المصدر: Getty

التعليم في الجزائر: حذارِ من ذكر الحرب

فوّت قطاع التعليم الجزائري، من خلال التزام الصمت حيال الصراع الذي مزّق البلاد في تسعينيات القرن الماضي، فرصةً حقيقيةً على مسار المصالحة الوطنية.

نشرت في ١١ نوفمبر ٢٠٢١

ألمحت وزيرة التربية الوطنية السابقة في الجزائر، نورية بن غبريط، في شهر أيار/مايو 2018 إلى إمكانية إدراج أحداث "العشرية السوداء"، أي الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد بين العامَين 1991 و2001، في المناهج المقرّرة لمادة التاريخ في المدارس والجامعات. وكانت تلك المرة الأولى التي يأتي فيها مسؤول حكومي على ذكر مثل هذا الاحتمال. فالبرامج التعليمية لم تتناول موضوع الحرب منذ اندلاعها في العام 1991، وغالبًا ما يُعتبر الحديث عنها من المحرّمات. ترى بن غبريط أن النقاش حول الحرب وتبعاتها يتطلّب "تفكيرًا معمّقًا" و"مقاربة تربوية"، إذ لم يمضِ عليها وقتٌ كافٍ، ناهيك عن أن الكثير من الجزائريين لم يبدأوا بعد بتضميد الجراح التي خلّفتها.

انتشلت عملية المصالحة الوطنية الجزائر من دوامة العشرية السوداء، وبات يُنظر إلى أي مظهر من مظاهر التعبير عن الحرب على أنه مصدر شقاق. لكن تجنّب شبح هذا الانقسام عنى أن فئات المجتمع الجزائري المختلفة تبنّت وجهات نظر متناقضة في الغالب حيال ما حدث. وفيما عمدت السلطات إلى التعتيم على هذه المسألة سعيًا إلى حفظ السلم الأهلي وصون اللحمة الاجتماعية، يبدو أن سماحها بقراءة مجتزأة ومتنازع عليها للصراع وسّع في الواقع هوة الانقسام داخل المجتمع الجزائري.

لا شك في أن التعليم يؤدي دورًا أساسيًا في التصدي لهذا الواقع. فمن حق الأجيال الجديدة من الجزائريين معرفة القصة الكاملة للحرب التي شهدتها بلادهم والتوصّل إلى فهم مشترك لأحداثها والاستفادة من عِبَرها لمنع تكرارها. مع أن النظام التعليمي الجزائري لا يستطيع أن يفرض قراءة واحدة للعشرية السوداء، يمكنه أن يبني فهمًا مشتركًا لأحداثها، ما يفضي إلى إدراك الجزائريين بمصالحهم المشتركة تجاه صدمة وطنية لم يفلت من شرّها أحد.

لم يحدث شيءٌ من هذا حتى الآن، بعد مضيّ عشرين عامًا على نهاية الحرب الأهلية. لكن واقع أن وزيرة التربية الوطنية السابقة سارت عكس التيار لتقول إن الوقت قد حان ربما للتفكير بتناول مسألة العشرية السوداء في المدارس والجامعات، يشي بأن بعض المسؤولين بدأوا يدركون مغبة عدم القيام بذلك.

إرث العشرية السوداء

عاشت الجزائر في ظل نظام الحزب الواحد المُمثَّل بجبهة التحرير الوطني لأكثر من ثلاثة عقود بعد نيل استقلالها. لكن خطط التنمية والتطوير التي وضعتها جبهة التحرير في السبعينات مُنيت عمومًا بالفشل. فقدرة الدولة على دعم أسعار السلع والمواد الغذائية وتوفير السكن الاجتماعي المنخفض التكلفة لمواطنيها، بفضل إنتاج المواد الهيدروكربونية، استُنزفت بعد تهاوي أسعار النفط في الثمانينيات. وسُرعان ما أدّى اتساع فجوة التفاوت الاجتماعي، الذي تحمّل الشباب وزره على نحو غير متناسب، إلى إطلاق شرارة اضطرابات اجتماعية خلّفت وراءها تداعيات جمّة.

