المصدر: Getty
دراسة

الربيع المُبَكِّر في الأردن: تمرُّد العسكريين المتقاعدين

الحراك الاحتجاجي الشعبي الذي شهده الأردن بين عامَي 2011-2013 نجم عن السخط السائد في المناطق الريفية النائية في الضفة الشرقية، وعكس الخلافات السياسية المتفاقمة في البلاد.

 طارق التل
نشرت في ٤ نوفمبر ٢٠١٥

هذه المقاربة الإقليمية المعمَّقة أُعِدَّت كجزءٍ من مشروع "إعادة النظر في العلاقات المدنية-العسكرية 2014-2015: الحوكمة السياسية والاقتصادية في المرحلة الانتقالية" الذي وضعه مركز كارنيغي للشرق الأوسط، والذي يسعى إلى ترقية البحث حول القوات المسلحة في الدول العربية وتحديات مرحلة الانتقال الديمقراطي.

بات أصبح الحراك الشعبي الأردني بين عامَي 2011–2013 يحظى باعتراف متزايد، باعتباره حركة احتجاجية اجتماعية وسياسية نجمت عن السخط السائد في المناطق الريفية النائية في الضفة الشرقية، وهي المناطق التي لطالما اعتُبرت معقل المناصرين الأوفياء للنظام السلطوي في الأردن. برزت مقوّمات التحرّك في ربيع العام 2010 مع تمرُّد العسكريين المتقاعدين الأردنيين الذي جمع بين صبغة وطنية شرق أردنية تنتقد المقاربة التي تعتمدها الحكومة تجاه القضية الفلسطينية، وبين معارضة الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية التي هيمنت على العملية السياسية في عهد الملك عبدالله الثاني.

عكس هذان المساران معاً تفاقم موجة الخلافات السياسية في المملكة الأردنية الهاشمية، والتي تراكمت بثبات على مدى العقدَين السابقَين. فبدءاً من أعمال الشغب الناجمة عن تدابير خفض الدعم التي فرضها صندوق النقد الدولي في العام 1989، احتجّ الشرق أردنيون القبليّون – وليس الحضريّون من أصل فلسطيني في غالبيتهم، والذين شكّلوا الدعامة الأساسية للمعارضة في الخمسينيات والستينيات – على لبرلة الاقتصاد، والسياسة الخارجية المنحازة إلى الولايات المتحدة التي ينتهجها النظام المَلَكي، وسعي الأردن إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

لايتطابق تصاعد السخط على هذا النحو في الضفة الشرقية منذ العام 1989، مع الرأي التقليدي حول الدولة الأردنية الهاشمية باعتبارها نظاماً مَلَكياً تحديثياً يحميه جيش ويتألف من أبناء قبائل الضفة الشرقية، الذين لطالما كان ولاؤهم أمراً محتَّماً ثقافيّاً أو لامفرّ منه سياسيّاً. مع ذلك، تعكس الاضطرابات الأخيرة موجة متصاعدة من الاحتجاجات في الضفة الشرقية ضد تقويض أسس العقد الاجتماعي الذي قام عليه الحكم الهاشمي، والذي استند إلى نظام رعايةٍ عسكري أمّن لسكان الضفة الشرقية فرص العمل والتقديمات الاجتماعية، ماضمن ولاء المؤسسة الأمنية وتماسك الدولة الأردنية.1

حتى بعد تدابير خفض الدعم التي فرضها صندوق النقد الدولي، خلال العقد الأخير من عهد الملك حسين الذي امتد بين عامَي 1952 و1999، بقي الجيش الأردني عمليّاً، "الحارس المتفاني للنظام القائم" وفقاً لآشر ساسر من جامعة تل أبيب. لكن اللبرلة العسكرية للدولة الأردنية التي انطلقت في العام 1989، بدأت بنقل المزايا من سكّان الضفة الشرقية عموماً إلى الجيش الذي ازداد قوّة.

بعد تولّي الملك عبد الله الثاني العرش في العام 1999، انتُهِجَت إصلاحات نيوليبرالية أوسع نطاقاً. فبرز في المستويات العليا للنظام الملكي نزاعٌ متواصل، بسبب استرضاء عبدالله لنخبة رجال أعمال جلّها من الفلسطينيين. ووضعت إعادةُ ترتيب التحالفات هذه النخبةَ العسكرية البيروقراطية المهيمنة تقليديّاً، ومعظمها من الشرق أردنيين، على طرفَي نقيضٍ مع منافسيهم المعَوْلَمين الذين يشكّلون مجموعة من رجال أعمال شبّان أثرياء جدد، يقيمون في المناطق الحضرية وتربطهم علاقات مع شبكات الرساميل في الخليج.

تقاطعت الأزمة المالية العالمية والارتفاع الكبير في أسعار السلع في فترة 2007-2008، مع تزايد السخط في صفوف العاملين في القطاع العام الذين ينتمون إلى المناطق الريفية في الضفة الشرقية. وبحلول ربيع العام 2010، انضم إلى الحركة الاحتجاجية المتقاعدون العسكريون الذين أصبحوا مسيّسين بفعل خطط الحكومة الرامية إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة وترشيد الإنفاق العسكري. وانضمت اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين، بتشجيعٍ من النخب المعارضة في الضفة الشرقية من ذوي الصبغة الوطنية الشرق أردنية، إلى احتجاجات عمّال المرافئ والمعلّمين المستائين من خطط الخصخصة والإصلاحات التعليمية المتزايدة. وتحوّلت الحركة الاجتماعية التي أطلقتها هذه الاحتجاجات إلى حراكٍ في الضفة الشرقية في أعقاب مايُسمّى بثورات الياسمين التي عمّت أرجاء العالم العربي في العام 2011.

تمكّن النظام الأردني من الصمود في مواجهة حركة احتجاجية إصلاحية أساساً، من خلال اللعب على وتر الانقسام المجتمعي في الأردن ومنح المكرمات المَلَكية التي تموّلها المساعدات الخليجية. ضمنت هذه التكتيكات ولاء حركة المتقاعدين العسكريين، وأضعفت في الوقت نفسه التحدّي الذي يطرحه التحالف الفضفاض بين وطنيي الضفة الشرقية وبين اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين.

مع ازدياد زخم الثورات المضادة بقيادة دول الخليج منذ العام 2011، علّق النظام وعوده بالانتقال إلى مَلَكية دستورية. وأجرت الحكومة عوضاً عن ذلك إصلاحات سياسية ودستورية شكلية في الغالب، أدّت إلى عزل واحتواء كل من اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين والحراك الشعبي. وبلغ هذا الأمر ذروته مع الانتصار الحاسم الذي حققه النظام السلطوي بعد فوز مناصريه في الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني/يناير 2013.

السياسات الريعية والجيش الأردني

نظام الرعاية العسكري في الأردن كان وليد الحرب الباردة والتوسّع السريع للفيلق العربي، الذي تأسّس في ظل الحكم الاستعماري البريطاني، من قوات نخبة إلى جيش كامل بعد عقد من استقلال الأردن رسمياً في العام 1946. هذا العقد الاجتماعي والسياسي، الذي حظي بدعم الولايات المتحدة بعد خروج البريطانيين في العام 1957، والذي تم تفعيله في مرحلة بناء الدولة في أوائل الستينيات، سمح للمَلَكية الأردنية بالصمود في وجه كلٍّ من موجة التطرّف التي شهدها العالم العربي وصعود الحركة الوطنية الفلسطينية بعد خسارة الضفة الغربية لإسرائيل في حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو 1967.

