المصدر: Getty

بناء مرحلة أفضل لما بعد أوسلو

ينبغي على أوروبا والولايات المتحدة أن تشجع الفلسطينيين على اسخدام المنظمات الدولية والقانون الدولي كبديل لاستخدام القوة لحل النزاع .

نشرت في ٤ فبراير ٢٠١٥

لا اختلاف تقريباً بين الفلسطينيين حول كونهم في خضمّ مرحلة تحوّل سياسي. إذ يبدو جليّاً للجميع أنهم يبتعدون عن مرحلة أوسلو التي تحكّمت فيها سلسلة من الهياكل المؤقّتة التي كان الكثيرون يأملون عبثاً في أن تنهي الاحتلال الإسرائيلي وتنجز قيام الدولة الفلسطينية. تلاشت تلك الآمال، ومعها الآمال الإسرائيلية المقابلة في وضع نهاية تفاوضية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، منذ فترة طويلة بالنسبة إلى معظم الفلسطينيين. بيد أن العديد من هياكل الحوكمة التي أنشئت في أعقاب اتفاقات أوسلو في العام 1993 أُبقيت لأن القادة الكبار في كلا الجانبين، وكذلك الأطراف الدولية الأساسية (وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا)، لايزالون يتشبّثون بعناصر الترتيبات المؤقّتة، وأظهروا مؤشّرات قوية على وجود شراكة تكتيكية في مابينهم.

لكن، يبدو الآن أن القادة الفلسطينيين والإسرائيليين يجرون حسابات مختلفة. وبما أن القيادة الفلسطينية قامت بالخطوات الأوّلية اللازمة لتقديم شكوى ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية في أواخر العام 2014، في حين تتّجه إسرائيل إلى إجراء انتخابات برلمانية في آذار/مارس 2015، فإن معظم قادة الطرفين يهيّئون أنفسهم لمرحلة مابعد أوسلو التي لم يعودوا يعتمدون فيها على هياكل أوسلو. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الرعاة الدوليين لما تسمّيه حفنة من الرؤوس العنيدة العملية السلمية، قد استنفدوا صبرهم وأفكارهم وربما حتى أموالهم.

الجمود هو الوحيد الذي يحافظ على الهياكل الأساسية التي أنشئت بموجب اتفاقات أوسلو والتي لاتزال فاعلة اليوم. الفلسطينيون والإسرائيليون منقسمون بشأنها بشدّة، في حين تتآكل المؤسّسات الدولية التي صُمّمت بهدف تقديم الدعم لتلك الهياكل. في ظل هكذا وضع، تضمحلّ الهياكل أو تنهار، لأن مختلف الجهات الفاعلة ترتكب أخطاء جسيمة سلفاً، وتظهر قدراً من عدم الاكتراث والإحباط والإرهاق بدل أن تبلور استراتيجية وهدفاً، وهي كلها أمور تقوّض الترتيبات المؤقّتة التي وعدت اتفاقات أوسلو بأن تكون خطوات باتجاه التوصّل إلى حلّ دائم. والأسوأ من ذلك هو أن الاتجاهات الحالية لاتسهم سوى في ترسيخ أسوأ جوانب الوضع الراهن المتمثّلة بإنكار الحقوق الفلسطينية واستمرار مخاوف إسرائيل الوجودية على المدى الطويل، بينما تتفاقم نوبات فجائية من العنف ودوّامات العداء التي لايمكن السيطرة عليها.

والواقع أنه يجري استبدال ساحات التنافس والصراع (والتفاوض) الملجومة التي ميّزت الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني على مدى العقدين الماضيين بنوع جديد من الصراع. ففي تلك الساحات يسعى القادة وحلفاؤهم إلى تحقيق مزايا تفاضلية عن طريق الدفاع عن قضيتهم من خلال طائفة متنوّعة من البدائل الجديدة، فيما تضع الجماعات غير الرسمية في كلا الجانبين الأجندات بصورة متزايدة.

