المصدر: Getty

المؤسسة الدينية السنّية في دمشق: حين يؤدّي التوحيد إلى التقسيم

يبدو أن المجال الديني في محافظة ريف دمشق سيصبح ساحة معركة سياسية، يحاول فيها كل من النظام والمعارضة المنفية التودّد إلى مجموعة صاعدة جديدة من القادة الدينيين.

 ليلى الرفاعي
نشرت في ٢٩ يونيو ٢٠٢٠

ملخّص

قَلَبَت الانتفاضة السورية، التي اندلعت العام 2011 ولاتزال متواصلة، المشهد الإسلامي السنّي للعاصمة دمشق رأساً على عقب. والمفارقة هنا أن كلاً من النظام والمعارضة الإسلامية حقّقا هدفاً ثميناً لهما: النظام، عبر توكيده السيطرة على مؤسسة دينية كانت تتشكّل في السابق من كيانات مُتنافسة ومُتشظية؛ والمؤسسات الدينية الدمشقية، التي لطالما شهدت منازعات وكانت تتكوّن من مؤسسات وأفراد هم الآن في المنفى القسري، حين توحّدت في إطار مؤسسة مُعارضة هي المجلس الإسلامي السوري.

الأفكار الرئيسة

  • سعى النظام عموماً خلال العقود الأولى العديدة من حكم حزب البعث في سورية منذ العام 1963، إلى منع تأسيس أي نوع من أنواع المؤسسة الإسلامية السنّية المُتّسقة، مُفضّلاً عوض ذلك اللعب على وتر التناقضات بين المؤسسات الدينية وتأليبها على بعضها البعض، مع السماح لكيان مفضّل بعينه في كل مرحلة بممارسة قدرٍ من الاستقلال الذاتي.
  • بدأ النظام بانتهاج أسلوب معاكس العام 2008، تسارع قُدُماً في السنوات التي تلت العام 2011 وتم استكماله منذ ذلك الحين. واليوم، هناك مؤسسة دينية سنّية مقرّها دمشق تحمل ترخيص الدولة السورية.
  • انطوى استحداث النظام لمثل هذه المؤسسة الدينية السنّية على تطهير العديد من المؤسسات الإسلامية التي اعتُبرت غير طائعة بما فيه الكفاية. وقد ظهر العديد من الشخصيات الوازنة في هذه المؤسسات في المنفى بوصفهم أعضاء في المجلس الإسلامي السوري، الذي يُعتبر حتى الآن أكبر منظمة إسلامية سورية مُعارضة والأوسع تمثيلاً.

خلاصات

  • ربما نجح النظام في فرض إرادته على كيانات دينية عديدة في دمشق (المساجد والمؤسسات التعليمية والجمعيات الخيرية)، وبالتالي في دمجها ضمن مؤسسة دينية واحدة متّسقة. بيد أن مثل هذه المؤسسة تُعاني من نقص فادح في درجة شرعيتها الشعبية.
  • تُعاني المعارضة الإسلامية، على الرغم من كل نجاحاتها في تأسيس حركة عريضة وواسعة وفي نيل الاعتراف الدولي، من حالة من العجز بحكم عملها غالباً في المنفى.
  • يُرجّح أن تصبح محافظة ريف دمشق ساحة مُعترك سياسي، بعد أن برزت فيها كوكبة من رجال الدين تحظى بالاحترام ويعتبرهم كلٌ من النظام والمجلس الإسلامي السوري، على حد سواء، من الشخصيات المُستقلة التي يمكن أن تكون رصيداً ثميناً لكلٍ منهما.

المشهد الديني السنّي قبل انتفاضة 2011

خضعت سورية، ذات الغالبية السنّية، إلى الانتداب الفرنسي من العام 1923 حتى العام 1946.1 خلال هذه الفترة، تمتّعت الهيئات الدينية السنّية في دمشق بدرجة من الاستقلالية المؤسسية والاقتصادية عن الدولة. هذه الاستقلالية، التي كانت إرثاً من العهد العثماني، شهدت صعود نخبة من العلماء البارزين الذين عملوا كوسطاء بين المواطنين العاديين، وبين سلطات الدولة التي منحتهم هامشاً من الاستقلال الذاتي ومكّنتهم من الحفاظ على نفوذهم في المجتمع، خاصة في دمشق.2

عاشت هذه التسوية المؤقتة إلى حين نيل سورية استقلالها العام 1946. وبعدها، سعت الأنظمة المتلاحقة إلى تنظيم ومأسسة السلطات الدينية عن طريق التشريع، وبلغت هذه العملية ذروتها في العام 1961 مع سنّ قانون يؤسّس وزارة الأوقاف. بيد أن هذا الإجراء وصل إلى خواتيمه بعدها بسنتين مع تسلّم حزب البعث السلطة.3

فقد اعتمد هذا الحزب على الجهاز الأمني لفرض سيطرته ورقابته على رجال الدين، وأخضع خُطب الجمعة إلى تمحيصٍ مشدّد، وطلب من رجال الدين الحصول على موافقة مُسبقة لتأسيس الجمعيات الخيرية أو الانخراط في جمع التبرعات، لا بل حتى أجبرهم أيضاً على رفع تقارير عن نشاطاتهم. بيد أن المُلفت هنا هو أن البعث لم يمضِ قدماً في مأسسة الهيئات الدينية. كان ثمة اعتباران وراء هذه الاستراتيجية: الأول أن النخبة السنّية المدينية (التي سيطرت عملياً على الاقتصاد) كانت ستُعارض احتكاراً لروابطها ومؤسساتها ينطلق من القمة نزولاً. ولذا، امتنع البعثيون عن إطلاق مثل هذا المشروع. ناهيك عن أنه لم تكن لديهم رغبة كبيرة في القيام بذلك، لأن معتقداتهم الماركسية تؤمن أن برامج الهندسة الاجتماعية ستخلق بنفسها مجتمعاً يرفض طوعاً "الفقهاء الدينيين الرجعيين".4

سجّل هذا التطور نقطة تحوّل في التاريخ الحديث للمؤسسة الدينية السنّية. ففي ظل نظام البعث، لم يعد ثمة سلطة دينية رسمية جامعة، ولا تراتبية فقهية للعلماء، على غرار الأزهر في مصر ومجلس كبار العلماء في السعودية، تقوم بتعيين أعضائها وتحديد مهامهم ورتبهم. وعلى المستوى المؤسسي، لم يشكّل حزب البعث هيئة تمثيلية أو اتحاداً للعلماء شبيهاً بذلك الذي أقامه لمراقبة باقي قطاعات المجتمع، من كتّاب وطلاب وفنانين ونساء ومزارعين وعمال. كما أن العلماء لم يصبحوا جزءاً من الدولة ومندمجين في وزارة الأوقاف (عدا 200 إلى 300 من موظفي هذه الوزارة). عوض ذلك، بقي رجال الدين معتمدين مالياً على القطاع الخاص، ولا سيّما مؤسساته الخيرية وأيضاً مختلف قطاعات التجار، ما ساعدهم على الحفاظ على استقلاليتهم المالية التقليدية وكذلك الإدارية.5

