المصدر: Getty

عقب أخيل الجزائر؟ جهوية الموارد في ورقلة

تعاني ولاية ورقلة الواقعة في وسط الجزائر من تردّي البنى التحتية على الرغم من غناها بالموارد. وفيما يزداد زخم الاحتجاجات فيها، ستواجه الحكومة صعوبة في إيجاد حلول للمأزق.

نشرت في ١١ مايو ٢٠٢١

مقدّمة

في منتصف كانون الثاني/يناير من العام الجاري، نظّم نحو 5000 شخص في ولاية ورقلة الممتدة في وسط الجزائر وجنوبها، مظاهرة ناشدوا فيها الحكومة وضع حد لحالة التهميش التي تعيشها منطقتهم، واستحداث فرص عمل، ومكافحة الفساد في المؤسسات العامة. وقد أشار الناطق باسمهم كمال بوشول الذي تلا تسعة عشر مطلبًا نيابةً عن المتظاهرين المحتشدين في المكان، إلى الفساد المتفشّي داخل الوكالة الوطنية للتشغيل، متّهِمًا فرع الوكالة في ورقلة بممارسة التحايل والتزوير في منظومته التوظيفية لمصلحة "الغرباء"، والمقصود بهم جزائريو الشمال، على الرغم من القرار الصادر في العام 2005 الذي يفرض على الشركات إعطاء الأولوية لأبناء المنطقة في التوظيف، واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل تدريبهم. ومن خلال بوشول، طالب المتظاهرون الذين يعاني معظمهم من البطالة أو العمالة الناقصة، فتح تحقيق بشأن الوكالة، وإقالة كلٍّ من مدير فرع الوكالة في ورقلة، والمسؤولين الذين أساؤوا استخدام السلطة وتورّطوا في الفساد والمحاباة.

كان مكتب فرع الوكالة الوطنية للتشغيل في سيدي خويلد في ورقلة نقطة أساسية للتعبير عن الاستياء من حالة اللامساواة في وسط الجزائر.

لم تكن هذه المظاهرات بالأمر الجديد. فالمناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة الواقعة في وسط وجنوب الجزائر، البلد الأكبر مساحةً في أفريقيا، نجت ربما من تداعيات الحرب الأهلية في التسعينيات، ولكنها عانت من الإهمال الحكومي على امتداد عقود من الزمن. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت هذه المناطق المهمّشة تاريخيًا تشهد صحوةً سياسية مدفوعة بمشاعر الاستهجان لدى سكّانها الذين لم يحصلوا سوى على النزر اليسير من المكاسب الاقتصادية على الرغم من تقدّم التنقيب عن النفط بخطى متسارعة. وفي إطار "جهوية الموارد"، ارتفعت أصواتٌ معارِضة بدءًا من غرداية في شمال وسط الجزائر ووصولًا إلى عين صالح في جنوب وسط البلاد.

شهدت ولاية ورقلة التي تضم حقولًا نفطية أثْرَت شمال البلاد، وتقع على بعد نحو 570 كيلومترًا جنوب العاصمة، الاضطرابات السياسية الأقوى. ومع كل وقفة احتجاجية نظّمها أبناء ورقلة، كانت الدولة تُطلق أو تَعد بإطلاق مشاريع استثمارية من جهة، وتشدّد تدابيرها الأمنية لضبط المجتمعات المحلية من جهة أخرى. لم تتحقق نتائج تُذكَر من الإجراءات التي هدفت ظاهريًا إلى تخفيف معاناة سكان ورقلة، وفاقم القمع مشاعر الاستياء. ولعلّ المثل الأبرز عن فشل الدولة هو النداء الذي أطلقه أبناء ورقلة خلال احتجاجات كانون الثاني/يناير لاتخاذ قرار بحلّ فرع الوكالة الوطنية للتشغيل في ولايتهم. فقد اعتبروا أن هذه الوكالة التي كان يُفترض أن تضمن مشاركتهم في المشاريع الاقتصادية المحلية، قد فقدت شرعيتها.