ففي 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988، تدفّق عشرات آلاف المتظاهرين الشباب إلى شوارع العاصمة الجزائرية وسائر المدن الكبرى، مستهدفين المباني الحكومية وكل ما يرمز إلى الدولة، وعاثوا فيها دمارًا. وعلى الإثر، تدخّل الجيش مطلقًا النار على المتظاهرين من أجل ضبط الوضع وإعادة الأمن. وقد أسفرت هذه المواجهات عن مقتل 159 شخصًا بحسب الحصيلة الرسمية، بينما تشير تقارير غير مؤكدة إلى سقوط 500 قتيل. وأدّت حملة القمع الشرسة إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الجزائري، وتقهقر شرعية الجيش، وتقويض مصداقية النظام الهشة أصلًا. وحاول الرئيس الشاذلي بن جديد استعادة سلطة الدولة وهيبتها من خلال إجراء سلسلة من الإصلاحات السياسية الكبرى، ومن ضمنها إرساء نظام التعدّدية الحزبية، وتكريسه رسميًا في دستور العام 1989. وفي الفترة ما بين 5 و31 تموز/يوليو من العام 1989، وافقت وزارة الداخلية على إنشاء نحو خمسين حزبًا سياسيًا جديدًا.

من بين هذه الأحزاب التي تأسّست، سُرعان ما أثبتت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباسي مدني وعلي بلحاج بأنها الأكثر شعبيةً، علمًا أنها ضمّت ائتلافًا متنوّعًا جمع إسلاميين أصوليين، وقدامى المقاتلين الجزائريين ممن شاركوا في الحرب في أفغانستان، وأفراد الشرائح المحافِظة من البرجوازية الحضرية، وشبابًا ساخطين. ومكّنتها هذه القاعدة الشعبية المتنوّعة من حصد غالبية الأصوات في الانتخابات المحلية على مستويَي المجالس الشعبية البلدية والمجالس الشعبية الولائية التي جرت في حزيران/يونيو من العام 1990.

وفي الجولة الأولى من انتخابات المجلس الشعبي الوطني في كانون الأول/ديسمبر 1991، حقّقت الجبهة الإسلامية نتائج جيدة جدًّا، إذ حصلت على 188 مقعدًا من أصل 231 مقعدًا. وكان من المقرّر إجراء جولة ثانية من الانتخابات في كانون الثاني/يناير 1992 للتنافس على المقاعد المتبقية. لكن، ما كان من الجيش إلا أن عطّل مسار العملية الانتخابية خوفًا من استيلاء الإسلاميين على البرلمان، وأرغم الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، وألقى القبض على الآلاف من أعضاء الجبهة الإسلامية وآخرين غير مرتبطين بها، وبسط سيطرته على البلاد. وقد ساهمت عمليات القمع الشديد في جنوح عدد كبير من الأشخاص نحو التطرّف، ولا سيما في صفوف الشباب الذين لبّوا دعوات الفصيل الأكثر تشدّدًا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي طالب بإعلان الجهاد المسلّح ضدّ الدولة. وعلى الإثر، شهدت الجزائر ولادة فيض دافق من المجموعات الجهادية التي هبّت لمحاربة ما أسمته "دولة الطاغوت".

أسفرت الحرب الأهلية الجزائرية عن مقتل أكثر من 150,000 شخص، واختفاء الآلاف، ونزوح حوالى مليون جزائري داخل البلاد، إضافةً إلى أضرار مادية تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار. وفي العام 1997، وافقت الدولة على مبادرة وقف إطلاق النار مع الجيش الإسلامي للإنقاذ، الجناح العسكري للجبهة. لكن الجماعة الإسلامية المسلّحة، وهي المجموعة الجهادية الأبرز، عملت على تقويض عملية المصالحة، إذ رفضت التفاوض وواصلت أعمال العنف ضدّ المواطنين من جهة، وضدّ الجبهة الإسلامية والجيش الإسلامي من جهة أخرى لأنهما أبرما هدنةً مع الحكومة. لكن الانهيار البطيء للجماعة الإسلامية والاتفاق مع الجبهة الإسلامية والجيش الإسلامي أدّيا إلى وضع حدٍّ للحرب وتسريح آلاف الجهاديين. ثم أطلقت الجزائر عملية مصالحة وطنية اتخذت أشكالًا عدّة. والواقع أن العملية كانت بدأت منذ العام 1993 مع لجنة الحوار الوطني ومؤتمر المصالحة الوطنية، اللذين أعقبهما إقرار قانون الوئام المدني في العام 1995 ثم إصدار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في العام 2005.

