هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تتناول الديناميكيات العالمية للصراع السوري، ويحلّل من خلالها خبراء كارنيغي من أنحاء العالم كافة المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية التي تدخل ضمن الحرب الأهلية المتواصلة في سورية. يمكنكم الاطلاع على السلسلة كاملةً هنا.
أصبحت سورية مؤخّراً مصدر قلق كبير بالنسبة إلى أوروبا وذلك لسببين. أولاً، خلق النزوح والمأساة الإنسانية المتواصلان والناجمان عن الحرب الأهلية الدائرة وضعاً مزعزعاً لاستقرار البلدان المجاورة، والتي هي إمّا حليفة للاتحاد الأوروبي (تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي) أو على علاقة وديّة مع الاتحاد (الأردن ولبنان). ثانياً، يثير ذهاب بضع مئات من مواطني الاتحاد الأوروبي إلى سورية كجهاديين مخاوف من عودتهم إلى أوطانهم وتحوّلهم إلى "عدو داخلي" في بلدانهم الأصلية.
تجلّى اهتمام الاتحاد الأوروبي في سورية أولاً عبر إدراج البلاد في الشراكة الأورومتوسطية، التي أُطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر 1995 في برشلونة. كانت تلك المبادرة المعروفة باسم "عملية برشلونة"، المحاولة الأولى لوضع سياسة للاتحاد الأوروبي تكون شاملة لكل الحافة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط (باستثناء ليبيا في ذلك الوقت).
قامت عملية برشلونة على أساس أن الاستقرار والازدهار في جوار جنوب أوروبا ركنان أساسيان لرفاه الاتحاد الأوروبي. وشملت أهداف التحالف تعزيز الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وتسهيل التجارة، والبدء بتبنّي سياسات اقتصادية واجتماعية ليبرالية، وتعزيز المجتمع المدني والتبادل الثقافي.في ذلك الوقت، كان الاتحاد الأوروبي يدرك تماماً الصعوبات التي سيواجهها في تطبيق هذه السياسات على سورية، الدولة التي تقودها عائلة (الأسد)، ولاتعقد فيها أي انتخابات جديرة بهذا الاسم، ولاتوجد فيها معايير ديمقراطية، ويتم تجاهل حقوق الإنسان فيها بصورة يومية. كان من الواضح تماماً أن عملية برشلونة لن تعود على الأرجح بأي فائدة تُذكر على الشعب السوري. مع ذلك، تم تطبيق شراكة الاتحاد الأوروبي الطموحة على المنطقة بأكملها، وبالتالي، لم يكن من سبب يستدعي استبعاد سورية بصورة صريحة ومباشرة.
عندما تولّى بشار الأسد رئاسة سورية في حزيران/يونيو 2000، بشَّر العديد من المعلقين المتفائلين ببداية "ربيع دمشق". ولكن بحلول آذار/مارس 2011، عندما اندلعت احتجاجات مدنية سلمية في جنوب سورية في إطار مظاهرات الربيع العربي، أصبحت وعود الإصلاح كلها طيّ النسيان، وجاء ردّ فعل الأسد على المتظاهرين عنيفاً جداً. كان واضحاً أن نظام الأسد، بحكم طبيعته، لن يفكّر بأي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي ذي شأن.
مع ذلك، ظلّ استقرار سورية يحمل أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً لأن البلد لديه القدرة على زعزعة استقرار جيرانه (لبنان والأردن وإسرائيل وتركيا). بالنسبة إلى معظم تلك البلدان، على سبيل المثال، كان من شأن تدفّق كبير ودائم للاجئين من سورية أن يسبّب لها مشاكل هائلة. كما أن الاتحاد الأوروبي قلق بصورة مباشرة من احتمال أن تبقى سورية غير مستقرّة إلى أجل غير مسمّى، كما كان الحال في لبنان خلال الحرب الأهلية التي استمرّت خمسة عشر عاماً في ظل غياب دولة وإدارة موحّدتين ومركز قوة معترف به، ووجود عدد وافر من "الحدود" الداخلية بين مناطق زعامات مختلفة الأحجام. في مثل هذه البيئة، يشكّل المرور غير المنضبط للأسلحة والمقاتلين، وتوافر مخزون الأسلحة الكيميائية، وتحرّكات الجهاديين ذهاباً وإياباً، مصادر قلق أساسية.