والآن، يبدو أن أبناء ورقلة ضاقوا ذرعًا بالوضع القائم. ففي آذار/مارس الماضي، أدانت محكمة قضائية الناشط والمدوّن المحلي عامر قراش، وهو من حي المخادمة في ورقلة، بتهمة "التحريض على القيام بأعمال إرهابية والإشادة بها". وقد اعتُبِر على نطاق واسع أن هذا الحكم مسيّس، لأن قراش كان قد عبّر عن دعمه للمتظاهرين المناهضين للحكومة. وقد اندلعت احتجاجات في حي المخادمة ردًّا على القرار الصادر عن المحكمة والذي قضى بالحكم على قراش بالسجن سبع سنوات. وفي تطوّر مثير للقلق، جنحت الاحتجاجات نحو العنف بين السكان المحليين وعناصر الدرك، ما قد ينذر بالانزلاق إلى مواجهة أكبر.

أرضٌ غنية، وشعبٌ فقير

ولاية ورقلة هي من المناطق الجزائرية التي تختزن الكثير من الثروات، إذ يؤدّي استخراج النفط من حقول حاسي مسعود دورًا محوريًا في تعزيز الاقتصاد الوطني. تؤمّن حقول حاسي مسعود 400000 برميل من النفط يوميًا، وتضم 71 في المئة من احتياطي النفط الخام في البلاد. حتى الآونة الأخيرة، كان عدد سكان ورقلة يُقدَّر بـ600,000 شخص، وهو عددٌ مرتفع مقارنةً مع ولايات أخرى تقع جنوب جبال إيدوغ في شمال الجزائر.1 تُقسَم الولاية إلى ثلاث دوائر كبرى وسبع بلديات. تتمتع مدينة ورقلة التي تحمل الولاية اسمها بأعلى كثافة سكانية وتُعتبر المركز الإداري للولاية.

صحيحٌ أن ورقلة تحتضن احتياطيًا نفطيًا، لكنها ليست أفضل حالًا من ولايات أخرى في وسط الجزائر وجنوبها، هذه المنطقة الشاسعة التي تقع ضمن نطاق الصحراء الكبرى. فنسبة الفقر في أوساط سكّان الصحراء الكبرى هي ضعف نسبتها لدى سكّان المنطقة الساحلية، وذلك بسبب بُعد الصحراء عن العاصمة، ما أدّى إلى تفاوت جغرافي ناجم عن إرث الماضي الاستعماري، والذي استمر بعد نيل البلاد استقلالها في العام 1962. لا بل يبدو اختلال التوازن على نحو أكثر وضوحًا في حالة المناطق الصحراوية الغنيّة بالموارد، حيث تعمد الحكومة إلى إنفاق مبالغ كبيرة بغرض استخراج موارد تغذّي الاقتصاد الوطني، ولكنها نادرًا ما تحوّل جزءًا من الإيرادات التي تتحقق من هذه الموارد إلى المجتمعات المحلية. وتشكّل ورقلة خير مثال على ذلك، إذ لا تزال تعاني من الفقر ونقص التنمية، ويشكو عدد كبير من أبنائها من أنهم "محڨورين في بلاد البترول".2

يُقدّم القطاع الصحي المثال الأبرز على قصور الخدمات العامة، إذ تُعتبر المنشآت الصحية في ولاية ورقلة قليلة ومتباعدة، وتفتقر إلى طاقم العمل والتجهيزات. في الواقع، يعتمد العديد من المراكز الصحية على طبيب واحد متجوّل.3 أما المستشفيات الحكومية التابعة للجامعات والعيادات الخاصة التي توفّر عادةً رعاية أفضل، فتقع على مسافة بعيدة من بلدية ورقلة. فعلى سبيل المثال، تقع العيادة الأقرب في ولاية الوادي على بعد 320 كيلومترًا، في حين أن المستشفى الجامعي الأقرب يقع في ولاية باتنة التي تبعد 550 كيلومترًا عن ورقلة. يلجأ المقتدرون إلى الحصول على العناية الطبية في الوادي أو باتنة أو حتى في الجانب الآخر من الحدود في تونس، حيث المنشآت الطبية أفضل حالًا من جنوب الجزائر.4

