مقدّمة
فيما تتجه الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو الدخول في مرحلة جديدة، باتت آفاق وتحديات إعادة الإعمار أكثر وضوحًا. بعد سنوات من الصراع، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل ستتمكن سورية وليبيا واليمن والعراق من خوض عملية إعادة إعمار ناجحة في مرحلة ما بعد الحرب، وكيف لها أن تحقّق هذا في ضوء موازين القوى الراهنة محليًا وإقليميًا ودوليًا؟
إن عملية إعادة الإعمار بعد الصراع ليست أمرًا حتمي الحدوث؛ بل يعتمد حجمها ووتيرتها ونطاقها على العوامل الجيواقتصادية في الدول الخارجة من الصراعات، أي بعبارة أخرى، كيف تؤثّر الاعتبارات الجيوسياسية على استخدام الموارد الاقتصادية. فهذه العوامل تحدّد وجهة المساعدات أو القروض أو الاستثمارات تماشيًا مع الأهداف السياسية للقوى الإقليمية والدولية. وهكذا، قد تشكّل إعادة الإعمار فصلًا جديدًا من فصول التنافس بين مختلف الأطراف الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية في بلدٍ ما. لهذا السبب، ستتحدّد معالم مشهد ما بعد الحرب في كل دولة بناءً على التحالفات والتنافسات التي تنطوي عليها الصراعات في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فهذه العلاقات المتداخلة قد تقدّم منظورًا متعدّد الأبعاد يمكن من خلاله فهم العلاقة القائمة بين إعادة الإعمار بعد الحرب وموازين القوى الإقليمية.
الشروط الأساسية لإعادة الإعمار
لا شكّ في أن العوامل الاقتصادية تؤثّر في النتائج السياسية المرتبطة بإعادة الإعمار، ويتجلّى ذلك من خلال الشروط الأربعة الأساسية التي ينبغي توافرها كي تتكلّل عملية إعادة الإعمار بالنجاح. ويحدّد كل شرط ما إذا كانت إعادة الإعمار ستتحقّق وكيف ستحدث، وهذه الشروط هي: أولًا، توافر الموارد الاقتصادية لإعادة الإعمار، ويعني ذلك الموارد المالية بالدرجة الأولى ولكن ليس حصرًا؛ وثانيًا، الطريقة التي تنتهي أو قد تنتهي بها الحرب؛ وثالثًا، وجود أو غياب عملية سياسية على الصعيد الوطني أو الإقليمي؛ ورابعًا، الهياكل الاقتصادية التي كانت قائمة قبل الحرب، والإرث المؤسساتي، وعلاقات الدولة.
ترتكز عملية إعادة الإعمار الناجحة على بناء الدولة بشكل فعّال وتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام ومتوازن وطويل الأمد. وفي حال كان ذلك ناقصًا أو مفقودًا، تتعطّل إعادة الإعمار، ما يمنح الأطراف الفاعلة الخارجية هامشًا أكبر للتأثير في مسار هذه العملية لخدمة أجنداتها الخاصة.
يُعتبر الشرط الأول، أي توافر الموارد، خطوة ضرورية لإعادة الإعمار، وإن لم تكن كافية وحدها. فوفرة الموارد محليًا وخارجيًا قد لا ترسي الأسس السياسية والاقتصادية اللازمة لإعادة الإعمار والحفاظ عليها. وقد تفتقر بعض الدول إلى السلامة الإقليمية والفعالية المؤسساتية الضروريتين لاستغلال مواردها. يُضاف إلى ذلك أن العوامل السياسية مثل إعداد نخب جديدة وديناميكيات النظام السياسي في مرحلة ما بعد الحرب تؤثّر في آفاق الحصول على الموارد اللازمة لإعادة الإعمار. فهذه العوامل تحدّد الدوائر الاجتماعية والسياسية المحلية التي سيتدفّق إليها التمويل، فضلًا عن الحلفاء الإقليميين والدوليين الذين سينخرطون في إعادة الإعمار. وعلى سبيل المثال، قد تواجه بعض حكومات الدول التي تخوض حروبًا عقوبات تحرمها من الاستثمارات والقروض.
