انخراط المجتمع في إصلاح التعليم العربي: من التعليم إلى التعلُّم
ناثان ج. براون ومروان المعشّر
المؤلفون المساهمون
مقدّمة
يتعيّن على النظم التعليمية العربية أن تلبّي احتياجات مجتمعات متعدّدة الأطياف، وترقية مواطنين مسؤولين قادرين على التعامل مع التعقيدات وتعزيز تغيير البناء. فالنظم الحالية تركّز على المؤشرات الكمية أكثر من النوعية، وتفشل بالتالي في تحقيق هذا الهدف. ويؤدي ذلك إلى انتقادات حادّة. وقد أوضح تقرير التنمية الإنسانية العربية 2016، بمنتهى البساطة والصراحة: "عموماً، نوعية التعليم رديئة".1
تشير عشرات من التقارير الدولية إلى الرابط بين القصور في نظم التدريس من جهة، والبطالة ونقص الاستعداد لمواجهة التحديات الاقتصادية الوشيكة من جهة أخرى. بيد أن هذا الفهم للمشكلة، الذي يتركّز على الكيفية التي يتعيّن فيها على المدارس أن تهيئ الطلاب لمواجهة الوضع الاقتصادي يتسم، على الرغم من دقّته، بضيق الأفق. فالإصلاح لا ينبغي أن يركّز على المدارس وحسب، بل على الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع التعليم. فالأمر لايتعلق فقط بالتقدّم الاقتصادي وموقع العمل، مع أنهما مهمّان، بل كذلك بالاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي.
غير أن الفهم الأوسع لأبعاد المشكلة لايثير اليأس. إذ من شأن مقاربة كليّة شاملة للإصلاح أن تشير إلى مقترحات مبتكرة وبنّاءة وحافلة بالأمل. فلا ينبغي أن يقتصر الإصلاح على طرح سلسلة من التغيرات المحددة في المناهج الدراسية القائمة لتلبية احتياجات سوق العمل اليوم. بل لابد من أن يكون التركيز، بدلاً من ذلك، على بذل الجهد لدفع المجتمع، على جميع الأصعدة (من القيادة السياسية، والموظفين العموميين، والمدرّسين، والطلاب، والأهل، والمجتمع المحلي) إلى بلورة الرؤى حول التعليم في مجتمعاتهم. ويجب أن تقوم هذه الرؤى بدرجة أقل على المواد التي يجب تعليمها في المدارس، وبصورة أكبر على كيفية تطوير عملية تعليمية تدمج مايجري في الصف وخارجه، وفي موقع العمل، وفي وقت الفراغ، ولفترة طويلة بعد التخرج.
سيؤدي الإخفاق في التحرّك من التركيز الضيق على التعليم إلى عملية تعليمية أوسع نطاقا تغطي جوانب المجتمع كافة، إلى ظهور أجيال من المواطنين غير المنتجين. والتركيز على القسم الأول من هذه العبارة (أي التأكيد على مساهمة الاقتصاد في التعليم) مع إهمال القسم الثاني (أي التشديد على المواطنة أو مساهمات التعليم المجتمعية العريضة) إنما يدعو في آن إلى القلق، أخلاقياً، ولوإلى الإحباط الذاتي في نهاية المطاف.
وحتى عندما يؤخذ في الاعتبار الهدف بالغ الضيق المتمثّل في تلقين المعرفة المتعلقة بالمواد الضرورية للمشاركة في القوى العاملة اليوم، من الواضح أن أداء تلك النظم، في أغلبها، غير ملائم. فالمشاكل الكبرى في جميع أرجاء المنطقة لازالت تتمثّل في البطالة في أوساط الشباب، وما يتمخض عن ذلك من إحساس بالاغتراب. صحيح أن ثمة جوانب مشرقة في هذه الصورة، غير أن نوعية التعليم تتفاوت بصورة كبيرة إلى حد يزيد من عمق اللامساواة بدلاً من تذليلها. كما أن المدرّسين لايتلقون إلا القليل مما يحتاجون إليه من دعم وتدريب مستمرّين. والضغوط المفروضة علي القوى العاملة والعوامل الاقتصادية -وهي يمكن تفهمها - لا يمكن أن تخفي أن تلك النظم التعليمية تهمل إهمالاً تامّاً جوانب النمو الأخرى المرتبطة بالتعلّم التشاركي، والتمكين الفردي، وبصفة خاصة المشاركة الاجتماعية والمواطنة النشطة (بما في ذلك المنظومة القيمية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان).
ستقصّر الحلول التكنوقراطية كل التقصير عن مواجهة هذه التحديات عميقة الغور. وفس وسع خبراء التربية والتعليم أن يحدّدوا المشاكل الواضحة بالاستعانة بالخبرات الإقليمية والدولية. ويساعد ذلك في التشخيص، غير أنه لايشير إلى حلول سهلة. فكثيراً ماتبرز الحاجة إلى استقصاء مجالات تربوية في نواح لاينفع فيها النسخ الميكانيكي للمناهج والمواد الدراسية من مناطق أخرى. قد لاتكون هناك فيزياء أو كيمياء عراقية (وحتى في موضوعات من هذا النوع، فإن الاستنساخ البسيط للمادة التي أُنتجت في مجتمعات أخرى لايكون عظيم الفائدة في مجال التعليم)، ولكن ثمة تواريخ، ومجتمعات، وثقافات عراقية. ولابد للتوصيات الإصلاحية أن تجمع بين الخطوط الإرشادية والطروح والمقترحات الخاصة بمبادرات محددة قد تتنوّع تفاصيلها حتى في المنطقة الواحدة.ويقتضي الإنصاف التنويه بأن البلدان العربية حقّقت نجاحات حقيقية في بلورة نظم تعليمية شملت أغلب الجوانب في تلك المجتمعات. لكنها فعلت ذلك وفقاً لتعاقد ضمني تقدّم بموجبه الدولة خدمات معيّنة مقابل الطاعة والاستكانة. ويمكن أن يكون ذلك مبرّراً للدفاع عن المدارس القائمة لأكثر من سبب، لكن فقط عبر الاستشهاد بالجانب الكمّي لا النوعي في سيرورة التعلُّم. في أكثر البلدان، اتّسع نطاق التربية والتعليم إلى خارج المدن ليشمل القرى، والمناطق الريفية، ومخيمات اللاجئين؛ كما انتشرت مهارات القراءة والكتابة الأساسية لدى أغلبية السكان (ما رفع معدلاتها في أوساط الشباب إلى ما يزيد على 90 في المئة في أغلب البلدان العربية، كما ردمت إلى حد بعيد الفجوة الجنوسية في هذه الناحية).2 والآن، يتخرّج ملايين الطلاب الجامعيين سنوياً بمهارات متنوعة أهّلتهم لشغل مناصب في مختلف الأجهزة الإدارية البيروقراطية، والمهنية، والأنشطة الأخرى. كما أن الفجوة بين الجنسين آخذة بالتناقص في المراحل التي تتجاوز القضاء على الأمية الأساسية. وفي أكثر هذه البلدان، تتجاوز أعداد الطالبات أعداد الطلّاب في متابعة التحصيل الجامعي.3
ولايزال كثير من النظم المدرسية بواصل إنتاج أعداد ضخمة من الخريجين، حتى عندما تعمل في بيئات مالية وسياسية بالغة الصعوبة. ولا تعود هذه الصعوبة في بعض الدول إلى محدودية الموارد وحسب، بل كذلك لأن أنظمة الحكم القائمة أخفقت في إعطاء الأولوية للتعليم، أو أنها تعاني مشاكل كبيرة في مجال الحوكمة تلحق الضرر بقطاعات أخرى، منها التعليم. بيد أن المشكلة ليست مالية أو سياسية فقط. فالمسؤولون في حكومات الدول الأكثر عراقة وثراء ممن استثمروا الكثير في ميدان التربية والتعليم (وخصّص بعضهم خمس الميزانية العامة لهذا الغرض) يشعرون بالإحباط إزاء النتائج غير المواتية.4إن النظم التربوية العربية لا تشجّع (بل إنها لم تُصمَّم لتشجّع) روح المواطنة الديمقراطية التشاركية في جوانبها كافة. وهي، بدلاً من ذلك، تركّز على التعلم بصفة عامة، ويشدّد أكثرها بصورة أضيق على اكتساب مادة معرفية محددة ومتفق عليها. وتُصمَّم النظم المدرسية لاستخدام مادة أكاديمية محددة. ونتيجةً لذلك، يشجَّع المدرسون على تعليم مهارات إدراكية متدنية (تقوم على التذكّر والاستيعاب) على حساب المهارات الأكثر رقيّاً (في مجالات التطبيق، والتحليل، والتوليف، والتقويم، والتفكير النقدي). ومن ثم تنتج تلك النظم خرّيجين يحملون المؤهلات، لكنهم لايمتلكون منظومة المهارات الضرورية للتصدي للتحديات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تواجه المجتمعات العربية، أو حتى لتلبية احتياجات موقع العمل، وهي الهدف المعلن لكثير من الجهود الإصلاحية الأخيرة.
وواقع الأمر أنه على الرغم من البنية التحتية المدرسية التي أقيمت في البلدان العربية، فإن عملية تعلّم الطلاب بمجموعها، مُخيّبة للآمال، على الصعيد الوطني والدولي على حد سواء (انظر المقابلة مع هيشور لمعرفة المعايير النوعية للنظم التربوية العربية.)
مقابلة
كيف نقيّم التعليم العربي؟
ما أفضل المقاييس لفهم مستوى أداء النظم التعليمية العربية؟
يتمثّل المقياس الأكثر موثوقية لتحديد مستوى أداء النظم التعليمية والتربوية العربية في "البرنامج الدولي لتقييم الطلبة" (بيزا-PISA)، و"الاتجاهات في الدراسة الدولية في الرياضيات والعلوم" (تيمسْ-TIMSS)، و"الدراسة الدولية لقياس مدى تقدّم القراءة" (بيرْلز-PIRLS). وحيث إن كلّاً من هذه المقاييس قد يتعرّض للنقد، فمن الأفضل أن ننظر في أدوات عدة للقياس. لقد غدت تلك التقييمات هي المعايير التي تمكننا من قياس مُخرجات التعليم في الدول المشاركة. وهذه الاختبارات لاتقيس كل ما يتضمنه أي نظام تعليمي، بما في ذلك الإعلاء من شأن المواطَنة، وتنمية المنظومة المناقبية الأخلاقية، والقيادة، والعزم، والمسؤولية وما إلى ذلك؛ لكن الاختبارات الدولية، في ما يتعلق بالمجالات التي تقوم بتقييمها، قد أثبتت أنها وسائل سليمة جدا للقياس. كما أن المشاركة في هذه التقييمات هي، بحد ذاتها، دليل على استعداد المسؤولين عن هذه النظم للخضوع إلى المساءلة.
في الاستخدامات الأخيرة لمقياس بيرلز، الذي يقيس المهارات القرائية عند تلاميذ الصف الرابع، تبيّن أنه في كثير من البلدان التي حققت مستوى الأداء الأعلى - وفي مقدّمتها فنلندا، وإيرلندا، وروسيا وسنغافورة – ثمة أعداد مرتفعة من التلاميذ الذين يسجلون أعلى مستويات الأداء، بينما لم تصل أعداد مفزعة من التلاميذ في بعض البلدان العربية إلى المستويات الدنيا الأساسية.1 وفي هذه الحالة، لن تستطيع المنطقة العربية أن تحقق النجاح في المستقبل ما لم تستطع نسبة كبيرة من التلاميذ تأدية مهمات بدائية بسيطة.
لا يختلف عن ذلك مستوى أداء التلاميذ في المنطقة العربية في اختبارَيْ بيزا وتيمسْ – اللذين يختبران مستوى المعرفة والمهارات لدى التلاميذ الذين يبلغون الخامسة عشرة من العمر، وإنجازات الرياضيات والعلوم لدى التلاميذ في الصف الرابع، والثامن، والثاني عشر، على التوالي. اللافت هنا أن البنات يتفوقن في أدائهن على الأولاد في بعض هذه الاختبارات. وفي اختبار بيرلز لعام 2016، وخلافاً للصورة النمطية الشائعة، تظهر المملكة العربية السعودية الفجوة الجندرية الأعلى لصالح البنات في هذا المجال.
إذا وضعنا نتائج الاختبارات جانباً، لايسعنا إلا الإشادة بالقرار الذي اتخذته بعض البلدان العربية - مثل الامارات العربية المتحدة، ومصر، والمغرب، والأردن، والمملكة العربية السعودية، والكويت، وقطر، والجزائر، وتونس، ولبنان، والبحرين وعُمان- بالمشاركة في الاختبارات الدولية، لأن إعلان الدولة عن مستوى قدرات التلاميذ فيها أمام العالم، يتطلّب الكثير من الشجاعة السياسية.
هل تكمن المشكلة في الافتقار إلى الموارد؟
تتفاوت الدول في نسبة تمويلها للتعليم، إذ ينفق بعضها ما يقارب 25 في المئة من ميزانياتها الوطنية للتعليم، بينما تسهم بلدان أخرى بنسب أقل من ذلك بكثير. إلا أن التفاوت بين الاستثمار العام في قطاع التعليم ومخرجات التعلّم التي يحقّقها التلاميذ يشوبها الالتباس والارتباك.