اعتبر الميثاق أن معظم الجزائريين هم ضحايا الصراع، فوضع على قدم المساواة الأشخاص الذين تسبّبوا بالمعاناة وأولئك الذين تكبّدوها، ووصف الجميع بأنهم "ضحايا المأساة الوطنية". علاوةً على ذلك، منح الميثاق عفوًا مشروطًا لعناصر المجموعات المسلحة الذين استسلموا ضمن المهلة الزمنية التي حدّدها، شرط ألا يكونوا متورّطين بارتكاب جرائم الاغتصاب أو بالمشاركة في المجازر أو تفجير العبوات في الأماكن العامة. أما الأشخاص الذين ارتكبوا مثل هذه الجرائم، فلم يشملهم العفو الكامل، إنما تلقّوا عقوبة سجن مخفَّضة، في حين أن عناصر الجيش وقوى الأمن لم يخضعوا للمحاكمة.

حظي الميثاق بتأييد 97 في المئة من الناخبين، وكان له تأثير كبير في المقاربة التي اعتمدتها الجزائر للتعامل مع النزاع. وتمامًا مثلما حاولت السلطات محو التمايزات بين درجات المسؤولية التي تتحمّلها مختلف الجهات عن فظائع الحرب، لتجنّب إحداث شقاق داخلي وتعزيز السلم الأهلي، وسّعت كذلك استراتيجية الغموض المعتمدة رسميًا لتشمل جميع قطاعات المجتمع الجزائري، ومن ضمنها القطاع التربوي والتعليمي.

التعليم وفقدان الذاكرة والفرص الضائعة

عمدت الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية إلى الترويج لسردية المصالحة الوطنية، بغض النظر عن أن ذلك قد يمنع التوصّل إلى فهم مشترك للحرب، عاقدةً آمالها على أن الأحداث المروّعة التي شهدتها العشرية السوداء ستختفي ببساطة من الوعي الجماعي. وخلال الفترة التي تلت الحرب، رسمت الرقابة الذاتية في الغالب معالم التعاطي مع انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلالها. وفي حين تتحدّث وسائل الإعلام، إضافةً إلى الكتّاب والفنانين وغيرهم من الجزائريين، عن النزاع، لا تزال الدولة تلتزم الصمت حيال هذه المسألة، ولا سيما في القطاع التعليمي.

لذلك، كان اقتراح بن غبريط، الذي قضى بإدراج أحداث العشرية السوداء في المناهج الدراسية، غير مألوف البتة. وقد غادرت الوزيرة منصبها في العام 2019، تزامنًا مع انطلاق شرارة الحراك، لكن من غير الواضح ما إذا حظي اقتراحها هذا بمباركة النخب السياسية. لكن من المعروف عنها سعيها إلى إصلاح القطاع التربوي وتحسين نوعية التعليم الذي يتلقّاه الطلاب، ورغبتها في منح التراث التاريخي والثقافي للجزائر حيّزًا أكبر في المناهج التعليمية. ولا يمثّل اقتراحها بتدريس أحداث العشرية السوداء في المدارس سوى تكملة لهذا النهج، انطلاقًا من رؤيتها بأن تعميق معارف الطلاب حول التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي للجزائر أمرٌ أساسي لتوطيد أركان السلام في البلاد.

لكن أفكار بن غبريط لم تتبلور لغاية الآن. فلم تحِد المدارس عن مبدأ التكتّم على الحرب ولم تجد العشرية السوداء طريقها إلى الكتب المدرسية. بل سمحت الدولة ببروز تفسيرات متباينة للصراع وانتشارها في المجتمع، وحرمت المدارس من مهمة تعزيز الوئام والمصالحة والوحدة الوطنية. وقد أثبتت سياسة فقدان الذاكرة التي تبنّاها النظام فعاليتها وحقّقت أهدافًا متعددة.

أولًا، لم تفرّق السلطات بين المتضررين من النزاع ومرتكبي أعمال العنف عندما جمعتهم معًا في خانة "الضحايا"، ما يشير إلى اعتقادها الضمني بأن معرفة حقيقة ما حصل تعيق عملية المصالحة. ولكن هذا لم ينمّ عن حياد الحكومات الجزائرية المتعاقبة ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، إذ إنها لم تألُ جهدًا منذ نهاية الحرب الأهلية لإخفاء المعلومات عن الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها عناصر الجيش وقوى الأمن. ويُعزى سبب هذا التصرّف إلى لوم الجهاديين بشكل متواصل على معظم الجرائم التي ارتُكبت في زمن النزاع، وبخاصة الجماعة الإسلامية المسلحة، حتى لو لم تكن هي المذنبة.