تزامن طرد منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بعد الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين عامَي 1970-1971، مع نهاية الحرب الباردة العربية التي امتدّت من 1954 إلى 1971، وأدّى إلى إرساء نظام إقليمي جديد قائم على الثروة بدلاً من الثورة. وترافقت زيادة المساعدات المالية التي مُنِحَت إلى الأردن في قمّتَي جامعة الدول العربية اللتين انعقدتا في الرباط في العام 1974 وفي بغداد في العام 1978، مع تمكّن الملك حسين من تعزيز صفقة حكم جديدة في عمّان منحت أبناء الضفة الشرقية امتيازات عسكرية وبيروقراطية، وسمحت للفلسطينيين في الوقت نفسه بالسيطرة على القطاع الخاص. ضمّ تحالف حسين الجديد مستثمرين يتألّفون من المزارعين الشرق أردنيين الذين جمعوا ثروتهم من بيع الأراضي، وطبقة وسطى ريفية متعلّمة حديثاً، ونخبة بيروقراطية تجارية وعسكرية لطالما كانت مُهيمنة. ونتيجةً لذلك، تمكّن الملك من فرض نفوذه على الشؤون الأردنية من دون منازع تقريباً.

على الرغم من هذا الازدهار الناتج عن تدفّق الريع الجديد، بقيت الأحكام العرفية – التي فُرضت في العام 1967 – سارية المفعول، ومارست دائرة المخابرات العامة نفوذها من دون رادع. وقد تولّى مدراء سابقون لدائرة المخابرات العامة رئاسةَ الحكومة خلال معظم سنوات العقد الذي أعقب العام 1976، وأشرفوا على توسيع جهاز الدولة وجعله مؤلّفاً إلى حدٍّ كبير من الشرق أردنيين، فأصبح جهاز المخابرات فعليّاً السلطة التنفيذية للنظام السلطوي. إذ هيمن حلفاء جهاز المخابرات على الحقائب الوزارية وقوى الأمن، وسيطروا على معظم المناصب الحساسة في هذه البيروقراطية الناشئة.

ظهرت فجوة كبيرة بين القطاع العام الذي يخدم مصالح الشرق أردنيين، وبين القطاع الخاص الخاضع بشكلٍ كبير إلى سيطرة الفلسطينيين. والمفارقة أن هذا التقسيم المجتمعي للعمل ترافق مع النمو غير المتوازن، بحيث لم تتمكّن المناطق الريفية من اللحاق بركب المناطق الحضرية. كما شهدت المناطق الواقعة جنوب البلاد وشرقها (والغالبية الساحقة في هذه المناطق من الشرق أردنيين) معدّلات فقر أعلى من المدن ذات الغالبية الفلسطينية.

بحلول أوائل التسعينيات، كان قطاع الجيش والخدمة المدنية قد وظّف حوالى 47 في المئة من الأردنيين البالغين سن العمل القانوني. ووفّرت ميزانيات الدفاع رواتب مئات الآلاف من العسكريين المتقاعدين وموّلت مروحة متزايدة من الخدمات الإضافية، من بينها توفير العلاجات الطبية المتطوّرة في مدينة الحسين الطبية، وقبول تفضيلي في الجامعات لأبناء وبنات العسكريين بموجب مكرمة مَلَكية. كما بدأت متاجر خاصة ببيع السلع لأسر الجنود بأسعار مدعومة، ماخفّف من أثر التضخم وزاد القدرة الشرائية لرواتب العسكريين.2

خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب الأهلية بين 1970-1971، تراجعت فعالية نظام الرعاية العسكري الأردني بسبب النمو غير المتوازن في الضفة الشرقية وارتفاع سقف التوقعات بفعل التحضّر والهجرة إلى الخليج. وحين قام الملك حسين بفكّ ارتباط عمّان قانونيّاً وإداريّاً (من دون فك الارتباط الدستوري وهو الأهم) عن الضفة الغربية في تموز/يوليو 1988، كان الاعتماد على المزايا الحكومية وأسلوب الحياة الأكثر ترفاً على غرار مستويات المعيشة في الخليج، قد رفعا العبء المالي المُلقى على كاهل نظام الرعاية العسكري  إلى مستويات لم تعد البلاد قادرة على تحمّلها.

وبحلول العام 1989، أوقعت مطالب القطاع العام المتضخم والحرب المُستنزفة بين العراق وإيران (1980-1988) وواردات السلاح المشكوك في ضرورتها، الأردن في أزمة اقتصادية، واضطرت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لخفض الإنفاق الحكومي تحت إشراف صندوق النقد الدولي.3

حين أصبح الاقتصاد الأردني تحت وصاية صندوق النقد الدولي في ربيع العام 1989، ضمنت المستوياتُ العالية للديون الخارجية تخفيض المزايا المقدّمة من جانب الحكومة بسبب تراجع قيمة الدينار الأردني، وسياسات التكيّف الهيكلي التي فرضتها الجهات المانحة. تركّزت أعمال الشغب المناهضة للتقشف التي اندلعت في أعقاب خفض الإنفاق الحكومي، في مناطق شرق الأردن الريفية. لقد حدّد الاعتماد الاجتماعي-الاقتصادي على الدولة جغرافية الاحتجاج: أكثر من 90 في المئة من القوة العاملة في المحافظات الجنوبية مثل معان والكرك والطفيلة تتركّز في القطاع العام، مقابل 50-60 في المئة فقط في المراكز الحضرية الأكثر ازدهاراً وذات الكثافة السكانية الأعلى مثل عمّان والزرقاء وإربد.

اضطرابات في المناطق الريفية في شرق الأردن

إزاء الاضطرابات التي شهدتها مناطق لطالما اعتُبرت معقلاً لمناصري النظام الهاشمي، لجأ هذا الأخير إلى التمثيل البرلماني لتهدئة الغضب الشعبي وإعادة توجيه رعاية الدولة نحو المناطق الريفية النائية في الضفة الشرقية. الانتخابات التشريعية، التي كانت معلّقة على إثر حرب حزيران/يونيو 1967، عادت لتُجرى بانتظام ابتداءً من العام 1989. لكن تم ترسيم الدوائر الانتخابية بشكلٍ يؤدّي إلى الإفراط بتمثيل أبناء مناطق الضفة الشرقية، وخاصة أبناء المناطق الريفية الجنوبية التي أوقدت شرارة أعمال الشغب في العام 1989.

لكن عودة الحياة البرلمانية فشلت في التعويض عن عقود من الانحياز التنموي إلى مدن مختلطة يقطنها سكان فلسطينيون وشرق أردنيون. ونتيجةً لذلك، استمرّت المتاعب في المناطق الريفية في الضفة الشرقية، مع انتفاضة الخبز في الكرك في العام 1996 والمظاهرات المؤيّدة للرئيس العراقي آنذاك صدام حسين في معان في العام 1998.

مع أن السخط في الضفة الشرقية كان شوكة في خاصرة النظام المَلَكي، إلا أنه لم يشكّل تهديداً كبيراً بسبب أصوله المحلية الضيقة وأهدافه السياسية المحدودة. كان الهدف من المظاهرات الناجمة عن هذا السخط لفتَ انتباه الملك، وتم احتواؤها بسهولة من خلال الزيارات المَلَكية أو تدخّل دائرة المخابرات العامة بالسياسات البرلمانية القائمة على المحسوبية. السياسات الخلافية غير المدعومة من النخب في المناطق الريفية في الضفة الشرقية، فشلت في تشكيل أحزاب سياسية منظّمة أو حركات اجتماعية متسقة، وانزلقت عوضاً عن ذلك إلى الفساد الاجتماعي على نطاق واسع وعدم الامتثال إلى القوانين.

بحلول العام 2009، أدّت العصابات وعمليات التهريب والإتاوات المفروضة مقابل توفير الحماية، إلى ظهور بؤرٍ إجرامية تركّزت في غالب الأحيان في مراكز قبلية مثل بلدتَي اللبن والشونة، أو في أحياء حضرية في الضفة الشرقية مثل حي الطفايلة في عمّان. وترافق ذلك مع تغلغل الأردنيين المتحدّرين من أصول قبلية لشغل المناصب الدنيا في الأجهزة البيروقراطية في الدولة، وللمطالبة بأماكن عامة يعتبرونها ملك القبيلة.