وفقا للمقاييس المطلقة، تبدو بعض ميزانيات التعليم ضخمة جدا؛ لكن إذا قمنا بتحليل هذه الميزانيات على أساس مخصصات البنود الواردة فيها، فإننا نجد أن حصة الأسد من الميزانية تذهب إلى دفع مرتبات المدرّسين والموظفين الآخرين. ولايبقى من تلك الميزانيات إلا جانب يسير للاستثمار في التطوير المهني، وتزويد المدرّسين والتلاميذ بالتكنولوجيا الحديثة، وإقامة المختبرات العلمية أو تحسين البيئة المادية للمدارس. وبالطبع، يفضّل تخصيص المزيد من الموارد للاستثمار الرأسمالي، غير أن الحل الأبرع قد يكون في استخدام الموارد المتاحة بصورة أكثر كفاءة، في المدى القصير على الأقل. وينبغي أن يكون المدرّسون في قلب هذه العملية.
هل لك بمزيد من التفصيل حول هذا التشخيص؟ وما هي في تقديرك الأسباب الكامنة وراء الأداء السيئ؟
ثمة سببان يؤثران تأثيراً سلبياً على أداء نظم التعليم في المنطقة. يعود الأول إلى مكانة مهنة التعليم نفسها؛ فيما يعود السبب الثاني إلى الحوكمة الكلية لنظام التعليم.
في البلدان ذات المستويات العليا من الأداء، يمثّل التعليم مهنة عالية المقام والقيمة، ويتنافس خريجو المدارس في ما بينهم لدخول كليات التربية، ويمضون فترة طويلة وشاقة من الاستعداد في إعداد المواد وفي تعلّم أصول التدريس، ويتلقون تدريباً مهنياً ودعماً مكثفاً داخل المدارس وخارجها طيلة حياتهم العملية. لكن في كثير من الأقطار العربية، لاتتمتّع مهنة التدريس بتقدير عالٍ: مالياً من حيث الدخل، أو اجتماعياً أو مهنياً. نتيجة لذلك، فإن هذه المهنة لاتجتذب المواهب الأفضل التي يحتاجها النظام التعليمي.
أما من حيث الحوكمة، فإن عنصر المساءلة من ناحية الأداء ضعيف على جميع المستويات في النظم التعليمية في كثير من الدول العربية. ويتعيّن على المنطقة أن تستحدث أساليب أكثر كفاءة مما هو قائم حالياً لإخضاع المدرّسين، وكذلك المدرسة وإدارة النظام، إلى المساءلة عن أداء التلاميذ. لكن بوادر التغيير قد بدأت بالظهور في المنطقة، فقد أقامت بعض الدول للتقييم هيئات مستقلة تقدّم تقاريرها مباشرة إلى رئيس الدولة لتطوير جانب المساءلة والمحاسبة في النظام التربوي. ومن أبرز الأمثلة على هذه المؤسسات هيئة تقويم التعليم في المملكة العربية السعودية والهيئة الوطنية للتقييم في المغرب.
هوامش
1 TIMSS and PIRLS, “Exhibit 1.1: Distribution of Reading Achievement,” IEA and Boston College, 2016, http://timssandpirls.bc.edu/pirls2016/international-results/wp-content/uploads/structure/PIRLS/1.-student-achievement/1_1_pirls-achievement-results.pdf.
بل إن إنجازات الماضي الإيجابية غدت الآن عرضة إلى الخطر في البيئة الإقليمية الحافلة بالاضطراب والعنف، والمكتظة بجحافل اللاجئين، والدول التي أصاب بعضها التآكل في بعض المواضع، وبالضغوط المالية في مواضع أخرى. ووصل الأمر ببعض أنظمة الحكم إلى اعتبار نسبة الشباب السكانية المتعاظمة في جميع أرجاء المنطقة مصدراً للخطر أكثر منه جسراً إلى مستقبل أفضل. وحتى في تلك المجتمعات التي لم يمسّها الفوران السياسي الذي انتشر في السنوات الأخيرة، يشعر كبار المسؤولين في وزارات التربية والتعليم بأنهم يسيرون فوق الماء في أحسن الحالات؛ إذ يُطلب من المدرّسين أن يعلّموا الطلاب في مجتمع ينكر عليهم ما يستحقونه من الاحترام، والمكانة، وفرص التطور المهني. والكثير من أنشطة التعلّم المجزية التي تبرز خارج إطار النظام المدرسي- والتي تُعتبر على نطاق واسع، عنصراً حاسماً في أي نظام تربوي – لاتحظى بمتابعة ملائمة ومن الصعب تعميمها في العالم العربي.
بالطبع، تُبذَل جهود الآن لإصلاح التعليم في أرجاء المنطقة، وثمة تجارب إيجابية وخبرات مبتكرة ينبغي أن تحظى بالاهتمام اللازم. غير أن أغلب المصلحين يشكون من أن الترتيبات البيروقراطية المتزمتة، والمقاربات التنظيمية التسلطية واسعة النطاق الصادرة في أغلب الأحيان من القمة إلى القاعدة إنما تفضي بهم إلى طريق مسدود. وفي أغلب الأحيان، فشلت جهود الماضي، بما تنطوي عليه من النوايا الحسنة، في متابعة مراحل التنفيذ المعقدة: فقد أهملت هموم أصحاب المصالح المعنيين وأصواتهم وأولوياتهم؛ ولم تكن لديها الرؤية الاستراتيجية؛ وانقطعت صلتها مع أي إطار واضح المعالم لأساليب التعليم السليمة. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من هذه المبادرات قد بدأتها وساندتها الوكالات الدولية والدول المانحة، وساد الاعتقاد بأن ما يسيّرها ويوجهها هو الأجندات الاقتصادية والاجتماعية وليس الرؤى المحلية.
على الرغم من هذه الضغوط، ثمة أطراف أحدثت تغيرات إيجابية داخل النظم القائمة ومنها: المربّون الذين يولون اهتماماً عميقاً بأعمالهم، والمسؤولون الذين يتوصلون إلى حلول مبتكرة، والطلاب من ذوي الخيال والطموح. ويمكن أن ييسّر ذلك مهمة تحديد التجارب التي تبشّر بالخير واقتراح السبل والوسائل الكفيلة بتفعيلها في أرجاء المنطقة وفي النظم التعليمية على حد سواء.
في هذه الورقة البحثية، سنستعرض مجالات الإصلاح وإمكاناته، بدءاً من المدارس نفسها، ومروراً بالأطر الرسمية التي تعمل فيها، وانتهاءً بالتأكيد على المجتمع برمّته. 5
المدرسة: إشراك المدرّسين والتلاميذ
تمثّل المدارس المحور الرئيس الذي تدور حوله النقاشات الخاصة بمنظومة القيم، والدين، والهوية، والنوع الاجتماعي، والعِرْق، لذا عاملتها الدول بوصفها مجالات ينبغي أن تمارس سلطاتها عليها. وهي تفعل ذلك من خلال المراقبة المشدّدة لمضمون المناهج. ويفضي ذلك إلى نوعين من المخاطر: الأول هو أن نظم المدارس ستكون مركزية إلى حد كبير، وبالتالي معزولة عن أصحاب المصالح الأساسيين وآليات المساءلة والمحاسبة أمام المجتمع. أما الثاني فهو أن التعليم سيقوم على أساس فهم مخطئ للكيفية التي يتعلّم بها التلاميذ.
في أغلب البلدان العربية، يقرّر كبار المسؤولين والهيئات في الدولة منظومة سلطوية من الحقائق، وهوية وطنية/أو دينية مرَّمزة. وتقوم الإدارة البيروقراطية التربوية بترجمة هذه المقررات السلطوية في صلب المنهج الدراسي. وينقل المدرسون ذلك إلى التلاميذ الذين يجري امتحانهم بعدها لتقدير مدى استيعابهم لها. على سبيل المثال، "التربية الوطنية" من المواضيع المقررة في كل من مصر، والأردن، وفلسطين، وتعتمد النصوص على نسخة رسمية وحيدة في مجالي التاريخ والسياسة. 6 بيد أن الأمر لايعود فقط إلى الرغبة في تحقيق الاستقرار والانضباط، اللذين يؤديان إلى المركزية، إذ إن المقاربات التي تعتمد على إصدار التعليمات من القمة إلى القاعدة تنطلق أيضاً من الرغبة في إصلاح التعليم لتلبية احتياجات اقتصاد مُعولم. ويبالتالي ركّز المسؤولون على مضمون التعليم ليضمنوا الانسجام والانضباط، مايجعل النزعة المركزية تتجلّى حتى في الجهود الإصلاحية.
كانت النتيجة في أغلب الأحيان شعور المربين والمتعلمين على السواء بأن الخيار الوحيد أمامهم هو إما التقليد الأعمى أو الرفض القاطع للأفكار "الغريبة". وفي كلتا الحالتين، يواصل النظام التعليمي تخريج عدد كبير من المواطنين غير المتجاوبين، والمتمردين الغاضبين المهيّئين لقبول الأفكار الهدّامة، والمهاجرين المحتملين التواقين إلى ترك مجتمعاتهم وراءهم. وثمة كثيرون ممن يحاولون تبني نسخة مثالية ﻟِ"الآخر" (ترتبط بالتفوّق الأخلاقي والتكنولوجي) بدلاً من أن يساهموا في تنمية مجتمعاتهم.
مثل هذه المقاربات لاتخفق في تحقيق النتائج المتوخاة منها في المدى القصير وحسب؛ بل تمنع المدارس والمدرّسين كذلك من مساعدة التلاميذ على تنمية المهارات التي تمكّنهم من التعلّم خارج المدرسة وبعد التخرج بفترة طويلة. ويجب أن يكون مواطنو اليوم والمستقبل قادرين على التعامل مع الاختلافات ويتفاعلون في ما بينهم بصورة بناءة. إلا أن النظم الحالية، القائمة على تلقين المعرفة المعتمدة رسمياً، تحول دون تحقيق هذا الهدف.
إضافةً إلى ذلك، قد تفضي هذه المقاربات إلى نتائج مُلتبسة، عندما تقدّم للتلاميذ رؤية أبوية للحياة العائلية في مجال ما، وصورة مساواتية في مجال آخر- من دون الأدوات اللازمة لاكتناه الفروق أو لتبيّن الطرق التي سيسلكونها في مجتمع بدأت تتداعى فيه كثير من أركان السلطة الماضية. كما أن المناهج الدراسية غالباً ماتتحاشى الخوض في قضايا مهمة، بما فيها التوترات في المجتمع المحلي، والخلافات الدينية، والتفرقة والتفاوت بين الجنسين (ولاسيما في أوساط الفقراء)، وجملة من المشاكل الاجتماعية الأخرى المتأصلة التي تعتبر حساسة جدا في المدارس.
حدث خلال العقود الثلاثة أو الأربعة السالفة تطوران كبيران في السياق العالمي لفهم قضايا التربية، وكان لكل منهما دلالات تساعد في إصلاح التعليم في العالم العربي، بما في ذلك أساليب التدريس، والمناهج، والتقويم.
التطور الأول هو أن الخبراء بدأوا بفهم التعليم بصورة مختلفة- بوصفه أمراً ينبع من سياق اجتماعي، ويحدث فيه، وليس كعملية بسيطة لنقل كمية من المعارف إلى التلاميذ. فليست "المعارف" مجرد حزمة من الحقائق، بل هي شيء ينتجه أعضاء مجتمع ما جماعياً ويتناقشون فيه، ولابد من اعتبار التلاميذ مُمتهِنين [يتلقون أصول الصنعة عن صانع متمرس]- يجري إرشادهم ليغدوا أعضاء مشاركين على نحو كامل في مجتمعاتهم، لا كأوعية تستقبل مايوضع فيها، أي تغيّرت النظرة إلى التعليم باعتباره مجرد "اكتساب للمعرفة"، إلى استعارة مجازية تعتبر التعليم مشاركة تركز على الطبيعة التفاعلية الاجتماعية للتربية السليمة، لا مجرد نقل للمعلومات.
أما التطور الثاني فهو تحوّل أهداف التربية من التركيز على حفظ المعرفة وتذكّرها، إلى مساعدة التلاميذ على التفكير والقراءة النقدية، والتعبير عن أنفسهم بوضوح وإقناع، وحل المشاكل المعقّدة في مجالات العلوم، والرياضيات والميادين الأخرى.
هذه التغيّرات ليست فلسفية فقط: ذلك أن ثمة فهماً أفضل الآن لما تنطوي عليه قدرة الناس على حل المشاكل، وكيفية تمكين التلاميذ من استخدام ما يتعلمونه في سياقات جديدة، وكيفية تأثير المعايير الثقافية والاجتماعية في التعلّم، وتفاعل معارف التلاميذ وقدراتهم القَبْلية مع التعلّم، وكيفية استخدام التكنولوجيا لتوجيه التعلّم وتعزيزه.
في كثير من الدول، أسهمت في هذه التطورات متطلبات مواقع العمل الجديدة والمشاركة النشطة في مجتمع ديمقراطي. ويقوم ذلك على فهم جديد لموقع العمل. فالمقاربات القديمة تعتبره الموقع التي تبرز فيه الحاجة إلى أيدٍ عاملة ذات مؤهلات مُحدّدة. وأدى ذلك إلى التركيز بصورة خاصة على الرياضيات، والتكنولوجيا، والعلم- وذلك أمر مقبول بالتأكيد، لكنه يُفهَم لسوء الحظ باعتباره موضوعات تقنية ينبغي التمكّن منها، لا طرائق للتفكير يجب شحذها وصقلها.