كل هذا أرسى إطاراً للعلاقات بين العلماء وبين الدولة، كما بين العلماء أنفسهم. فقد أضحت المؤسسة الدينية الدمشقية مُنقسمة إلى كيانات (الجمعيات الخيرية، والطرق الصوفية، ومؤسسات الشريعة، وكلية الشريعة الرسمية التي كانت جزءاً من جامعة دمشق، وشخصيات فردية)، تتباين في قربها أو بعدها عن النظام. وبما أن هذه الكيانات كانت تعمل داخل تخوم دولة أمنية تراقب عن كثب التنظيم والنشاطات الاجتماعية، فإنها لم تكن موحّدة تحت مظلة واحدة. لا بل عمل أعضاؤها كخصوم يتنافسون على النفوذ. علاوةً على ذلك، عمد النظام إلى تحوير انتباه الكيانات وتوجيهه بعيداً عن السياسة ونحو الشأن الاجتماعي. وهذا أنهى عملياً عقوداً من النشاط السياسي من جانب المؤسسات الدينية (مثل تنظيم المظاهرات وطرح مرشحين للانتخابات البرلمانية)، ما ولّد سخطاً في أوساط النخبة السنّية المدينية.

في أعقاب استيلاء حافظ الأسد على السلطة العام 1970 عبر انقلاب داخلي بعثي عُرف باسم "الحركة التصحيحية"، وقع كلٌ من النظام وسلك ضباط الجيش تحت هيمنة الأقلية العلوية (وهي طائفة منبثقة عن الشيعة) وأفراد يتحدرون من أصول فلاحية.6 هذا التطور فاقم حنق النخبة السنّية المدينية التي بدأت في أواخر السبعينيات التي لجأت إلى تظاهرات وإضرابات وأعمال شغب تصدّرتها جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تسعى إلى إقامة دولة إسلامية.7 في العام 1980، أشعلت الجماعة تمرّداً مسلّحاً، وفي تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام تأسست في السعودية جماعة أُطلق عليها اسم الجبهة الإسلامية لدعم هذا التمرد.8 كانت تلك أنجح محاولة حتى الآن لدمج رجال الدين المنشقين في هيئة سياسية موحّدة، وكانت جماعة الإخوان ونحو 100 رجل دين منفيين يقفون وراء هذه المبادرة، بما في ذلك قيادة جماعة زيد، وهي شبكة إسلامية تعليمية يدعمها التجّار مقرها في دمشق وكانت تعارض النظام آنذاك.

بيد أن هذا المشروع تداعى مع سقوط مدينة حماة التي كان يسيطر عليها المتمردون في العام 1982 وما تلا ذلك من تهاوي الانتفاضة. حينها، تقرّبت جماعة الإخوان من المعارضة العلمانية وساعدت على إنشاء التحالف الوطني لتحرير سورية، ما أدى إلى شرذمة الجبهة الإسلامية. ثم إن الجماعة نفسها عانت من الانشقاق، بعد أن خرج عليها العديد من الأعضاء في خضم محاولات النظام لسحقها في الثمانينيات. وفي أواسط الثمانينيات، تمزقت الجبهة الإسلامية وأجبرت الأجهزة الأمنية السورية من تبقى من جماعة الإخوان على اللجوء إلى العمل السري.

على الرغم من قيام النظام باستئصال شأفة الإسلاميين والمُشتبه بكونهم إسلاميين، إلا أنه كان حريصاً في الوقت نفسه على تأمين غطاء ديني. وقد أسفرت سيطرة البعثيين على الحكم في الستينيات إلى صعود نجم أحمد كفتارو، رئيس مجمع أبو النور التعليمي الإسلامي (المعروف أيضاً باسم مجمع الشيخ أحمد كفتارو) الذي أسّسه والده بمعية شيخ بارز في الطريقة الصوفية النقشبندية في دمشق.9 كان كفتارو قد أثبت ولاءه لحزب البعث حين كان العضو الوحيد من بين رجال الدين الدمشقيين الذي دعم ترشيح الحزب لرياض المالكي في الانتخابات البرلمانية العام 1957. كما أنه انشقّ عن صفوف نظرائه حين نافس الشيخ حسن حبنكة الميداني على منصب مفتي الجمهورية.10 صحيح أن كفتارو حظي بوظيفة وبدعم حكومي، لكنه خسر في خضم ذلك وضعيته الرمزية وشرعيته في أوساط قطاعات واسعة من المجتمع السوري. وهذا عنى أنه خلال اضطرابات انتفاضة جماعة الإخوان في الثمانينيات التي رفعت سيف التحدي في وجه شرعية النظام السياسية والاجتماعية، لجأ النظام إلى شخصية اعتبرها أكثر مقبولية، نسبياً على الأقل، لدى العلماء والمجتمع السنّي الأوسع: محمد سعيد البوطي.

تخرّج البوطي من كلٍ من معهد التوجيه الإسلامي المحلي ومن جامعة الأزهر في مصر، ما جعله مُتبحّراً بالفقه الإسلامي بشطريه التقليدي والحديث، كما أنه حظي باحترام خارج حدود سورية. تقدّم البوطي الصفوف لنجدة النظام في لحظة حرجة للغاية. في مقابل ذلك، تعزّزت مكانته وحظي بلقاءات لساعات طويلة مع الرئيس آنذاك حافظ الأسد، إضافةً إلى الاستحواذ على منبر الجامع الأموي (أرفع موقع سنّي في سورية). كل هذا وفّر له حرية تعبير لم يعرفها معظم نظرائه، وفضلاً عن برنامج أسبوعي على التلفزيون الرسمي السوري. إضافةً إلى ذلك، استطاع البوطي التوسّط لصالح سجناء ومنفيين، بمن فيهم أعضاء بارزون في جماعة الإخوان، وقادة جماعة زيد الذين تم نفيهم من البلاد بعد اتهامهم بالانضمام إلى الإخوان ودعم انتفاضتهم.11