بعد توقيع الملك حسين معاهدة وادي عربة (اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل) في العام 1994، أصبح سكان الضفة الشرقية من أشد المنتقدين لها، لأنها لم تعجّل في عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وتعاونت مجموعة من نخب أبناء العشائر الذين كانوا حتى ذلك الحين موالين للنظام - وأبرزهم أحمد عبيدات، رئيس الوزراء السابق ومدير دائرة المخابرات العامة بين عامَي 1973 و1984 - مع اليساريين وجبهة العمل الإسلامي، الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، لمقاومة التطبيع السريع مع إسرائيل.

نشر وطنيّون شرق أردنيون أكثر راديكالية الخوفَ من إقامة وطن فلسطيني بديل في الأردن. وحاججوا بأن مماطلة النظام في قضية عودة اللاجئين وفشله في استكمال فك الارتباط عن الضفة الغربية، أبقيا أفق الاحتمال مفتوحاً على إقامة علاقة فدرالية أو كونفدرالية في المستقبل مع السلطة الوطنية الفلسطينية التي أُنشئت في الضفة الغربية بعد اتفاقية أوسلو التي أُبرمَت في العام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

فشلت المعارضة السياسية الحزبية التي ظهرت بعد العام 1989، ومعها ائتلاف الناشطين الذين التفّوا حول منظمات مثل جمعية مناهضة الصهيونية عقب معاهدة وادي عربة، في الاستفادة من موجة السخط في الضفة الشرقية. لطالما رفضت جبهة العمل الإسلامي (الحزب السياسي الوحيد الذي يحظى بثقل اجتماعي وسياسي فعلي، والذي شكّل مع منظمته الأم جماعة الإخوان المسلمين، العنصر الأبرز في حملة مناهضة التطبيع) قرار فك الارتباط عن الضفة الغربية الذي اتخذه الملك حسين في العام 1988، وحافظت على علاقات وطيدة مع حركة حماس، المنظمة الإسلامية الفلسطينية.

لم تسعَ جماعة الإخوان المسلمين، على غرار سائر التيارات الإسلامية في الأردن، إلى مدّ نطاق دعمها إلى خارج مخيّمات اللاجئين في الزرقاء وإربد شرق عمّان. سياسات جبهة العمل الإسلامي – الموجّهة نحو الإصلاحيين السياسيين والطبقة الوسطى الورعة - ركّزت بشكلٍ متزايد على دعم استراتيجية حماس في فلسطين، ما أدخل هذه الحركة في صراع مع السلطة الوطنية الفلسطينية والمستفيدين منها في صفوف نخبة رجال الأعمال في الضفة الشرقية، غير أن هذا الأمر لم يطرح تهديداً يُذكر للملك حسين.

السياسة والاقتصاد في عهد المملكة الرابعة بقيادة الملك عبدالله

كان التوجُه العام لحكم الملك عبد الله الثاني هو إعادة ترتيب القواعد الاجتماعية لدعائم النظام الهاشمي، والحفاظ في الوقت نفسه على العلاقات القائمة بين النظام والجيش. بدا ذلك ضرورياً "لتأمين النظام بعد اندلاع الانتفاضة الثانية والغزو الأميركي للعراق"، على حدّ تعبير الأكاديمي جوزيف مسعد من جامعة كولومبيا، وأيضاً لأن عبدالله واجه تحدّياً محتملاً حول مسألة الخلافة من أخيه غير الشقيق والأصغر منه سنّاً، ولي العهد حمزة.

ردّاً على ذلك، عيّن عبدالله عمداء سابقين في مناصب مثل رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي، وحرص بشكلٍ خاص على مكافأة ذوي الرتب العليا من سلك الضباط وقيادة العمليات الخاصة – قوات النخبة، والتي أُوكِلت إليها أيضاً مهمة الإشراف على الحرس المَلَكي. كما أحكم الملك الجديد قبضته على دائرة المخابرات العامة: ففي العام 2003، أُزيح سميح البطيخي، مدير المخابرات الذي أشرف على عملية الخلافة، على إثر محاكمة متلفزة اتهمته بالفساد.

سعى عبدالله أيضاً إلى دعم قاعدته في الداخل الأردني، من خلال إطلاق حملة "الأردن أولاً" في تشرين الأول/أكتوبر 2002، التي كانت ذات توجّه شرق أردني واضح.4 لكن هذه التحركات ظهرت على خلفية انكماش اقتصادي ترافق مع صفقة ليبرالية جديدة وتعاظم دور القطاع الخاص ذي الغالبية الفلسطينية في الاقتصاد الأردني. وعلى الرغم من خلفية الملك عبدالله العسكرية وخدمته العسكرية السابقة وتوليه رئاسة قيادة العمليات الخاصة، إلا أن أقرب معاونيه كانوا في الواقع من التكنوقراط النيوليبراليين أو أصحاب المشاريع الذين يتفق معهم في الآراء، والذين عيّنهم من المجلس الاقتصادي الاستشاري المشكَّل حديثاً.

تسارعت وتيرة الإصلاحات النيوليبرالية تحت تأثير باسم عوض الله، المستشار الأبرز للملك. أشرف عوض الله، مدير التخطيط الاقتصادي للنظام والناطق الرسمي باسمه في المفاوضات مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وصندوق النقد الدولي، على عملية تفكيك مؤسسات التعدين والطاقة والاتصالات المملوكة للقطاع العام. كانت تهيمن على هذه القطاعات مؤسسات عامة كبيرة شكّلت عطاياها إحدى الركائز الأساسية لشبكة الرعاية الخاصة بالمخابرات، والتي تربط بين الشريحة الكبيرة من الشرق أردنيين المتعلّمين التي ظهرت في عصر النفط، وبين النظام المَلَكي.

أشرف عوض الله ومعاونوه أيضاً على بيع الأصول العسكرية الثابتة. إذ وُضعت العقارات المملوكة للجيش تحت إشراف شركة شبه عامة تحمل اسم "موارد" وتخضع إلى سيطرة القصر المَلَكي. وباعت هذه الشركة بعدئذٍ مقرّ الجيش الجديد والأراضي العسكرية التي كان يحتاجها مشروع العبدلي الكبير للتنمية الحضرية. وُضعت أيضاً خطط لبيع مدينة الحسين الطبية في العام 2008، لكن زعماء قبائل الضفة الشرقية احتجّوا على ذلك، وتم تعليق المشروع.

رأى العديد من الشرق أردنيين أن هذه الخطط والسياسات النيوليبرالية تعزّز نفوذ الفلسطينيين على حسابهم. فيما كان عوض الله أكثر السياسيين الذين يُعتبَرون على ارتباط بالفلسطينيين الأردنيين، صبّ الاستياء على الملكة رانيا، وهي فلسطينية أردنية ترعرعت في الكويت. إذ بدا للعديد من الشرق أردنيين أن صعودها (واحتمال تتويج ابنها الملك حسين الثاني ملكاً في نهاية المطاف) خير دليل على تحويل مملكة الأردن الهاشمية من نظام يرتكز على العصبية الشرق أردنية، إلى وطن بديل للفلسطينيين.

إعادة ترتيب السياسات العسكرية في عهد الملك عبدالله

نظراً إلى ميراث الملك عبدالله الثاني الكبير المتمثّل في ميزانية الدفاع السنوية وقدرها 450 مليون دولار، وارتفاع مستوى الدين الخارجي الذي يُقدَّر بنحو 8 مليارات دولار، كان من المتوقّع أن تطال التخفيضات القوات المسلحة ونظام الرعاية الاجتماعية الخاص بها.5 في ظل هذه الظروف المالية، اعتمد عبدالله استراتيجية النيوليبرالية المُعسكَرة التي دعت إلى إعادة هيكلة الجيش الأردني، والحد من اعتماده على المدرّعات والمدفعية الثقيلة، وخفض الخدمات الاجتماعية المقدّمة إلى الموظفين العسكريين. بالنسبة إلى الفئات الأصغر سنًّا، عجّلت ميزانيات التقشف خطط دمج المعاشات العسكرية مع المساعدات الاجتماعية للمدنيين التي تقدّمها المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي. وحين ترسّخت هذه الاستراتيجيات، أثّرت على توجّه أعضاء المنظمة الرسمية للعسكريين المتقاعدين، والأهم، حفّزت على ظهور لجنة جديدة للمتقاعدين العسكريين من شأنها أن تؤدّي دوراً رئيساً في الحراك.