إن التنامي السريع للمعارف يتطلب من خريجي المدارس، على العموم، القدرة على الوصول إلى المعلومات واستخدامها لا تذكّرها وحسب. ويعني ذلك أن ثمة حاجة تدعو الخرّيجين الآن إلى أن يكونوا متعلّمين مستقلّين طيلة العمر. وعلى هذا الأساس، النظم التعليمية الأنسب هي التي يرشد فيها المدرسون التلاميذ إلى التصدي للمشاكل بروح بناءة بوصفهم مشاركين، ومواطنين، ومتعلمين طيلة العمر- وعلى الأخص في ما يتعلق بتهيئتهم للعمل في مجتمعات تتميّز بالاختلاف حول القيم.
هناك أثر آخر لاصلة له بالموضوع للتأكيد على المواضيع الفنية التقنية. فقد ترتب على ذلك صرف الانتباه عن العلوم الاجتماعية والإنسانيات، بل الانتقاص من قيمتها، مع أنها هي التي تُناقش فيها مباشرة القضايا الجوهرية المتعلقة بالهوية، والمواطنة، والتعددية. (انظر المقابلة مع كرامي-عكاري للحصول على وصف تفصيلي لمشروع "تمام"، وهو مبادرة إصلاحية محددة؛ وكذلك المقابلة مع الخضرا حول الحاجة لتعليم الإنسانيات بصورة أوسع). ومع تضاؤل التركيز على مثل هذه المواضيع، في المنهاج المدرسي، تقل المصادر المتوفّرة لدى المربين، فيضطرون (عن طريق نظام الامتحانات في الغالب) إلى التعليم عن طريق الحفظ عن ظهر قلب.
وغالباً ماتنبع هاتان المشكلتان معاً، وهما اعتبار العلوم والرياضيات منظومة من المعلومات التي يتوجب نقلها إلى التلاميذ، وإهمال المواضيع الأخرى، من مصدر مشترك واحد هو محاولة عن حسن نية لمواكبة المعاصرة، إلا أن التأكيد المخطئ على ما تعنيه الوقائع المعاصرة يستحق بعض الانتباه.
مقابلة
المواطنة البناءة والتطوير المستند إلى المدرسة
انخرطتِ في مشروع بحثي تنموي يسمى "تمام" الذي يتألف اسمه من الأحرف الأولى من "التطوير المستند إلى المدرسة". هل لك أن تحدثينا عنه؟
بناءً على الأبحاث التي أجريت في نطاق مشروع "تمام"، يتفق كثير من المربين العرب على جميع المستويات في النظام على أن الملامح الشخصية للخريج ينبغي أن تتمحور حول المواطَنة البناءة – وعلى أن تحقيق هذه الشخصية يتطلّب من الطالب أو التلميذ أن يكون قائداً وأداة للتغيير؛ أي متفكراً ومتعلماً مستمراً، ومفكراً نقدياً مبتكراً؛ وداعية لتحمل المسؤولية الأخلاقية الاجتماعية. ويبدأ تنمية هذه القدرات، على مستوى المدرسة، بتصميم تجارب تعلّمية شاملة تستهدف تنمية قدرات الطفل المعرفية، والعاطفية، والاجتماعية والأخلاقية. هذه القدرات تمكّنه/ تمكّنها ليس فقط من ممارسة عضويته في مجتمعه المحلي وحسب، بل تمكّنه/تمكّنها كذلك من قيادة التحوّل وتوجيهه إلى بلورة مجتمع متسامح، ومنصف وعادل.
لا يمكن تحقيق هذه الأهداف في ظل النظم التعليمية العربية الراهنة. فهي تتطلّب نسقاً بيئياً تعليمياً يدعم تحويل المدارس إلى مجتمعات تعليمية اجتماعية – ثقافية، ضمن ترتيبات بنيوية مرنة ومتأقلمة تمكّن من تنمية القدرات القيادية والتعلّم التحويلي المستدام بين أعضائها. وينبغي أن يكون ما يميّز هذه المدارس هو الشراكة الفعّالة مع الأهل، وبالقدر نفسه، مع أعضاء المجتمعات المحلية الأوسع نطاقاً، بما فيها المنظمات غير الحكومية ومؤسسات التعليم العليا. ولابد لهذه الشراكات أن تيسّر تفعيل الجهود المتضافرة التي تركز على رسم الاستراتيجيات التي تلبي احتياجات الطلاب الناشئة، وتساندهم في رحلتهم التعليمية، وتعزّز التعلّم في المؤسسة التعليمية على كل المستويات وعلى جميع الصعد. وفي النسق البيئي ذاك، يصبح التعلّم عنصراً محورياً لا بوصفه نتيجة نهائية وحسب، بل باعتباره كذلك سيرورة يُشارك فيها المجتمع برمته.
وكيف نسعى إلى تحقيق هذا الإصلاح؟
إن العمل لتحقيق هذا الوضع المثالي يبدأ على مستوى المدرسة (وليس من خلال عملية إصلاحية ضخمة للمناهج). فهو يبدأ ببناء قدرة المدرسة على تحقيق التحسن المستدام عبر استغلال الطاقات المتوافرة وحماسة الأعضاء في مجتمع المدرسة المحلي. إن استراتيجية مشروع "تمام" تتضمّن دعوة المدرسة إلى تشكيل فرق قيادية – لكل من المربين، ولأعضاء المجتمع (بتمثيل قوي من جانب الأهل) والطلاب. ويعتبر فريق القيادة الطلابية هنا تجربة تعليمية تجريبية في مجال المواطَنة، وفي الوقت نفسه منتدى يضمن أن صوت هؤلاء الطلاب سيكون جزءاً لا يتجزأ من مبادرة التحسين المستند إلى المدرسة.
الخطوة الأولى هنا هي الاختيار الواعي لأعضاء كل فريق، الأمر الذي يتضمن السعي إلى دعوة أعضاء ذو كفاءة عالية أو استعداد ظاهر للتعلّم والتطوّر المهني، وذوو حماس عالٍ والتزام لإحداث التغيير وتحمّل المسؤولية الاجتماعية. ويعمل أعضاء الفريق بصورة تعاونية وفق مبادئ مهنية مشتركة ومركّزين على هموم وتطلعات مشتركة. أما الخطوة الثانية، فتتألف من الشروع بسيرورة للتحسين ترتكز على تقييم شامل للاحتياجات وإجماع على ما يمثل أولويات عاجلة يتوجب التصدي لها. وخلال كل مراحل العمل يظلّ التركيز منصبّاً دائماً على الأهداف النهائية، وهي تعزيز التعلم وتشكيل شخصية الخريج المنشودة.
وحالما يتم تحديد الأهداف المتوخاة من التطوير، يتلقى أعضاء الفريق تدريباً مهنياً تفاعلياً مستمراً في موقع العمل في مجال الاستقصاء والتفكير التأملي النقدي واتخاذ القرارات التي تستند إلى الدلائل. كما يتعلّمون أصول التدريس والمهارات المطلوبة لتنفيذ تدخّلاتهم المبتكرة؛ وكيفية التخطيط والمراقبة، والتقييم لمبادرات التطوير والتحسين، وكيفية المضي قدماً لإحداث التغيير وسط العثرات التي يزخر بها السياق التنظيمي التعليمي فيما يجري تنفيذ هذه المبادرات. وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم يتعلمون كيفية تقييم التأثيرات التي تخلفها تلك المبادرات، من خلال الفحص النقدي المشدد لجودة تصاميمها وفعّاليتها في تحقيق أهدافها، وأيضا من خلال اختبار آثارها.
بناء على ما تقدم، يقوم أعضاء الفرق، بما اكتسبوه من مهارات القيادة، بالمشاركة في تقديم المقترحات والمطالبة بالتغييرات البنيوية التي ستساعد على مأسَسَة الإجراءات التي ثبتت فعّاليتها في مبادراتهم. وفي نهاية كل دورة (أي عند اكتمال كل خطوة تطويرية)، تزيد المدرسة من قدرتها على التحسن المستدام من خلال إشاعة الروح القيادية بدلاً من تركيز السلطة في قمة الهرم الوظيفي؛ وتمكين المدرّسين من أن يكونوا قياديين للتغيير؛ وإقامة سيرورة من الفحص الذاتي والتجديد؛ وتنشئة فريق قيادي حقق النجاح واكتسب وأظهر المهارات المطلوبة ليكونوا قدوة تُحتذى في مجال المواطنة البناءة. أما الطلاب الذين أسهموا في المشروع كجزء من فريق قيادي، فسيكتسبون الخبرة في إحداث التغيير، كما أن أولئك الذين ظلوا في مقاعد المراقبين، ستتاح لهم الفرصة ليجربوا معنى العضوية في جماعات التعلّم تلك. وستتيح هذه التجربة الفرصة للطلاب كي يصبحوا مواطنين ملتزمين ومشاركين داخل المجتمعات المحلية التي تعمل فيها المدرسة، ويتمتعون بالقدرة ويراودهم الأمل في أن يصبحوا ذات يوم قادة قادرين على المساهمة في تحويل مجتمعاتهم.
لقد ركّز الإصلاح في العالم العربي في الماضي على مضمون المناهج، وذلك أمر مهم بالفعل، لكن هذه ليست القضية الوحيدة. فالأساس هو "كيفية" تعليم هذه المواضيع (أي أسلوب التعليم/ البيداغوجيا)، والشخص الذي يتولّى تدريسها (المدرّس)، وهذا ما يؤثّر كثيراً على ما يجري تعلُّمه. والواقع أن ذلك هو بالتحديد العنصر الذي يوحّد جميع أجزاء النظام التعليمي على امتداد حزمة الموضوعات الأكاديمية التي تترواح بين الأدب والكيمياء. وبدلاً من محاولة تلقيم الإجابات من القمة، فإن على نظام التعليم العربي أن يسمح للمدرّس أن يرشد التلاميذ إلى كيفية معالجة المشاكل بروح إيجابية بوصفهم مشاركين، ومواطنين، ومتعلمين طيلة العمر. ويتوجب عليهم أن يفعلوا ذلك بشكل خاص حتى في المجتمعات التي تتسم على نحو متزايد بالاختلاف حول بعض القيم الجوهرية (انظر المقابلة مع كرامي-عكاري كمحاولة لمعالجة الحاجة إلى تنمية مهارات المواطنة).
المقاربة الأمثل هي التي تزاوج بين مصفوفة من المقاربات المترابطة في التجربة التعليمية، وتتابعها في الوقت نفسه: تَعَلُّم التعلُّم، والتعلم من أجل التمكين الفردي، وتعلُّم حل المشاكل مع الآخرين، وتعلّم القيم.
إن تقنيات التقويم المطبقة الآن تهدف إلى رصد مايجري في المدارس والسيطرة عليه، وذلك عبر تعزيز ميول هذه النظم إلى أن تتحوّل إلى هيكلة للأوامر الصادرة من القمة إلى القاعدة حول تلقين الحقائق. والمقاربة الحالية تنحرف بطاقات المدرّس وتحوّلها من رعاية التعلّم وتشجيعه إلى غرس مادة محددة في الذهن. وينبغي، بدلاً من ذلك، إعادة النظر في مفهوم الاختبار للتأكيد على ما هو أبعد من مجرد التمكّن من مادة التدريس. كما يجب تدريب المدرّسين ليكونوا وكلاء لا وسطاء، بل أن يكونوا أفضل من ذلك، أي من الميسّرين، لمساعدة الطلاب والتلاميذ على التعلّم وعلى تحديد وتذليل التحديات التي تواجه سيرورة التعلم. ويتعيّن على مقاربات التعليم والاختبار الجديدة المناسبة أن تجدد التركيز على النوعية والجودة. (انظر المقابلة مع حشوة، التي تتضمن حزمة من المقترحات حول إصلاح أصول التدريس.)
علاوةً على ذلك، على المقاربات الرامية إلى تحسين المناهج وأساليب التدريس، والتقويم، وتدريب المدرّسين أن تكون شمولية كلية. فالجهود المجتزأة قد تفضي إلى نتائج مخيبة للآمال. وعندما تُستحدث برامج قوية لتدريب المدرّسين في نظام يتضمن التقويم التقليدي التوجيهي (أي امتحان الشهادة الثانوية للقبول في الجامعة)، وتقوم على اختبار مخزون من المواد، على سبيل المثال، فإن نجاح الطالب، حتى في هذه الحالة، سيعتمد على الاستظهار، والحفظ عن ظهر قلب.