في العام 2000 توفي حافظ الأسد. وكما كان متوقّعاً، أدى البوطي شعائر صلاة الجنازة. بيد أن الاجتماع اللاحق للشيخ مع نجل الأسد، بشار، كان الأول والأخير لفترة من الزمن. فقد وجد بشار نفسه على رأس مجتمع أكثر تديّناً من ذلك الذي عاينه والده، وأراد أن يشق لنفسه نهجاً خاصاً به. وهكذا، خسر البوطي الحظوة حين اختار بشار حلفاء جدد غير متوقعين انتقاهم من صفوف منافسي البوطي في جماعة زيد، التي سُمح لقادتها بالعودة إلى سورية في التسعينيات.12 تعيّن على بشار أيضاً أن يتعاطى مع إدراج الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش سورية في "محور الشر"، غداة هجمات أيلول/سبتمبر 2001، وغزو العراق بقيادة الولايات المتحدة العام 2003، واغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري العام 2005 وما تلا ذلك من خروج القوات السورية من لبنان. كل هذه التطورات هدّدت النظام وحفزت بشار الأسد على إقامة علاقات مع شخصية دينية تتمتع بشرعية اجتماعية أوسع من البوطي، فوقع اختياره على أسامة الرفاعي، رئيس جماعة زيد، الذي نسج معه علاقة جيدة.13 

من جهتهم، واصل علماء دمشق محاولاتهم لتوحيد الصفوف، وسعوا إلى تسوية مشكلة تشظي المشهد الديني من خلال تشكيل هيئات جامعة كبيرة كلما سنحت الفرص. في العام 2004، دعا معاذ الخطيب، وهو شيخ وإمام سابق للجامع الأموي الشهير في دمشق، إلى تشكيل اتحاد العلماء والأئمة والدعاة،14 ما أعاد إلى الذاكرة رابطة العلماء (التي كان والد الخطيب عضواً فيها) التي أسّسها الإصلاحي كامل القصاب، التلميذ السابق للإصلاحي الإسلامي الشهير محمد عبده، من حيث السعي لتوحيد رجال الدين والدعاة في هيئة واحدة لها طبيعة سياسية واضحة. من بين المطالب الرئيسة التي أُدرجت في الميثاق المُقترح (الذي لم يُنشر آنذاك) استعادة الحريات العامة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإلغاء قوانين حالة الطوارئ، والمحاكم الخاصة، والاعتقالات التعسفية، ووضع حد لنظام الحزب الواحد.15 بيد أن معظم العلماء كانوا منشغلين آنذاك بالتصدي للتوجهات الثقافية العلمانية والحد من انفتاح المجتمع. ولذا لم يحظ مشروع الخطيب سوى بحفنة أنصار ولم ير النور قط.

بعدها بسنوات، أطلق علماء دمشقيون بارزون محاولة توحيدية جديدة كانت علنية هذه المرة، وتلقّت مساندة رسمية. فقد شهد شهر نيسان/أبريل 2006 ولادة مؤتمر علماء بلاد الشام، وحضر حفل الإعلان وزير الأوقاف الدينية زياد الأيوبي وممثلون عن أبرز الشبكات الدينية (الفتح، وزيد، والميدان)، وكذلك الداعية الإسلامي محمد راتب النابلسي والبوطي.16 واعتبر البوطي هذه المؤسسة الجديدة كـ"مرجعية" لحماية الإسلام من التهديدات الإيديولوجية الخارجية والنزاعات الداخلية. بتعابير أخرى، لن تكون هذه الهيئة مهتمة بالشؤون السياسية بل سيكون هدفها تعزيز نفوذ العلماء في مواجهة التيارات الثقافية العلمانية ووقف المشاجرات الفئوية. على أي حال، لم تعش هذه المؤسسة طويلاً، ومثلها مثل المشاريع المشابهة، وضعت الانقسامات الداخلية التي كان النظام يتلاعب فيها، حداً لها.

أساساً، حين يتعلّق الأمر بالكيانات والتيارات الاجتماعية، كان النظام يحابي جماعة أو مجموعة من العلماء على حساب أخرى، وفقاً لما تمليه حساباته في كل مرحلة. وهكذا، إذا ما حظي طرف اليوم بأهمية قد يفقد هذه الحظوة غداً، بينما تقوم كل مجموعة باشتقاق معقل جغرافي خاص بها. وقد أثبت النظام عبر تبنيه هذا المنهج أنه قادر على التلاعب بالمجال الديني في البلاد بطريقة خفية.17 كان النظام يطلب من مختلف الكيانات الإسلامية والتيارات الاجتماعية منحه الشرعية الدينية والسياسية، في مقابل الحفاظ على المعايير الدينية والاجتماعية المُحافظة ورفع شأن العلماء الذين يقبلون بذلك، ومنحهم مزايا على حساب منافسيهم. لذا، وفي سبيل الحفاظ على مواقعها، تعيّن على هذه الكيانات أن تستغل دوماً أي فرصة يطرحها النظام كجزء من استراتيجية التلاعب. لكن، حتى هذه القدرة المحدودة على المناورة تضاءلت بعد حين.

في أيلول/سبتمبر 2008، دوّى انفجار قرب مبنى تابع للمخابرات في دمشق. حينها، ادّعى النظام أن منظمة فتح الإسلام، وهي مجموعة جهادية كانت ناشطة في لبنان قبلها بسنة، هي التي نفّذته. وقد أدلى عضو في هذه الجماعة باعتراف متلفز، على الأرجح تحت الإكراه، قال فيه إن دروسه في معهد الفتح الإسلامي في دمشق (حتى ذلك الحين لم يكن ثمة شبهات بأن هذا الأخير له علاقة بفتح الإسلام) لعبت دوراً في دفعه نحو الإيديولوجيا الجهادية، بتأثير من "الطلاب العرب المتطرفين" الذين التقى بهم هناك.

أضاف أن فتح الإسلام "جمعت التبرعات من خلال جمعيات خيرية".18 بعدها بفترة قصيرة، وفي خطوة اعتُبرت على نطاق واسع بمثابة ردٍ على التفجير، استبدل النظام وزير الأوقاف الدينية زياد الأيوبي، وهو أحد أنصار كفتارو، بمحمد عبد الستار السيد مفتي طرطوس. كان هذا الأخير قد دعا في أوائل ذلك العام، على الأرجح بدفعٍ من مكتب الأمن القومي، إلى عودة سلطة الدولة إلى المجال الديني، زاعماً أنه بات يضم هيئات "تخلق دولاً داخل الدولة" وتحرّض على الفوضى.19 كان أحد مطالب السيد الأساسية تعيين نائب وزير للتعليم الديني في وزارة الأوقاف الدينية تناط به مهمة توحيد المناهج الدينية. وقد تم تلبية هذا الطلب.

بعدها، مضى النظام قدماً في السيطرة على العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية المستقلة. فبعد ثلاثة أيام فقط من التفجير، وُضعت المؤسسات التي تعلّم الشريعة الإسلامية تحت سيطرة وزارة الأوقاف الإسلامية لأهداف "إدارية، وفقهية، وتعليمية ومالية".20 بكلمات أوضح، جرى تأميم هذه المؤسسات جزئياً. وعلى الرغم من استمرار السماح بالتمويل من مُتبرعين خاصين، إلا أن كل التبرعات بات يتعيّن أن تُقّرها لجنة يرأسها المفتي الأكبر في سورية.