حتى الآن، تكتفي الأطراف الدولية بالتفاعل مع النتائج المترتّبة على هذا التحوّل. ويستمر بعضها بتوقّع عودة وشيكة لدبلوماسية إنهاء الصراع. بيد أنه ينبغي استبدال هذا المسعى الخيالي بآخر يعمل فيه اللاعبون الدوليون على توجيه الفلسطينيين والإسرائيليين إلى أشكال أقلّ عنفاً من الصراع والتنافس من خلال المؤسّسات الدولية القائمة والأطر القانونية. وهذا يعني تشجيع بعض تكتيكاتهم الأخيرة غير العنيفة بطبيعتها، والتسامح مع توسّل القانون الدولي والهياكل متعدّدة الأطراف، ووضع ترتيبات تخفّف المعاناة على المدى القصير وتتجنّب العنف، وإفساح المجال أمام الجهات السياسية الفاعلة الجديدة داخل إسرائيل وفلسطين وعلى المستوى الدولي.

مرحلة أوسلو الحقيقية

لم يتم تنفيذ جزء كبير من اتفاقات أوسلو، فيما بقيت أجزاء أخرى مجرّد حبر على ورق لأكثر من عقد. ولكن حتى عندما أدخل الجانبان (وخاصة الإسرائيليون) تغييرات من جانب واحد على تنفيذ هذه الترتيبات، استمرت علاقة العمل الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات بين القادة، والتزم هؤلاء بالتعامل مع بعضهم ولو على مضض. صحيح أن اندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2000 فرض ضغوطاً شديدة على هياكل أوسلو، إلا أن القادة الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة احتمال حدوث انهيار كامل للهياكل في العام 2002، جدّدوا التزامهم بها، بمساعدة الجهات المانحة الدولية، ولاسيّما أوروبا، والتي رَعَت وموّلت إعادة بناء هياكل أوسلو للحكم.

من المثير في الواقع لحظ الكمّ الكبير من الأمور التي تم تجاهلها بشأن ماكانت تأمل اتفاقات أوسلو في تحقيقه. إذ تشير بضع لوحات الطرق المُربِكة بالقرب من موقع "لخيش" الأثري (ليس بعيداً عن كريات غات، داخل حدود إسرائيل 1967) إلى ترقوميا، وهي قرية فلسطينية في الضفة الغربية تقع غربي مدينة الخليل. خلال المساومات التي جرت في أوسلو، أكّد المفاوضون الفلسطينيون على ضرورة أن يتمكنوا من التنقّل بين غزة والضفة الغربية. ولأن إسرائيل كانت قد عزلت غزة حتى قبل الاتفاقات، فقد ثبت أن من الصعب عملياً اجتياز الممر الآمن من غزة إلى ترقوميا حيث تم تشغيله لفترة وجيزة قبل اندلاع الانتفاضة الثانية. وأدّى الإغلاق الذي فرضته إسرائيل على غزة في العام 2000 إلى جعل الممر القصير مجرّد ذكرى بعيدة. كما تقلّصت مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني التي كانت تنمو باطّراد.

لكن، إذا كان تم التراجع عن العديد من الخطوات الحاسمة أو لم تُنفَّذ أبداً، فثمّة أربعة مجالات مهمة استمرت فيها الترتيبات المنصوص عليها في الاتفاقات، وبهذا المعنى لايزال الفلسطينيون يعيشون في مرحلة أوسلو.

أولاً، تواصل السلطة الفلسطينية إدارة الشؤون المدنية لمعظم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهي تعلّم الأطفال وتجمع الضرائب وتفصل في المنازعات وتسجل الزيجات وتستمر في دفع رواتب أكثر من 150 ألف موظف.

ثانياً، لايزال بروتوكول باريس، الإطار الاقتصادي لاتفاقات أوسلو، سليماً إلى حدّ كبير، حيث يفرض اتحاداً جمركياً فعلياً، وينظّم مسألة تسعير بعض السلع، ويشترط أن تجمع إسرائيل ضريبة القيمة المضافة على السلع الموجّهة إلى الأسواق الفلسطينية.

 ثالثاً، لايزال التنسيق الأمني مع إسرائيل (يعتبره الفلسطينيون تعبيراً ملطّفاً عن قمع السلطة الفلسطينية للجماعات والأفراد الذين تعتبر إسرائيل أنهم يمثّلون تهديداً لها) نشطاً في الضفة الغربية.

وأخيراً فإن الفكرة القائلة إن اتفاقات أوسلو مؤقّتة ومصممة للاستخدام إلى أن يتم إبرام اتفاق نهائي فلسطيني-إسرائيلي، أفرزت تشكيلة متنوّعة ومستمرّة من جهود الوساطة (بقيادة الولايات المتحدة عموماً) والمؤتمرات الدولية والبيانات السياسية العجيبة. وكل هذا يجري داخل عملية السلام التي لايثق أي من الجانبين بها، ولكنهما متردّدان في التنصّل منها.