مقابلة
أصول التدريس من أجل تعزيز المواطنة
ما الذي تبلغنا إياه الأبحاث الخاصة بأصول التدريس؟
خلال العقود الماضية، برزت رؤية جديدة للتعليم والتعلّم تؤكد على تطوير مهمات تعليمية ترتبط بتنفيذ المشاريع وحل المشاكل، وأساليب أخرى تركّز على الطلاب والتعلم النشط؛ وتعميم أنشطة تعليمية مُجدية وملموسة على أرض الواقع؛ واستخدام مزيج من تعليم الفصل المدرسي كاملاً والعمل التعاوني من جانب مجموعات صغيرة، والعمل الفردي أو التعليم من المدرّس إلى تلميذ بمفرده. يضاف إلى ذلك أن النقاشات والجدل وتساؤلات الطلبة قد غدت الآن من أساليب التعليم القيّمة. وأخيراً، ثمة حاجة لاستغلال اهتمام الطلبة بالتكنولوجيات المحمولة ولتحقيق الاستفادة القصوى من وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف يستخدم المدرّسون أصول التدريس الجديدة تلك؟
أدّى التغيّر في مجالي التعليم والتعلّم إلى إعادة تعريف أدوار المدرّسين، وهو يستلزم بالضرورة تغيرات في المعارف، والمهارات، والمعتقدات لدى المدرّسين. ويتوجب على المدرّسين أن يكتسبوا معرفة وافية للمواد الدراسية ورصيدا من أساليب التعليم الجديدة – التي يتطلّب الكثير منها تصميم بيئات تعلمية مركبة وتفويضا للصلاحيات من جانب المدرّسين للتلاميذ- وتتضمن مراقبة سلوكهم وضبطه في مجموعات صغيرة مع غياب المدرّسين. ويدعو ذلك إلى إحداث تغييرات جذرية في برامج تعليم المدرّسين قبل بدء الخدمة. وتتطلّب برامج تعليم المدرّسين الابتكارية بناء قدرات كافية في كليات التربية في الجامعات العربية. ويشمل ذلك، بشكل أساسي، تطوير قدرات الهيئة التعليمية، سواء من خلال توظيف ذوي التأهيل المناسب في الكلية، أو تسهيل التطوير المهني لهيئة التدريس القائمة، وبصورة خاصة من خلال تنمية قدراتهم البحثية، وإطلاعهم على التيارات العالمية الأخيرة في ميدان التربية والتعليم، وتشجيعهم على نشر إنتاجهم في المجلات العالمية المحكّمة المحترمة (مع تقديم رواتب مناسبة لهم لتجنيبهم الحاجة إلى العمل الإضافي، ودعمهم بالموارد اللازمة لإجراء البحوث).
ويجب أن تكون مهنة التعليم أكثر جاذبية بحيث تشجّع الطلاب المتقدمين أكاديمياً على الالتحاق ببرامج تدريب المدرّسين.
ما الذي يمكن أن تقدمه النظم التعليمية لإعداد المدرّسين لأداء تلك الأدوار الجديدة؟
ينبغي تصميم برامج تنمية مهنية هادفة- ويجب أن تعتمد هذه البرامج على المفهوم الحديث للتعلّم والتعليم، وتراعي احتياجات المدرّسين، وتؤكد على المعرفة الانضباطية، وتساند المدرّسين الراغبين في تجربة مقاربات حديدة، وتشجّع على التعاون بين المدرّسين. ومن السبل الكفيلة بتخفيف وطأة تعليم المدرّسين خلال الخدمة وقبلها تأسيس كليات للتنمية المهنية تشجّع على التعاون بين المدرّسين وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات لتيسير تعليم المدرّسين قبل الخدمة، والتنمية المهنية للمدرّسين خلال الخدمة، والعمل البحثي الميداني.
إن المقاربات الجديدة في مجال التدريس تستلزم تمكين المدرّسين. ويعني ذلك تزويدهم بالمزيد من الثقة والحرية في عملهم. وينبغي أن يكون مديرو المدارس قادة تربويين في مدارسهم ليتمكنوا من تسهيل إحداث التغييرات. وينبغي أن يتغيّر دور المشرف على المدارس والمادة الدراسية، ويتحوّل خلال التدريس من دور المفتش إلى دور الميسِّر لعملية التعلّم والنمو.
هل لك أن تقدّم بعض الأمثلة على برامج التصاميم النموذجية؟
لا أعتقد أن ثمة برامج تنفّذ جميع الخطوات الواردة أعلاه. ونحن نحاول في جامعة بيرزيت تأسيس برنامج قائم أساساً على البحوث ويركّز على تطوير "أصول تدريس المحتوى المعرفي" الذي يتعاون فيه المدرسون والطلاب - ونعني هنا المعرفة المرتبطة بتدريس موضوعات محددة، من جملة أمور أخرى، في نطاق تخصصهم الدراسي. ويمثّل ذلك مَلغمًا تمتزج فيه المواد الدراسية وأساليب التعليم البيداغوجية، وهو نتيجة للمعرفة النظرية المستندة إلى البحث من جهة، والخبرة المترتبة على الممارسة. غير أن هذا البرنامج يتسم بالضعف.
ومن الأمثلة على البرامج النموذجية للتنمية المهنية للمعلمين برنامج "التربية الديمقراطية: مقاربة تقوم على حالة محددة من مشروع ديمقراطية التعليم والتعلّم"؛ الذي توليت إدارته قبل بضع سنوات. ويمتد هذا المشروع ثلاث سنوات، مقابل البرامج التقليدية التي تشمل في العادة المدرّسين الذين يشاركون في ورشة لمدة ثلاثة أيام ثم "يطبقون" فيها ما تعلموه بمفردهم. وقد عملت مع مجموعة صغيرة (من اثني عشر شخصا) لما يزيد على سنتين لفهم التيارات الجديدة في ممارسة أساليب التعليم وتصميم خمس حالات يمكن استخدامها على مستويات المدارس الوسطى والثانوية للتعلم حول الديمقراطية. ويتضمن تدريس هذه الحالات للطلاب استخدام مقاربة لحل المشاكل، والتعلّم القائم على مشروعات محددة، وعمل مجموعات تعاونية صغيرة.
وعلى مدى ثلاث سنوات قام المدرسون بتدريس هذه الوحدات القائمة على تلك الحالات. وكنا نلتقي أسبوعيا لوضع الخطط للأسبوع المقبل ودراسة التعليم الذي جرى في الأسبوع الفائت. وقام المدرسون آخر الأمر بوضع تقارير عن تلك الحالات توثّق تجربتهم في استخدام المقاربة الجديدة.
يتميّز هذا النموذج بكلفته العالية وبأنه يستغرق وقتا طويلا، غير أنه يؤدي إلى تغير أكثر استدامة في ممارسة التعليم. كما أنه أسهم في وضع كتاب عن تلك المقاربة، وفي نشر ثلاث دراسات مُحكمة في دوريات عالمية. ولا يفترض في جميع برامج التطوير المهني أن تحذو حذو هذا المثال، غير أن النموذج يؤكد حاجة المدرّسين إلى تلقي التدريب القائم على المواد الدراسية، ويتيح لهم تلقي الدعم والتغذية المرتدة عندما يحاولون تطبيق أفكار جديدة، ويمكنهم من العمل بصورة تعاونية لدراسة ممارساتهم.
المطلوب هو تحوّل في الأنموذج (paradigm) يمكّن الطلاب من بلورة المهارات الخاصة بالمواطَنة البناءة، ماسيضع هذه المهارات في صلب العملية التربوية بوصفها من المكونات المحورية لشخصية الخرّيج العربي. وهذه الشخصية هي التي تحدد الإطار لنتائج التعلّم التي تكوّن العناصر الإرشادية لمداخلات أساليب التعليم، بينما تفسح المجال، في الوقت نفسه، لتعديل المداخلات وتكييفها لتناسب السياق الاجتماعي الثقافي الذي تجري فيه.
ينبغي أن تكون المؤشرات الإرشادية التالية هي المنطلقات التي يصدر عنها الإصلاح التربوي الكلي الشامل في أرجاء المنطقة العربية:
- يجب على كل دولة أن تطوّر استراتيجية للتعليم للمدرّسين. وسيتولى تسهيل عمل هذه الاستراتيجية هيئة ليست كليّاً من أجهزة وزارة التربية والتعليم، ويجب أن تضم هيئات رسمية، ومدرّسين، والمجتمع العريض، وكليات التربية في الجامعات.
- حتى يتسنى للمدرّسين أن يتولوا تعليم متعلمين طيلة العمر، عليهم أن يتّبعوا مقاربة مابعد- إدراكية: إذ ينبغي مساعدة الطلبة على فهم الكيفية التي يتعلمون بها، وأن يجدّدوا أهدافهم من التعلم، ومراقبة مايحققونه من تقدّم.
- يجب على أهداف التعلم، والمهارات التي يكتسبها الطلاب خلال التجربة التعليمية، أن تجمع منظومة من الأبعاد المترابطة بالضرورة، والتي ينبغي متابعتها في آن: تعلّم التفكير النقدي وحل المشاكل؛ تعلّم التمكين الفردي؛ تعلمّ كيفية اكتساب الكفاءة في موقع العمل؛ وتعلّم القيم والتعامل مع الآخرين. كما ينبغي التشجيع على تجربة أساليب تدريس ابتكارية.
- من أجل تحسين النتائج المتعلقة بالجودة، ينبغي على الطلاب أن يكتسبوا فهماً أعمق للمواد الدراسية في المدرسة، وأن تركّز المعرفة على افكار تخصصية مهمة، وأن تُكتسب بطريقة تمكّن من استرجاع المعلومات وتطبيقها. وهذا يتطلّب دراسة معمّقة لعدد أقل وليس لعدد كبير من المواضيع المعتادة بطريقة سطحية. كما أن تحسين النوعية يستلزم تشجيع روح الخلق والابتكار.
- ينبغي على التعليم في الفصول الدراسية أن يعالج اهتمامات الطلاب والمعارف والقدرات المتنوّعة السابقة لديهم. وفي بعض الحالات، يجب تعديل العمليات التعليمية لتحفيز الطلاب وتشجيعهم على المشاركة.
- ينبغي أن تكون المناهج، ولاسيما في الصفوف العليا، أقل صرامة. ولاسيما في المراحل المدرسية العليا. وعند انتقال التلاميذ من مرحلة التلمذة إلى مرحلة المواطَنة، من الواجب منحهم قدراً واسعاً من الحرية لاكتشاف مايستأثر باهتمامهم وتنمية مهاراتهم العملية. فالمناهج المتزمتة، وأساليب التدريس القديمة، والاختبارات المتواصلة من شأنها تقويض هذه الأطوار الانتقالية.
- يتطلّب التعليم المهني اهتماماً أكبر واندماجاً أوسع في المنهاج. ويجب البدء بذلك في مراحل العمر المبكّرة.
- يُنظر إلى التكنولوجيا في أغلب الأحيان كموضوع متميّز أو كمنظومة من تقنيات التعلّم، كما تُعتبر أحيانا العلاج الشافي للتصدي إلى المشاكل التعليمية. لكن، وبدلاً من ذلك، ينبغي النظر إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة كعنصر تكميلي متمّم للقديمة، وكجزء لايتجزأ من العملية التعليمية على جميع الأصعدة.
- ينبغي على عمليات إصلاح المناهج أن تُحدِث تغييرات في التقويمات والتخمينات، وعلى الاختبار أن يخدم الأهداف التربوية، لا العكس.
الدولة: إعادة اختراع وزارة التربية والتعليم
تقف وزارات التربية والتعليم في العالم العربي في قلب النظم التعليمية بتنظيماتها التراتبية الهرمية الشاسعة التي تطالب بأداء مهمات جسيمة جليلة. وهي تقف بمفردها، وتتعرض إلى المساءلة أمام القيادة العليا. وعليها الاندماج في المجتمع بأسره.
هذه الوزارات، شانها شأن وزارتي الصحة والإسكان، تؤدي خدمات حاسمة لجميع السكان. وحتى عندما يبذل المسؤولون عنها قصارى الجهد لمواجهة التحديات الجسيمة، فإن هذه الوزارات غالباً ماتُعتبر بُنىً سلطوية معزولة ومنفصلة. وإذا أخذنا في الاعتبار هذا المفهوم الشائع لدورها، والنطاق الواسع للخدمات التي تُطالَب بتقديمها، فلا يمكن أن تكون غير ذلك. بيد أن النتيجة قد تكون مثيرة للشفقة، إذ تُعزل قطاعات شعبية وتتغرّب، وتتستّر المصالح الخاصة بالإجراءات الرسمية والمواقف التي تقف حجر عثرة في وجه محاولات الإصلاح. (انظر دراسة حالة مصر للاطلاع على المساجلات التي أثارها وزير تربية إصلاحي طموح).
والحال أنه على رغم التبني الواسع لتعبير "الإصلاح"، إلا أنه يبدو أحياناً نذيراً بالخطر. إن الإصلاح الشامل للمناهج وأساليب التدريس لاينبغي أن يهدف إلى تقويض النظم أو البنى القائمة، بل يجب أن يساعد الطلاب على اكتشاف القيم الإيجابية، والتفاعل على نحو بنّاء مع الآخرين الذين لايشاركونهم بها، والانخراط كمواطنين ناشطين في تلك البنى التي توجّه وتتحكّم بالحياة الاجتماعية والسياسية. وكما أوضحنا سابقاً، هذا لابد أن يتم بطريقة تنسجم مع الكيفية التي يتعلّم بها الطلاب بالفعل.