كذلك، تؤدّي الطريقة التي تنتهي بها الحرب دورًا بارزًا في سير الأمور. واقع الحال أن الصراعات الأهلية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أضعفت بشكل كبير دولًا قومية كانت تعاني أساسًا جملةً من الاضطرابات، وأفقدت في الكثير من الأحيان الحكومات احتكارها لاستخدام العنف، وقوّضت سلامتها الإقليمية. لكن مثل هذه الحالات لا تمهّد بالضرورة الطريق أمام إقامة دول جديدة أكثر تماسكًا بسبب انفصال أقاليم أو تقسيم دول أو انتصار حكومات مركزية على مجموعات وأقاليم متمردة. بل غالبًا ما تؤدي إلى تشرذم اجتماعي سياسي وأمني دائم في دول تعاني خللًا بنيويًا كاملًا. وعادةً ما تستمرّ حالة التشرذم هذه لفترة طويلة في الدول الخارجة من حروب أهلية، وتؤثّر بشكل كبير على عملية إعادة الإعمار من خلال ثلاث طرق مترابطة في ما بينها.
أولًا، تقوّض حالة التشرذم هذه الاستقرار الأمني الذي يُعدّ شرطًا أساسيًا لاستقطاب الاستثمارات المحلية أو الخارجية، ما يعرقل تدفّق المساعدات الإنسانية الضرورية لإعادة توطين اللاجئين والنازحين داخليًا.
ثانيًا، تهدّد وحدة الأسواق الوطنية، التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالسلامة الإقليمية في مرحلة ما بعد الحرب، ما يحول دون تطبيق القواعد التنظيمية الأساسية التي تحكم النشاط الاقتصادي، مثل فرض الضرائب وتسعير الخدمات والسلع المدعومة والخدمات العامة. وتُعتبر وحدة السوق أساسية أيضًا لأنشطة الإنتاج والتبادل التجاري، وبالتالي لتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام.
ثالثًا، غالبًا ما ترتبط حالة التشرذم المستمرة بإعادة تشكيل شبكات الدولة والأعمال بما يصبّ في صالح أمراء الحرب الذين انخرطوا في مجال الأعمال. يعمل هؤلاء الذين يُدعون روّاد الأعمال المجرمين بشكل أساسي من خلال توفير الحماية أو الانخراط في شتى أشكال العنف مثل النهب والابتزاز والتجريد من الأصول. وهذا يعني تحييد المزيد من الأنشطة الإنتاجية من خلال الوساطة، بما في ذلك التهريب والإتجار وأنشطة السوق السوداء الأخرى، وأيضًا من خلال الانخراط في أنشطة النهب العلنية تتعدّى على حصص أطراف فاعلة أخرى في المجتمع أو السوق. كل هذه الديناميكيات تجعل من الصعب الخروج من اقتصاد الحرب الأهلية، حتى بعد انحسار الأعمال العدوانية الكبرى.
هذا ما تؤكّده التجارب السابقة في البلدان التي تُعتبر مؤسسات الدولة فيها ضعيفة. ففي أفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسلفادور مثلًا، هيمن أمراء الحرب ورجال أعمال على الاقتصاد بعد انتهاء الحروب الأهلية. وتمكّن هؤلاء من تطبيع نفوذهم والتلاعب بالحوافز الاقتصادية لمصلحتهم الخاصة، بحيث أصبحت ممارسة العنف، وتوفير الحماية، ونهب الموارد الطبيعية، وتجنيد المقاتلين أنشطة اقتصادية سائدة تنخرط فيها شرائح واسعة من السكان.