علاوةً على ذلك، وُضع الموظفون في المؤسسات الدينية تحت سلطة وزارة الأوقاف، التي أُنيط بها حق تعيينهم وتسريحهم، والتحكّم أيضاً بالمناهج التربوية لهذه المؤسسات. وهكذا، وللمرة الأولى منذ تأسيس كلية الشريعة العام 1954، شكّلت الوزارة مؤسسات شريعة عدة تابعة لها، وبدأت تدريب الدعاة وتوسيع جهازها البيروقراطي. وبفضل المرسوم الرئاسي الرقم 180 الذي صدر في العام 2009، ضاعفت الوزارة عديد موظفيها بنحو 15 ضعفاً،21 كما أعيدت تسميتها لتصبح وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. لقد كان واضحاً أن الهدف الجديد للنظام هو مأسسة الحياة الدينية من خلال قوانين ومراسيم جديدة، مستغلاً الحوادث الأمنية والمخاوف السياسية كما فعل عَقِب التفجير الذي استهدف مبني تابع المخابرات.

تمثّل التوجه الثاني للاستراتيجية الجديدة للنظام في المجال الديني في تكثيف رقابته وسيطرته على رجال الدين من كل الأطياف والتوجهات السياسية، وقمع أولئك الذين ينتهجون خطاً شبه مستقل. فقد أغلق قناة "الدعوة" التلفزيونية التابعة لجماعة زيد، ومركز الدراسات الإسلامية الذي أسّسه الشيخ وعضو مجلس الشعب الإسلامي-الليبرالي محمد حبش.22كما عاقب النظام العديد من أساتذة الشريعة لمعارضتهم، من ضمن أشياء أخرى، "قانون الطفل" الذي رفع الحد الأدنى لسنّ زواج الفتيات، وتدخّل مكتب الأمن القومي لمنع الأساتذة الحانقين من إقامة رابطة لخريجي كلية الشريعة، وفرض حظراً على سفرهم إلى الخارج.23 من جهته، دعم محمد السيد الوزير الجديد للأوقاف والشؤون الدينية انقلاباً ناجحاً داخل مجمّع كفتارو، ما جعله أكثر خنوعاً للنظام. وأخيراً، وفي سياقٍ تطابَقَ مع الجهود لمأسسة النخبة الدينية، اتُّخذت إجراءات لتقليص شعائر التديّن السافرة في المجتمع، كإغلاق صالات الصلاة في المراكز التجارية، ومنع الملصقات الدينية الشعبية، وحظر النقاب في المدارس، ونقل أكثر من 1000 معلمة منقّبة إلى وظائف إدارية.24

هكذا كان الوضع العام للمجال الديني السنّي في دمشق عشية الانتفاضة السورية، حيث ضاعفت أجهزة الأمن قمع الشخصيات الدينية بوتيرة بدا أنها لن تتوقف عند حد. وفي الوقت نفسه، انهمك النظام في تأميم المؤسسات الدينية وإخضاعها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.

إعادة تشكيل المشهد الديني السنّي منذ 2011

أدى اندلاع الاحتجاجات ضد النظام في غرّة العام 2011، إلى ردود فعل متناقضة في صفوف مختلف الكيانات التي تشكّل المشهد الديني السنّي في دمشق. إذ لم يبرز فقط انقسام بين أولئك الذين اصطفوا إلى جانب النظام وبين أولئك الذين دعموا المتظاهرين، بل تباينت في بعض الأحايين الآراء بين القيادة والقواعد في مؤسسة واحدة. أكثر من ذلك، اختلفت درجة مشاركة أعضاء الكيانات التي أيدت مطالب المتظاهرين في التظاهرات على نحو بيّن وكبير.25

على سبيل المثال، دعمت جماعة الميدان، وهي شبكة تعليمية إسلامية، مطالب المُحتجين. وحذا حذوها مسجد الشافعي البارز في حي المزّة الراقي الذي أصبح مركزاً للنشاطات المناوئة للنظام. وفي هذه الأثناء، تبنّت جماعة زيد مقاربة الانتظار والترقّب، بيد أنها دُفعت إلى دعم المحتجين بضغط من أعضاء قاعدتها الشعبية، وربما أكثر بسبب سلوكيات النظام نفسه الذي أرسل شبّيحة انهالوا بالضرب على الشيخ أسامة الرفاعي، بعد اتهامه بعدم دعم الخطوات القمعية للنظام بالقدر المطلوب.26

اختارت قيادة معهد الفتح الإسلامي مساندة النظام. بيد أن العديد من الأساتذة والإداريين، الذين تأثروا بطلابهم، خرجوا عن طاعة القيادة ودعموا علناً المحتجين. كما شهدت مختلف الطرق الصوفية ظاهرة مماثلة، فدعم شيوخٌ النظام فيما كان عدد لا بأس به من أتباعهم ينضمون إلى المحتجين. في المقابل، بالكاد شهد مجمع كفتارو نشاطاً مناوئاً للنظام في صفوف أعضائه، ما خلا مجموعة صغيرة أطلقت على نفسها اسم "أحرار مجمع الشيخ كفتارو".27 لكن البوطي، الذي كان لايزال رسمياً أرفع رجل دين إسلامي في النظام، أدان المتظاهرين بشدة مراراً وتكراراً، إلى أن تمّ اغتياله في انفجار غامض في 21 آذار/مارس 2013.28

لم يوفّر النظام أي شخصية دينية أعربت عن دعمها للمحتجين أو اشتبه بأنها متعاطفة معهم. وهو أناط بأجهزة الأمن اعتقال، وسجن، وتعذيب، وحتى قتل عدد من هذه الشخصيات.29 أما أولئك الذين نفدوا بجلدهم من الاعتقال، فلم يكن أمامهم سوى المنفى. وغداة حملات الإطباق هذه التي أطلقها النظام، جرى إخضاع جماعة زيد وجماعة الميدان ومسجد الرفاعي في المزّة إلى رقابة صارمة ومشدّدة.

كان لاستراتيجية النظام في مواجهة العلماء المؤيدين للمعارضة تأثيران اثنان على المجال الديني السنّي في دمشق. الأول: فيما كانت شخصيات دينية وازنة تُنتزع من مساجدها أو تُجبر على الفرار، برز على الساحة لاعبون جدد لم يكن لهم في السابق سوى نفوذ محدود. هذا التطور ترافق مع تطبيق النظام لاستراتيجية التلاعب على المستوى المؤسسي. وفي بعض الحالات، كان النظام يقتنص الفرص لتسهيل سيطرته الشاملة على المؤسسات المثيرة للمتاعب واستبدالها بأخرى تحظى منه بثقة أكبر.