إن الحديث عن نهاية مرحلة أوسلو لايعني أن هذه العناصر ستتلاشى فجأة. بيد أن قاعدتها السياسية لم تعد موجودة. فكيف تبدو ترتيبات مابعد أوسلو من داخل المجتمع الفلسطيني؟

الحوكمة الفلسطينية بعد أوسلو

في حين لايمتلك الفلسطينيون دولة بالمعنى العملي للمصطلح، فقد حقّقوا مجموعة متنوّعة من الإنجازات المؤسسية على مرّ السنين، مثل بناء الحركات السياسية من خمسينيات القرن الماضي وحتى الثمانينيات (عندما ظهرت حركة حماس)، وبناء منظمة التحرير الفلسطينية من الستينيات وصاعداً، وبناء السلطة الفلسطينية في التسعينيات.

بيد أن أي نمط من التطور المؤسّسي الفلسطيني العضوي انتهى مع الانقسام الذي حصل في العام 2007 بين قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس والضفة الغربية التي تحكمها حركة فتح. فلم تعد المؤسسات القديمة تخدم الفلسطينيين بصورة جيدة على مايبدو، ولايبدو أنها من الأهمية بحيث تستحق الدفاع عنها كما كانت في السابق.

كما تم تقعير منظمة التحرير الفلسطينية وهي باقية أساساً كرمز. بدأت السلطة الفلسطينية والأمل يحدوها في إطار اتفاقات أوسلو، غير أنه ينظر إليها الآن بقدر كبير من عدم الاكتراث، حتى من جانب مسؤولين في أعلى مستوياتها. ويبدو أن القيادة الحالية للسلطة الفلسطينية، وهي هيئة أصبحت عملية صنع القرار فيها تتركّز على نحو متزايد في يد الرئيس محمود عباس، تتبنّى الرأي القائل بأن عملية التفاوض مع إسرائيل في حالة سبات في أحسن الأحوال، وإن السلطة الفلسطينية نعمة ملتبسة لاتستحقّ الحفاظ عليها بأي ثمن.

سيطرت خيبة أمل شرائح المجتمع الفلسطيني من دبلوماسية أوسلو منذ فترة طويلة. ويبدو أن مَن يتولّون إدارة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية قد تبنّوا هذا التوجّه أخيراً. ويمكن ملاحظة ذلك في القرار الذي اتّخذته قيادة رام الله لتفعيل الدبلوماسية المتعدّدة الأطراف في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل، ولاسيما في كانون الأول/ديسمبر 2014، للمصادقة على "نظام روما الأساسي" وطلب العضوية رسمياً في المحكمة الجنائية الدولية، وهو مايمثّل مساراً محتملاً لإجراء تحقيقات في جرائم حرب مزعومة في الأراضي الفلسطينية. وقد اتّخذ القادة الفلسطينيون تلك الخطوات وهم يدركون تماماً التهديدات الإسرائيلية بالانتقام ومعارضة الولايات المتحدة الشديدة لهذه التحرّكات.

في الصف الثاني من القيادة، كان الحديث عن المقاومة الشعبية السمة الغالبة في النقاشات المعتادة لسنوات. بيد أن عدم وجود تكتيكات عملية والإرهاق والاضطراب الذي رافق الانتفاضة الثانية، حصر تلك المقاومة إلى حدّ كبير في قنوات لاتكاد إسرائيل تلاحظها.

كانت خيبة الأمل الشديدة تجاه الحركات والأفكار والشعارات التي سبق أن استنهضت الأجيال السابقة جديرة بالملاحظة أكثر من سواها. لابل إن فكرة قيام دولة فلسطينية لم تعد تثير أولئك الذين رأوا إلى أي مدى يمكن أن تكون نواة إقامة الدولة من جانب السلطة الفلسطينية مختزَلة ومختلّة ومخيّبة للآمال.