في عهد الملك حسين، كان ثمة حديث عن إنشاء جيش أصغر حجماً يُستخدم بشكلٍ أساسي للخدمات الأمنية التجارية وحفظ السلام، والحروب غير المتكافئة.والواقع أن بعض العسكريين المتقاعدين حاججوا بأن البنود السرية في معاهدة وادي عربة نصّت على خفض قوة الردع الأردنية على طول الحدود مع إسرائيل. ويبدو أن هذه الاتجاهات تسارعت في عهد عبدالله، لكن بعض وجهات النظر ترى أنها أدّت في الواقع إلى ظهور مستويَين في الجيش: في المستوى الأول، طبقة تتمتع بامتيازات كثيرة وتتألف من الضباط رفيعي المستوى مثل قيادة العمليات الخاصة؛ وفي المستوى الثاني، مجموعة متبقية تتألف من المدفعية والمدرّعات والجزء الأكبر من المجنّدين العاديين.

تم إيلاء اهتمام خاص إلى قوة الدرك الجديدة )وقوامها 30 ألف شرطي( المنفصلة عن مديرية الأمن العام، وهي الهيئة التي كانت تاريخياً مسؤولة عن الشرطة ووكالات إنفاذ القانون. شكّل إنشاء الدرك تحوّلاً في الخريطة الأمنية الإثنية الخاصة بالنظام على نطاق موازٍ للتغييرات التي أعقبت الحرب الأهلية بين عامَي 1970-1971. فوفقاً لأحد الضباط السابقين الذين خدموا مدّة طويلة في قوة الدرك، كان من المفترض أن يشكّل الشرق أردنيون ثلث هذه القوة فقط، وأن يتألف سائر قوامها من الفلسطينيين والمجنّدين من القبائل المنتشرة على حدود الأردنية السورية. وذلك يُظهر بشكلٍ واضح أن عبدالله أطلّ على قوة الدرك باعتبارها القوة الضاربة الداخلية الأساسية في يد النظام – أي أنها الجانب الأحدث من النيوليبرالية القوية القادرة على التعامل بشكلٍ فعّال مع المعارضة الداخلية.

باءت الخطط لإدخال مكوّن فلسطيني أساسي إلى الدرك بالفشل، بسبب الشبكات الاجتماعية المحافِظة للضفة الشرقية، علماً أن هذه الشبكات تُعَدّ مصدر الروابط الدائمة مع المؤسسة العسكرية، وهي لاتزال تُستخدَم للحفاظ على مداخل توظيف الشرق أردنيين. والواقع أن الأدلة السردية المتداوَلة تشير إلى أن الأردنيين الفلسطينيين لم يشكّلوا أكثر من 15 في المئة من الدرك في العام 2011. لكن كان ثمة توجّهان يُغيِّران ملامح نظام الرعاية العسكري ككلّ: التوجّه الأول كان التقلّص المطّرد في عدد عناصر الخدمة الفعلية في الأردن، قياساً مع تعداد شعبٍ فتيٍّ ومتنامٍ. أما التوجّه الثاني فكان مدّ مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بالمكرمات المَلَكية، أي المنح الجامعية وبرامج المساعدات الطلّابية التي كانت في مامضى حكراً على الجيش والقاعدة القبَلية التابعَين للمَلَكية.

كانت المحصّلة تحريك سياسات العسكريين المتقاعدين، وفي الوقت نفسه، إلغاء مؤسسة المتقاعدين العسكريين، التي كانت مكلَّفة سابقاً بمساعدة متقاعدي الجيش الأردني البالغ عددهم مايزيد عن 170 ألفاً. وهكذا، نشأت اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين من شبكة مؤلّفة من 80-100 تعاونية تديرها المؤسسة، وفقاً لأرقام قدّمها أمين سرّ اللجنة، سالم العيفة. وبعد مضيّ بضع سنوات على حكم الملك عبدالله الثاني، نالت اللجنة موافقةً مَلَكيةً للاضطلاع بدورٍ فاعلٍ أكثر في التنمية والأمن القومي. وقد سوّق الناشط الرئيس في اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين، علي الحباشنة، حركةَ العسكريين المتقاعدين للديوان المَلَكي على أنها بمثابة مجموعة موالية للمَلَكية، من شأنها أن تساهم في صون الحكم الهاشمي. لكن اللجنة أثبتت أنها مقاوِمةٌ بشكل استثنائي للتلاعب الخارجي، بفضل إجراءات التصويت وصنع القرار المعقّدة الخاصة بها، والتي أعطت الأولوية للجيش النظامي على حساب الأجهزة الأمنية، وحصرت المتقاعدين من رتبة لواء ومافوق في دورٍ استشاري.

عندما بدأ الارتفاع الحادّ والمفاجئ في أسعار السلع العالمية في العامَين 2008-2009 بالتأثير على المداخيل الفعلية للأردنيين، انبثقت مجموعة ضغط مُنظَّمة شرق أردنية بأغلبيتها من داخل هياكل السلطة المركزية للنظام. وقد تحدّرت قاعدة المجموعة من الفئات الأكثر تضرّراً من إعادة الهيكلة الاقتصادية النيوليبرالية واتفاقية وادي عربة. كما أن ذلك حصل في وقتٍ كانت الطفرة التضخّمية التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق تُقلِّص الدخل الفعلي للأردنيين من ذوي الرواتب الثابتة، في حين كانت مبادرات النظام الهادفة إلى تحسين الوضع المالي للعسكريين المتقاعدين تُقرِّب المصالح الاقتصادية للعسكريين المتقاعدين أكثر إلى التيار المدني السائد.

تمرُّد العسكريين المتقاعدين في الأردن

أدّى قمعٌ عنيفٌ شهدته معان، في العام 2002، إلى إثباط الاستياء الذي ساد في المناطق النائية للضفة الشرقية في خلال العقد الأول من حكم الملك عبدالله الثاني، وحصَرَ بالتالي الاحتجاج الشعبي في تظاهرات رمزية إلى حدّ كبير في عمان، أثناء الهجمات الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية، وعلى لبنان وغزة، بين العامَين 2002 و2009. واقتصر الاحتجاج العام إلى حدّ كبير على العاصمة، فيما جرى التعبير عن استياء الضفة الشرقية في الغالب من خلال الأناشيد المُعادية للملكة رانيا أثناء مباريات لكرة القدم بين ناديَي الوحدات والفيصلي، اللذين يُنظَر إلى كلٍّ منهما عموماً على أنه فلسطيني وشرق أردني على التوالي.7

بدوره، كُبِّل التيار السياسي السائد بسبب إهمال الملك عبدالله لأجندةَ التغيير. كما قُلِّصَت عمليةُ إعادة التنظيم السياسية إلى لعبة تغيير مناصب بين فصائل نخبٍ بعينها، ما أدّى إلى بروز سلسلة حكومات قصيرة العمر. وبلغت الصراعات بين النخب ذروتها في العام 2007 وسط ادّعاءات – حادّة من جانب الإسلاميين بشكل خاص – بحصول انتخابات برلمانية مزوّرة، في ظل الحكومة الأولى للواء الركن المتقاعد وسفير الأردن السابق في إسرائيل، معروف البخيت.

غابت الولاءات السياسية المتبدّلة في صفوف الجيش، إلى حدٍّ كبير، عن أذهان معظم المعارضين. فبحلول نهاية العقد الأول من حكم الملك عبدالله في العام 2009، كان مأزق السياسات الشرق أردنية المُعارِضة كبيراً إلى حدّ أن ناشطين متمرّسين من المعسكرَين اليساري والشرق أردني الوطنيَّين انسحبوا عملياً من السياسة الفاعلة. لكن هذا التوجّه انقلب فجأة عندما اتّخذت الاضطرابات العمّالية في العقبة وبين معلّمي القطاع العام منعطفاً غير متوقَّع، عقب تدخّل اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين بالتحالف مع عناصر مُعارِضة من النخب الأردنية. وعلى مدى الأشهر الستة التالية، تعاونت اللجنة مع حركة اجتماعية آخذة في الاتّساع، اصطبغت بصبغة وطنية شرق أردنية واضحة، مؤدّيةً دوراً حاسماً في تسريع حصول النسخة الأردنية من انتفاضات الربيع العربي التي بدأت في العام 2010.