هذا ما حدث لجماعة زيد التي قررت، بعد تردّد، إبداء الدعم للمحتجين. وقد رد النظام بالإطباق على قيادتها وتمكين معهد الفتح الإسلامي لاحقاً من بسط سيطرته على العديد من منابرها وجل إدارتها. وفي خاتمة المطاف، نال المعهد الاعتراف الرسمي بالشهادات التي يُصدرها، باعتبارها جزءاً من شهادات جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية الموالية للنظام. وعلى المنوال نفسه، عُيّن حسان عوض، المحاضر في المعهد وفي كلية الشريعة، داعية في مسجد الرفاعي، أحد أكبر جوامع العاصمة والذي لطالما كان مرتبطاً بجماعة زيد، وجرى تغيير اسم المسجد مرتين للدلالة على القطيعة مع الماضي.30 كما بدأ الدعاة الموالون للمعارضة يخسرون منابرهم الواحد تلو الآخر، وبات المشهد الديني السنّي يعكس طابع النظام وتوجهاته.31

تمثّل التأثير الثاني في أن النظام، وجنباً إلى جنب مع تكثيف دور أجهزته الأمنية داخل الدائرة الدينية واستبدال كبار العلماء من ذوي العقلية الاستقلالية برجال دين أقل رتبة وأكثر مطواعية، سرّع عملية تأميم المؤسسات الدينية والهيئات الأخرى. وبهذه الطريقة، استُخدم النزاع السوري المتفاقم كمبرر لتمرير قوانين وإصدار مراسيم تُخضع كل الكيانات الإسلامية الخاصة إلى سيطرة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. والواقع أن القانون الرقم 31 للعام 2018 منح الوزارة حق تعريف "الإسلام الصحيح"، كما سمح لها بدرجة من النفوذ على وزارات أخرى كوزارتي الإتصالات والتعليم.32 وهكذا، أُعيد تشكيل الهيئات الإسلامية السنّية المتباينة والمفككة تاريخياً لتصبح أجزاء من مؤسسة دينية إسلامية مُتّسقة، وإن خاضعة إلى رقابة النظام الصارمة للغاية.33

لكن خارج العاصمة، أُجبر النظام على الانسحاب من العديد من المناطق في خضم ما أصبح تمرداً مسلحا. ونتيجة لذلك، تغيّر المشهد الديني على نحو كاسح في مساحات شاسعة من ريف دمشق. ومع أن معظم جماعات المتمردين كانت إسلامية، لكنها ليست سلفية التوجّه، إلا أن الكثير من المداد أُريق حول صعود الجماعات الراديكالية المُنتمية إلى هذا الشكل أو ذاك من السلفية. ربما يرجع السبب إلى الدور العسكري المُتضخّم للجماعات السلفية في التمرد. لكن ما له دلالة، ما خلا الاستثناء المهم للون التقليدي الذي انتهجه فصيل سلفي هو جيش الإسلام في دوما، فإن السلفية (وخاصة الجهادية منها) لم تتمتع سوى بدعم ضئيل في أوساط المواطنين المحليين وكان للمانحين الأجانب اليد العليا في انتشارها.34 وهكذا، كانت السلفية تتبخّر عملياً من منطقة ما حالما يُجبر مؤيدوها على الخروج على يد جماعات متمردة غير سلفية أو من جانب النظام نفسه.

التطوّر الأهم، الأكثر ديمومة، كان صعود مجموعة جديدة من القادة الدينيين المحليين الذين تعاطف العديد منهم مع أهداف المعارضة. تاريخياً، ما عدا بعض الاستثناءات، كان المشهد الديني لمحافظة ريف دمشق التي تزنّر العاصمة عبارة عن حديقة خلفية للكيانات الدمشقية، مع وجود بعض المناطق الواقعة تحت هيمنة مؤسسات معيّنة. بيد أن سيطرة المتمردين المسلحين على أشطار واسعة من الريف، حتى حين كانت دمشق لاتزال في قبضة النظام الحازمة، قلبت هذه الديناميكية.35 فالشخصيات الدينية المحلية التي لطالما تعودت أن تكون تابعة وخاضعة إلى كبار رجال الدين المقيمين في دمشق، اخترقت هامشيتهم النسبية هذه وتصدرت أدوار المشرعين والقضاة الإسلاميين داخل الهيئات السياسية والعسكرية المُهيمنة في ما يُسمى بالمناطق المحررة.

إضافةً إلى ذلك، في ذروة سطوة المعارضة المسلحة في محافظة ريف دمشق (خاصة منطقة الغوطة)، انقلبت العلاقات بين المركز والأطراف رأساً على عقب. على سبيل المثال، بدأ الأعضاء الشبان في جماعة زيد الذين يعيشون في كفرسوسة، إحدى ضواحي دمشق، بالانتقال إلى بلدة داريا في الغوطة التي يسيطر عليها المتمردون. في السابق، كان الشبان من داريا يتوجهون إلى دمشق لمتابعة تحصيلهم العلمي. وحين قلبت جماعة زيد ظهر المجن للنظام، بذلت جهوداً لدعم المجموعات المتمردة التي سيطرت على البلدة. وعلى الرغم من القصف اليومي والحصار الخانق الذي فرضه النظام، تحوّلت مناطق سيطرة المتمردين كالغوطة إلى مرتع للنشاط الثوري الذي اجتذب ناشطين سياسيين وشباناً يافعين رفضوا العيش تحت ظلال حكم رئيس النظام بشار الأسد في دمشق.

الجدير ذكره هنا أن الشخصيات الدينية الجديدة الصاعدة، وعلى رغم قلة عددها نسبياً وعملها في الغالب على مستوى فردي لا جماعي، إلا أنها تحتفظ على ما يبدو بقدر ملحوظ من النفوذ والاستقلال الذاتي، حتى في ظل استعادة النظام سيطرته مؤخراً على المناطق المحيطة بدمشق، وحتى أيضاً على رغم تواصل تعاطف هذه الشخصيات مع المعارضة. وإذا ما كانت الصورة على هذا النحو بالفعل، فالفضل في ذلك يجب أن يُنحى إلى اتفاقات المصالحة التي توسّطت فيها هذه الشخصيات بين النظام وبين أعيان المناطق التي أخلاها المتمردون والمعارضون السياسيون. هذا ما فعله، مثلاً، الشيخ بسام ضفدع، وهو محاضر سابق في معهد الفتح الإسلامي، حيث استخدم نفوذه وعلاقاته الشخصية مع كل من المجتمع المحلي والنظام للتوّسط من أجل دخول هذا الأخير مجدداً إلى بلدة كفربطنا حالما أصبحت المقاومة عقيمة.36

طفت على السطح ظاهرة مماثلة مع أنس الطويل وأسامة الضبع ورضوان الكحيل في بلدة ببيلا، وصالح الخطيب في يلدا ومحمد نور الدين في بيت سحم. فغداة الحصار الذي فُرض على هذه المناطق لمعاقبتها، ساعد رجال الدين فيها على إقناع النظام بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية. وبالتالي، أشرف هؤلاء على اتفاقات المصالحة التي حفظوا من خلالها أدوارهم القيادية، بما في ذلك مناصبهم الدينية، في داخل مجتمعاتهم المحلية، على الأقل حتى الآن.37 وفي بلدة سقبا، لعب زاهر أبو الجوز دوراً مهماً خلال عمليات المصالحة، وحثّ السكان على "العودة إلى كنف الدولة وحمايتها".38