لكن حتى الآن، لم يؤدِّ الشعور باليأس من عملية السلام سوى إلى عمل سياسي محدود. فمنذ حرب صيف العام 2014 في غزة، تجنّب الكثير من الفلسطينيين في الضفة الغربية شراء المنتجات الإسرائيلية، وضغطوا على محلات البقالة كي تجهّز بدائل لها. كما أظهروا اهتماماً متزايداً بإيجاد استراتيجيات بديلة للتعامل مع المأزق الدبلوماسي الحالي الذي يعرّض سكان الضفة الغربية إلى قيود شديدة على السفر والتنقّل، ويفرض على سكان غزة ماهو أسوأ من ذلك بكثير.

بيد أن عملية إحياء روح معنوية أكثر نشاطاً، نابعة من رحم الشعور بالإحباط، لم تسفر عن بدائل لحركتي فتح وحماس، الفصيلين الرئيسين اللذين هيمنا على الحياة السياسية الفلسطينية على مدى جيل كامل.

تم اضطهاد حركة حماس في الضفة الغربية منذ العام 2007، عندما أقالت حركة فتح بزعامة عباس حكومة حماس وبدأت قواته الأمنية قمع الحركة. حاولت فتح استغلال هذا الفراغ، وسقوط رئيس الوزراء السابق التكنوقراطي سلام فياض في العام 2013، كي تثبت مرة أخرى أنها الخيار السياسي الوحيد للفلسطينيين.

بيد أن حركة فتح لم تكن قطّ منظمة متماسكة، فهي مقسّمة بوضعها الحالي بين قادة محليين شغوفين بحبّ الذات، وبين إقطاعيات داخلية. غير أن إجراءات الحركة الرسمية باقية، كما رأينا، في عملية طرد الرجل القوي السابق في غزة (ومنافس عباس) محمد دحلان من الحركة في العام 2011، وفي مؤتمر الحركة المقرّر عقده في العام 2015. وقد أتاح مؤتمر فتح السابق في العام 2009 الفرصة لإجراء نقاش واسع، ومن المحتمل أن يشهد المؤتمر المقبل الأمر نفسه، حيث يناقش النشطاء مرة أخرى معنى المقاومة وينتخبون القيادة ويتجادلون حول هياكل الحكم. لن تكون مسألة من سيخلف عباس بعيدة عن أذهان الناس (على الرغم من أنها لن تكون بالضرورة في الغالب على ألسنتهم). بيد أنه لامجال لإخفاء حقيقة أن الحركة لايمكنها أن تقرن مطالبتها القوية بالزعامة مع أي استراتيجية واضحة أو حتى مجموعة من التكتيكات.

من جانبها، تجمع حماس بالمثل بين الثقة بالنفس في وضعها الحالي لدى الرأي العام، وبين الارتباك الشديد إزاء التوجّه الذي ينبغي عليها تبنّيه. فقد جعلت الحرب في غزة حماس تشعر بأنها تتحدث بالنيابة عن الفلسطينيين في النظر إلى إسرائيل باعتبارها عدوانية، وإلى المفاوضات باعتبارها عديمة الفائدة، وإلى المقاومة باعتبارها خياراً ضرورياً. ويبدو أن الحرب أدّت، بمعنى آخر، بالنسبة إلى حماس، إلى تعزيز وتبرير مواقفها. وفي حين يقرّ قادتها بأن كونها حبيسة في غزة لم يخدم الحركة بصورة جيدة دائماً، فإن سيطرة حماس على القطاع على الأقلّ سمح لها ببناء نفسها عسكرياً. فلو تخلّت حماس عن السيطرة على الأمن في قطاع غزة أو نزعت سلاحها قبل حرب العام 2014، لعجزت عن الدفاع عن نفسها، كما قال لي أحد مؤيّدي الحركة في نابلس مؤخراً.

وهكذا، أدّت الأحداث الأخيرة إلى تشبّث الحركتين بمواقفهما أكثر. إذ تواصل فتح قمع حماس في الضفة الغربية، بينما لاتزال حماس غير مستعدّة للتخلي عن السيطرة الأمنية في غزة. غير أن كلا الفصيلين يظهران أيضاً تراجعاً في الاهتمام بالحفنة من مغريات وزخارف السلطة السياسية. ويرغب بعض القادة المتنفذين في حركتي فتح وحماس في تحويل جزء من اهتمامهم من الإدارة إلى المقاومة. وحتى الآن، يبدو أنهم يجهلون كيفية القيام بذلك، ولايبدو أن لدى أي من الحركتين استراتيجية لتجاوز المأزق الحالي في فلسطين. بيد أن ذلك لاينبغي أن يحجب وجود تطور خطير بالنسبة إلى المتشبّثين بالوضع الراهن. على مدى العقد الماضي، تصرّفت حركتا فتح وحماس عموماً بتحفّظ نوعاً ما لأنهما شعرتا بأنهما ستخسران الكثير في حال أقدمتا على تعطيل الترتيبات السائدة. والآن، هناك أصوات في كلا الحركتين تعاني مزاجاً أكثر تهوّراً.