أُطلِقَت شرارة هذه العملية بعد إحباط هجومٍ للدرك، في أوائل العام 2010، على عمّال ميناء العقبة الذين كانوا يحتجّون على خطة بيع الميناء لمستثمرين من الإمارات العربية المتحدة، وماكان سيتبعها حتماً من إلغاءٍ لمساكن الموظّفين. وقد اضطلع قائد الجيش في العقبة، الذي تدخّل مباشرةً لحماية العمّال الذين لجأوا إلى المستشفى العسكري المجاور، بدورٍ حاسمٍ في إحباط الفرض القمعي للتوجيهات النيوليبرالية المدعومة من الديوان المَلَكي. نتيجة لذلك حصل تحوّل: إذ أثبت العمّال الأردنيون أنهم قادرون على تحدّي السياسات النيوليبرالية، وأدرك العمّال من الضفة الشرقية أن دعم الأقرباء والمتعاطفين في التيار العسكري العام يمكن أن يُستخدَم بشكل فعّال لمواجهة النظام.

نجاح احتجاجات العقبة شجّع المعارضين الآخرين، خصوصاً المياومين الحكوميين الذين كانوا يتحرّكون منذ مدّة للمطالبة بسبل عيشٍ أكثر ديمومة. كما أن الناشطين من معلّمي القطاع العام في الأردن البالغ عددهم 105 آلاف، والذين طالبوا بإعادة نقابة المعلّمين التي كانت حُظِّرَت في خمسينيات القرن الماضي، صعّدوا احتجاجاتهم. وقد تحدّى مطلبُهم بإعادة إرساء الرقابة العامة على سياسات التعليم، الديوانَ المَلَكي مباشرةً، ودفع رئيس الوزراء السابق سمير الرفاعي إلى رفض عروض الوساطة. أدّى هذا الأمر، إلى جانب الإهمال المتواصل للتحركات الشعبية لجبهة العمل الإسلامي، إلى دفع المعلّمين نحو اعتمادٍ أكبر على حراك الشارع.

بفضل جهود الكاتب في صحيفة العرب اليوم، ناهض حتر، بدأت اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين تهتم بشكل فاعل بنضالات عمّال القطاع العام، في أواخر نيسان/أبريل 2010. بحلول ذلك الوقت، كانت المناطق النائية من الضفة الشرقية تشهد اضطرابات، حيث انضمّ الطلاب إلى معلّميهم المعتصمين وخرجوا في مظاهرات في الكرك وعجلون والسلط. واصطبغت شعارات هيئات المعلّمين في الكرك والسلط أكثر فأكثر بصبغة وطنية، بتأثيرٍ من حتر وغيره من الراديكاليين الشرق أردنيين من ذوي التفكير نفسه. وأصبح الناشطون يجمعون مابين الاحتجاج حول التظلّمات الاجتماعية والاقتصادية وبين الخطاب الوطني حول الوطن الفلسطيني البديل.

يُعَدّ بيان اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين، الذي صدر في 1 أيار/مايو 2010، بمثابة بيان سياسي عام. حذّر هذا البيان، الذي جرت صياغته بالتعاون مع وطنيين راديكاليين شرق أردنيين، وبالتشاور شبه المؤكّد مع عناصر مُعارِضة ضمن النخبة الأردنية، من "مخطط صهيوني لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الشعب الأردني"، ونشَرَ مازعم أنه أرقام رسمية تُظهِر تدفّقاً مطّرداً للفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية وغزة عبر نهر الأردن.

وصفت الوثيقةُ هذه العملية بأنها انتقال سهل للفلسطينيين اتّسم بخطورة أكبر، لأن "زمرة ضيقة وغير تمثيلية احتركت تشكيل الحكومة وصنع القرار، فيما منعت الشعب الأردني من تحديد مصيره والدفاع عن مصالح الأردن الوطنية". ومع أن البيان حرص على التعبير عن الولاء للملك عبدالله الثاني، إلا أنه خُتِم بهجوم غير مسبوق على الملكة رانيا، إذ أكّد على أن "الدستور الأردني لايمنح أي سلطات قانونية إلا لجلالة الملك من دون شراكة أحدٍ، بصرف النظر عن صلة القرابة أو اللقب".

كما حرصت اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين على المجادلة أن الأردنيين الفلسطينيين الذين قطنوا الضفة الشرقية قبل قرار فكّ الارتباط في العام 1988، هم مكوّن أساسي من التركيبة الوطنية الأردنية. وقد شارك قادة اللجنة بشكلٍ فاعل في الأنشطة الفلسطينية إحياءً لذكرى هجرة العام 1948 أو تشديداً على حق اللاجئين في العودة. لكن اللجنة، عبر جمعها بين الدعوة إلى فكّ الارتباط كاملاً مع الضفة الغربية، وبين انتقاد سياسات النظام النيوليبرالية، أثارت حفيظة معظم النخبة السياسية في عمّان.

وهكذا، برز تحالف قوي – وإن كان مرتجلاً – ضمّ رجال أعمال أردنيين فلسطينيين إلى جانب وجهاء من الضفة الشرقية؛ وناشطين مناهضين للتطبيع وبرلمانيين معارضين إلى جانب مدافعين عن معاهدة وادي عربة للسلام؛ والجناح اليساري للمعارضة السياسية إلى جانب جبهة العمل الإسلامي. عمّم هذا الائتلاف المتنوّع عريضةً إلكترونيةُ نُشِرَت على نطاق واسع في ردٍّ مباشرٍ على بيان العسكريين المتقاعدين، مُكَرِّرةً في الواقع مقالاً لعبيدات شدّد على حتمية الوحدة بين الأردن وفلسطين، وأعاد تأكيد العلاقة المميّزة التي تربط شعبيهما، وحذّر، في تكرارٍ واضحٍ لخطاب الديوان المَلَكي، من الخطوات غير المؤاتية التي تهدّد الوحدة الوطنية.

سلّطت الصدامات بين اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين وبين هذا الائتلاف الأردني العام، الضوءَ على الخلافات العميقة حول حدود المجتمع السياسي الأردني، وحول كيفية حلّ القضية الفلسطينية وحق اللاجئين في العودة. غير أن الاضطرابات الشعبية التي سرّعها بيان الأول من أيار/مايو، ضَمَنَت تحوّلَ الزخم السياسي في اتجاه مختلف فئات الوطنيين الراديكاليين الشرق أردنيين. نتيجةً لذلك، لم يكن لعبيدات وحلفاؤه – الذين شكّلوا الجبهة الوطنية للإنقاذ بعد وقت قصير – تأثيرٌ يُذكَر على رأي الضفة الشرقية. بدلاً من ذلك، ساهم تدخّلهم في دفع شروط أجندة المعارضة السياسية في اتّجاهٍ أكثر تشدّداً. وبحلول خريف العام 2010، تسلّلت فكرة إعادة الدستور الأردني للعام 1952 وإرساء مَلَكية دستورية، إلى الخطاب السياسي العام.

ربيع الأردن في الشتاء

عبّأ نشرُ بيان الأول من أيار/مايو لوناً متطرّفاً من الراديكالية الوطنية الشرق أردنية، التحم مع اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين في المطالبة بأن تُمنَح المزايا بصفتها حقوقاً لامكرمات، وألا تُعطى الجنسية إلى سكان الضفة الغربية من الفلسطينيين أو إلى اللاجئين من غزة؛ وأن يوضَع إطار قانوني لإدارة فكّ الارتباط مع الضفة الغربية.