من شأن إطلاق عملية سياسية لإنهاء الحروب أن يرسي الآليات اللازمة لإعادة توزيع التكاليف والأرباح بين المجموعات الاجتماعية السياسية في مرحلة ما بعد الصراع. وعلى العكس، يعني غياب مثل هذه العملية الحفاظ على حالة من التفاعل غير السلمي، سواء في شكل حروب أهلية شاملة أو أشكال أقل حدة من العنف، مثل الاغتيالات أو حروب العصابات أو الإرهاب أو القمع المكثّف. عمومًا، يعتمد وجود عملية سياسية في مرحلة ما بعد الحرب إلى حدٍّ بعيد على الطريقة التي انتهت بها الحرب، مع العلم بأن هذه العملية تؤثّر بشكل كبير في إمكانية إعادة الإعمار وكيفية حدوثها. ويرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا بالجوانب السياسية لإعادة الإعمار، سواء بشكل مباشر من خلال تقاسم السلطة أو آليات الاستتباع، أو بشكل غير مباشر من خلال وضع القواعد التي تحكم كيفية إعادة توزيع الريع. ولهذا الأمر تداعيات على بناء التحالفات وإضفاء الشرعية على السلطات السياسية في مرحلة ما بعد الصراع.
عادةً ما تتحقّق العملية السياسية على المستوى الوطني، إذ ترتبط هذه العملية بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها. لكن، في الدول المنقسمة بشدة بسبب الحرب، غالبًا ما يشارك الفرقاء الإقليميون والدوليون كمؤثّرين أو وسطاء أو محكّمين أو مُفسدين، وبالتالي يصبحون جزءًا من هذه العملية. وعلى النقيض من هذا، فإن غياب الترتيبات الأمنية والسياسية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تخوض حروبًا قد يحوّل مسار إعادة الإعمار والتعافي إلى امتدادٍ للتنافس الإقليمي والدولي.
في نهاية المطاف، يُعتبر الإرث الاقتصادي الذي كانت تتمتّع به الدول ما قبل الحرب مهمًّا أيضًا في تحديد ما إذا كانت إعادة الإعمارستؤدّي إلى تعافٍ اقتصادي طويل الأمد بدلًا من مجرّد إعادة تأهيل مادية للدول المتضرّرة من الحرب. ويمكن أن يشكّل هذا الإرث الاقتصادي إما فرصة أو عائقًا يحدّد تأثير إعادة الإعمار من المنظورَين السياسي والاقتصادي. فهذا الإرث قد يعزّز أو يعرقل مسار التنمية الشاملة التي يشارك فيها المواطنون في إنتاج وتوزيع القيمة للتأثير على آفاق إعادة الاندماج الوطني وبناء الدولة.
في هذا الصدد، لا بدّ من التركيز على عاملين مترابطين: الأول هو أن الدول التي تعتمد بشكل كبير على الريع، المستمدّ من الموارد الطبيعية أو التحويلات أو المساعدات الخارجية، لديها فرص أقل للانخراط في التنمية الشاملة على المدى الطويل، ذلك أن قطاعاتها الإنتاجية ضعيفة في الغالب، ويعتمد نمو ناتجها المحلّي الإجمالي بشكل كبير على مصادر خارجية لرأس المال أو مصادر محلية ضيقة للغاية، وعلى العائدات الحكومية، والصادرات.
ويكمن العامل الثاني في حجم القطاع الخاص ونشاطه. فكلّما تنامت حصة القطاع الخاص في مرحلة ما قبل الحرب من حيث التوظيف والإنتاج والاستثمار، زاد احتمال أن تفضي إعادة الإعمار إلى التنمية الشاملة والتعافي الاقتصادي على المدى الطويل. يُشار إلى أن الدول التي تحصل على نسب عالية من الريع تضمّ في الغالب بيروقراطية عامة متضخمة وقطاعًا خاصًا صغيرًا. وعادةً ما تكون أقل إنتاجية وتعمد إلى إعادة تدوير الريع بدلاً من إنتاج القيمة، سواء من خلال المضاربات العقارية أو الوساطات المالية وعمليات السمسرة. يُضاف إلى ذلك أن المجتمعات التي تسود فيها مثل هذه الأنشطة الريعية غالبًا ما تكون أكثر عرضة للصراعات الأهلية.