وحتى عندما لايكون ثمة اعتراض، قد يثير تبنّيه مساجلات متعارضة حامية الوطيس. فمن ناحية، سيشتبه بعض أفراد الجمهور المتدينين بأنه يجري تشجيع الطلاب على التشكيك بمعتقداتهم الدينية، فيصبح التعليم آنذاك ميداناً لمعركة بين القوى الدينية والعلمانية. ولاينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو، فعندما يُجَرّ التعليم إلى معمعة الصراعات، يصبح النقاش سياسياً أكثر منه تربوياً. التعليم الديني، تاريخياً، كان في التحليل الأخير على الدوام يتضمن التفكير النقدي، كما سعى إلى تعليم الطلاب بألا يقتصروا على تلاوة الحقائق، بل أن يطبقوا القيم والممارسات الجوهرية في حياتهم الخاصة. وكانت أساليب التدريس التي تتضمن الدراسة النقدية للنصوص، على سبيل المثال، أسلوباً تعليمياً نموذجياً في المجال الديني لما ينوف على ألف عام.
دراسة حالة
دراسة حالة مصر: سياسات الإصلاح التربوي في مصر
بُني النظام التربوي في مصر لتلبية احتياجات جمهور عريض ومتعاظم من السكان في بلد فقير. ومثل أغلب الخدمات التي تقدمها الدولة، يفتقد هذا النظام بشدّة إلى الموارد، وقد أنشأ بيئة جرت فيها التضحية بالجودة والنوعية لصالح الكمية. لكن السنوات الأخيرة شهدت مبادرات إصلاحية من جانب الوزارة لاتعتمد على التمويل السخي. وقد أكد طارق شوقي، وزير التربية والتعليم الحالي، بقوة وإصرار، على الحاجة إلى إحداث تغيرات جذرية.
كان من المجالات الأولية التي استهدفها الإصلاح أول الأمر هو نظام الامتحانات الذي يقوم عليه النظام التعليمي في مصر. فخاتمة الامتحانات الدورية تتمثّل في امتحان الدراسة الثانوية العامة (التوجيهية) التي تختبر قدرة الطلاب في سلسلة واسعة من الموضوعات. ولايقتصر ما يحصلون عليه من علامات على تحديد النجاح أو الفشل، بل يشير كذلك إلى الموضوعات التي يتابعون دراستها في المجال الجامعي الذي تُشرف عليه الدولة. وقد واجه هذا الامتحان، شأنه شأن الامتحانات الأخرى في نهاية الصف السادس، حملة انتقادات واسعة النطاق، لأنه يعتمد على الصمّ والاستذكار، ويفرض على التلاميذ اليافعين ضغوطاً ضخمة وغير ملائمة، ويشجّع الطلاب عند التحاقهم بالجامعة على دراسة الموضوعات التي يحصلون فيها على العلامات العالية، لا تلك التي تتناسب مع اهتماماتهم وقدراتهم العامة. وقد اقترح الوزير التخلي عن الامتحانات القائمة على الاستذكار، التي يعتبرها المسؤولة عن تشويه أساليب التدريس ومكافأة المهارات الخطأ.
أسفر التشديد على تطبيق الامتحانات كذلك عن انتشار الفوضى والفساد، إذ تغدو نسخ الامتحانات المزيّفة، وحتى الحقيقية، قيد التداول مسبقا. ويقوم المدرسون بإعطاء الدروس الخصوصية، مقابل أجر، لتهيئة الطلاب للامتحانات. وبذلك يخرج التعليم الذي تدعمه الدولة خارج غرف الدراسة إلى سوق ضبابية سيئة التنظيم يضطر فيه الأهل إلى إنفاق المال لضمان نجاح أبنائهم.
بالإضافة إلى استهداف نظام الامتحانات، ركّز الوزير كذلك على السياسات الرامية إلى إدراج التكنولوجيا في أساليب التدريس. ومن المفارقات أن مثل هذه الحاجة برزت حتى في مجال تكنولوجيا الحاسوب، حيث يُدَرَّس الطلاب الآن كيفية استخدام الحاسوب باستخدام الكتب المدرسية المطبوعة، فيما يعجزون عن تطبيق ما يتعلمونه من دروس على الأدوات الفعلية نفسها. كما يعتبر الانتقال إلى الكتب الإلكترونية مباشرة، خطوة ضرورية لتشجيع الاستثمار بالوصول إلى الشبكة العنكبوتية في المناطق النائية على الصعيدين الخاص والعام.
قد يبدو وضع حدّ للفساد واستحداث امتحانات أفضل وأساليب أكثر حداثة للتدريس، أمراً مفروغاً منه للوهلة الأولى. غير أن الوزير أثار سلسلة من المساجلات. فقد شكا بعض القادة في اتحاد المدرّسين من أن الدعوة إلى الإصلاح تدل على عدم التقدير لجهود العاملين الآن، ورأوا أن الوزير لايعامل المدرّسين باحترام بل يعتبرهم مشكلة. كما نظر الأهالي إلى الإصلاح بقلق، لأن ثمة ضغوطاً ضخمة على الطلاب لتحسين الأداء؛ وقد يفضي أي تغيّر في النظام إلى الفوضى. وبما أن الوصول إلى الإنترنت إلكترونياً ليس متاحاً للجميع في مصر، فإن بعضهم يشعرون بالقلق من أن المدارس العاملة في المناطق الريفية أو الطلاب الأكثر فقراً سيقعون ضحية للتمييز والفصل الرقمي.
تتقاطع بعض الإصلاحات مع المصالح المادية؛ فطباعة الكتب المدرسية تمثّل إحدى الصناعات الرئيسة في مصر. وهناك نوع من التوازن بين من ينظرون إلى التوفير الكبير الممكن من جهة، ومن يتخوّفون من سحب البساط من تحت أقدام أصحاب المطابع الذين تدعمهم الدولة. وقد أعرب المدرسون، والأهالي، والسياسيون بصورة علنية في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي ومجلس الشعب عن انتقادهم لخطة الوزير، وأعلن هاني أباظة، نائب رئيس لجنة التربية والتعليم والبحث العلمي في مجلس الشعب، أن المدارس لن تستطيع أداء مهماتها في المدى القصير من دون كتب مدرسية. ويدل ذلك على أنه إذا تم القبول بفكرة الإصلاح العامة، فكل مبادرة في هذا السياق ستواجه ردود فعل مضادة.
ربما كان الدرس الأساسي المستفاد من التجربة المصرية، هو أن من الواجب متابعة جهود الإصلاح سياسياً، وألا تعتبر مجرد تحسينات تقنية تفرض على النظام التربوي. ولا بد من استرضاء عدد من الأطراف وأصحاب المصالح. فالمدرسون، والناشرون، والأهالي، والطلاب معنيون جميعاً ومشاركون كل المشاركة بالنظام التعليمي ويراقبون عن كثب مايجري من تغيّرات في هذا المجال.
من ناحية ثانية، برزت العلاقات العدائية أحياناً بين المصلحين والمدرّسين (وبخاصة نقابات المدرّسين)، حيث يعتبر الطرف الأول الطرف الثاني عقبة، بينما يرى الطرف الثاني أن دعوات الإصلاح ليست إلا نقداً، بل انشقاقاً وتمرّداً على الصراط المستقيم. ففي الأردن، على سبيل المثال، نشبت على مدى السنوات الماضية صدامات بين العديد من الوزراء ونقابة المعلمين الأردنيين. وفي مصر، تعاملت نقابة المعلمين ببعض التشكك والارتياب مع محاولات الإصلاح، واشتبكت حول هذه المسألة مع الوزير الإصلاحي (انظر دراسة حالة مصر). عوضاً عن ذلك، يجب فهم الإصلاح ومتابعة تطبيقه بوصفه فرصة لبلورة رؤية تربوية تعليمية، والإعلاء من مكانة مهنة التدريس، والمزاوجة بين النظريات الخاصة بأساليب التدريس والخبرة العملية للمدرّسين في الفصول الدراسية، وتصميم منظومة كاملة من فرص التنمية المهنية، وبهذا المعنى، ينبغي دمج المدرّسين، أو من يمثّلهم، كشركاء في جهود الإصلاح.
يستلزم التعامل مع هذه الضغوط والمطالبات تحولاً في التوجّه. وعلى الوزارات أن تعيد اختراع نفسها عبر الابتعاد عن كونها مقدّمة للخدمات لتكون مصمّمة للرؤى/المعايير وميسِّرة للعملية التعليمية، مع الاحتفاظ بدورها كهيئات منظِّمة. وقد بذلت في السنوات الأخيرة جهود إصلاحية محددة تستحق دراسات إقليمية أعرض. (انظر دراسة حالة مصر لشرح الجهد الذي تبذله إحدى الوزارات في مصر، وكذلك المقابلة مع الزغيبي حول التجربة السعودية مع المزج بين المقاربات المنطلقة من القمة إلى القاعدة ومن القاعدة إلى القمة، وكذلك المقابلة مع قريصاتي لشرح العملية الإصلاحية التي شملت المجتمع بأسره في تونس بعد الانتفاضة). وتجري الآن إقامة شبكات دولية لتأمين الدعم والترابط بين المبادرات المختلفة (ومنها، على سبيل المثال "مبادرة تعليم مهارات الحياة والمواطنة"، التي تضم منظمات دولية وأخرى غير حكومية، ولكنها تؤثر في توجهات بعض الوزارات العربية).
مقابلة
إصلاح التعليم السعودي
كيف تتم متابعة الإصلاح التعليمي في المملكة العربية السعودية
طبقت وزرة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية مبادرات مبتكرة على النطاقين الصغير والكبير على حد سواء. وحيثما تقدم المقترحات بمبادرات الإصلاح، على الصعيدين المركزي والمحلي، تبرز التحديات – ولاسيما ما يتصل منها بتعريف الابتكار، وتحديد الأولويات، وتقييم الآثار. وعند الموافقة على المبادرة الإصلاحية، بصيغتها الأولية، تنشأ تحديات أخرى لأنها تتعرض إلى التشذيب قبل دخولها مرحلة التطبيق الفعلي.
ما نوع الإصلاح الذي يمكن تحقيقه بالإيعاز من أعلى الهرم؟
يمكن للدعم الشخصي عالي المستوى، وتوافق المشروع مع احتياجات استراتيجية الوزارة الكلية، أن يؤثر على نجاح المبادرة ودورة حياتها. ويمكن أن يفضي ذلك إلى أن بعض المبادرات تكون قصيرة الأجل. كما أن التدخّلات الصادرة عن المركز قد تلقى دعماً مستمراً حول بعض القضايا طالما بقي الداعمون والمساندون الشخصيون في مناصبهم الرسمية.
بيد أن القرار باستمرار الدعم المالي للمبادرات التي لقيت القبول والدعم، إنما يعود إلى هيئات حكومية خارج وزارة التربية والتعليم. وتفضّل هذه الهيئات في الغالب مشاريع ملموسة وظاهرة للعيان يمكن بسهولة مراقبتها وضمان إكمالها. أما مبادرات المدى الطويل التي يصعب قياسها والتحقق من نجاحها، فإن ضمان تمويلها المستدام سيكون عملية أكثر مشقة.
وإذا أخذنا بالاعتبار أن 30 ألف مدرسة في المملكة العربية السعودية تخضع إلى إشراف مركزي، فسيكون من الصعوبة بمكان ضمان عملية المراقبة لضمان الأمانة في التنفيذ.
وماذا عن الإصلاح المقترح من أدنى الهرم؟
تختلف المحافظات والمدارس في ما بينها في إيجاد المبررات وتحديد جوهر لما يمكن تحقيقه بالإيعاز من أعلى الهرم. فقد يفضي ذلك إلى تنفيذ سطحي أو إلى التكرار أو الازدواجية مع مبادرات أخرى مماثلة على المستوى المحلي في المحافظة. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود مدير نشط وطموح لإحدى المدارس قد يحوّل المدرسة إلى ما يسميه بعض المصلحين التربويين "مدرسة شجرة الميلاد" – حيث يجري تنفيذ الكثير من المبادرات المفككة المؤقتة وفق ما يمكن أن نسميه "مقاربة كونية". ونادراً ما تلبي هذه المبادرات احتياجات استراتيجية وزارة التربية والتعليم، كما أن الوقت المخصص لتنفيذها لا يؤدي إلى تنفيذ حقيقي.
ربما كان تضافر التمركز المتشدد والالتزام المؤقت والجزئي قد دفع بعض المحافظات والمدارس إلى أن تفقد الأمل بإصلاح حقيقي ملتزم ومدعوم. وقد شهدنا طفرة في إقامة المدارس الخاصة، نظراً لما تتمتّع به من استقلال نسبي ولقدرة الأهل ماليا على إلحاق أبنائهم بها. كما أن الجامعات تقبل أعدادا أكبر من خريجي المدارس الخاصة بالمقارنة مع المدارس الرسمية. وتركّز المدارس الخاصة على توفير بيئة آمنة وضمان مستوى الإنجاز الأكاديمي. وقد أسهمت هذه الإجراءات الملموسة في تشجيع وزارة التربية والتعليم على تبني نموذج لمدرسة متميّزة تفترض الترابط المباشر بين الجودة والاستقلال الذاتي، مما يهدد بالتخلي عن القطاع العام. وفي الوقت الحاضر، تتجه البلاد إلى وضع رؤية تحاول المزاوجة بين المبادرات الواردة من الأعلى وتلك الصادرة من الأدنى.