مَن يختارون الحصول على الرعاية الصحية في ورقلة قد يجدون أنفسهم في مستشفى ينقصه أطباء في اختصاصات معيّنة. في العام 2018، توفّيت الأكاديمية عائشة عويسات بعد تعرّضها للسعة عقرب سامّة، ما دفع بأبناء ورقلة إلى التنديد علنًا بالرعاية الصحية ذات المستوى المتدنّي وإلى اتهام المسؤولين السياسيين بالإهمال الجرمي. وقد عزا شقيق عويسات وفاتها الناجمة عن قصور الجهاز التنفسي، إلى عدم توافر طبيب قلب وطبيب أعصاب في مستشفى ورقلة التي أُدخِلت إليها. وليست هذه الوفاة الأولى ولا الأخيرة من نوعها. ففي ذلك العام، كانت عويسات واحدة من سبعة أشخاص توفّوا في ورقلة بسبب مضاعفات أصيبوا بها بعد تعرّضهم للسعة عقرب.

إلى جانب تردّي مستوى الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية ومياه الشفة، تواجه ورقلة شبح البطالة بصورة مستمرة (انظر الشكل 1). ليست ورقلة المنطقة الجزائرية الوحيدة التي تواجه هذه المشكلة. فمثلما هو الحال في مناطق أخرى في وسط البلاد وجنوبها، يعجز عدد كبير من السكان عن إيجاد عمل بسبب عوامل عدّة مجتمعة تتمثّل في معدّل النمو السكاني الطبيعي، وتراجع الزراعة، والتمدين السريع، وانخفاض التجارة الحدودية جرّاء عسكرة الحدود الجزائرية مع تونس وليبيا وتشديد الإجراءات الأمنية في المناطق الحدودية. لكن في ورقلة، تُضاف إلى الأسباب المذكورة مشكلة التمييز. فأبناء الولاية الذين يتقدّمون بطلبات توظيف يتنافسون مع أبناء الشمال الذين يتمتعون بمهارات عالية ويتفوّقون عليهم في التحصيل العلمي. لذا، غالبًا ما يفوز أبناء الشمال بالعدد المحدود من الوظائف الشاغرة في حقول النفط في حاسي مسعود، فيما يصعب على أبناء ورقلة الحصول عليها.

لطالما أبدت الشركات الـ159 المنخرطة في مشاريع متعلقة بالنفط في مختلف أنحاء ورقلة، تفضيلها لأبناء الشمال في التوظيف. وهذه الظاهرة تجسّدها شركة سوناطراك النفطية الوطنية المملوكة للدولة والتي تُعتبَر جهة التوظيف الأساسية في المنطقة. فالمناصب العليا والمتوسطة المستوى في المشاريع التي تنفّذها سوناطراك يشغلها عمومًا موظفون نقلتهم الشركة إلى ورقلة من الجزائر العاصمة ومدن كبرى أخرى في الشمال مثل وهران وقسنطينة. حتى إن سوناطراك أقدمت على تشييد مجمّعات سكنية في حاسي مسعود لتأمين مساكن لهؤلاء الموظفين، ما تسبّب بتفاقم مشاعر الإقصاء لدى السكان المحليين الذين كانوا يحتاجون، حتى أواخر العقد الأول من القرن الحالي، إلى ترخيص مرور لدخول حاسي مسعود. قد تعمد سوناطراك وسواها من الشركات إلى توظيف أبناء ورقلة في وظائف أدنى رتبة، ولكن في هذه الحالة أيضًا سيتقاضون رواتب أقل مقارنةً مع أبناء الشمال الذين يشغلون وظائف أدنى رتبة في هذه الشركات.5

طالب سكان ورقلة جهارًا طوال فترة العقد ونصف العقد الماضية بالحصول على حصة من عائدات النفط يعتبرونها حقّهم الشرعي. فنشأت مجموعتان للتعبير عن تظلّمات السكان، إذ شكّلت مجموعة من الشباب غير المرتبطين بالأحزاب التقليدية وشيوخ القبائل حركة أبناء الجنوب من أجل العدالة، التي طالبت باستحداث المزيد من فرص العمل، عبر الاشتراط على الشركات العاملة في ورقلة إعطاء الأفضلية في التوظيف إلى السكان المحليين؛ وتخصيص المزيد من الأموال من أجل تحقيق مشاريع محلية؛ وتنفيذ برامج تنموية بقيت حتى الآن حبرًا على ورق. والمُلفت إصرار الحركة على أن يؤخذ رأيها في الحسبان في ما يتعلق بالبرامج التنموية كي تصبّ قدر الإمكان في صالح المجتمعات المحلية من جهة، وتحدّ من التداعيات البيئية التي قد تنجم عن هذه المشاريع من جهة أخرى.