آفاق إعادة الإعمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تبدو آفاق نجاح عمليات إعادة الإعمار بعد الحرب قاتمة في كلٍّ من سورية وليبيا واليمن والعراق، إذ إن شروط النجاح في جميع هذه الدول الأربع إما ناقصة أو مفقودة تمامًا. إضافةً إلى ذلك، لا تبشّر التفاعلات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية بانتهاء النزاع فيها حتى بعد انتهاء الحرب. لذا، غالب الظن أن إعادة الإعمار لن ترى النور على الإطلاق بسبب نقص الموارد، والأمن المكثّف، والتشرذم السياسي، أو أنها ستصبح امتدادًا للنزاع لكن بوسائل أخرى تشمل متنافسين محليين وخارجيين. وقد تكون النتيجة النهائية نشوب صراعات محلية أقل حدة أو توطيد الترتيبات الأمنية أو الاقتصادية الناجمة عن الحرب.
سورية
تفتقر سورية تقريبًا إلى جميع الشروط الواجب توافرها لتحقيق إعادة إعمار ناجحة في مرحلة ما بعد الحرب. فالعوامل الجيواقتصادية المحرّكة للصراع هناك تشير إلى أن البلاد ستواصل تشرذمها السياسي والأمني الحاد، في ظل قدرتها المحدودة على توفير التمويل اللازم لإعادة الإعمار. ونظراً إلى موارد سورية المحدودة والخسائر الفادحة التي ألحقتها الحرب ببنيتها التحتية وشعبها، سيتعيّن على البلاد الاعتماد بشكل شبه كامل على التمويل الخارجي لإعادة الإعمار، من خلال المساعدات والقروض والاستثمارات. لكن ثمة عوامل جيواقتصادية تقوّض الحصول على هذا التمويل، إذ من المستبعد أن توفّر الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي التمويل اللازم لعملية إعادة إعمار يديرها النظام. فالولايات المتحدة فرضت عقوبات على النظام السوري لمنعه من الحصول على قروض واستثمارات أجنبية. أما في المناطق الخاضعة إلى سيطرة تركيا، فتتماشى عملية إعادة الإعمار أساسًا مع ضمّ أنقرة الفعلي لتلك الأجزاء من سورية. وعلى الرغم من أن حلفاء الرئيس السوري بشار الأسد، مثل روسيا وإيران، يخططون لوجود عسكري طويل الأمد في سورية، فهم لا يملكون الموارد اللازمة لتمويل إعادة الإعمار، ويُعزى ذلك إلى انخفاض أسعار النفط، والعقوبات المفروضة عليهم. أضف إلى ذلك أن سورية ليست غنية بالموارد الطبيعية، ما كان ليساهم في جذب المستثمرين الصينيين، كما حدث في أنغولا مثلًا. لذا، قد تكون النتيجة التخلي تمامًا عن أي مسعى يرمي إلى إعادة إعمار واسعة النطاق.
كذلك، لا تُعدّ سورية بيئة مناسبة لأي نوع من الاستثمار الخاص المحلّي أو الأجنبي نظرًا إلى ارتفاع وتائر الانقسام الأمني والسياسي في البلاد، بسبب الوجود العسكري للقوات الحكومية السورية، والميليشيات الموالية للنظام والمعارضة له، والقوات الأجنبية المتحالفة معه والمعادية له. في مرحلة ما قبل الحرب، شكّل القطاع الخاص القوي والنَشِط في سورية سمة إيجابية. لكن الصراع أرغم العديد من مستثمري القطاع الخاص على مغادرة البلاد إلى دول مجاورة. إضافةً إلى ذلك، لن يعيد نقص التمويل، وارتفاع مستويات التشرذم الأمني، وتجزئة الأسواق الوطنية المستثمرين إلى البلاد. لهذا السبب، ستهيمن على الأرجح ديناميكيات اقتصاد الحرب على المشهد السوري في مرحلة ما بعد الصراع.