إضافةً إلى المخاوف غير الواضحة إزاء الوطن الفلسطيني البديل، ركّزت معظم مطالب الضفة الشرقية على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التي ردّت عليها اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين بمذكّرتَين إضافيّتَين. أوّلاً، فصّلت المذكّرة الاقتصادية للّجنة تراكُم الدين العام في حكم الملك عبدالله الثاني، محاججةً أنه كان من شأن عملية تصفيةٍ للقطاع العام تتّسم بشفافيةٍ أكبر – وتضمن ذهاب عائدات الخصخصة كاملةً إلى الخزينة العامة – أن تُبقي الدين العام تحت السيطرة. ثانياً، وثّق بيانٌ عام دفاعي، كان عُمِّم سرّاً لدواعٍ تتعلّق بالأمن القومي، التبذيرَ المرتبط بالمشتريات الدفاعية وعدم فعاليتها، ودعا إلى إعادة بناء ردعٍ موثوقٍ ضد إسرائيل.

في ظل وقوف الديوان المَلَكي ومناصريه النيوليبراليين في مواقع الدفاع، حاز المتقاعدون العسكريون الأفضلية السياسية. فأيّدت اللجنة الوطنية للمتعاقدين العسكريين مقاطعة الإخوان المسلمين للانتخابات البرلمانية في تشرين الثاني/نوفمبر 2010، مُجرِّدةً بشكل فعلي حكومة الرفاعي آنذاك من أي أمل بشرعية انتخابية. وفي حين أبطأ كلٌّ من التعديل الحكومي وانطلاق الحملات الانتخابية، زخمَ التعبئة الشعبية في خلال أشهر الخريف، انخرطت اللجنة في محادثات واسعة النطاق مع مختلف الناشطين والتجمّعات القبَلية بهدف عقد مؤتمر وطني أردني سادس. وقد نظرت اللجنة وحلفاؤها الراديكاليون إلى هذا الأمر على أنه وسيلة لتوسيع إطار الهوية الأردنية الوطنية، لتشمل السياسة العروبية لحركة المؤتمرات الوطنية ماقبل الاستقلال، التي دامت مابين العامَين 1928 و1933. بيد أن معارضي هذه الأجندة اعتبروها حكماً – وإن بشكل غير عادل إلى حدٍّ ما – شرق أردنية حصراً.

تنامى النشاط الشعبي في الضفة الشرقية غداة انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2010، على خلفية اندلاع عنفٍ قَبَليٍّ في معان والكرك والسلط، أطلقت شرارتَه التصوّراتُ واسعة النطاق بشأن التزوير الانتخابي. وانضمّ الأعضاء الأكثر تشدّداً من حركة العسكريين المتقاعدين، ورؤساء هيئات المعلّمين في السلط والكرك، إلى حتر وغيره من ناشطي الضفة الشرقية لإطلاق التيار التقدّمي الأردني. والواقع أن هذا الأمر أضاف طابعاً رسمياً على التجمّع الذي كان نسّق الانتفاضة الشعبية التي رافقت بيان الأول من أيار/مايو وروّج لها.

في خلال الربع الأخير من العام 2010، قاد التيار التقدّمي الأردني موجةً جديدةً من النشاط، مع تشكيل أعضائه الأصغر سنّاً تحالفاً فعالاً – أصبح يُعرَف رسمياً في نهاية المطاف باسم "جايين"، وقد ضمّ شبّاناً يساريين، من أصول فلسطينية في الغالب، نشطوا في منظمة اليسار الاجتماعي الموالية للحكومة، وشرق أردنيين إسلاميين من الشباب في جماعة الإخوان المسلمين في إربد.

خلافاً للاضطرابات السابقة في المناطق النائية من الضفة الشرقية، أتى الاحتجاج الشعبي في العام 2010 ثمره بسرعة، إذ أضاف المتقاعدون العسكريون ثقلهم التنظيمي إلى الحركة الشبابية، وبدأت جبهة العمل الإسلامي تُقدِّم الدعم المحدود. فأجبرت إحدى التظاهرات أمام البرلمان الأردني، في كانون الأول/ديسمبر، النواب الجدد على النأي بأنفسهم عن رئيس البرلمان المُنتَخَب حديثاً ورئيس الوزراء السابق، فيصل الفايز، الذي عارض إنشاء نقابة للمعلّمين.

في الأسبوع الأول من كانون الثاني/يناير 2011، جرت سلسلةٌ من التظاهرات في عددٍ من المدن والبلدات، ضمّت حملة "جايين" إلى جانب المعلّمين والموظّفين الحكوميين والمتقاعدين العسكريين. وفي يوم غضب في 14 كانون الثاني/يناير، ألقى كلٌّ من حركة العسكريين المتقاعدين والإسلاميين بكامل ثقلهم وراء تظاهرة كبرى في عمان.

في ذلك الحين، كان الربيع العربي في أوجه. فمع ترنّح نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وتمدُّد ظلّ ثورة الياسمين في تونس شرقاً، أذعن الملك عبدالله الثاني وأقال رئيس الوزراء آنذاك سمير الرفاعي متجاوزاً الشكليات. فاستُبدِل هذا الأخير بمعروف البخيت، وهو عميد سابق كان منخرطاً في حوار مع اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين وحلفائها منذ بضعة أشهر. شكّل البخيت حكومةً جديدةً ضمّت شخصيات تتعاطف مع وطنيي الضفة الشرقية.

من الربيع الأردني إلى حراك الضفة الشرقية

سارعت حكومة البخيت إلى التعهّد بإنشاء نقابة للمعلّمين، والإطباق بشكلٍ كامل على الفساد، وإجراء إصلاح سياسي حقيقي. كما ابتعدت الحكومة عن النيوليبرالية، مُناديةً بسبيلٍ ثالثٍ يستند إلى اقتصاد السوق الاجتماعي. وبدا أن الملك عبدالله الثاني نفسه يؤيّد تعهّدات البخيت في كتاب تعيينٍ حثّ فيه الحكومة الجديدة على مكافحة الفساد وإصلاح الحوكمة الاقتصادية.

في الأشهر التالية، أيّد الديوان المَلَكي لجنة حوار وطني ترأّسها رئيس مجلس الأعيان ورئيس الوزراء السابق الأردني الفلسطيني طاهر المصري. كُلِّفَت اللجنة بإصلاح النظام الانتخابي في الأردن. كما شُكِّلَت لجنة ثانية لمراجعة التعديلات الدستورية – التي تعود في بعض الحالات إلى العقد الأول من حكم الملك حسين في خمسينيات القرن الماضي – والتي وسّعت على مرّ الأعوام صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب البرلمان والسلطة القضائية.

في البداية، بدا أن لهذه الإصلاحات تأثيراً ضئيلاً على رأي الضفة الشرقية. فكان بيانٌ صادرٌ، في 5 شباط/فبراير 2011، عن حوالى 36 وجيهاً من وجهاء عشائر الضفة الشرقية البارزة، أكثر تشدّداً من بيان الأول من أيار/مايو. إذ اتّهم البيان الملكة وأسرتها بارتكاب مخالفات مالية، وحذّر مرّة أخرى من الحملات التي تُدار من الخارج، والتي ترمي إلى تجنيس الفلسطينيين وإقامة وطنٍ بديلٍ لهم في الأردن. وأنذر البيان بأن الميثاق بين الأردنيين والسلالة الهاشمية، الذي كان قائماً على الشراكة المتبادلة، قد انتُهِك.

عمدت اللجنة المؤلّفة من 36 عضواً إلى انتقاد الموقف الاقتصادي النيوليبرالي للنظام، كما انتقدت البنك الدولي معتبرةً أنه وضع برنامجاً للعولمة الصهيونية-الامبريالية، وربطت في الواقع نموذج الإصلاح الاقتصادي الذي اختاره الملك عبدالله بإسرائيل. واختتمت المجموعة بيانها بالتأكيد على الحاجة إلى الحرية والمساواة والديمقراطية كسبيل وحيد للتعامل مع ماوصفته بأنه طوفان ثوري سيصل إلى الأردن عاجلاً أم آجلاً.