في الواقع، انتهجت الحكومة هذا المسار لأن كشف جرائم قوى الأمن لن يؤدي بنظرها إلا إلى تقويض العلاقات بين هذه القوى والمواطنين الجزائريين. لم تتغيّر الرواية الرسمية، ومفادها أن القوات المسلحة تدخّلت لإنقاذ البلاد من سيطرة الإسلاميين، ما برّأها من أي مسؤولية في الحرب. ولا تبدي الحكومة أي استعداد لفتح نقاش عام حول موضوع المساءلة والمحاسبة، ولا تتيح إمكانية الوصول إلى أرشيفها والسجلات العسكرية. وغالبًا ما توصف العشرية السوداء بأنها صراع بين الديمقراطية والإسلاموية، وتُسلَّط الأضواء على الجوانب السلبية للإسلاموية من أجل تبرير القمع الوحشي الذي تعرّض له الإسلاميون.

ثانيًا، تريد السلطات تجنّب حدوث خلاف حول الحرب منعًا لتأجيج انقسامات أخرى في المجتمع الجزائري. فخلال العشرية السوداء، انقسم الجزائريون، ولا سيما النخبة العسكرية والسياسية، حول كيفية التعامل مع التمرّد، وبرز معسكران هما: دعاة الاستئصال الذين شجّعوا على اتخاذ إجراءات متشددة بحق الجهاديين، ودعاة الحوار الذين فضلوا التفاوض معهم. ومنذ انتهاء الحرب، سعت السلطات جاهدةً لبناء نظام سياسي جديد قائم على التسامح والصفح المتبادلَين، ما دفعها إلى تفادي كل ما من شأنه أن ينكأ جراح سنوات الحرب القديمة، بما في ذلك الكتابة عما حدث وتدريسه.

وقد لخّصت أستاذة جامعية المنطق الذي اتّبعته السلطات في مقابلة أجرتها معها المؤلّفة في أيار/مايو 2021، قائلةً: "من الصعب على الطبقة السياسية سرد التاريخ من وجهات نظر متعدّدة. في ما يتعلق بحرب الاستقلال، ثمة ذاكرة مهيمنة... لكن كان ذلك سهلًا لأننا كنا نحارب عدوًا خارجيًا... ولكن العشرية السوداء شهدت اقتتال الإخوة في ما بينهم، لقد كانت مأساة بين الأشقاء. كيف لك تدريس ذلك؟ ثمة خوف دائم من زعزعة الاستقرار والتوافق الوطني".

ثالثًا، تحاول القيادة الجزائرية تجنّب ذكر الحرب خوفًا من التداعيات القانونية. ما زال عدد كبير من الجهاديين التائبين أو عناصر قوى الأمن، ومن بينهم جنرالات رفيعو المستوى، على قيد الحياة وقد يعرّضهم الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان إلى خطر الملاحقة القضائية، ما يؤدي إلى تعميق الشقاق في المجتمع. لذا، تفضّل السلطات التكتّم على الموضوع، فيما ينفي الكثير من المسؤولين صراحةً حدوث أي انتهاكات أو ممارسات تعذيب، أو يتنصّلون من المسؤولية التي يتحمّلونها.

صحيحٌ أن كل هذه الأسباب وجيهة ولكنها لا تلبّي حاجة شاملة وأساسية. لقد فرضت الدولة رقابة على هذه المسألة منذ أكثر من عقدَين، لكن الوقت قد حان ليطوي الجيل الجديد من الجزائريين صفحة الماضي ويوحّد السرديات المتعدّدة من أجل إعداد الكتب المدرسية وتنظيم الأرشيف والمتاحف والأحداث والمراسم الاحتفالية لتذكير الناس بما حدث خلال عقدٍ لطالما أطلقوا عليه تسمية "المأساة الوطنية" بدلًا من اسمه الحقيقي: الحرب الأهلية. عندما دفنت السلطات تاريخ الحرب ومنعت الجزائريين من تخطّيه والتصالح معه، تركتهم رهائن تاريخهم، وحوّلت ذكرى الصراع إلى قضية شائكة تقضّ مضاجعهم بصمت.