في هذه الأثناء، تمكّن الجناح الديني في المعارضة السياسية في نهاية المطاف من تحقيق هدف لطالما تملّص منه وهو توحيد العلماء البارزين المُنشقين في هيئة واحدة في العام 2014، ففي ذلك العام التأم شمل شخصيات دينية مؤيّدة للمعارضة في اسطنبول في تركيا، وشكّلوا المجلس الإسلامي السوري. وعلى رغم التشتت الجغرافي لأعضائه بين تركيا وبلدان الخليج والأردن ومناطق المتمردين في سورية وأماكن أخرى، نجح المجلس في جلب شخصيات وازنة من رابطة علماء الشام التي كانت تتخذ سابقاً من دمشق مقراً لها، ورابطة العلماء السوريين، وهي منظمة تتشكّل من منفيين أسّسها رجال دين مقربون من جماعة الإخوان في عمّان بالأردن العام 2006.39

على صعيد كلٍ من مستوى تمثيل التيارات الإسلامية التي لاحصر لها والحصول على الاعتراف الدولي، تفوّق المجلس الإسلامي على الجبهة الإسلامية في سورية التي برزت في الثمانينيات. والواقع أن هذا المجلس هو أكبر مجموعة معارضة إسلامية وازنة ظهرت منذ سيطرة حزب العبث على زمام السلطة في سورية. ومع أن المجلس فشل في التوصّل إلى اتفاق مع الجماعات السلفية (التي لاتزال نافذة أساساً بسبب دورها العسكري المتضخم في التمرد كما ألمحنا آنفا)، إلا أن المجلس يُعتبر العنصر الديني في الائتلاف الوطني السوري، الذي يشكّل المظلة الرئيسة لقوى المعارضة السورية. تضم قيادة المجلس الإسلامي 128 عضواً، منهم 50 ما زالوا في المناطق التي يُسيطر عليها المتمردون. وهو يدعّي تمثيل 40 هيئة دينية في داخل البلاد وخارجها.40

طرح المجلس الإسلامي نفسه كسلطة دينية وشبكة تعليمية في تركيا، حيث يقطن الآن ملايين من اللاجئين السوريين جلّهم من السنة. وقد أنجز ذلك عبر التعاون الوثيق مع "وقف الديانة التركي"، وربما بتمويل منه. هذا الأخير هو هيئة غير حكومية (وإن كان على صلة وثيقة بالدولة التركية) تكرّس جهودها للتعليم الإسلامي. وقد قامت الشبكات المُرتبطة بالمجلس في مختلف المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في سورية بتوفير الخدمات الاجتماعية والتعليم، وشغّلت المخابز، وحتى ساعدت على إدارة مخيمات النازحين داخليا، غالباً بالتعاون مع "وقف الديانة التركي".41 كما لعب العديد من الأشخاص الذين لهم روابط مع المجلس الإسلامي أدواراً عسكرية بارزة في مختلف الميليشيات غير السلفية التي نشطت سابقاً في الغوطة، بما في ذلك الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وأحرار الشام وفيلق الرحمن.

ثمة هنا سمة جديدة للمجال الديني، تسحب نفسها بالتساوي على كلٍ من النظام وكيانات المعارضة، هي طبيعته العابرة للحدود بوضوح. في حالة النظام، حصدت إيران نفوذاً مباشراً في الحياة السياسية الدينية من خلال وزارات عدة. مثلا، أبرمت وزارة التعليم اتفاقات مع زميلتها الإيرانية سُمح بموجبها بمشاركة إيران في وضع المناهج التربوية.42 وهذا تطور نجده ملفتاً للغاية، حين نتذكّر أن سورية سنّية بغالبيتها وشبه علمانية، فيما إيران دولة إسلامية شيعية. كما تعمل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عن كثب مع الإيرانيين: ففي آذار/مارس 2018، التقى وزيرها محمد عبد الستار السيد بالمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في طهران.43

على ضفة المعارضة، أقام رجال الدين الدمشقيون وفقهاء إسلاميون شبكات تمتد إلى بلدان عديدة، حتى وهم يحاولون الحفاظ على تلك القائمة في دمشق وأشطار أخرى من سورية. وكما أسلفنا، يتركّز نشاط المجلس الإسلامي في تركيا. وهذا ينطبق بشكل متزايد على كيانات إسلامية أخرى. على سبيل المثال، غادر قادة جماعة زيد، الذين سلّم النظام مساجدهم ومدارسهم إلى معهد الفتح الإسلامي، سورية وأسسوا مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية في تركيا المرتبطة بالمجلس الإسلامي. وقد انضم إلى هذا الرهط رجال دين وفقهاء آخرون شقوا عصا الطاعة على الكيانات الإسلامية الموالية للنظام. وهكذا، أسّس موفق المرابع، النائب السابق لمدير معهد الفتح الإسلامي "دارَ القرآن وعلومه"، فيما أسّس محمد باسم دهمان، المنتمي سابقاً إلى مجمّع كفتارو، مؤسسة الشيخ أحمد كفتارو العلمية والدعوية وجمعية الشيخ أحمد كفتارو للعلوم والثقافة.44

خاتمة: ارتباطات دولية ومشاغل محلية

ينحسر النزاع في سورية بالتدريج، ويستعيد النظام سيطرته على معظم المناطق التي خسرها أمام مختلف الفصائل المتمردة. ومع ذلك، لايبدو أنه سيكون لنهاية الأعمال العدائية تأثيرات ملحوظة على محاولات النظام الخاصة بإعادة تشكيل المشهد الديني السنّي في العاصمة. كما ينبغي الانتظار لنرَ أيّاً من الأطراف، النظام أم المعارضة، سينجح في التحكّم بمثل هذا التغيير الجذري في المشهد. إنه تحدٍ عظيم بالفعل لكليهما.

بالنسبة إلى النظام، المسألة الأكثر إلحاحاً هي كيفية تلميع أوراق اعتماده الإسلامية. فإذا ما مال نحو الاعتماد على تصريحات الشخصيات الدينية السنّية الدمشقية التي تُعتبر على نطاق واسع مجرد دُمى، ستبدو استراتيجيته محكوماً عليها بالفشل. أما المعارضة الدينية فسيتعيّن عليها أن تتصدى إلى الكيفية التي قد تخاطر فيها بوضعيتها المتوطّدة حديثاً لتحويلها إلى فاعلية سياسية. والحال أنه مهما كانت المعارضة موحّدة، إلا أنها تنشط في المنفى، فيما استحداث التغيير في سورية يتطلّب تواجد روابط كثيفة مع أطراف في الداخل تتشاطر وإياها نمط التفكير نفسه وتتمتع بنفوذ اقتصادي واجتماعي، خاصة في العاصمة.