وُصفت سورية بالدولة الشرسة، حيث يضع حكامها أولوية بقاء النظام فوق كل اعتبار، على عكس الدول الضعيفة في مرحلة ما بعد الحرب. لذلك، وعلى غرار مسألة عودة اللاجئين، قد لا ينصبّ الاهتمام على إعادة الإعمار إذا كانت تتعارض مع استمرار سيطرة النخب الحاكمة وحلفائها على الشؤون الأمنية والسياسية. وحتى الآن، فشلت جميع سياسات العصا والجزرة الرامية إلى تغيير سلوك النظام من خلال توفير الحوافز المالية من جهة وفرض العقوبات عليه من جهة أخرى.
اليمن
يتشارك اليمن وسورية العديد من أوجه القصور. فاليمن ليس دولة غنية بالنفط، وبالتالي سيعتمد اعتمادًا شبه كامل على التمويل الأجنبي في أي محاولة جدية لإعادة الإعمار. لكن الأسوأ أن هذا التمويل سيتدفق بشكل أساسي على الأرجح من دول مجلس التعاون الخليجي نفسها المنخرطة في حرب اليمن منذ السنوات الخمس الماضية. وإذا كُتب للحرب أن تنتهي اليوم، فغالب الظن أن تعكس إعادة الإعمار حالة التشرذم المتأصّلة في البلاد. وسيتدفق التمويل الخارجي إلى مناطق نفوذ القوى الإقليمية (ولا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) التي تباينت بشكل ملحوظ أهدافها الاستراتيجية خلال العامين الماضيين. لكن قد لا تستفيد المناطق الواقعة في شمال اليمن والخاضعة إلى سيطرة جماعة أنصار الله المدعومة من إيران، والمعروفة بجماعة الحوثيين، من التمويل الأجنبي لأن طهران غير قادرة على تمويل إعادة إعمار يُعتد بها. ونظرًا إلى أنها أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في اليمن، لن يستفيد معظم اليمنيين من إعادة الإعمار على الإطلاق.
يُحكم المتمردون الحوثيون سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء منذ العام 2015. في المقابل، يعتمد وجود الحكومة المعترف بها دوليًا في عدن على التوصل إلى اتفاق مع الانفصاليين الجنوبيين الذين دفعوا الحكومة إلى المنفى في آب/أغسطس 2019. لم يكن اليمن دولة قومية موحدة طوال تاريخه الحديث، ومن المرجّح أن يصبح عند انتهاء الحرب مجرّد مجموعة دويلات صغيرة ترعاها قوى أجنبية متنافسة. وفي ظل غياب أي عملية سياسية، ستكون إعادة الإعمار منفصلة عن أي محاولة لإعادة بناء الدولة، ما يزيد احتمال نشوب صراعات بين الأطراف المتنافسة محليًا ورعاتها الأجانب.
ليبيا
تتشارك ليبيا مع اليمن عقبات كثيرة تعترض مسار إعادة الإعمار، على الرغم من غناها بالنفط. لم يتمّ تشكيل أي حكومة مركزية في البلاد منذ انهيار نظام معمّر القذافي في العام 2011، وحافظت الديناميكيات الجيواقتصادية الإقليمية على انقسام البلاد بين غربٍ تتولى السيطرة عليه حكومة الوفاق الوطني، وشرقٍ يقوده الجيش الوطني الليبي، وجنوبٍ غير خاضع لأي حكم. وقد أسفرت المواجهة العسكرية بين حكومة الوفاق الوطني والجيش الوطني الليبي عن تدخل أطراف فاعلة خارجية، يسعى كل منها إلى تحقيق أهدافه السياسية الخاصة. فقد دعمت تركيا وقطر حكومة الوفاق الوطني، فيما ساندت مصر وفرنسا والإمارات الجيش الوطني الليبي، ما أدى إلى مأزق عسكري. وقد يبقى هذا الوضع على حاله إذا تمّ التوصل إلى اتفاق لتقاسم النفط بوساطة دولية بين الأطراف المتحاربة، على أن يحظى كل منها بالموارد اللازمة للحفاظ على حكمه الذاتي، ما سيفاقم الانقسام في ليبيا.