استجابة محدودة من الاتحاد الأوروبي
تزامن اندلاع الربيع العربي مع تنفيذ الاتحاد الأوروبي معاهدة لشبونة، ووضع هيكلية جديدة للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. من الناحية النظرية، صُمّمت معاهدة لشبونة لتسهيل اتّباع الاتحاد الأوروبي سياسة خارجية أكثر اتساقاً وكفاءة وتأثيراً. لكن، تبيّن أن الواقع يختلف كثيراً، لأن التأثير الرئيس لمعاهدة لشبونة تمثّل في أن عملية صنع سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية تركّزت في في أيدي "الثلاثة الكبار"، أي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
شكّلت المساعدات الإنسانية الخط الأول لاستجابة الاتحاد الأوروبي إلى العنف في سورية، كما هو الحال دائماً. فمنذ آذار/مارس 2011، تم تخصيص 2.6 مليارات يورو (3.5 مليارات دولار) من الاتحاد الأوروبي ومن الدول الأعضاء فرادى لمساعدة السوريين في البلاد، فضلاً عن النازحين واللاجئين. غير أنه، وبسبب الانقسام بين أدوات السياسة الخارجية نتيجة معاهدة لشبونة، جرى تقديم مساعدات الاتحاد الأوروبي الإنسانية بشكل مستقلّ تقريباً عن عمله السياسي. أما الخط الثاني من الاستجابة فتمثّل في فرض عقوبات تجارية ومالية، كان لها بالتأكيد أثر سلبي على بعض الشخصيات في نظام الأسد، ولكنه لم يكن تأثيراً حاسماً نظراً إلى الحجم المحدود للتجارة والاستثمار بين سورية والاتحاد الأوروبي.
على المستوى السياسي، كان الاتحاد الأوروبي نشطاً في مجلس الأمن الدولي ومجموعة أصدقاء سورية، من خلال "الثلاثة الكبار" في الغالب. غير أنه سرعان ماقوبلت دعوات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لرحيل الأسد بمعارضة صارمة من روسيا، وأصبحت الثورة السورية أشبه بحرب بالوكالة بين الغرب المتردّد وروسيا الميّالة إلى التحدّي. وكانت لدى روسيا دوافع خفيّة، سرعان ما اتّضحت عبر دعمها للاتحاد الأوراسي وإذكاء أزمة أوكرانيا في العام 2014.
والواقع أن الضعف الفاضح للمعارضة السورية (بسبب تشرذمها بين مجموعات صغيرة مكوّنة بالكامل تقريباً من مواطنين في المنفى ليس لهم نفوذ في الداخل السوري نتيجة عقود من القمع السياسي)، والدعم الذي قدمته تركيا وقطر إلى جماعات إسلامية معارضة لنظام الأسد، زادا الصورة تعقيداً، الأمر الذي عاد بالفائدة على روسيا والنظام السوري.
من وجهة نظر عسكرية، تمثّل موقف أوروبا أساساً في دعم موقف الولايات المتحدة. وفي مثل هذه الحالة، تعتمد القدرة العسكرية للاتحاد الأوروبي كلياً على فرنسا والمملكة المتحدة (امتنعت ألمانيا تقليدياً عن المشاركة في أي عمليات عسكرية خارجية). ومع ذلك، قرّر رئيس الوزراء البريطاني، في العام 2013، عرض مسألة المشاركة البريطانية في الضربات التي تقودها الولايات المتحدة على سورية للتصويت في البرلمان، وكانت النتيجة السلبية أن أصبحت فرنسا الحليف الوحيد للولايات المتحدة الذي تمتلك قدرات عملياتية.
يدرك ساسة الاتحاد الأوروبي أن الوضع في سورية ليس له صدى كبير لدى الجمهور الأوروبي، باستثناء حساسية مستفيضة على الصعيد الإنساني. وربما كان لحقيقة أنه سرعان ماصار يُنظَر إلى الحرب الأهلية السورية على أنها حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا، تأثير إضافي ملطّف على تعاطف المواطنين الأوروبيين. في الآونة الأخيرة، حظي بروز بؤرة جديدة وأكثر قرباً لصراعٍ محتملٍ مع روسيا في أوكرانيا، بالأولوية في عقول الساسة والمواطنين الأوروبيين.