أحد الميادين المرشّحة للتحوّل إلى حلبة معركة سياسية هي المجال الديني في محافظة ريف دمشق. إذ إنه الميدان الذي أصبحت فيه كوكبة من رجال الدين قوة ذات شأن، أساساً بفعل اتفاقات المصالحة التي توسّطوا فيها بين النظام وبين مجتمعاتهم المحلية. تعاطف العديد من شخصيات هذه الكوكبة مع المُحتجين ولاحقاً مع المتمردين المسلحين، وبعضها نسج وشائج مع فصائل متمردة. ولذا، تثمّن المعارضة عالياً هؤلاء لكونهم وسطاء يمكن من خلالهم إقامة الصلة مع المجتمعات المحلية السنّية التي شكّلت العمود الفقري للتمرّد. أما النظام فيرمقهم بعين الشك، لكنه حين يضع في الاعتبار موقفهم وسمعتهم الاستقلالية، يُدرك أنه يفعل خيراً إذا ما تودّد إليهم. وبالتالي، وبالنسبة إلى نظام حريص على توطيد سيطرته على الحياة الدينية في العاصمة وضواحيها، وكذا الأمر للمعارضة المنفية المُصمّمة على الحفاظ على روابط مع قاعدتها الشعبية، فإن رجال الدين في المناطق المحيطة بدمشق قد يكونون رصيداً ثميناً.

شُكر

جرت مناقشة موضوع هذه الدراسة والعديد من الأفكار التي وردت فيها، في ورشة عمل عُقدت في اسطنبول في 10 كانون الأول/ديسمبر 2019. وأنا مدينة بجزيل العرفان إلى مركز كارنيغي للشرق الأوسط لتنظيمه هذه الورشة.

هوامش

1 انظر على سبيل المثال هذا المقتطف من: Michael Izady, “Atlas of the Islamic World and Vicinity,” Columbia University, https://gulf2000.columbia.edu/images/maps/Syria_Religion_Detailed_lg.png.

2 Albert Hourani, “Ottoman Reform and the Politics of Notables,” inBeginnings of Modernization in the Middle East: The Nineteenth Century, edited by W.R. Polk and R.L. Chambers (Chicago: University of Chicago Press, 1981), 41–68. وللاطلاع على معلومات مفصّلة حول دور العلماء في دمشق في عهد العثمانيين، انظر: Steve Tamari, “Ottoman Madrasas: The Multiple Lives of Educational Institutions in Eighteenth-Century Syria,” Journal of Early Modern History 5, no.2 (2000): 99–127.

3 تأسّس حزب البعث في سورية في العام 1947 من خلال اندماج حركتين سياسيتين، وجمع بين القومية العربية والاشتراكية. ولعب دوراً أساسياً في التاريخ الحديث لسورية، حيث لايزال في السلطة، وبقي في الحكم في العراق حتى العام 2003 حين تمّ عزله وحظره في وقت لاحق.

4 Thomas Pierret, Religion and State in Syria: The Sunni Ulama From Coup to Revolution (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2013), 17–22.

5 على سبيل المثال، حظي معهد الفتح الإسلامي بدعم مالي من جمعية الفتح الإسلامي، اللذان أسسهما الشيخ صالح فرفور. وتم دعم مجمع أبي النور الإسلامي (مجمع الشيخ أحمد كفتارو) مالياً من قبل جمعية الأنصار الخيرية. كان الشيخ سارية الرفاعي شخصية قيادية في جماعة زيد وشقيق قائدها أسامة، كما اشتُهر بلقب "شيخ التجار". للحصول على المزيد من التفاصيل حول الاقتصاد السياسي للنخبة السنّية الحضرية، انظر: Pierret, Religion and State in Syria, Chapter 4, 144–162.

6 للاطلاع على معلومات حول الحركة التصحيحية والتغيرات التي أحدثتها، انظر: Raymond Hinnebusch, Syria: Revolution From Above (London and New York: Routledge, 2001). وحول الفلاحين والعلويين في نظام الأسد، انظر: Hanna Batatu, Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and Their Politics (Princeton: Princeton University Press, 1999).

7 برزت جماعة الإخوان المسلمين في سورية للمرة الأولى في العام 1945. وعملت علناً خلال الخمسينيات ومطلع الستينيات، وفازت بمقاعد في الانتخابات البرلمانية، قبل أن تختلف مع حزب البعث بعد وقت قصير من استيلاء هذا الأخير على السلطة في العام 1963. للاطلاع على معلومات حول النخبة السنّية الحضرية وعلاقتها بالإخوان المسلمين، انظر: Michel Seurat, Syrie, l'Etat de barbarie (Paris: Presses universitaires de France, 2012).

8 Pierret, Religion and State in Syria, 189–190.

9 الطريقة الصوفية النقشبندية هي إحدى أكبر وأقدم الطرق في العالم. اشتقّ اسمها من اسم مؤسسها بهاء الدين النقشبند البخاري. ظهرت في سورية في نهاية القرن السابع عشر، وهي اليوم إحدى أبرز الطرق الصوفية في البلاد، إلى جانب الشاذلية والرفاعية.

10 عدنان سعد الدين، مقابلة أجراها أحمد منصور، برنامج "شاهد على العصر"، الجزيرة، 19 أيلول/سبتمبر 2012، https://www.aljazeera.net/programs/centurywitness/2012/9/19/عدنان-سعد-الدين-عصر-الإخوان-المسلمين-في-سوريا-ج2

11 Pierret, Religion and State in Syria, 76–82.

12 المصدر السابق، ص. 89.

13 أسامة الرفاعي هو ابن مؤسس جماعة زيد، عبد الكريم الرفاعي.

14 Pierret, Religion and State in Syria, 192.

15 معاذ الخطيب، "مسودة اتحاد العلماء والأئمة والدعاة"، دربنا، 8 أيار/مايو 2006، http://www.darbuna.net/blog/2006/05/08/مسودة-إتحاد-العلماء-والأئمة-والدعاة/

16 Pierret, Religion and State in Syria, 199–203.

17 ليلى الرفاعي، " النظام السوري حبَى مجمّع الفتح الإسلامي بالنفوذ، لكن بأي ثمن؟"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 13 كانون الأول/ديسمبر 2018، https://carnegie-mec.org/2019/01/02/ar-pub-78051

18 Thomas Pierret, “The State Management of Religion in Syria: The End of ‘Indirect Rule?’” in Middle East Authoritarianisms: Governance, Contestation, and Regime Resilience in Syria and Iran, edited by Steven Heydemann and Reinoud Leenders (Stanford, CA: Stanford University Press, 2013), 98.