لا شك في أن هذا الوضع ينطوي على مخاطر عدة، إذ تتعدّد وجهات النظر التاريخية المتضاربة حول الصراع في المجتمع الجزائري، وغالبًا ما يتسبّب ذلك بتشنّجات وخلافات. ولدى كل من خاض تلك الحقبة، بدءًا من عائلات الضحايا والموظفين الحكوميين ومرورًا بعناصر قوى الأمن والجهاديين السابقين ووصولًا إلى المثقفين، ذاكرة انتقائية حيال ما جرى، قد تتحوّل إلى سلاح سياسي في حال استمرّ فقدان الذاكرة الجماعي الذي ترعاه الدولة.

لهذا السبب، لا بدّ من تناول تاريخ الحرب من أجل إطلاق حوار وطني يجمع التفسيرات المتنوعة لما حدث محاولًا التوفيق بينها. لا تتوفّر وجهة نظر نهائية ومطلقة عن الصراع يمكن فرضها على الجميع، وهذا ليس الهدف أساسًا، بل ينبغي دراسة الطرق التي تخوّل الجزائريين الاستناد إلى قراءاتهم المختلفة لاستخلاص العبر التي من شأنها أن تفضي إلى توافق عام حول مصالحهم كشعب. وينطوي ذلك على الاعتراف بمعاناة الضحايا كافة، بغض النظر عن هوياتهم وانتماءاتهم وميولهم السياسية آنذاك، ما يتيح للجزائريين الاعتراف بإنسانية الآخر والتخلّص من الدافع الغريزي إلى النفور ممّن يخالفونهم الرأي.

استخلاص العبر من التجارب العالمية

أثبتت أمثلة كثيرة من صراعات أخرى حول العالم أن تحقيق هذا المشروع يجب أن ينطلق من الحقل التعليمي. يضطلع التعليم، ولا سيما تدريس مادة التاريخ، بدور هام في استرجاع الذاكرة وتحويل إرث الحرب إلى دعامة أساسية لبناء مجتمع جزائري أكثر تماسكًا وتكاملًا. فالذاكرة الجماعية هي الخيط الذي يربط بين مختلف المجتمعات المحلية.

على سبيل المثال، تعاون الناشطون في مجال الذاكرة الجماعية، على غرار الرابطة الأوروبية لمعلّمي التاريخ، "أوروكليو" (EuroClio)، في غرب البلقانمع مدرّسين محليين في البوسنة والهرسك، وكرواتيا، وصربيا، والجبل الأسود لدراسة الدور الذي أدّاه التعليم وتدريس التاريخ بطريقة مسؤولة في الحفاظ على ذاكرة الحروب في يوغوسلافيا السابقة خلال تسعينيات القرن الماضي. ونظرًا إلى تدخل أوروبا في شؤون يوغوسلافيا السابقة وقربها الجغرافي منها، أجمع الاتحاد الأوروبي في مطلع القرن الجديد على أن الوقت قد حان كي تبدأ المدارس بتناول مواضيع هذه النزاعات. وهدفت هذه الخطوة إلى ضمان اطّلاع الطلاب على أحداث تلك الحقبة وفهمها، بمعزل عن الذكريات الشخصية أو العائلية.

في هذا السياق، استشارت رابطة "أوروكليو" نحو 1,300 مدرّس لمادة تاريخ لمعرفة وجهات نظرهم حول هذه المقاربة. وكشفت النتائج عن صعوبة واجهها المدرّسون في التعامل مع المسائل الحسّاسة من التاريخ الحديث في الصفّ، إذ لم يشعروا بثقة كافية بشأن طريقة تدريس المحتوى، ولا سيّما حين أتى الطلاب متشبّثين بآراء معيّنة حيال ما حدث، ارتكزت في الغالب على ذكريات ذويهم. وما زاد الأمر صعوبةً أن المدرّسين كانوا هم أيضًا متأثّرين بتجاربهم الخاصة.

لذلك، أكّد المدرّسون على حاجتهم إلى تلقّي تدريب إضافي للتعامل مع طريقة تدريس تاريخ النزاع في بلادهم، ما دفع رابطة "أوروكليو" إلى التعاون معهم من أجل تعزيز قدرات رابطات المعلمين الإقليمية، وهي الناطقة باسم مدرّسي مادة التاريخ في يوغوسلافيا السابقة. وقد تكلّل برنامج رابطة "أوروكليو" بالنجاح، إذ أُدرج مثلًا ضمن مشروع التطوير المهني للمدرّسين في صربيا، والذي صادقت عليه وزارة التعليم في العام 2003. وقد شارك في الحلقات التدريبية اللاحقة أكثر من 400 مدرّس وزهاء 80 طالبًا في حقل التاريخ.

