيّنت دراسة أعدتها مبادرة الإصلاح العربي، وصدرت في أيلول/سبتمبر 2013، حيث يستخدم "الولاء المعلن لبعض الأجندات الإسلامية" في الغالب باعتباره أداة لتأمين التمويل الخارجي. غير أن نشر الميثاق السياسي للجبهة الإسلامية، (مشروع أمة)، في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 - الذي يمكن القول إنه الوثيقة التأسيسية الأكثر تطوراً التي تنشرها أي جماعة متمردة - أظهر أن الاتجاه نحو السلفية لم يتغيّر، ناهيك عن أن ينحسر. بالإضافة إلى معارضته المتوقّعة للعلمانية، اعتبر الميثاق أن الشورى، وليس الديمقراطية، هي وسيلة الحكم الوحيدة المتاحة، ودعا إلى إقامة "الدولة الإسلامية الراشدة". علاوة على ذلك، رفض الميثاق بصراحة مصطلح "الدولة المدنية" الذي وضعه الإسلاميون "الوسطيون" مثل جماعة الإخوان المسلمين لسدّ الفجوة مع الليبراليين العلمانيين حول فكرة "الدولة العلمانية" المنافسة، معتبراً أن الحديث عن مثل هذه الدولة "مضلّل ويؤدّي إلى إضاعة الحقوق".
إن إضفاء الطابع الرسمي على الأجندة السلفية وترسيخها يمكّن بعض جماعات الثوار الإسلاميين من تعبئة قاعدتهم الاجتماعية واستخدام الموارد والفرص على نحو أكثر فعّالية. و لكن على المنوال نفسه، فإن هذا ينفّر الشرائح الاجتماعية الأخرى: ليس العلويين أو غير المسلمين وحسب، بل الطبقات الوسطى الحضرية بشكل عام، بما في ذلك الكثير من السنَّة، الذين تراجع نشاطهم العلني على الرغم من كراهيتهم لنظام الأسد. ولا يسعف قضية الثوار أكثر أن الضغط السعودي ضَمِنَ، بصورة ضمنيّة، اختيار بعض أبرز قادة المعارضة - رئيس الائتلاف الوطني أحمد الجربا ووزير الدفاع المؤقت أسعد مصطفى ورئيس المجلس العسكري الأعلى عبدالاله البشير - بسبب خلفياتهم القبلية.
ربما لم يكن هذا الأمر مهماً لو أن المعارضة السورية نجحت في بناء جبهة موحّدة حقاً، يمثّل فيها الثوار السلفيون دائرة واحدة، في حين تمثّل الأحزاب السياسية والحركات الشعبية المختلفة الدوائر الأخرى بصدقيّة. غير أنه لا وجود لمثل هذه الجبهة، حيث يفتقر الائتلاف الوطني إلى الصدقية والموضوعية باعتبارها إطاراً شاملاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحملة السعودية ضد جماعة الإخوان المسلمين - الذين تعدّ جاذبيتهم في سورية هي الأقوى بين الطبقات التجارية الحضرية - يمكن أن تثبّط شرائح من القاعدة الاجتماعية للمعارضة في حين تقلّص قدرتها أكثر على حشد التأييد بين الجماعات الدينية والعرقية الأصغر في سورية.
انحسرت قدرة الثورة المسلحة على ضمّ شرائح أخرى من المجتمع السوري. و تشير حقيقة أن هذا الوضع يتحوّل إلى انقسام واضح بين الثوار والمدنيين، حول ما يحفّز ويستنهض كل واحد منهم، وحول ما إذا كان ينبغي السعي للتوصّل إلى حلّ تفاوضي مع النظام أو تحقيق انتصار عسكري كامل عليه، إلى وجود مشكلة أساسية تزداد عمقاً بدل أن تنحسر مع مرور الوقت. وبالتالي فإن نقطة ضعف الثورة المسلحة ليست عسكرية بل سياسية، كما هي حال النظام تماماً.
التشبُّث الخطير بالأمل
يركّز معظم النقاش الدائر حول كيفية دعم الثورة المسلحة في سورية إمّا على توريد الأسلحة والتدريب أو زيادة القدرة العملياتية من خلال بناء هياكل القيادة والتنسيق. ولكن بقدر ما تبدو هذه الأمور مهمة، فإنها لن تحلّ العيوب الكامنة والتحدّيات الاستراتيجية التي تواجهها الثورة.
لقد أثبت الثوار أنهم عناداً ملفتاً للغاية، ما يعكس الاستياء العميق لدى قاعدتهم الاجتماعية إزاء عقود طويلة من سوء إدارة النظام لموارد البلاد و إزاء الفساد المستوطن لدى مسؤولي الدولة و رجال الأمن الذي ضاعف الآثار السلبية. ولا يمكن الاستهانة بالإنجازات التي حققتها الثورة المسلحة في مواجهة القيود المادية الشديدة، والمزايا الواضحة التي يتمتّع بها النظام.
ولكن على الرغم من مثابرتهم، من الخطورة بمكان أن يتم تعليق الكثير من الآمال على وعد الثوار بإسقاط النظام أو حتى إضعافه أكثر. فالمشاكل الكامنة التي تواجهها الثورة المسلحة تجعلها أكثر هشاشة وضعفاً من أي وقت مضى. إذ تشير الأدلة المتفرقة والمسوحات العينية التي أجريت في المناطق المحرّرة إلى أن عدداً متزايدا من قادة الحراك الشعبي داخل سورية يعتقدون الآن، نتيجة لذلك الوضع، أنه كلما طال الصراع المسلح، كلما قلّت مساحة الأرض التي تسيطر عليها المعارضة. وإذا كان هذا صحيحاً، فإن الثورة سوف تضمحلّ على نحو أسرع مما يمكنها أن تتماسك وتقوى من الآن فصاعداً.
هذا المقال جزء من سلسلة حول حالة الصراع السوري تتضمن مقالات حول نظام الأسد والمعارضة السياسية واحتمالات المستقبل لكل طرف.
ملاحظة: جرى تنقيح هذا المقال لتصحيح المعلومات حول كتيبة الثوار التي أسّسها معروف والهجوم الذي شنّته جبهة ثوار سورية في المنطقة الساحلية.