يتضمن جانب من تلك الإصلاحات إخراج عملية التقييم من الوزارة. فهلّا حدثتنا عن تلك التجربة؟
تحاول الوزارة وضع التقييم بين أيدي المدرّسين وتحت إشرافهم، لتضمن حدوث التغيرات بالفعل على مستوى الفصل المدرسي. ويتمثّل الهدف في دفع المدرّسين إلى وضع التقييمات التكوينية التي تناسب البدايات المتنوعة لتعليم الطلاب. وفي الآونة الأخيرة، أطلقت وزارة التربية والتعليم، كجزء من رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية، مقاربة تعليمية تستند إلى الكفاءة، وتعتمد على الجهد الذي يبذله المدرسون لفهم تقدّم التعلّم الفردي للطلاب، بالإضافة إلى التقييمات الجماعية المعتادة.
وبالتزامن مع إخراج التقييمات الجمعية من وزارة التربية والتعليم، شكلّت هيئة خارجية لوضع تقييمات شاملة للنظام التعليمي، وتقدم تقاريرها مباشرة للملك. ومع أن هذه الهيئة لازالت حديثة العهد، فإنها تعتبر طرفاً أكثر مصداقية لوضع تقييمات مستقلة، كما أنها تمكّن وزارة التربية والتعليم من التركيز على تطوير التعلّم، والتعليم، والروح القيادية.
أنت تعمل في شركة خاصة ترتبط بشراكات ومشاركات مع القطاع التعليمي. فما هي الفكرة الكامنة وراء ذلك؟
تتحمّل وزارة التربية والتعليم، منذ عقود، مسؤولية تقديم جميع الخدمات المرتبطة بالتعليم – بما في ذلك بناء المدارس، وتوفير المواصلات، وتطوير وتنفيذ بنية تحتية للتكنولوجيا، ووضع ومراجعة الكتب المدرسية، وما إلى ذلك. وكانت جميع هذه الخدمات تحوّل، وتدار، وتنفذ وتراقب بصورة مركزية وداخلية. ومع وجود عدد كبير من المدارس (تقريباً 300 ألف مدرسة)، كان لابد من بذل جهود مضنية للقيام بذلك كله، بالإضافة إلى مهمات أخرى مثل التخطيط، ورسم السياسات، ومراقبة النوعية. التعليم عمل يومي يستنفذ الطاقات ويحفل بالتحديات، وقد يستحوذ على اهتمام الشخص ويحول بينه وبين دراسة ما يحققه من تقدم أو تجربة مبادرات أخرى جديدة. وللتغلّب على ذلك، فإن بعض هذه الخدمات- مثل الإنشاءات، والنقل، والبنية التحتية للتكنولوجيا ونظم التعليم، ووضع الكتب المدرسية – قد حوِّلت إلى شركات أنشئت حديثا وتملكها الحكومة، وتشرف عليها شركة قابضة يرأسها وزير التربية والتعليم. ويكون للأطراف المعنية وأصحاب المصالح ممثلون في مجلس إدارة الشركة. وتتولى وزارة التربية والتعليم توجيه جميع الشركات، ومراقبة الجودة، والموافقة على المخرجات الناجزة. ويمثل ذلك منحى تعليمياً للجميع في الأحوال كافة، غير أنه أقل بيروقراطية وأكثر سهولة من الوجهة الإدارية، لأن تسليم الخدمة الناجزة يتم بصورة أسرع، أما بالنسبة إلى مستوى النوعية، فإن الحكم على التحسينات المنشودة وتقييمها سيستغرقان وقتاً أطول.
مقابلة
نموذج تونسي؟
اعتبرت الثورة التونسية انتفاضة تزعمها الشباب الذين تعرضوا إلى الإقصاء، فكيف عالج مجتمع ما بعد الثورة قضية التعليم؟
شهدت العقود التي أعقبت استقلال تونس العام 1956 وإصدار قانون إصلاح التعليم العام 1958 استثمارات ضخمة وإنجازات واضحة في القطاع التربوي، منها التعليم الشامل في المرحلة الابتدائية، وتطوير مناهج حديثة تركّز على المواطنة، وتخفيض مستوى اللامساواة، والارتقاء بالموارد البشرية. غير أن الثورة التونسية العام 2011 أبرزت بصورة واضحة مواطن الضعف الأساسية التي تميّز كذلك نظم التعليم في الدول العربية الأخرى: معدلات التسّرب العالية من المدارس، ولاسيما في أوساط الفقراء؛ وتردي نوعية التعليم، وضعف اكتساب الكفاءة، وارتفاع معدلات البطالة، ونزعة التطرف المفزعة في أوساط الشباب، ونظم تدريب المدرّسين الواهنة؛ والتمركز المفرط، والحوكمة غير الفعّالة.
وفي مستهل ثورة العام 2011، سارعت الحكومة المؤقتة إلى إعطاء الأولوية لإصلاح النظام التربوي، وأكدت على أهمية المقاربتين التاليتين: ينبغي أن تكون العملية التعليمية تشاركية (لتشمل جميع الأطراف المدنية وأصحاب المصالح)، وأن تكون استراتيجية (أي أن تتصدى للتحديات الأساسية المتعلقة بالمساواة، والنوعية، والحوكمة).
هل نفذت عملية الإصلاح بالصورة المنشودة؟
في شهر آذار/مارس 2012، عقد مؤتمر كبير حول منهجيات الإصلاح التربوي، تلته سلسلة من المشاورات – على الصعيدين المركزي والمحلي – مع المدرّسين، والمستشارين، ومديري المدارس، والمفتشين، ومسؤولي الإدارة، والطلاب والأهل، والنقابات، والأحزاب السياسية، وأرباب العمل، ومنظمات المجتمع المدني.1 وقامت اللجان الفنية بتحليل مضمون هذه المشاورات وتلخيصها، وأصبح هذا الموجز محوراً لحوار وطني عريض بدأ في كانون الثاني/يناير 2015 بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كانت تمثّل المرحلة الانتقالية للثورة. واستمر الحوار ثمانية أشهر، وتولّت الإشراف عليه وزارة التربية، والاتحاد العام التونسي للشغل، والمركز العربي لحقوق الإنسان (الذي يمثل المجتمع المدني). وجمعت النتائج في تقرير وطني كان، بدوره، هو الدليل الإرشادي (الكتاب الأبيض) حول التعليم والخطة الاستراتيجية لقطاع التربية والتعليم 2016 – 2020.
تمثّل خطة التعليم الخمسية حزمة من الإصلاحات الشاملة تهدف، من جملة أمور أخرى، إلى تعميم التعليم قبل الابتدائي، وتطوير تدريب المدرّسين والتعليم النوعي، وتقوية التعليم المهني ليكون أكثر انسجاماً مع احتياجات سوق العمل، وتعزيز الحوكمة وتنفيذ البرامج وتقييمها. وقد أنشئت هيئة خاصة في وزارة التربية للإشراف على الإصلاح الأساسي للمناهج. وكانت العملية، هنا أيضا، تستحق الثناء من ناحيتين. فقد اشتملت، أولاّ، على مساهمة نشطة من جانب المدرّسين، والمفتشين والخبراء وممثلي الأطراف المعنية. ورافقتها ورشات عمل لتنمية القدرات في مجال تصميم المناهج ومقاربات أساليب التدريس. ومن ناحية ثانية، ضمنت إدراج تعليم مهارات الحياة والمواطنة في قنوات التعلم الخاصة بالمناهج، والمناهج المصاحبة، والمناهج الإضافية، مع تمتين الروابط بين هذه العناصر الثلاثة. كما أنها أكدت على أهمية اكتساب مهارات الحياة عبر دورات التعلّم المتعددة بدءاً من مرحلة الطفولة المبكرة وحتى التعليم بعد المرحلة الأساسية، مع التشجيع على تبنّي المقاربات التي تجمع بين تخصصات عدة، وتطبيق مهارات الحياة على ميادين المعرفة جميعها، وتنسيق أساليب التقويم. وتطبيق مهارات الحياة على جميع ميادين المعرفة جميعها، وتنسيق أساليب التقويم. والأهم من ذلك كله أن عملية إصلاح المناهج لم تقتصر على التأكيد أن اكتساب مهارات الحياة هو المدخل الوحيد لتطوير الإنجازات التعليمية وحسب، بل كذلك لتوسيع آفاق الاستخدام والتوظيف وتعزيز معنى المواطنة، وحقوق الإنسان، والتمكين، والمساواة، والاندماج.
ما الذي يمكن للمجتمعات الأخرى أن تتعلّمه من هذه التجربة؟
فيما تمضي قُدُماً عملية إصلاح نظام التعليم والمناهج، يمكن استخلاص بعض الدروس الرئيسة من التجربة التونسية. فمع التأكيد، أولا، على أن الإصلاح التربوي ينبغي أن يقوم على أسس سليمة مقنعة، وعلى المعرفة الفنية، والخبرة، وتحقيق النتائج، فإن المشاركة النشطة من جانب أصحاب المصالح والأطراف المعنية الأخرى في تحديد ماهية الإصلاح وأهدافه، تمثّل عنصراً أساسياً لضمان المساندة والإجماع؛ والدعم الاجتماعي، والسياسي، والمالي؛ والاستدامة. ومن جهة ثانية، فإن مشاركة المدرّسين، في إصلاح المناهج بصورة خاصة، أمر جوهري لتمكينهم من إحداث التغيرات الضرورية التي يجب أن تحدث في الفصل المدرسي وفي المدرسة. كما أن التعاون بين الوزارات في عملية الإصلاح التربوي، من جهة ثالثة، سيضمن تطوّر القطاع التعليمي وسيتناغم مع تنمية القطاعات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى ويتعزز بها، ومنها قطاعات الشباب، والعمل، والشؤون الاجتماعية. وأخيرا، فإن على التعليم، إذا أريد له أن يؤدي رسالته، أن يرتكز على حقوق الإنسان وقيم المواطنة، مثلما يقوم في الوقت نفسه على اكتساب المعارف وتهيئة التلاميذ للعمل والحياة.
هوامش
1 Conférence nationale sur la ‘Méthodologie pour la réforme du système éducatif,’ Tunis, March 2012.
بدلاً من الاقتصار على فرض المناهج الدراسية، وتأليف الكتب المدرسية، واختبار الطلاب، في وسع الوزارات أن توجّه الحوارات المجتمعية حول نوعية الخرّيجين الذين ينبغي أن تنتجهم المدارس: ماهي طبيعة الشخصية (أو الشخصيات) التي صمم النظام التعليمي لتشجيعها؟ (انظر المقابلة مع قريصاتي حول بعض الخطوات التي اتخذت في هذا الاتجاه خلال حوار شمل المجتمع التونسي بأسره.) وتمثل الإجابة عن هذه التساؤلات- لا مجموعة الكتب المدرسية- جوهر المنهج الحقيقي.
هذه المقاربة ستغيّر النموذج العملياتي: فبدلاً من أن تموضِع الوزارة نفسها بوصفها قلعة من الخبرة والإدارة، فإنها ستتصدر سيرورة متفاعلة اجتماعيا. وإذا تحررت الوزارات من التأكيد الراهن على رصد الوفاء لمادة محددة في المنهج، فإنها تستطيع بدلاً من ذلك التركيز على رسم السياسات العامة، وإيضاح الرؤى، ووضع المعايير العامة، وتسهيل مراقبتها وتطبيقها. ولا يستهدف ذلك تقويض عمل وزارات التربية والتعليم بل ترسيخها بصورة أشمل في الدولة والمجتمع، بحيث يصبح التعليم واحداً من اهتمامات الناس الأساسية وتندمج الوزارات سوياً بدلاً من العزلة والانفصال.
وحتى عندما تتحوّل الوزارات من مجرد تسليم المادة إلى تيسير تعميم المناهج، فإن عليها أن تضع المعايير (وتتولّى تنظيمها). لكن يجب أن ينفّذ ذلك كجزء من سيرورة حوار مجتمعي. وسيتطلب ذلك مجهودين أساسيين لإعادة الهيكلة:
إعادة التفكير في دور الوزارات وإعادة تعميمها داخل الدولة. الوزارات، بصفتها القيادية لا باعتبارها معقلاً للسلطة ومزوّداً للخدمات، ستؤدي وظائفها على نحو مختلف في جهاز الدولة، وبصورة محددة، فإنها:
- تقدّم الدعم للمسؤولين عن تطبيق التدخّلات الابتكارية. وبدلاً من الاقتصار على وضع المدارس والمدرّسين قيد المساءلة، في وسع الوزارات أن تحدد احتياجاتها/احتياجاتهم الصاعدة من التنمية المهنية. وبدلاً من أن تؤدي دور "المفتش" الذي يشدّد على النواقص، يمكن أن يصبح التقويم والتقدير القوة الدافعة للاستقصاء، وحل المشاكل والنمو المستدام وروح الابتكار.