في الجانب الإسرائيلي أيضاً، هناك الآن أصوات مؤثّرة تبدو أكثر تساهلاً إزاء المخاطرة وإفساد الوضع الراهن. كما يتحدث بعض القادة الإسرائيليين بطريقة تحطّ من قيمة إطار أوسلو. هؤلاء ينظرون إلى عباس باعتباره عدواً، وإلى النشاط الأميركي بشأن التوصل إلى تسوية نهائية باعتباره إزعاجاً، وإلى تحويل الإيرادات باعتباره حنفية يتم تشغيلها وإيقافها لحثّ السلطة الفلسطينية على السلوك السوي، وإلى الخطاب الفلسطيني المشاكس باعتباره تحريضاً على العنف، وإلى مجلس وزراء السلطة الفلسطينية التكنوقراطي باعتباره يحتضن حماس، وإلى قيادة السلطة الفلسطينية باعتبارها تستحقّ العقاب. بعض هذا الخطاب الحادّ مضلِّل، كما أنه ثمة معارضة للملاحظات من أصوات أكثر دعماً لما تبقّى من عناصر ترتيبات أوسلو. بيد أن ثمة دائماً احتمالاً بأن يؤمن بعض القادة الإسرائيليين بما يقولون. وحتى لو لم يؤمنوا، فإن إسرائيل التي تعيش في خضمّ حملة انتخابية، تحفّزهم على العمل وفق أكثر وعودهم تطرّفاً.

التنافس غير المحدود في ترتيبات مرحلة مابعد أوسلو 

في مطلع كانون الثاني/يناير 2015، وفي سياق الردّ على المحاولة الفلسطينية للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، أعلنت إسرائيل أنها أوقفت التحويلات الشهرية لعائدات الضرائب التي تجمعها نيابةً عن السلطة الفلسطينية. قال لي فلسطيني مؤيّد لحماس إنه يشكّ في أن يستمر وقف التحويلات من جانب إسرائيل لفترة طويلة. وعندما ألمحت إلى أن القادة الإسرائيليين قد يكونون متورّطين في التزامات بلاغية بمعاقبة القيادة الفلسطينية إلى الحدّ الذي يجعلهم ينفّذون تهديداتهم، أجابني بالمثل الذي يقول: "لاترفع الصخرة لئلا تكشف عن عقرب" (يا ما تحت السواهي دواهي).

صحيح أن الخوف من العواقب سيتسبّب في بعض التردّد، غير أن الأحادية غير المنسّقة لمرحلة مابعد أوسلو يمكن أن تؤدّي أيضاً إلى منطق لايعود معه ممكناً إقناع القادة بالعدول عن التصرّف وفق أهوائهم. قد يرغب القادة المعتدلون في القدس ورام الله وواشنطن وبروكسل في الحفاظ على تحويل الإيرادات، والتنسيق، وأيضاً الحفاظ على السلطة الفلسطينية عموماً، غير أن المتهوّرين وأصحاب الألسنة المنفلتة قد يقوّضون كل ذلك. وربما يكون الأمر الأكثر شؤماً بالنسبة إلى بقاء أشلاء ترتيبات أوسلو، هو تضاؤل التزام مختلف القادة بتلك البقايا.

والواقع أن القادة في العديد من البلدان قد بدأوا في عمليات لم يَعُد بمقدورهم التحكّم بها. والطرف المتهوّر الأكثر وضوحاً هنا هي الولايات المتحدة التي هدّدت سلطتها التشريعية بـ"الخيار شمشون" للخروج من أي منظمة تابعة للأمم المتحدة تعترف بفلسطين. وفي شباط/فبراير 2015، أشارت إحدى اللجان الفرعية بمجلس النواب إلى شكوكها من خلال عقد جلسة استماع بعنوان "مناورة السلطة الفلسطينية في المحكمة الجنائية الدولية: هل هي شريك حقيقي للسلام؟" وقد سنّ الكونغرس الأميركي أيضاً تشريعاً لمكافحة الإرهاب يسمح بشكل من أشكال الحرب القانونية من جانب المعارضين الإسرائيليين لإطار أوسلو يهدف إلى إسقاط السلطة الفلسطينية مالياً. وعندما تمضي الدعاوى القضائية قدماً ضدّ أحد البنوك العربية الرائدة والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي يُتَّهَم كل منها بالمساعدة في تمويل هجمات إرهابية وتنفيذها، فإن نجاح مثل هذه الاستراتيجية سيكون، جزئياً، في أيدي المحلّفين في المحكمة الفدرالية الأميركية.