19 المصدر السابق، ص. 97.

20 المصدر السابق، ص. 99، استناداً إلى معلومات من شبكة شام الإخبارية، وهي صحيفة إلكترونية سورية موالية للنظام توقفت عن الصدور، 6 أيلول/سبتمبر 2008.

21 المصدر السابق، ص. 100، استناداً إلى معلومات من صحيفة الثورة السورية اليومية، 6 شباط/فبراير 2009.

22 الشيخ سارية عبد الكريم الرفاعي (الصفحة الرسمية)، "مِن الذاكرة .. برومو قناة الدعوة الفضائية التي أغلقها النظام السوري عام 2008"، منشور على فايسبوك، 17 كانون الثاني/يناير 2009، https://www.facebook.com/watch/?v=1972162816146548 و"إغلاق مركز للدراسات الإسلامية يملكه برلماني سوري"، إيلاف، 16 نيسان/أبريل 2009، https://elaph.com/amp/Web/Politics/2009/4/430526.html

23 ليلى الرفاعي، ""الشبكة العلمائية الدمشقية".. القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك"، الجزيرة، 19 تموز/يوليو 2018، https://bit.ly/3aY0HDB

24 "شهود: إغلاق المصليات في المراكز التجارية في سورية وتحويلها إلى مستودعات بطلب من الأجهزة الأمنية"، أخبار الشرق، 14 آب/أغسطس 2009، عبر موقع رابطة أدباء الشام، https://bit.ly/2ZhjGpi وأيضاً: Pierret, “The State Management of Religion in Syria,” 101 استناداً إلى معلومات من الصحيفة اليومية العربية "القدس العربي"، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2010. انظر أيضاً: Associated Press, “Syria Bans Niqab From Universities,” Guardian, July 19, 2010, https://bit.ly/2yb7KKC; وهناده السيد عفاش، "وزير التربية يصدر قرارا بنقل المنقبات من حقل التعليم حفاظا على "العلمانية""، فرانس 24، 1 تموز/يوليو 2010، https://bit.ly/3bDBk9m

25 الرفاعي، "الشبكة العلمائية الدمشقية".

26 "مظاهرات بدمشق بعد اقتحام مساجد"، الجزيرة، 27 تموز/يوليو 2011، https://bit.ly/2WJnoXE

27 "بيان أحرار مجمع الشيخ أحمد كفتارو"، موقع يوتيوب، 4 تموز/يوليو 2012، https://youtu.be/J6m9wlZundM

28 انظر على سبيل المثال، خطاب البوطي بعد عشرة أيام فقط على اندلاع التظاهرات في درعا ودمشق: "خطاب البوطي على قناة الدنيا السورية 25-3-2011"، يوتيوب، 18 تموز/يوليو 2011، https://www.youtube.com/watch?v=syWSF8O71lA وللحصول على أمثلة إضافية، الرجاء زيارة موقعه الإلكتروني: www.naseemalsham.com

29 علماء مدينة حماة، "أمثلة عن اعتقال المشايخ وعلماء الدين وتهجيرهم وضربهم وقتلهم"، منشور على فايسبوك، 14 آذار/مارس 2013، https://bit.ly/3hIMhuL

30 "النظام يعاقب آل الرفاعي بتغيير اسم مسجدهم في دمشق"، عنب بلدي، 5 شباط/فبراير 2016، https://www.enabbaladi.net/archives/63584 انظر أيضاً قناة المسجد على يوتيوب، التي تسلّط الضوء على خطاب الجمعة الأسبوعي لعوض: https://www.youtube.com/channel/UCFvM9bDWSyMDT-Nu719shbA

31 ملاحظة المؤلّفة.

32 "القانون رقم 31 لعام 2018"، الوكالة العربية السورية للأنباء، 12 تشرين الأول/أكتوبر 2018، https://www.sana.sy/?p=827604

33 هاروت أكديديان، "الحقل الديني يستمر في التوسّع في سورية"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 19 آذار/مارس 2019، https://carnegie-mec.org/2019/04/02/ar-pub-78750

34 انظر على سبيل المثال مظاهرة أهل الغوطة ضدّ تنظيم جبهة النصرة: https://www.youtube.com/watch?v=jf_MlGiAgvo

35 Kheder Khaddour, “Localism, War, and the Fragmentation of Sunni Islam in Syria,” Carnegie Middle East Center, March 28, 2019, https://carnegie-mec.org/2019/03/28/localism-war-and-fragmentation-of-sunni-islam-in-syria-pub-78714.

36 قُتل شيخان من كفربطنا، هما أحمد سعدية وعبد الخالق وهبة على يد فيلق الرحمن، وهي جماعة متمردة تسيطر على المنطقة، لمطالبتها بعودة النظام. انظر: "عبد الخالق وهبة لم يقتل حديثًا في كفربطنا.. هذه تفاصيل إيجاد جثته"، عنب بلدي، 19 آب/أغسطس 2018، https://www.enabbaladi.net/archives/247444

37 هديل الصيداوي، "كيف استخدمت الدولة السورية رجال الدين لإعادة توكيد سلطتها في محافظة ريف دمشق؟"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 27 آذار/مارس 2019، https://carnegie-mec.org/2019/05/17/ar-pub-79144

38 Ninar Al-Ra’i, “Facets of Syrian Regime Authority in Eastern Ghouta,” Middle East Directions (MED), Wartime and Post-Conflict in Syria, November 2019, retrieved from Cadmus, European University Institute Research Repository, http://hdl.handle.net/1814/63871.

39 الرفاعي، "الشبكة العلمائية الدمشقية".

40 Thomas Pierret, “The Syrian Islamic Council,” Diwan, Carnegie Middle East Center, May 13, 2014, https://carnegie-mec.org/diwan/55580.

41 أكديديان، "الحقل الديني يستمر في التوسّع في سورية".

42 فادي بك الشريف، "اليوم توقيع اتفاقية تعاون تربوي بين سورية وإيران..."، الوطن، 23 كانون الثاني/يناير 2020، http://alwatan.sy/archives/229505. انظر أيضاً: "كارثة تحلّ على اﻷجيال الناشئة في سوريا.. إيران تستحوذ على قطاع التربية والتعليم"، صحيفة جسر الإلكترونية، 26 كانون الثاني/يناير 2020، https://www.jesrpress.com/2020/01/26/كارثة-تحل-على-اﻷجيال-الناشئة-في-سوريا/?fbclid=IwAR2Mv_QKP6Ac6wsEJoy45kqhbNo1FeT82YJgfllk16qxZxNsZ5SYpEuHSzc

43 "قائد الثورة الإسلامية يستقبل وزير الأوقاف وجمعاً من علماء سوريا"، موقع مکتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي، 1 آذار/مارس 2018، https://bit.ly/3bzdWKH

44 الرفاعي، "الشبكة العلمائية الدمشقية".

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.