- إعادة هيكلة أوضاع البحث والتقويم بحيث لايصبحان من وظائف الوزارة، بل يكلَّف بهما بدلاً من ذلك خبراء اختصاصيون في هيئات مستقلة (كالمحاولة التي جرت، على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية [انظر المقابلة مع الزغيبي]. وقد تفضي مثل هذه العمليات إلى تحديد سلسلة من صِوى الإسناد ومؤشرات الأداء والتقويم النوعي والكمي لهذه المؤشرات، وليس مجرد مهمة تقنية للوزارات. ففيما تتولى الوزارات بلورة الرؤيا ووضع المعايير بالتشاور مع مختلف أصحاب المصالح، فإنه ينبغي أن تتولى هيئات مستقلة جانباً من التقويمات النوعية والكمية، وتبلغ السلطات السياسية العليا والجمهور بأوضاع التربية والتعليم. وسيتيح ذلك للسلطات وللجمهور وضع الوزارات في موضع المساءلة والمحاسبة وفق المعايير التي أقرتها بمدخلات من جانب المجتمع.
- بناء روابط قوية مع الهيئات الأخرى في الدولة بحيث لاتكون وزارات التربية هي وحدها المسيطرة على النظام التعليمي. لدى وزارات الشباب شبكة من المنظمات (مثل نوادي الشباب) خارج النظام التعليمي الرسمي، تستطيع المساعدة في توجيه السياسات؛ وفي وسع وزارات الشؤون الاجتماعية أن تعزز الروابط بين المدارس والهيئات الحكومية والاجتماعية؛ كما أن في وسع وزارتي العمل والاقتصاد خلق الروابط بين المدارس والمستخدِمين؛ كما ـن وزارات التعليم العالي وجامعات الدولة قادرة على أن تشرف على جانب كبير من تعليم المدرّسين، وهي من الشركاء المحوريين في أية جهود إصلاحية.
بناء الآليات لبناء شراكات وانخراط أكبر مع المجتمع المحلّي. كانت جهود الإصلاح في الماضي تتم على العموم بإيعاز من مراتب السلطة العليا، وأسفر ذلك عن مزيد من التمركز في محاولة لفرض الإصلاح التعليمي بالقوة. لكن سرعان ما يتراجع كبار المسؤولين، فيؤدي ذلك إلى إجراء إصلاحات مؤقتة وعارضة. على سبيل المثال، شهد الأردن سلسلة من الوزراء، كان لبعضهم رؤى جريئة، غير أنهم لم يمكثوا وقتاً كافياً في مناصبهم لمتابعة أي أجندة طويلة الأمد.
وكان من الخيارات الأخرى عدم القيام بأي إصلاحات في نظام الدولة، بل إقامة سلسلة من البدائل الخاصة (وكانت قطر هي الأكثر طموحاً في هذا المجال).
أسفرت هاتان المقاربتان كلتاهما عن نتائج ملتبسة في أفضل الحالات. فالابتكار المحلي والمشاركة الاجتماعية العريضة يتطلبان بعض الدعم الوطني ومن جانب الدولة لمواجهة المخاطر التي ينطوي عليها التعليم من حيث تعميق اللامساواة، بدلاً من التخفيف منها. فالتفاوت، بوجوهه المختلفة، يتزايد في بعض المجتمعات إلى حد ينذر ببروز اتجاهين: تعليم نخبوي (خاص على الأغلب) للقلة القليلة، وقطاع شحيح التمويل تابع للدولة لعامة الناس الأقل حظاً.
غير أن الطريق الأكثر فعالية سيتمثّل في مقاربة هجينة- تحافظ على دور الدولة في التعليم، لكنها تبني الآليات لقيام شراكات أوسع وتفاعل على جميع المستويات.
- في وسع المدارس أن تنشئ تعليماً تعاونياً وتدريباً مهنياً مع المنظمات والمشروعات الاقتصادية المحلية؛ وفي وسع هذه الأطراف أن تضم المؤسسات الأمّ ووحدات المجتمع المحلي؛ كما يمكنها أن تتابع تطبيق أساليب التدريس النشطة التي تدخّل بعض الأنشطة المدرسية مباشرة إلى المجتمع المحلي (أي ربط المشروعات المدرسية بالمنظمات الاجتماعية، والمصالح التجارية المحلية، أو المجالس البلدية في المحافظات) بحيث يغدو التعليم أكثر بروزا خارج أسوار المدارس وداخلها على السواء. وبإمكان المدارس أن تنتفع بالخبرة المتوافرة في المجتمعات المحلية التي تعمل فيها، إذ من النادر أن يطالب الطلبة بالتعرّف على الخبراء، وتقويمهم والتعلّم منهم.
- وعلى المستوى الوطني، من الواجب دفع القطاع الخاص والمجتمع المدني إلى الانخراط في الحوارات التي تدور حول الاحتياجات والرؤى التعليمية، والتركيز على المناهج بمعناها الواسع (لاتشمل المادة التي يجب أن يتمكّن منها الطلاب وحسب، بل تضم كذلك نوعية المواطنين البالغين الذين يرغب المجتمع في رعايتهم وتشجيعهم).
المجتمع: الإصلاح من خلال التفاعل
ربما كان التحدي الأكبر وغير المعترف به لإصلاح التعليم، هو أنه يُطلب من المدارس أن تنجز الكثير في عالم يحدث فيه التعليم قبل المدرسة، وبعدها وخارجها – أي في البيت والمجتمع الأوسع. ويعني ذلك أن للسياق الاجتماعي الكلي الذي تعمل فيه المدارس تأثيراً عميقاً على مايجري في الفصول الدراسية. ولايمكن تكليف المدارس القائمة وحدها بمهمة الإصلاح التعليمي كمواقع معزولة، بل ينبغي أن تعتمد هذه المهمة على إعادة النظر في دور المدرّسين والمدارس بوصفه جزءاً من النسيج الاجتماعي الأوسع للتعليم.
الاعتراف بهذا الواقع سيساعد المجتمعات على إعادة تعريف ما هو مطلوب من المدارس والمدرّسين وإعانتهم في ذلك بدلاً من مطالبتهم بالقيام بها وحدهم. ولايمكن، بل لاينبغي عزلهم وفصلهم عن العائلة والمجتمع المحلي، بل يجب أن يتفاعلوا بصورة نشطة ليكون للتأثيرات المختلفة (الرسمية وغير النظامية) على تعلم الطلاب دور تكميلي.
وواقع الأمر أن من يواجهون هذه التحديات يومياً، يعترفون بآثار السياق الاجتماعي. وهي معروفة على نطاق واسع على صعيد القواعد الشعبية. فأغلب الناس يتفاعلون مباشرة مع مجابهة الطلاب الدائمة للأوضاع التي تفرضها المشاكل الاقتصادية، والاجتماعية والعائلية المختلفة. غير أن التحديات نادراً ما يتم الاعتراف بها على مستوى السياسات، لأن النظم التعليمية تميل إلى حماية خبراتها واستقلالها، وتعامل الفصول الدراسية كما لو كانت بالفعل جزيرة يقوم فيها المدرسون بعملهم التربوي. وتتولى المجتمعات- بما فيها الأهل والمسؤولون الكبار الذين يتخذون القرارات- تعزيز الحدود الفاصلة بين المدرسة والحياة بوضع الأعباء التعليمية ضمنياً على كاهل المدرّسين والمدارس.
لا محالة أن يشعر أغلب الطلاب، والآباء والأمهات، والمسؤولين بخيبة الأمل، عندما ينظر المجتمع نظرة نفعية للتعليم. وعندما يعتبر الأهل المدارس مواقع يكتسب منها أطفالهم المقدرة على تحصيل الرواتب العالية، واكتساب المهارات التقنية، والتمتّع بمستقبل مهني مُجزٍ، وعندما تنحصر هموم كبار المسؤولين في إنتاج الخرّيجين الذين تزيد سيرتهم الذاتية من مكانتهم في سوق العمل.
عندما يصبح التعليم، بدلاً من ذلك، عنصراً أصيلاً في رؤية تهدف إلى إعداد الشباب كمواطنين مشاركين وأعضاء ملتزمين بتنمية مجتمعهم المحلي وبتحسين الوضع الإنساني العالمي، وعندما يشارك الجميع، بمن فيهم الآباء والأمهات وكبار المسؤولين في هذه الرؤية، فإن في وسعهم أن يحوّلوا الجهاز التعليمي من جهاز لتدريس أبنائهم إلى جهاز يحوّلهم إلى متعلمين.
وهذا سيشجّع على إضفاء طابع شامل على ماينبغي أن تركّز عليه المدارس. وعندما يقتصر التأكيد على تعليم العلوم، والمهارات المرغوبة في سوق العمل، والاختبارات، فإن أساليب التدريس والمناهج تتعرض إلى التشويه لكي تخدم أهدافا نفعية، وتدرَّس العلوم، لا كسيرورة تعليمية، بل كمنظومة من الحقائق والتقنيات التي يتوجب إتقانها. أما الإنسانيات والعلوم الاجتماعية – التي تتناول الأغلبية الغالبة من مهارات المواطنة النقدية، فلا تحظى إلا باهتمام هامشي.
قد تتنوع بين مجتمع وآخر الإصلاحات المحدّدة التي يولّدها هذا التحوّل من التعليم إلى التعلّم. لكن من الممكن طرح بعض المقترحات التي ينبغي أن تشمل المنطقة بأسرها:
- تشجيع وتمكين المدرّسين من التفاعل مع المجتمعات المحلية، لإخراج الطلاب من الفصول الدراسية وإدخالهم إلى المؤسسات الاجتماعية وإدخال المؤسسات الاجتماعية إلى الفصول الدراسية.
- تشجيع المسؤولين على التشاور الموسَّع حول الإصلاحات، واعتبار المجتمعات شركاء لا عوائق يجب تذليلها لتحقيق تغييرات إيجابية.
- التشجيع على بلورة نظرة شمولية للمنهج بأبعاده كافة (العلوم الاجتماعية والإنسانيات، وكذلك العلوم، والتكنولوجيا، والرياضيات) عن طريق إشراك المجتمعات المحلية في تحديد الأهداف والمعايير العامة، المتعلقة بأنواع الخرّيجين الذين يتوجب على المدارس إنتاجهم، بدلاً من التركيز على مهارات محددة مطلوبة في موقع العمل الآن. (انظر المقابلة مع الخضرا لشرح ضرورة التعليم في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانيات).
- دمج التكنولوجيات الأحدث في الفصول المدرسية وتوجيه المدرّسين نحو تعليم مُدمج لايعامل هذه الابتكارات كبدائل أو عناصر تكميلية بل كجسور تربط تعليم الفصل المدرسي بالعالم الاوسع حوله. وفي وسع التكنولوجيات الأكثر جدة أن تدعم التواصل السريع، وتطرح أدوات اختبار جديدة وتقلل من الحاجة إلى الطباعة، وتمكّن المرء من التقويم الذاتي والمزيد من المرونة، وتيسّر الوصول إلى البيانات والمعلومات. ويجب أن تكون التكنولوجيا عنصراً مكملاً لا بديلاً عن مقاربات الفصول المدرسية التقليدية التي تدمج المكونات الاجتماعية، والعاطفية والفنية. وينبغي أن تستمر في الفصول المدرسية عمليات بناء الفريق، والعمل كمجموعة، وحل المشاكل باستخدام الذكاء الجماعي، والتفكير خارج منظومات السيرورات والبروتوكولات، وكثير من الجوانب الاجتماعية الأخرى للتعليم. (انظر المقابلة مع حوراني للتعرّف على الطرائق التي يمكن بها دمج التكنولوجيا.)
- معالجة قضايا العدالة والحصول على المعلومات – ولكن بعد إجراء مسح لتحديد ماهية المشاكل الحقيقية. وتختلف العوائق عما يفترض في أغلب الأحيان. فعلى سبيل المثال، الحصول على المعلومات من الشبكة العنكبوتية من خلال الحواسيب المكتبية والمحمولة، يختلف إلى حد بعيد باختلاف المناطق ومستوى الدخل، غير أن دخول الإنترنت عن طريق الهواتف المحمولة انتشر على نطاق واسع بالفعل فترة من الزمن، حتى في أوساط المجتمعات المحلية في الأرياف. ومن هنا، فإن دمج التكنولوجيا يجب أن يستمر ويتواصل- وأن يتماشى ويتقدم جنباً إلى جنب مع تطورات العصر، وأن تولي اهتمامها (ولا تفترض المعرفة) في الوقت نفسه، لما يملكه الطلاب أو يفتقدونه. وفي المناطق النائية والأرياف، يحول دون الحصول على التعليم الراقي النوعية في أغلب الأحيان الافتقار إلى المدرّسين المتمرسين المستعدين للعيش في تلك المناطق، وليس إلى محدودية الوصول إلى الشبكة العنكبوتية، ويمثّل استخدام الفصول المدرسية عبر الإنترنت على نطاق واسع إحدى الوسائل (وليس الوسيلة الوحيدة بالطبع) لمعالجة هذا التفاوت.
بلورة رؤية تعليمية جديدة
تُخفق المجتمعات العربية كلّها، في تهيئة الأجيال الصاعدة لمواجهة ما ستتعرّض إليه من تحديات. ومن الواضح أن هذا هو الوضع في الميدان الاقتصادي، حيث يتعاظم السخط جراء شيوع البطالة في أوساط الشباب، وتخلّف الإنتاجية، والكساد، بصورة موازية لتباطؤ الحراك الاجتماعي بالنسبة إلى الخريجين. غير أن ذلك يمثل جانباً واحداً من جوانب المشكلة، فالأمر لايقتصر على أن النظم التعليمية لاتنتج الأعداد المتوقّعة من العمال المهرة، بل إنها كذلك لاتنتج متعلمين أو مواطنين صالحين.