هذه الحرب التي تُسمّى قانونية ليست المصدر الوحيد المحتمل لعدم الاستقرار. فالبيئة التي يشجّع فيها الفلسطينيون المحاولات الفردية لاستهداف الإسرائيليين فترّد عليها إسرائيل بعنف، يمكن أن تخرج بسهولة عن نطاق سيطرة أي من الجانبين، وتجعل التنسيق الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين غير مجدٍ أو غير مستساغ سياسياً للفلسطينيين. ولذا يبدو اندلاع جولة أخرى من القتال في غزة أمراً مرجّحاً في مرحلة ما، على الرغم من أنه لايبدو أن ذلك سيكون في مصلحة إسرائيل أو حماس المباشرة. فلا بدّ أن حرب العام 2014 دمّرت أي اعتقاد بأن إسرائيل (أو حماس بالنسبة إلى تلك المسألة) يمكنها معايرة استخدام القوة بدقّة أو عدم التأثّر بخطابها العنيف. فعندما استقالت حكومة حماس التي تحكم قطاع غزة في العام 2014، حرّرت الحركة نفسها من العبء الثقيل للمسؤولية الرسمية. لكنها لم تتخلَّ عن ذرّة من السيطرة العملية، ما أوصلها إلى أرض مجهولة في إدارة الأمور من دون سلطة رسمية.

حدثت مثل هذه الانهيارات العنيفة في الماضي، غير أنه تمت السيطرة عليها عموماً من جانب القادة الفلسطينيين والإسرائيليين الذين شعروا بأن الترتيبات القائمة تخدم مصالحهم. كان الغرض من ذلك في كثير من الأحيان هو تلقين الجانب الآخر درساً بدلاً من بدء صراع شامل. كما تدخّلت الأطراف الدولية الفاعلة بانتظام لكبح جماح الجانبين، والتنسيق مع بعضها بهدف التوسّط والتهدئة ودعم الأطراف المتنازعة. غير أن هناك العديد من العوامل التي ستجعل ذلك الأمر أكثر صعوبة، بما في ذلك الولايات المتحدة التي أصبحت أضعف دبلوماسيًا، والنظام المصري الذي يواجه تمرّداً في سيناء المجاورة، والذي يبدو واضحاً أنه متطرّف في عدائه لحماس، والاتحاد الأوروبي الذي بدأ يشعر بضغط الرأي العام (هو ضغط خفيف حتى الآن باعتراف الجميع) وتنامي إحباط الاتحاد إزاء دعمه المالي الذي يبدو أنه بلا نهاية لوضع يستمر قادته في دعمه، حتى وهم ينتقدونه باعتباره غير قابل للاستمرار.

ومع ذلك، تبدو مرحلة مابعد أوسلو أشبه بمنافسة حول مجموعة متنوعة من الجبهات القانونية والسياسية والدبلوماسية منها باندلاع أعمال العنف غير المقيدة، مع تفجّر العنف بصورة متقطعة. تحدث الفلسطينيون على مدى أشهر عن انتفاضة في القدس، تزامنت مع نشوب مجموعة من الهجمات الفردية المحدودة التي أجّجها شعور جماعي بالظلم واليأس. أما العنف الذي تمارسه جماعات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية فلا يحظى إلا باهتمام عابر، لكن يبدو أنه قد تنامى، وربما يعود الوضع إلى ماكان عليه في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان يتم التعامل مع عمليات الانتقام الإسرائيلية غير القانونية بقدر أكبر من التساهل من الأفعال الفلسطينية المشابهة.