أما في كرواتيا، فنظّمت رابطة "أوروكليو" أيضًا حلقات تدريبية بالتعاون مع شركاء آخرين في العام 2018. إضافةً إلى ذلك، شجّع المعلّمون والمؤرخون على جمع المذكّرات والشهادات وتوثيق التاريخ الشفهي، وأجرت المؤسسات المعنية بالحفاظ على ذاكرة الحرب الجماعية مقابلات مع الناجين. وأثمرت الجهود المتضافرة عن تأسيس مركز "دوكومنتا" (Documenta) للسلام واللاعنف وحقوق الإنسان، في مدينة أوسييك، بهدف "تعزيز التعامل مع الماضي... والمساهمة في [أ] نقل النقاش من التنازع على الحقائق... إلى حوار حول التفسيرات". ولا بدّ من الإشارة إلى أن المواد الصادرة عن مركز "دوكومنتا" التي تُستخدم في المدارس تراعي مختلف وجهات النظر وتحرص على احترام آراء جميع الأطراف وأصولها وتجاربها.

من الضروري جدًّا أن تحذو المدارس الجزائرية حذو النموذج الكرواتي من خلال جمع وجهات النظر والذكريات المتعددة في المقرّرات الدراسية للحدّ من مخاطر التسييس والانقسامات الحادة المتعلقة بسنوات الحرب. وقد تساعد هذه الخطوة على تخفيف مشاعر الظلم والغبن ومحاولات التموضع في موقف الضحية التي يثيرها الصراع في نفوس الجزائريين، وعلى بناء ثقافة سياسية جامعة. لكن هذا بالضبط ما لم تفعله الحكومات الجزائرية.

في الواقع، يتواءم مشروع مركز "دوكومنتا" مع السياق الجزائري ويمكن تطبيقه هناك. كذلك، بإمكان السلطات التعليمية، بمساعدة منظمات المجتمع المدني، إنشاء مدارس صيفية جهوية تقدّم برنامجًا موسميًا يتمحور حول مواضيع محدّدة تتعلق بالنزاع، على غرار تلك التي أُنشئت في البوسنة في العام 2015 وفي أوسييك في العام 2019. ويستطيع المدرّسون والمؤرخون من مختلف الولايات الجزائرية مناقشة سرديات العشرية السوداء المتوارثة والمتشابكة، وأهمية تدريس أحداثها للأجيال الصاعدة. ويمكن أن تُلحق بالبرنامج مبادرات متعلقة ببناء القدرات من أجل نقل المعارف والخبرات المستمدّة من زمن الحرب إلى المشاركين. وقد يشمل ذلك أيضًا عقد ندوات تدريبية على نسق تلك التي نُظّمت في مدينة بريزرن في كوسوفو في العام 2014. وهدفت هذه الندوات إلى إعداد أساتذة التاريخ للمساهمة في تطبيق منهج أساسي لتعليم القضايا التاريخية المثيرة للجدل في مدارس كوسوفو. وقد عادت هذه البرامج بالفائدة على بلدان يوغوسلافيا السابقة، وغالب الظن أنها ستعود بالفائدة على الجزائر أيضًا.

خاتمة

مع مرور الوقت، سيكون لدى النظام الجزائري حافزٌ أقل لرفع الحظر عن ذكر سنوات الحرب الأهلية، لكنه سيتكبّد ثمنًا أكبر من جرّاء ذلك. فهو إذ يُمعن في حرمان الجزائريين من الوسائل التي تخوّلهم ممارسة النقد الذاتي عند التفكير في ماضيهم، إنما يمهّد لاندلاع مواجهات سياسية متجدّدة حول الذاكرة التاريخية. لكن سيصعب على الدولة فرض التعتيم إلى أجل غير مسمّى على مادة التاريخ في حال طُبِّقت برامج مماثلة لتلك التي اعتُمدت في يوغوسلافيا السابقة، ولا سيما أن هذه البرامج تساعد على تجنّب الغرق في دوامة الذاكرة الانتقائية والذكريات المجتزأة لما حدث في تسعينيات القرن الماضي، ما يسهم في التوصّل إلى فهم مشترك للأحداث وترسيخ أُسس السلم الأهلي. إن التأمّل في ما حدث من دون قيد أو شرط هو الخطوة الأولى على مسار التصالح مع التاريخ، ولا سيما التاريخ الأليم.