في العام 2011، تأسّست اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق البطّالين (CNDCC)، التي انبثقت عن النقابة الوطنية المستقلة لمستخدمي الإدارة العمومية ومقرّها في ورقلة، وتألّفت بمعظمها من الشباب على غرار حركة أبناء الجنوب من أجل العدالة. لكن اللجنة الوطنية اتّبعت نهجًا مسيّسًا أكثر من النقابة الأم، إذ أنشأت حركة شعبية سعت إلى تمثيل كل الجزائريين العاطلين عن العمل والضغط على الحكومة لاتّخاذ الإجراءات اللازمة لتخفيف معاناتهم. ونجحت اللجنة في تجاوز الانقسامات بين العلمانيين والإسلاميين إذ إن كوادرها يتحدّرون من الفريقين، وفي حشد الدعم وسط قطاعات المجتمع المتعاطفة مع قضية أبناء الجنوب المهمَّشين، من ناشطين حقوقيين وطلّاب جامعيين، وأبناء الطبقة الوسطى المسيّسين. وبفضل جهود اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق البطّالين، أصبح سكان ورقلة الساخطين أكثر اطّلاعًا وتنظيمًا، وتعزّزت شبكات معارفهم، وازداد انخراطهم السياسي عن السابق.

بين التنمية والقمع

رداً على تأسيس اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق البطّالين، ووتيرة الاحتجاجات التي شاركت في تنظيمها حركة أبناء الجنوب من أجل العدالة، باشرت الحكومة إجراء إصلاحات في الوكالة الوطنية للتشغيل وكلّفتها بتوظيف السكان المحليين وزيادة الرواتب. وتعهدت كذلك بخفض معدل الفائدة على القروض الممنوحة لأبناء الجنوب وتوفير التدريب المهني لهم. وبدا لوهلة أن الحكومة تفي بوعودها. ففي العام 2013، تمّ افتتاح مركز تدريب للمهن المرتبطة بقطاع النفط، وهو الأول من نوعه في ورقلة. وفي العام 2018، تمّ تنظيم برامج تدريبية في مجالات متنوعة مثل زراعة الحبوب، والبناء، والاتصالات، والتكنولوجيات الجديدة. إضافةً إلى ذلك، استثمرت السلطات في بناء ترامواي بدأ تشغيله في العام 2018.

تشكّل مشاريع البنية التحتية بيئة حاضنة للفساد. فقد تم ترميم هذا الرصيف في سيدي خويلد، في ولاية ورقلة، أربع مرات في الآونة الأخيرة.

لكن، سرعان ما ذاب الجليد وبدا واضحًا أن الحكومة كانت تُعير اهتمامًا أكبر للمظاهر بدلًا من إحداث تغيير حقيقي. فمعظم المشاريع التنموية التي نفّذتها لم تعُد بفائدة تُذكر على الناس العاديين، ناهيك عن أن بعضها لم يُنجَز بالكامل. فعلى سبيل المثال، لم يُستكمل العمل بالطرق وقنوات الري التي تشتدّ الحاجة إليها. وبعدما اتّضح أن مبالغ كبيرة من المال استُثمرت في مثل هذه المشاريع، ازدادت شكوك السكان المحليين بأنها كانت مجرّد خطط مدروسة لملء جيوب المقرّبين من الحكومة. فبعد إجراء مناقصات مبهمة، تفوز بالمناقصة شركة تجمع مالكها علاقة مع شخصيات حكومية رفيعة المستوى، على الرغم من تضخيمها الكلفة المتوقّعة للمشروع المعني. ثمّ يأخذ صاحب الشركة المال من الحكومة ويقسّمه إلى ثلاثة حصص: حصة يأخذها هو، وأخرى يعطيها كرشوة للمسؤول الحكومي الذي ضَمَن فوز شركته بالمناقصة، فيما يُخصَّص الجزء المتبقي للمشروع المُتفق عليه، الذي إمّا يكون دون المعايير المطلوبة حينًا، أو لا يُستكمل العمل عليه أساسًا.6