كما تتضاعف مجالات الصراع هي الأخرى. ويبدو أن الإسرائيليين والفلسطينيين ينخرطون بالفعل بما يُعرَف في عالم القانون بـ"منتدى التسوّق"، حيث يجوبون العالم بحثاً عن محاكم قد تساعدهم على تحسين موقفهم. وقد يتّسع نطاق تلك المعركة قريباً لتتحوّل إلى حملات إعلامية وحملات علاقات عامة أكثر مشاكسة، حيث يحقّق أنصار فلسطين انتصارات من خلال الحركة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، فيردّ المتحمّسون لتعزيز موقف إسرائيل بجرّ أنصار تلك الحركة إلى المحاكم.

أحدث مشاهد الصراع غير المتوقّعة أقحمت قانون الإيرادات الداخلية الأميركي و"الكنيسة المشيخية الأميركية"، التي تحرّكت لسحب استثماراتها من الشركات التي قالت إنها تورّد معدات تستخدم في احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. واتَّهمت مؤسسة "شورات هادين" Shurat HaDin، وهي مؤسّسة متخصّصة بالدفاع القانوني تتوفّر على موارد مالية كبيرة وتحرص على اتّخاذ إجراءات ضدّ مَن ترى أنهم يعادون المصالح الإسرائيلية، الكنيسة بانتهاك قانون الضرائب من خلال وجود اتصالات لها مع حزب الله، الذي صنّفته واشنطن كمنظمة إرهابية. وفي وقت سابق من العام 2014، جاء الدور على مطاعم "آيفي ليغ" Ivy League والممثلة سكارليت جوهانسون، التي واجهت انتقادات لاستخدامها "صودا ستريم" SodaStream، ولكونها الناطقة باسمها، وهي شركة إسرائيلية لصنع ماكينات المياه يقع مصنعها الرئيس في الضفة الغربية.

في هذا النوع الجديد من الصراع، لايزال من المرجّح أن تكون إسرائيل هي المهيمنة في معظم المجالات. فهي دولة تملك جيشاً قوياً، ولها تفوّق ساحق في عالم الاستخبارات والأمن والموارد المالية. كما أن لديها داعمين متحمّسين على استعداد للعمل في المحاكم والمواقع الأخرى بوسائل قد لاتتّبعها الدولة نفسها. وغالباً ماتتم صياغة القوانين القائمة (على الأقلّ في الولايات المتحدة)، وتُعاد صياغتها خصّيصاً لتوفير الدعم لإسرائيل.

لايسعى الفلسطينيون بالضرورة إلى الانتقال إلى مجال أكثر ملاءمة، فلايوجد مجال ملائم بالنسبة إليهم. بيد أنهم يسعون إلى المقاومة في كل مجال دفعة واحدة، متجاوزين أساليب الماضي المقيّدة. وسيكون من الصعب على أي طرف التعاطي مع النتيجة، والتي ستقدم دليلاً واضحاً على أن التعاون الوثيق، وإن غير المعترف به، بين كبار قادة الجانبين قد تلاشى.

قد تكون بعض الانتصارات التي حقّقتها إسرائيل باهظة الثمن على الرغم من أنها مؤكّدة. ذلك أن احتمال تعرّض الأفراد الإسرائيليين إلى التهديد في الداخل والمقاضاة في الخارج، وإمطار الإسرائيليين في المحافل الدولية بالأسئلة حول الاحتلال حتى أثناء قضاء عطلة أو في المؤتمرات المهنية، يمارس تأثيراً كبيراً على التفكير الإسرائيلي. ففي الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العام 2014 أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية (أيباك)، اهتم بحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات بقدر ما اهتم بموضوع إيران.

كيف يمكن جعل ترتيبات مابعد أوسلو محتملة

خلال القرن الماضي، خضع الفلسطينيون إلى سلسلة من الأنظمة السياسية: الإمبراطورية العثمانية، والانتداب البريطاني، وعملية ضم الأردن إلى الضفة الغربية والإدارة المصرية، والاحتلال الإسرائيلي، والسلطة الفلسطينية. انتهت كل الأنظمة السابقة بصورة مثيرة جداً، في نوبة من الصراع العسكري والدبلوماسية الدولية. على النقيض من ذلك، لاتتلاشى هياكل أوسلو بسبب ضربة عسكرية أو اتفاق دولي، بل بسبب التدهور البطيء للترتيبات المتفق عليها بصورة متبادلة والارتباك والإحباط الدولي.