إذًا، حتى بعد انتهاء الصراع، سيواصل التشرذم الحاد في البلاد، ليس فقط بين الأطراف بل أيضًا داخل كلّ طرف، عرقلة الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار. ويُرجّح أن يؤدي ذلك إلى إطالة فصول اقتصاد الحرب، بما في ذلك الإتجار بالبشر، وتهريب السلاح والنفط والسلع الأخرى. وستستمر الشبكات غير المشروعة الضالعة في مثل هذه الأعمال، والمرتبطة بالميليشيات وأمراء الحرب والقادة المحليين، والممتدة من الصحراء إلى السواحل الجنوبية لأوروبا، في وجه أي محاولات قد تقوم بها الحكومة المركزية لبسط سلطتها على كامل الأراضي الليبية.
علاوةً على ذلك، لم يكن القطاع الخاص نشِطًا في ليبيا في سنوات ما قبل الصراع، واعتُبرت حالة نموذجية عن الدولة الريعية، إذ شكّل النفط 65 في المئة من ناتجها المحلّي الإجمالي، و96 في المئة من عائدات التصدير، وحوالى 98 في المئة من الإيرادات الحكومية في العام 2010، قُبيل اندلاع الانتفاضة التي أطاحت بالقذافي. ولا يبشّر هذا الواقع بحدوث تعافٍ اقتصادي حقيقي وشامل في المستقبل، بل سيؤدي في الغالب إلى إدامة طريقة العمل الراهنة، بحيث تشتري الهيئات الحكومية الولاء أو السلم الاجتماعي من خلال تخصيص رواتب لعناصر الميليشيات، ما يحول دون إعادة بناء الدولة أو الاندماج الوطني.
العراق
وحده العراق يُظهر مؤشرات واعدة نوعًا ما، وإن كانت حذرة، حول آفاق إعادة الإعمار بعد الصراع. فبعد أن استعادت الحكومة السيطرة على أراضيها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2017، انتهت العمليات العسكرية الواسعة النطاق. ومع أن البلاد تشهد عملية سياسية وطنية من خلال إجراء انتخابات برلمانية ومحلية، تعاني في الوقت نفسه انقسامًا كبيرًا وتغرق في لُجج سياسات الهوية الإثنية والطائفية. يقع العراق كذلك في قلب التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، إذ شكّلت الأراضي العراقية حتى الآن ساحة مواجهة بين الجانبين، بدءًا من اغتيال الولايات المتحدة في كانون الثاني/يناير 2020 قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي اللواء قاسم سليماني، ووصولًا إلى الهجمات الانتقامية الإيرانية التي طالت قواعد أميركية في العراق على يد ميليشيات موالية لطهران. في غضون ذلك، تتواصل المطالب الشعبية بإحداث تغيير سياسي في العراق، إذ تحدّى المحتجون سلطة النخب الحاكمة في البلاد.
يُشار أيضًا إلى أن العراق يمتلك موارد يمكنه استخدامها في عملية إعادة الإعمار، نظراً إلى الثروة النفطية التي يختزنها. مع ذلك، هو يعتمد بشكل كبير على الريع، إذ شكّل النفط 58 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، و99 في المئة من إيرادات الموازنة، وحوالى 90 في المئة من إجمالي الصادرات في العام 2015. وقد أدّى هذا الواقع إلى استمرار المستويات المرتفعة من الفساد، وإحكام الأحزاب السياسية وميليشياتها قبضتها على الدولة، إضافةً إلى إدامة حالة التشرذم السياسي والأمني.