علاوةً على ذلك، تثير بعض المشاريع الشكوك حول جدواها. ففي ورقلة، يرى السكان المحليون أن العمل جارٍ بشكل دائم تقريبًا على مشاريع تنموية مختلفة، بيد أنها في غالب الأحيان لا تلبّي حاجاتهم. وخير مثال على ذلك ما حصل في بلدية أفران، حيث طالب السكان المحليون بإنشاء مركز صحي، لكنهم حصلوا على مكتبة. والأسوأ أنها لم تفتح أبوابها أمام العامة حتى. وفي معرض الحديث مع صالح، أحد سكان أفران ويبلغ من العمر 35 عامًا، لخّص لنا الوضع قائلًا:

"في هذا الحي ثمة حوالى 23 مشروعًا قيد التنفيذ. الفساد هو كل شيء بالنسبة إلى السياسيين... فهم يستفيدون ويفيدون زمرتهم... نطلب شيئًا، فيحضرون لنا شيئًا آخر... تطلب منهم كأسًا، فيجلبون لك كرسيًا. لقد أقاموا شبكة صرف صحي، لكن ليس لدينا مياه حتى... واليوم، لا يزال الطريق غير سالك، ولم يتمّ وصل الشبكة حتى".7

تمثّل أفران، وهي بلدة في ولاية ورقلة الجزائرية، نموذجًا عن القطيعة مع المناطق الأكثر ثراءً.

يُعتبر تجاوز المقاولين وتقديم شكاوى بحقهم إلى مسؤولي الدولة غير مجدٍ. فالمسؤولون، ومن ضمنهم النواب الذين يخضعون للمساءلة أمام الشعب، نادرًا ما يُظهرون استعدادًا للتحكيم والفصل في الخلافات التي تحصل بين السكان المحليين والمقاولين، ما يؤدّي إلى الشكّ في نوايا الدولة وفقدان الثقة بها. في هذا السياق، ينظر العديد من سكان ورقلة إلى مسؤولي الدولة على أنهم وسطاء عديمو الضمير بين الحكومة التي هي أشبه بـ"البقرة الحلوب"، وبين المقاولين الجشعين. ونظرًا إلى ضعف الضوابط المؤسسية والمساءلة، لا تقدّم لهم المحاكم القضائية أي مساعدة تُذكر. لذا، أسفرت عوامل مثل المناقصات المغلقة، والعقود السرية المُبرمة مع الفائزين بالمناقصات، والمشاريع غير الملائمة ذات القواعد الغامضة التي تنظّم شراء المواد، والتكاليف المرتفعة، والأعمال الرديئة، عن فشل فورة التنمية التي أطلقتها الحكومة في ورقلة على مستويَي البلديات والولاية.

وفيما حاولت الحكومة التخفيف من استياء سكان ورقلة من خلال تنفيذ مشاريع تنموية، صعّدت وتيرة قمع الناشطين السياسيين. وغالبًا ما سعت إلى اعتقال أعضاء من حركة أبناء الجنوب من أجل العدالة واللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق البطّالين، ولا سيما عقب الاحتجاجات التي نظّمتها هاتان المجموعتان. لم تكتفِ الحكومة بتكثيف الأعمال الأمنية في ورقلة وغيرها من المناطق المهمّشة عمومًا، بل حاولت حتى منع وسائل الإعلام من تغطية الاحتجاجات الداعية إلى التغيير. وعلى الرغم من أن الحكومة رفعت في العام 2011 حالة الطوارئ التي طُبِّقت على مدى ثلاثة عقود، سرعان ما أصدرت قوانين تقيّد الحريات الإعلامية وأنشطة المنظمات غير الحكومية. وغالبًا ما زُجَّ الناشطون الذي خالفوا هذه القوانين في السجن، ما خلّف تداعيات بعيدة المدى.