كيف يمكن للأطراف الدولية الفاعلة، أوروبا والولايات المتحدة بصورة أساسية، الاستجابة لبيئة مابعد أوسلو الجديدة؟

في العام 2014، أفشت الجهات الفاعلة الأوروبية سرّ الإحباط الدبلوماسي الشديد والحذر المالي. فقد واجهت الولايات المتحدة حدود نفوذها بصورة متزايدة، وواجه الدبلوماسيون سلسلة من القيود القانونية مستوحاة من المكابرة أكثر منها من الحكمة. ولذا يحتمل أن الجهات الفاعلة العربية المؤثّرة كانت مشتّتة بسبب شواغل أخرى أو أنها رضيت بتشديد الخناق على غزة. من جانبها، أظهرت القيادتان الفلسطينية والإسرائيلية علامات على فقدانهما أي قدر من الثقة في بعضهما.

بيد أن هذا لايعني أن مختلف القادة قد تمكّنوا من معالجة حقائق مابعد أوسلو بصورة حاسمة. فالقيادة الأميركية تقاوم هذه النزعات، وتُحمِّل الفلسطينيين مسؤولية الخروج من إطار أوسلو، وفي بعض الأحيان، تحاول البقاء مستبشرة، على الرغم من الظروف الصعبة من خلال الحديث عن العودة إلى طاولة المفاوضات. ولاتختلف الدوافع الأوروبية دائماً عن نظيرتها الأميركية، بيد أن هناك قدراً أكبر من التعاطف مع التكتيكات الفلسطينية القانونية والدبلوماسية والسلمية بطبيعتها. لكن لم تظهر الولايات المتحدة ولا أوروبا الكثير من الاهتمام في استكشاف بدائل حلّ الدولتين.

ومع ذلك، ربما يكون الوقت قد حان أخيراً للكفّ عن استخدام الوعد بإجراء مفاوضات حول حلّ الدولتين لتبرير استبعاد كل المنظمات الدولية وأي إطار قانوني دولي من التدخّل في الصراع، وهو الأمر الذي تمارسه واشنطن منذ فترة طويلة. والواقع أن هناك نوعين من العناصر المشجّعة للتحوّل إلى المنظمات الدولية والمحافل القانونية. أولاً، في حين أن التحركات تجعل الكثيرين يفقدون أعصابهم، فلن يفقد أحد حياته إذا كانت الدعاوى القضائية والتقارير والقرارات هي أسلحة الصراع الوحيدة. ثانياً، كان اختلال توازن القوى الصارخ بين إسرائيل والفلسطينيين يشكّل أحد العوائق الحقيقية أمام التوصّل إلى أي حلّ للصراع. إذ يتحدّث الكثير من الفلسطينيين عن "الشرعية الدولية" وهم مقتنعون بأن هناك إطاراً للمعايير والهياكل القانونية الدولية التي يجب أن توفّر لهم الحماية ولكنهم حرموا من إمكانية الوصول إليها. وربما يبالغ الفلسطينيون في تقدير موقفهم القانوني (وربما يخشاه الإسرائيليون بصورة مفرطة). غير أن ميدان العمل في هذه البيئات الجديدة، قد يكون أكثر تعادلاً.

يتمثّل الخطر الحقيقي الكامن في خوض المعركة في المحاكم ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم في أن هذه الصراعات لن تسهم إلا في ترسيخ شكوك الطرفين المتبادلة بصورة أعمق وتزيد وتيرة اللجوء إلى العنف بدلاً من منعه. ولعلّ هذا يشكّل خطراً كبيراً، غير أن من الأفضل مواجهته عبر محاولات إدارة تدويل الصراع بدل جهود مكافحته بأي ثمن.

حتى الآن، كان موقف واشنطن واضحاً: أي تحرّك خارج المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة يقوّض السلام. أما الأوروبيون فقد كانوا أكثر تساهلاً تجاه دور تلعبه المنظمات الدولية والقانون الدولي، غير أنهم لم يشعروا بالارتياح إزاء تحدّي موقف الولايات المتحدة مباشرة. لكن الإجماع الدولي الذي شجّع على استخدام مثل هذه الهياكل، طالما أنها توفّر بديلاً لاستخدام القوة من جانب واحد والكفاح المسلح وخلق وقائع على الأرض، قد يساعد في إنتاج بيئة صحية يمكن فيها لجيل قادة مابعد أوسلو إيجاد حلّ للصراع.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.