على الرغم من ازدياد حدّة الخطاب الشرق أردني المتطرّف تدريجياً، اضطلع كلٌّ من المعلّمين واللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين بدور ثانوي في جهود تعبئة الشارع. وبما أن الحكومة الجديدة وافقت على إنشاء نقابة للمعلّمين، حرصت هيئات المعلّمين على الحفاظ على علاقات ودّية مع الحكومة. فأُدخِل الحباشنة إلى لجنة الحوار الوطني، وكان الملك عبدالله الثاني حريصاً على عقد اجتماعات رفيعة المستوى مع مروحة واسعة من العسكريين المتقاعدين، سُمِح في خلالها للناشطين بالتعبير عن التظلّمات الشعبية بصراحة غير معهودة.

بحلول العام 2011، قُلِّصَت حركة  العسكريين المتقاعدين إلى مجموعة قوامها 30 عضواً (بعد أن كان عدد أعضائها الأصليين 70)، بسبب الانشقاقات واستلحاق الحكومة لبعض أعضائها. كما ابتُلِيَت الحركة بخلافات حول الاستراتيجية، وبمنافسات بين اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين وبين شلّة من الضباط المتقاعدين برتبة لواء. بيد أن الإسلاميين كانوا حلّوا، إلى حدّ كبير، مكانَ العسكريين المتقاعدين وحلفائهم من الضفة الشرقية في التظاهرات الحاشدة في عمان. واقتصر احتجاج الضفة الشرقية، إلى حدّ كبير، على انتفاضاتٍ أصغر حجماً في المناطق النائية من الضفة الشرقية، عُرِفَت بالحراك الأردني.

فقد نُظِّم أكثر من 8000 احتجاج ومسيرة واعتصام بين كانون الثاني/يناير 2011 وآب/أغسطس 2013. لكن الحراك الشرق أردني بغالبيته فشل في توليد قيادة موحّدة أو في الاتفاق على برنامج وطني، آخذاً توجّهه عوضاً عن ذلك من اللجان التنسيقية المحلية، التي تربط في مابينها شبكاتٌ فضفاضةٌ من ناشطين شباب في معظمهم، يعتمدون على وسائل الإعلام الاجتماعي. في بعض الأحيان، استطاع هؤلاء الناشطون أن يثيروا انتفاضات لافتة ضد النظام – بما فيها اعتداء على موكب الملك عبدالله الثاني في الطفيلة، في صيف العام 2012، وأثناء السيل الهائل من الغضب الشعبي عقب رفع أسعار الوقود الذي فرضه صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه – لكن هذه الانتفاضات تلاشت في نهاية المطاف.

إن المجال السياسي المجتمعي المنقسم بين الجماعات في الأردن، وبراعة الملك عبدالله وقوات الأمن في التعاطي مع التظاهرات، والصعوبات العملية لتنظيم احتجاجات كبيرة في مدينة مترامية الأطراف كعمّان، كلّها عوامل جنّبت المملكة الانتفاضات الثورية. فكانت للملك عبدالله حرية اتّخاذ تدابير قمعية أضعفت الحراك، وإجراء إصلاحات تجميلية إلى حدّ كبير قلّصت الاستياء الشعبي.

عبدالله ينجو من موجة الياسمين

استمدّ نظام الرعاية العسكري، الذي كان لايزال يعيل معظم الشرق أردنيين، القوةَ من الدعم الخارجي، واستمر في العمل على مستوياتٍ جعلت الولاء يبدو مُفضّلاً على الثورة، وحَرِصَ على أن يبدو أفقُ التغيير الثوري بمثابة قفزةٍ خطرةٍ نحو المجهول. ومع ذلك، قدّم الملك عبدالله الثاني في حزيران/يونيو 2011 وعداً بالانتقال في نهاية المطاف إلى مَلَكية دستورية.

بيد أن الحافز على الإصلاح سرعان ماتعارض مع رغبة الملك في مزيدٍ من التغيير التدريجي والقيود التي فرضها ذلك على لجنة الحوار الوطني واللجنة المَلَكية لمراجعة الدستور. وقد أفضت توصيات هذه الأخيرة، التي اعتُمِدَت عبر التصويت البرلماني بدلاً من الاستفتاء الشعبي في آب/أغسطس 2011، إلى إنشاء محكمة دستورية ولجنة انتخابية مستقلة، إلا أنها أبقت البُنى الأساسية لحكم الملك عبدالله المُطلق على حالها. وعلى الرغم من رفع الكوتا النسائية في البرلمان، وتخصيص المزيد من المقاعد للنواب المُنتخَبين في قوائم وطنية، رُفِض النظام الانتخابي المختلط، الذي نادت به لجنة الحوار الوطني، لصالح قانون انتخابي لم يرقَ البتة إلى تطلّعات الإصلاحيين.

شجّع تزايد تدفّق الهبات وغيرها من المساعدات الخارجية، الملك عبدالله الثاني على التراجع عن تعهّداته الإصلاحية. هذه المساعدات شملت إعانات ضخمة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ومساعدة اقتصادية وعسكرية أميركية سنوية متواصلة، وإعانات وقروض ميسّرة بمليارات الدولارات من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. بفضل هذه المستويات المتجدّدة من المساعدة الاستراتيجية، بقيت مستويات الريع للفرد الواحد التي وزّعها النظام، أكبر بكثير من المستويات المتاحة في تونس أو مصر (مع أنها أقل ارتفاعاً من نظيراتها في دول مجلس التعاون الخليجي). هذا الأمر أتاح للحكومة إخفاء العجز الكبير في ميزانية الأردن، وتمويل زيادات مرتجلة على رواتب المتقاعدين والموظفين الحكوميين. سياسة المكرمات المَلَكية هذه – بما فيها زيادة كبيرة على معاشات العسكريين المتقاعدين في آذار/مارس 2012 – ساعدت على استلحاق الأعضاء العاديين في حركة العسكريين المتقاعدين، وعزل الأعضاء الأكثر راديكالية في اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين.

لكن في انتظار الانتخابات البرلمانية، كان الملك عبدالله حريصاً على مدّ اليد إلى المتقاعدين العسكريين، وقيادة الحراك، ووطنيي الضفة الشرقية، والمعارضة السياسية من الأحزاب غير الإسلامية. وغداة احتجاجات شعبية كبرى اندلعت في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، رتّب وجهاء من الضفة الشرقية، مثل رجائي المعشر، اجتماعات وجهاً لوجه بين الملك ومنتقديه من الضفة الشرقية. يُقال إن الملك عبدالله أصغى، أثناء هذه الاجتماعات، بطول أناة إلى استنكارات صريحة على غير العادة لسياسات النظام، مُقدِّماً وعوداً مبهمة بإجراء إصلاح لكل حالة على حدة، في موازاة تعهّداته بتأييد العملية الانتخابية علناً والمشاركة في انتخابات كانون الثاني/يناير 2013.

شكّلت الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني/يناير 2013 انتصاراً للنظام، وكارثةً تامة لمعارضة الضفة الشرقية التي برزت منذ العام 2010. وقد بدا بالنسبة إلى داعمي النظام الخارجيين أن نتيجة التصويت – أي بروز برلمان من موالين قبَليين ورجال أعمال أثرياء لهم مصلحة في استقرار النظام – تؤكّد حكمة المقاربة التدرّجية التي اعتمدها الأردن للإصلاح الديمقراطي. ولم تجازف سوى قلّة من العسكريين المتقاعدين البارزين أو حلفائهم بالمشاركة في الانتخابات، أما مَن شارك منهم فافتقر إلى الموارد المالية لدعم حملة برلمانية على الصعيد الوطني، أو إلى النفوذ الاجتماعي للتنافس فعلياً على مقعد محلي.