فقد ذكر النقابي ياسين زايد، أحد الناشطين في مجال حقوق الإنسان الذي قضى بعض الوقت في سجن ورقلة، أن السجناء الجهاديين أطلقوا حملات ترمي إلى تجنيد أبناء الجنوب الساخطين الذين يقبعون خلف القضبان. وفي السجن نفسه، نجح الجهاديون في دفع أعضاء غير عنيفين من حركة أبناء الجنوب من أجل العدالة وناشطين آخرين إلى أشداق التطرّف، بعد اعتقالهم بتهم ملفّقة مرتبطة بـ"النزعة الانفصالية" أو محاولة زعزعة استقرار البلاد. وسُرعان ما ظهر تأثير ذلك. فعكس العديد من الجهاديين، أُطلق سراح الكثير من أبناء الجنوب الذين ازدادوا تطرّفًا.

فقد عاد بعضهم إلى كنف الحركة للتعويل على الإحباط المنتشر في صفوف أعضائها وشعورهم بأن الحركة فقدت تأثيرها، من أجل تغيير توجّهها تمامًا نحو التشدّد الإسلامي والمواجهة. وفي نهاية المطاف، تفكّكت الحركة نتيجة هذا الضغط الداخلي المصحوب بالتضييق المُمنهج الذي مارسته الدولة عليها. وانضمّ العديد من ناشطيها السابقين الذين قضوا فترة في السجن، بمن فيهم لمين بن شنب وعبد السلام طرمون، إلى التنظيمات الجهادية وحملوا السلاح.

توارى بن شنب عن الأنظار ويُعتقد أنه متورّط في الهجوم الذي استهدف مطار جانت في العام 2007، وكذلك في الهجوم على مقر الدرك الوطني في ورقلة في العام 2012. وفي مرحلة ما أنشأ، مع أعضاء سابقين متشدّدين إسلاميًا، حركة أبناء الجنوب من أجل العدالة الإسلامية. وفي العام 2013، تعاونت هذه الأخيرة مع الجهادي الشهير مختار بلمختار لتنفيذ عملية احتجاز رهائن دامت أربعة أيام في منشأة الغاز في تيقنتورين (عين أمناس)، وأسفرت عن مقتل 37 رهينة و29 جهاديًا، من بينهم بن شنب، قبل أن تشنّ القوات الخاصة الجزائرية هجومًا لإنهاء العملية.

تأرجح طرمون بين النشاط الإسلامي المتشدّد والنشاط السياسي القانوني لغاية العام 2012. وحاول ذلك العام المشاركة في الانتخابات التشريعية كمرشح على قائمة أحد الأحزاب الإسلامية، غير أن السلطات استبعدته بسبب عضويته السابقة في منظمة إرهابية. وفي وقت لاحق، التزم طرمون بنهج التشدّد الإسلامي، وتوارى عن الأنظار، وانضمّ إلى جماعات جهادية عدّة، بما فيها تنظيم "الموقّعون بالدماء" الذي قاده بلمختار. وفي نهاية المطاف، نشب خلاف بين طرمون وبلمختار، وأمر هذا الأخير بتصفيته. وهكذا، قُتل طرمون في العام 2018 على يد جهاديين مجهولي الهوية في مدينة سبها جنوب غرب ليبيا.

باختصار، يتضّح أن الاستراتيجية المزدوجة التي انتهجتها السلطات المركزية لاحتواء الوضع في ورقلة غير مستدامة. وربما كان سيُكتب النجاح لهذه الاستراتيجية لو أن القمع المتزايد ترافق مع تنمية اقتصادية يُعتدّ بها. لكن، لاقى قمع الدولة رفضًا متزايدًا نظرًا إلى غياب أي إنجازات من شأنها تحسين معيشة الناس. لذا، تنامت احتمالات حدوث اضطرابات اجتماعية، وشكّلت أعمال الشغب التي اندلعت عَقِب صدور الحكم بحق قراش خير دليل على هذه الظاهرة. علاوةً على ذلك، ازداد زخم التشدّد على نحو واضح. ففيما تتبع معظم الحركات الاجتماعية في الجنوب نهج اللاعنف على الرغم من مواجهتها قمعًا متزايدًا، بات العديد من أعضائها مُحبطين لأنهم شعروا بأن العرائض التي يرفعونها والمظاهرات التي ينظّمونها غير مجدية. وكما تكشف لنا قصة كلٍّ من بن شنب وطرمون، هذا الإحباط هو تحديدًا ما تعوّل عليه في الكثير من الأحيان الجماعات الجهادية الساعية دومًا إلى إيجاد مجنّدين جدد ينضمّون إلى صفوفها.