مقابلة
الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في الأردن
كيف تعامل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في الأردن؟
إنها، ببساطة، لا تُعطى ما تستحقه من أهمية. وتتجلى المشكلة، في جوهرها، في ثلاث صور. ويتعلق البعد الأول، والأبرز، بتحيّز النظام إلى جانب العلوم والتحامل ضد الإنسانيات. فعندما يلتحق التلميذ بمدرسة ثانوية، يُدرج الطلاب ذوو العلامات العالية (ولاسيما في الموضوعات العلمية) في الفرع "العلمي"، أما الآخرون، فيسجلون في الفرع "الأدبي" (وبعبارة أخرى، في الإنسانيات). ويبلَّغ الطلاب، والوالدان، والمجتمع العريض، بالفعل، بأن الفرع الأدبي أقل أهمية ووجاهة. ومن جهة ثانية، يلتحق الطلاب في الفرع العلمي بمساقات دراسية أقل في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، الأمر الذي ينطوي على رسالة مفادها مرة أخرى، أنها أقل أهمية، وأن العلوم هي الأكثر جدية.
أما البعد الثالث فهو أن عدداً من المواد الدراسية في مجال الإنسانيات غائب تماماً عن المنهاج الدراسي. فقد حذفت في أواخر السبعينيات موضوعات مثل الفلسفة، والتاريخ العالمي، والنقد الأدبي جراء سياسات داخلية في وزارة التربية والتعليم. وتكاد موضوعات أخرى مثل الموسيقى والفنون أن تكون غائبة كلياً من المناهج.
وما فتئ المسؤولون يكررون الفكرة المضللة التي ترى أن تنمية البلاد تعتمد على التخصصات العلمية – وأن المواد العلمية هي التي تلبي احتياجات سوق العمل بصورة أفضل. وهم يتساءلون: "ما وجه الحاجة للتاريخ، والفلسفة، والأدب العربي؟"
هل من الصواب التمييز بين الإنسانيات والعلوم؟
كلا، لأنه يتجاهل أن في وسع الإنسانيات والعلوم الاجتماعية أن تفيد الطلاب أكثر مما تفعله المواد الأخرى، بالقدر نفسه أو بالطرائق نفسها على الأقل. فعلى أساس احتياجات موقع العمل المفهومة، يتم إغفال مهارات الحياة الأساسية، مثل التفكير النقدي، والتحليل النقدي، والترابط الحر، والتواصل.
غير أن هذا القول نفسه يمثّل فهماً مخطئاً لموقع العمل. وتبيّن دراسات عديدة أن كثيراً من كبار المديرين التنفيذيين، وعلى المستوى العالمي، بمن فيهم مديرو الشركات العلمية، هم من خريجي كليات الإنسانيات، التي تركز اهتمامهم فيها على فنون التواصل، والتفاعل الإنساني، والمهارات الحياتية والاجتماعية. كما أن المناهج الدراسية في ميدان الإنسانيات هي التي تلبي، بصورة أفضل، ما يسمى مهارات القرن الحادي والعشرين (لسوق العمل والمجالات الأخرى). كما أن مناهج الإنسانيات تضفي على الطلاب خصائص ومهارات عديدة أخرى، منها الانفتاح، ومرونة التفكير، وسعة الأفق، وروح الابتكار. يضاف إلى ذلك أن الإنسانيات تؤدي دوراً مهماً في تمكين الطلاب من التعاطف مع الآخرين والتعامل معهم بأسلوب إنساني.
لهذه الأسباب وغيرها، تبرز الحاجة إلى الرد على ثقافة التحيّز والتمييز في المدارس الأردنية ودفعها في الاتجاه المعاكس مع إعطاء الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ما تستحقه من الاهتمام.
مقابلة
التكنولوجيا والإصلاح التربوي
كيف يمكن إدراج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في نظم التعليم في العالم العربي؟
عندما أتحدث عن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعلاقتها بنظام التعليم، فإنني أشير إلى تجربتي مع موقع "فرصة" (For9a)، وهو منصة إلكترونية للموارد التعليمية. فعندما كنت أضع مسوّدة لاستراتيجية للشباب لدعم المشروع، درست مدى تغلغل التكنولوجيا والإنترنت في المناطق الريفية. وخلال جلسات التشاور مع الشباب، طلبت من المشاركين أن يرفعوا أيديهم إذا كان لديهم هواتف ذكية. فرفع الجميع أيديهم. واكتشفت أن سورية واليمن ومصر والمغرب - وهي ليست من الأقطار الغنية في المنطقة - هي بعض البلدان التي تبلغ فيها كمية الزيارات إلى موقع "فرصة" حدودها القصوى.
الإنترنت حاضرة بالفعل في الفصول المدرسية. وكنا نعتقد أن هذه قضية تتعلق بالعدالة، وبالحصول على الأجهزة اللوحية والحواسيب المكتبية والمحمولة. ولكن إذا نظرت إلى الهواتف، فستدرك أن الأوضاع قد تغيّرت، وعلى نحو خاص خلال السنوات القليلة الماضية. ويمكن أن تكون الإنترنت وسيلة للوصول إلى المناطق النائية التي لا ينبغي إقصاؤها أو إغفالها. وقد استخدم ما يتراوح بين 70 و80 في المئة من زوار موقع (فرصة) الحواسيب المكتبية والمحمولة لدخول الشبكة الإلكترونية. غير أن الوضع الآن عكس ذلك؛ إذ أن ما يتراوح بين 70 و80 في المئة يدخلونها باستخدام الهواتف الذكية تليها الحواسيب المكتبية والمحمولة (20 في المئة) ثم الأجهزة اللوحية (10 في المئة). وعلينا الاستثمار في مجال الهواتف الذكية للوصول إلى جميع الشرائح السكانية، وللأغراض غير النظامية بصورة خاصة.
وقد ساور القلق بعض المربين من أن التأكيد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سيصرف الانتباه عن بيئة الفصول المدرسية التقليدية، بل إنها غالباً ما تعتبر بديلاً لها. غير أن جانبا من المربين الآخرين أظهروا الحماسة لها، وأعربوا عن الاعتقاد بأن هذه التكنولوجيات يمكن دمجها في المقاربات التعليمية التقليدية، بدلا من إحلالها محلها.
هل ينظر إلى مثل هذه التكنولوجيات باعتبارها توفّر بديلاً عن بيئة الفصول المدرسية التقليدية؟ أم أنها جزء مناسب من هذه البيئة؟
كثيراً ما أصاب بصدمة عندما يقول لي شباب يافعون تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والثامنة عشرة إنهم يتحدّون أساتذتهم في الفصول المدرسية حول استخدام التكنولوجيا ودمجها. ويقول هؤلاء الشباب إنهم كثيراً ما يستخدمون "غوغل" لاستقصاء موضوعات يقدمها لهم مدرّسوهم. وهذه ظاهرة جديدة بازغة.
فالتكنولوجيات، إذاً، متوافرة. وهي تقيم داخل الفصل المدرسي. ومن شأن ذلك أن يفرض ضغوطا جديدة على المدرّسين، وقد تسبب لهم الإحباط. وبعض المدرّسين قد لايرغبون في بذل جهد إضافي لدمج التكنولوجيا ويوفّرون وسائل أفضل للحصول على المعلومات، ويسهّلون العلاقات بين المدرّس والطالب.
قد يكون أحد أسباب عدم ارتياح المدرّسين تجاه دمج التكنولوجيا هو تخوفهم من أن يتقدم عليهم الطلاب ويتولوا هم زمام القيادة على نحو ما، فكيف يمكن، إذاً، تهيئة المدرّسين وإعدادهم لهذه البيئة الجديدة؟ إن إجابتي الواقعية الصريحة لحل هذه المسألة بصورة كاملة هي أن ننتظر ظهور جيل جديد من المدرّسين، ونبدأ بالاستثمار فيهم. ومن هنا، فبدلاً من تهيئة الثمانين ألف مدرس في الأردن1 فإنك تبدأ بالوافدين الجدد، وعلى سبيل المثال، تبدأ بدمج التكنولوجيا بأساليب التدريس لدى كل المدرّسين الذين وظفتهم بعد العام 2015.
ثمة نسبة عالية جداً من المدرّسين الشباب – تعادل 40 في المئة – على الأقل في الأردن.2 وربما كان هؤلاء المدرسون مهيئين ومستعدين لتقبل هذه التكنولوجيات والتدرب عليها.
بيد أن ثمة قضية أكبر يتعيّن علينا التصدّي لها. أعتقد أنني أفتقر في الوقت الراهن إلى رؤية ما نتوقعه من الطلاب ولهم، فذلك يؤثر في طريقة تقيمنا للمساقات الدراسية. ولايمكن أن نسمح لمسألة التكنولوجيا أن تصرف أنظارنا عن رؤيتنا لطبيعة التعليم وأهدافه. والاقتصار على دمج التكنولوجيا أو أَتْمتَة العملية التعليمية لايكفي ولايفيد. وبالنسبة إلى دمج التكنولوجيا، فإن تطور السيرورات بأكمله لا يقتصر على التعامل مع المعارف، إلكترونيا وبصورة مباشرة.
إن التكنولوجيا تثوْرِن التعليم من حيث المخرجات التعليمية المتوقعة وتقييمها. وهي تتحدى العقل البشري وتطالبه بمستوى أعلى من حل المشاكل، والتحليل، والفن، والمهارات الاجتماعية. وينبغي أن تأخذ ذلك بالاعتبار القرارات التي تتخذ حول مخرجات التعليم وتدابير التقييم.
أعتقد أن على الإصلاح أن يستهدف تغيير المناهج ودمج التكنولوجيا على نحو يفضي إلى مخرجات تعليمية جديدة وذلك هو الأمر الحاسم.
هوامش
1 وزارة التربية والتعليم، المملكة الأردنية الهاشمية، "التقرير الإحصائي للعام الدراسي 2017/2016"، http://www.moe.gov.jo/ar/node/22738.
2 Nadim Zaqqa, Economic Development and Export of Human Capital. A Contradiction? The Impact of Human Capital Migration on the Economy of Sending Countries; A Case Study of Jordan (Kassel, Germany: Kassel University Press, 2006).
لهذا، ثمة حاجة إلى إعادة تصميم النظم التعليمية- أو تحويلها من نظم للتعليم إلى نظم للتعلّم. وبدلاً من التركيز على تلقين المواد والمهارات التي يحددها موقع العمل الآن، على نظم التعلم أن تُقيم مقارباتها التعليمية على الكيفية التي يتعلم بها التلاميذ بالفعل والمهارات المطلوبة للمتعلمين طيلة العمر في عالم متطور. كما يجب على وزارات التربية والتعليم أن تعيد اكتشاف نفسها- وتتحوّل من بنى آمرة سلطوية معزولة إلى صانعة للرؤى المنبثقة من المجتمع الأوسع والمدمجة مع هيئات الدولة الأخرى. ثمّ، بدلاً من العمل كمؤسسات منفصلة، ينبغي على المدارس أن تكون جزءاً من شبكة للتعلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمعات المحلية والوطنية وحتى الدولية.
ليس من الإنصاف أن ننحو باللائمة كلياً عن النظم التربوية ونحملّها المسؤولية عن جميع المشاكل الاجتماعية. ولايمكن كذلك استخدام سلسلة المشاكل الاجتماعية والسياسية في المنطقة ذريعة لإخفاق في معالجة نوعية التعليم المتدنيّة، إذ من الممكن تحقيق التقدّم حتى في سياق التمويل الشحيح والحوكمة الضعيفة. والواقع أن النظم التربوية قد تساعد في توليد جيل قادر على معالجة تلك المشاكل بصورة أفضل. ويمكن تحويل الأجيال الصاعدة من خطر يحوم في الأفق في نظر الحكّام إلى قوة متحرّكة لبناء مستقبل أفضل.
هوامش
1 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2016: الشباب وآفاق التنمية الإنسانية في واقع متغيّر" (نيو يورك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2016)، ص. 25، http://www.un.org/ar/esa/ahdr/pdf/ahdr16.pdf
2 انظر البنك الدولي، "مؤشرات التنمية في العالم: معدل الإلمام بالقراءة والكتابة، إجمالي الشباب (% من السكان في الشريحة العمرية 15-24 عاماً)"، https://data.albankaldawli.org/indicator/SE.ADT.1524.LT.ZS وأيضاً: Gender Parity Index,” https://data.worldbank.org/indicator/SE.ADT.1524.LT.FM.ZS?locations=1A.
3 انظر البنك الدولي، "مؤشرات التنمية في العالم: الالتحاق بالمدارس، التعليم العالي، إناث (% من الإجمالي)" https://data.albankaldawli.org/indicator/SE.TER.ENRR.FE
4 انظر: World Bank, “World Development Indicators: Education Inputs,” http://wdi.worldbank.org/table/2.7.
5 التحليلات وتاتوصيات السياسية في هذه الدراسة مستمدة إلى حد كبير من ورشة عمل ومراسلات خاصة مع المؤلّفين الخبراء.
6 محمد فاعور، "واقع التربية المواطنية في الدول العربية"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أيار/مايو 2013، https://carnegie-mec.org/2013/05/21/ar-pub-51864