خاتمة
تُعدّ إعادة الإعمار عملية سياسية واقتصادية تنطوي على إعادة بناء الدولة وإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع بعد انتهاء الصراع. لذا، يُعتبر التفاعل بين العوامل السياسية والاقتصادية أساسيًا لتحديد آفاق الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب، ولا سيما في بيئة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تعجّ بالتنافس الإقليمي.
للمفارقة، حتى الدول الغنية بالنفط، مثل ليبيا والعراق، لن تتمكن على الأرجح من استغلال ثرواتها من أجل تحقيق عملية إعادة إعمار ناجحة من دون معالجة مشاكل مؤسساتية رئيسة تشمل ضمان وحدة وسلامة الهيئات الوطنية المسؤولة عن إنتاج النفط وإدارة العائدات. وقد تكون المستويات العالية من الفساد، والتشرذم الأمني، والديناميكيات المستمرة لاقتصاد الحرب عصية على الحل. ففي ليبيا مثلًا، أدى الصراع بين شرق البلاد وغربها إلى شلّ القطاع النفطي لأشهر عدة. وعلى نحو مماثل في العراق، يعيق الخلاف بين بغداد وحكومة إقليم كردستان التي تتمتع بحكم ذاتي إمكانية استغلال ثروات البلاد النفطية لتمويل إعادة الإعمار.
وينطبق ذلك بشكل أكبر في الدول الفقيرة بالنفط مثل سورية واليمن، حيث الموارد غير متاحة بسهولة. وستحتاج هذه الدول أيضًا إلى إحراز المزيد من التقدّم على الصعيد المؤسساتي، أي عليها إنشاء هيئات ذات صدقية لإنفاذ القانون وتعزيز أمن الأفراد وحماية الأملاك. ومن شأن هذه التدابير أن تزيد احتمال تحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام بعد الحرب، لكن هذا الأمر مستبعد في ظل غياب أي عملية سياسية.
إذًا، لا تعني إعادة الإعمار بالضرورة انتهاء الصراع، إذ قد تشعل هذه العملية جذوة تنافسات إقليمية ودولية جديدة. فهي، كعملية جيواقتصادية، من المستبعد أن تُحدث استقرارًا مستدامًا ما لم تقترن بحدٍّ أدنى من العملية السياسية التي تتيح إعادة توزيع الخسائر والأرباح. وتُعتبر هذه العملية مفقودة بنسب متفاوتة في جميع الدول التي تعيش حالة حرب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناء العراق إلى حدٍّ ما. وفي ظل الواقع الإقليمي والدولي الراهن، لا يمكن إطلاق أي عملية سياسية أو تحقيق استدامتها من دون انخراط دول خارجية وجهات غير تابعة للدولة، بشكل مباشر من خلال الوساطة والتحكيم مثلًا، أو بشكل غير مباشر، من خلال حلفائها أو وكلائها المحليين.
وفي ضوء هذا الوضع، سيؤدي استمرار العداء بين القوى الإقليمية والدولية القوية إما إلى تقويض جهود إعادة الإعمار أو استخدامها كامتدادٍ غير عسكري للنزاع. وفي مطلق الأحوال، لن يتم على الأرجح إطلاق عملية إعادة إعمار فعّالة في المستقبل المنظور في كلٍّ من سورية واليمن وليبيا والعراق، ما سيؤدي على الأرجح إلى زعزعة استقرار المنطقة على المدى الطويل.
حول المؤلفين
عمرو عادلي أستاذ مساعد في الجامعة الأميركية في القاهرة، ومؤلّف كتاب بعنوان Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt (الرأسمالية المتصدعة: الأصول الاجتماعية لفشل السوق في مصر) (منشورات جامعة ستانفورد، 2020).
إبراهيم عوض أستاذ في ممارسة الشؤون العالمية ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين في الجامعة الأميركية في القاهرة.
محمد العربي باحث بارز في الشؤون الدولية والأمنية مهتمّ في المسائل الجيوسياسية والجيواقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي الدراسات المستقبلية التطبيقية. لمتابعة تغريداته على تويتر: @MMALARABY