خاتمة: اضطرابات في الصحراء

تراجعت قدرة النظام الجزائري على التعامل مع الوضع المتقلّب في ورقلة نتيجة فشل نهجه المزدوج المتمثّل في القمع السياسي والتنمية العشوائية. ثم طرأت أزمات وطنية عدة أدّت إلى تقويض قدرته بشكل متزايد، لعلّ أبرزها الركود الاقتصادي الذي تفاقم بسبب تفشّي جائحة فيروس كورونا، وانتخاب رئيس جديد لا يتمتّع بشعبية تُذكر، وموجات الحراك الاحتجاجي التي أطاحت بالرئيس السابق في نيسان/أبريل 2019، واستعادت زخمها مؤخرًا بعد فترة من الخمول. ويشي كل ذلك بأن الحكومة ستواجه مصاعب جمّة في الحفاظ على السلام الهشّ أساسًا في ورقلة.

يُرجَّح أن أي اضطرابات إضافية تشهدها ورقلة (وهذا أمر لا مفر منه نوعًا ما نظرًا إلى الأوضاع المزرية التي يعيشها السكان) ستدفع الدولة إلى تصعيد وتيرة القمع. فمن منظور النظام الجزائري المتحالف مع الجيش والذي لطالما اعتمد على الحلول الأمنية لمعالجة المشاكل الاجتماعية بغضّ النظر عمّن تولّى سُدة الحكم فيه، تكمن جاذبية هذا الحل إلى حدٍّ بعيد في النجاح الذي حقّقته عمليات القمع السابقة في مناطق أخرى من الجزائر. لكن الدولة تملك الآن دوافع إضافية للّجوء إلى القوة: فالأزمة الاقتصادية المستفحلة بسبب جائحة كورونا قد استنفدت خزينة الدولة وأعاقت إلى أجل غير مسمى هيكلية الاقتصاد الوطني القائم على الريع. ولم يتبقَ سوى النزر القليل من التمويل المخصّص للمشاريع التنموية المتضخّمة التي تهدف إلى إثراء المسؤولين السياسيين واسترضاء السكان المحليين. لذا، قد تقرّر الدولة الاعتماد كليًا على الإجراءات الترهيبية بدلًا من الأساليب الترغيبية. وحده الوقت كفيلٌ بإظهار ما إذا سينجح نهج القبضة الحديدية في إخماد جذوة الاحتجاجات، أم أنها ستتفاقم لتُشعل بدورها فتيل اضطرابات اجتماعية جديدة تمتدّ إلى ولايات أخرى في وسط البلاد وجنوبها.

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

هوامش

1 في كانون الأول/ديسمبر 2019، اتخذت الحكومة الجزائرية قرارًا بترقية تقرت إلى ولاية، فنقلتها إداريًا من ورقلة. وهكذا انخفض عدد سكان ورقلة من 600000 إلى أقل بقليل من 400000 نسمة.

2 استخدم العديد من الأشخاص ذوي الخلفيات المختلفة هذا التعبير خلال المقابلات التي أُجريت معهم في ورقلة وضواحيها، كانون الأول/ديسمبر 2020 - شباط/فبراير 2021.

3 زيارات ميدانية ومقابلات أجريت في فران وسيدي خويلد، كانون الأول/ديسمبر 2020.

4 مقابلات مع أفراد من سكان ورقلة، كانون الأول/ديسمبر 2020 – شباط/فبراير 2021.

5 تتألف حاسي مسعود من البلدة والحقول النفطية. ولا تمييز بين الاثنين؛ فالحقول النفطية تمتد إلى المساحة المدينية.

6 مقابلات أجريت في ورقلة مع العديد من الأشخاص، بمن فيهم ناشطين وموظفين مدنيين سابقيين ومواطنين عاديين، كانون الأول/ديسمبر 2020 – شباط/فبراير 2021.

7 مقابلة أجريت في أفران، 19 كانون الأول/ديسمبر 2020. صلاح هو موظف سابق في سوناطراك وناشط في جمعية محلية.