ماذا بعد؟
من وجهة نظر أوروبا، أصبحت الأزمة السورية الآن كارثة إنسانية وسياسية حقيقية. فالوضع السيئ والمؤثر الذي وصلت إليه البلاد اليوم يرتبط كثيراً بحزم روسيا، لأغراضها الخاصة، في مواجهة اتحاد أوروبي شبه غائب وقوة عظمى متردّدة، هي الولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، فإن السمات السياسية للولايات المتحدة (الإحجام عن التدخّل الخارجي بعد حربيها في أفغانستان والعراق) وروسيا (الرغبة في "إعادة بناء الامبراطورية" من خلال الاتحاد الأوراسي، ووضع حدّ للنظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب، والذي ظهر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي)، ساهمت في أن يصبح الصراع السوري واحداً من أكثر الصراعات استحكاماً في التاريخ الحديث.
تبدو آفاق المستقبل في سورية قاتمة. ويبدو أن الاحتمال الأرجح هو أن يحدث تقسيم فعلي لسورية وفقاً للمصالح الأساسية لنظام الأسد، أي أن تبقى منطقة دمشق وحمص واللاذقية الجغرافية في يد النظام، مع احتمال أن تستمر بقية البلاد، وبدرجات متفاوتة، في حالة تمرّد مفتوح. وبقدر مايبدو مثل هذا الوضع وخيماً، فإن هذا "الحل" قد يناسب الأهداف التكتيكية لنظام الأسد.
لم تغيّر الانتخابات الرئاسية الهزلية آفاق المستقبل بالنسبة إلى البلاد، حيث نزح 6.5 مليون شخص داخلياً، ولجأ أكثر من 2.5 مليون إلى الخارج. وبالتالي، فإن سورية في حالة من الفوضى، وسوف تحتاج إلى جهود دولية هائلة لإعادة بنائها وإعادة سكانها إليها، ومساعدة السوريين على إعادة بناء حياتهم. الأهم من ذلك، من وجهة نظر غربية، هو أن من الصعب أن نرى كيف سيتم إنجاز الجزء الأكثر "ميكانيكية" من هذا الجهد الدولي الضخم - إعادة الإعمار المادي - فيما لايزال نظام الأسد في السلطة.
يبدو واضحاً الآن للمحللين في الاتحاد الأوروبي أن السياسة الروسية بشأن سورية ربما لم تكن سوى تمرين لما كان سيأتي في أرمينيا وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا، ولما يمكن أن يأتي في وقت لاحق في جورجيا ومولدافيا، أي تذكير صريح بأن الرئيس الروسي الحالي، فلاديمير بوتين، عقد العزم على إعادة بناء "محيط الامبراطورية" إما عن طريق الوسائل الاقتصادية (من خلال إنشاء الاتحاد الأوراسي)، وإما عن طريق القوة العسكرية (وهو مانشهده في سلوك روسيا في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا).
للأسف، في مثل هذا السياق الجيوسياسي، ربما يطغى على استمرار الصراع السوري المروّع وخطر امتداده إقليمياً، التصعيد المحتمل للنزاع في أوكرانيا، والذي من المحتّم أن يتم توجيه طاقات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إليه.
مع ذلك، قد تؤدّي التطورات الأخيرة في الأنشطة الإرهابية المرتبطة بسورية، إلى تغيير في الرأي في الدول الغربية بشأن التعاون في مكافحة الإرهاب مع نظام الأسد. ففي الأيام الأخيرة من شهر أيار/مايو الماضي، قام مواطن أميركي شاب بعملية انتحارية في سورية للمرة الأولى، في حين أن مواطناً فرنسياً شاباً كان قد أمضى مؤخراً بعض الوقت في سورية، هو المشتبه به الرئيس في مقتل أربعة من زوار المتحف اليهودي في بروكسل بعد اعتقاله في فرنسا. هذه مجرّد أمثلة عن العواقب الوخيمة لعدد من التوجّهات الأخيرة: قنوات منظّمة بين العديد من الدول الغربية وسورية (كما كانت الحال في أفغانستان في السابق) لجذب "الجهاديين" الشباب، و"سياسة الباب المفتوح" التي تنفّذها تركيا، والتي تتيح لمثل هؤلاء الجهاديين بأن يذهبوا إلى سورية ويعودوا بحرية عبر محافظتي هاتاي وغازي عنتاب التركيتين، وصعوبة تعقّب المئات من هؤلاء المواطنين الشباب عندما يعودون إلى بلدانهم الأصلية. وقد بدأ التعاون المتأخّر في مكافحة الإرهاب أخيراً مع تركيا، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كان مثل هذا التعاون بين الغرب والنظام السوري ممكناً.