تفاقمت الأمور بالنسبة إلى الأعضاء الراديكاليين المتبقّين في اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين، لأن الحباشنة سمح لنفسه بأن يوضَع في المرتبة الثانية على قائمة انتخابية يرأسها مرشّح قبَلي. وقد تخلّى هذا الأخير عن حركة العسكريين المتقاعدين حالما ضمَنَ مقعده النيابي. وهكذا، بعد أن ضمَنَ الملك عبدالله الدعم من الداخل، انتقل إلى تطبيق تعديلات دستورية إضافية، وضعت الجيش ودائرة المخابرات العامة بشكل فاعل تحت المراقبة المَلَكية الدائمة، وبعيداً عن اختصاص البرلمان.

خاتمة

بحلول حزيران/يونيو 2015، أصبح الوعد الديمقرطي لربيع الأردن المبكّر ذكرى بعيدة. عندما رُفِعَت راية الهاشميين الحمراء يوم عيد الجيش في 10 حزيران/يونيو، وحلّت محل العلم الوطني الذي ورثه الأردن من سورية الفيصلية، بدا ذلك ترويجاً لالتزام الملك عبدالله الثاني بقومية سُلالية تتنافى، إلى حدّ كبير، مع الوطنية الشرق أردنية الراديكالية، التي كانت برزت إلى الواجهة بين العامَين 2011 و2013.

الواقع أن الحراك الأردني، وعلى الرغم من راديكالية أعضائه، فشل في تطوير ديمومة تنظيمية أو قدرة مؤسسية تتيحان له إيصال مطالبه إلى أبعد من المناطق الشرق أردنية النائية حيث وُلِد. أما تمرّد العسكريين المتقاعدين فتمحور، من ناحيته، حول الصراعات داخل الدولة الأردنية، كما حول سياسات الاحتجاج في الشارع. فتورُّط اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين في المكائد بين النخب، إضافة إلى اعتماد مناصريها الدائم على المكرمات المَلَكية، حالا دون تطوّر اللجنة لتُشكِّل تحدّياً منهجياً شاملاً للوضع الراهن.

بيد أن التركيز حصراً على مكامن ضعف الحراك، أو على الأهداف المحدودة للثورة العسكرية، من شأنه أن يقوّض الآفاق الجديدة التي أتاحتها الاحتجاجات الشعبية مابين العامَين 2010 و2013. لقد سيّس بيان اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين في 1 أيار/مايو، التنافس بين الجماعات الذي اعتمدت عليه المَلَكية لفترة طويلة، فيما حطّم السقف الزجاجي الذي لطالما حمى المَلَكية من الانتقاد الشعبي. أما التأثيرات على السياسات الأردنية فتَعِد بأن تكون طويلة الأمد وبعيدة النطاق. فكما قال الحباشنة عن حقّ: "بالنسبة إلى الأردنيين، كانت المَلَكية قضية مقدسة، ولكنها الآن القضية الرئيسة. فإن لم يتم إجراء أي إصلاح سياسي حقيقي وتغيير اقتصادي، أعتقد أن الناس ستنفجر يوماً ما".

نظراً إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تبقى من دون حلّ في الأردن، والاختلالات المالية الراسخة التي قوّضت باطّراد نظام الرعاية المُعسكَر في البلاد، تبقى الاحتمالات كبيرة بحصول مزيد من الاضطرابات في الضفة الشرقية. لكن يبقى أن نرى ما إذا كان المجال السياسي المتشظّي في الأردن سيتيح التعبئة الجماهيرية، وما إذا كان الحباشنة وزملاؤه المعارضون قادرين على إيجاد الوسائل السياسية – المادية والرمزية على السواء – اللازمة للتعبير عن الاستياء الشعبي في ساحة وطنية لاتزال مفكّكة.

هوامش

1 وردت الفكرة حول مركزية العقد الاجتماعي والسياسي ذي الطابع العسكري في الأردن في: غسان سلامة، "المجتمع والدولة في المشرق العربي" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999)، 157. وتم التطرّق إلى موضوع مماثل منذ بضع سنوات في: .Anne Marie Baylouny, “Militarizing Welfare: Neo-liberalism and Jordanian Policy,” Middle East Journal, vol. 62, no. 2 (Spring 2008): 277–303, http://faculty.nps.edu/ambaylou/Baylouny military welfare.pdf

2 شملت تقديمات أعضاء اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين 700 ألف من العسكريين المتقاعدين وأسرهم (هذه المعلومات مستقاة من محادثة أجراها كاتب هذه الورقة مع سالم العيفة، أمين سر اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين). وتظهر جودة الخدمات المقدّمة إلى العسكريين من واقع أن أكثر من 600 عملية قلب مفتوح تجري سنويّاً في مدينة الحسين الطبية منذ أوائل الثمانينيات. أنظر: ﻋﺎﺩل ﻋﻭﺍﺩ ﺯﻴﺎﺩﺍﺕ، الخدمات الصحية في المملكة الأردنية الهاشمية (جامعة اليرموك، إربد، 1994)، 185.

3 تشير بيلوني في "عسكرة الرعاية الاجتماعية" إلى أن الربط بين واردات الأسلحة والدين العام، ورد في دراسة للبنك الدولي حول أزمة العام 1989. بحلول ذلك الوقت، كان بعض الأشخاص المطلعين الذين كتبوا نسخات عدّة من الملف الأسود حول الفساد في المناصب العليا، قد ذكروا عدداً من الأشخاص المفضلين في القصر الملكي باعتبارهم وسطاء أساسيين في مختلف الصفقات. وأدّى الخلاف الناجم عن إلغاء المملكة المتحدة عملية بيع الأردن مقاتلات تورنيدو في العام 1989، إلى تكوين فكرة حول حجم المبالغ المعنية في الصفقات. ووفقاً لما نقله مارك فيثيان عن أحد المصادر من صحيفة الأوبزرفر في كتابه الذي يحمل عنوان The Politics of British Arm Sales Since 1964 (سياسات مبيعات الأسلحة البريطانية منذ 1964) والصادر عن منشورات جامعة مانشستر في العام 2000: "بلغ السعر الأساسي للتورنادو حوالى 22 مليون جنيه استرليني، فيما بلغ السعر الأردني أكثر من 35 مليون جنيه استرليني" ووُزِّع الفارق "على شكل عمولات خفية إلى الوسطاء والسياسيين".

4 تجدر الإشارة إلى أن حملة "الأردن أولاً" فشلت في إرضاء الفئتين المجتمعيّتين في الأردن، كما "نظر إليها بعض الأردنيين الفلسطينيين على أنها تعني "الفلسطينيون آخراً"، واعتبر بعض الشرق أردنيين أنها تعني "الأردنيون آخراً"":Joseph Massad, “Producing the Palestinian as Other: Jordan and the Palestinians,” in Temps et espaces en Palestine : Flux et résistances identitaires, edited by Roger Heacock (Beirut: Presses de l’Ifpo, 2008), 273–292, http://books.openedition.org/ifpo/499?lang=en.

5 .Roland Dallas, King Hussein: A Life on the Edge (London: Profile Books, 1999), 260

6 شُرحَت فكرة الانتقال إلى مؤسسة أمنية أكثر اتساقاً من خلال تخفيض حجم الجيش بمقدار الثلث في: Alexander Bligh, “The Jordanian Army: Between Domestic and External Challenges,” Middle East Review of International Affairs, vol. 5, no. 2 (Summer 2001): 13–20, http://www.rubincenter.org/meria/2001/06/bligh.pdf. للمزيد من التفاصيل حول انخراط الأردن في عمليات حفظ السلام والحروب غير المتكافئة، أنظر: Anthony Cordesman, Arab-Israeli Military Forces in an Era of Asymmetric Wars (Westport: Praeger Security International, 2006), 225–230, http://csis.org/publication/arab-israeli-military-forces-era-asymmetric-wars.

7 يعبّر نمط الأناشيد بشكل جميل عن معضلة الشرق أردنيين الموالين للمَلَكية: فمشجّعو نادي الوحدات أنشدوا قائلين: "أم حسين جيبي أولاد، خلينا نحكم هالبلاد". وكان الردّ الممكن الوحيد عليهم من قبل مشجّعي نادي الفيصلي: "طلّقها ومنجوزك اثنتين منّا".

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.