تقييم سياسة ملكية الدولة في مصر: بين التحديات والمقتضيات

خلال العام الماضي، أعلنت الحكومة المصرية عن إطلاق عدة مبادرات اقتصادية طموحة، لكن عليها التصدّي لجملةٍ من التحديات الكبرى كي تتمكّن فعليًا من تنفيذ هذه التغييرات.

نشرت في ٨ مايو ٢٠٢٣

بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على إطلاق الحكومة المصرية برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي في العام 1991، الذي كان يُفترض به خصخصة عددٍ كبيرٍ من الشركات المملوكة للدولة في مصر، لا تزال الحكومة تتدخّل في الاقتصاد على نطاق واسع جدًّا من خلال القوانين والتنظيمات التي تسنّها، إلى درجة أنها تحدّد عمليًا مستوى الإنتاج وتركيبته في الكثير من القطاعات الاقتصادية، ومن ضمنها تلك التي يملك غالبيتها القطاع الخاص. وفي العام 2020، أعادت الدراسة التشخيصية للقطاع الخاص في مصر، الصادرة عن مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، التأكيد على "أن وجود شركات مملوكة للدولة في جميع القطاعات تقريبًا يغذي هذا التصور حول النشاط واسع النطاق للدولة بل والمفرط في التوسع، في حين أن كثرة القوانين الحاكمة وأُطر الملكية التي تعمل بموجبها تلك الشركات تجعل من التعرف عليها أمرًا صعبًا ومعقدًا". وفي العام 2021، دعا صندوق النقد الدولي مصر إلى "تحقيق مركزية ملكية الدولة في كيان واحد"، والخروج من باقي الاقتصاد. يُضاف إلى ذلك أن الأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي عصفت بمصر في أوائل العام 2022 أدّت إلى تسليط الضوء على هذه القضايا بشكل غير مسبوق.

وأتى ردّ الدولة من خلال إعلان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في أيار/مايو 2022 أن الحكومة تخطّط لإعادة ترسيم دور و"حدود الدولة في الاقتصاد الوطني" بهدف تعزيز دور القطاع الخاص. وتلا ذلك إصدارها في حزيران/يونيو المسودّة الأولى لوثيقة سياسة ملكية الدولة التي تضمّنت خطة الحكومة من أجل "تخارج" الدولة كليًّا من عشرات القطاعات الاقتصادية، وتقليص دورها في بضع عشرات من القطاعات، وزيادة دورها في المقابل في قطاعات أخرى. وأجرت الحكومة أيضًا مباحثات مع القطاع الخاص وغيره من الجهات لإصدار الصيغة النهائية من وثيقة سياسة ملكية الدولة، التي وافق عليها مجلس الوزراء في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، ثم صادق عليها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في 29 كانون الأول/ديسمبر. يُشار إلى أن الإعلان الأولي عن مسودّة وثيقة سياسة ملكية الدولة قد تزامن مع المحادثات التي كانت تجريها الحكومة مع صندوق النقد الدولي بشأن حصولها على قرض جديد من الصندوق، هو الرابع الذي تحصل عليه مصر منذ العام 2016، ما يشير إلى أن الإعلان عن السياسة الجديدة كان هدفه، جزئيًا على الأقل، تحسين العلاقات العامة. لكن حتى لو طُبِّقت فقط بعض بنود هذا الإطار السياساتي الجديد بالشكل المناسب، فسيشكّل ذلك خطوة أولى على مسار فتح الاقتصاد السياسي المصري على نطاق أوسع، ما يعزّز آفاق إحداث المزيد من التغيير التحوّلي.

لكن التوجّه الفعلي لسياسة ملكية الدولة وتأثيرها لا يزالان موضع شك. ويشي واقع أنها ليست سوى واحد من بين أطر سياساتية اقتصادية عدة أعلنت عنها الحكومة خلال فترة لا تتعدّى العشرة أشهر، بالافتقار إلى الاتساق السياساتي، وربما إلى الالتزام أيضًا. تُعدّ مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية أهمّ هذه المبادرات الإطارية، وقد سلّمتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي في 30 تشرين الثاني/نوفمبر في إطار الاتفاق الذي توصّلت إليه مصر مع الصندوق بشأن حصولها على قرض جديد. وفيما صادقت المذكرة على سياسة ملكية الدولة باعتبارها "المقياس الهيكلي" للإنجاز، فهي وعدت في الواقع بإجراء إصلاحات أوسع نطاقًا بكثير ترتبط بالإدارة الاقتصادية والمالية العامة. والإيجابي في الموضوع أن الخروج عن سياسة ملكية الدولة سيلغيها بصفتها إطارًا سياسيًا. وعلى العكس، فإن التقيّد بسياسة ملكية الدولة من شأنه أن يلغي فعليًا المذكرة. لكن مجرّد إصدار الاستراتيجيات الرسمية قد يكون هو الهدف في حدّ ذاته، بدل أن تكون الغاية ضمان انسجامها واتّساقها معًا. فقد سبق أن التزمت الحكومة ببرنامج يرمي إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية بموجب اتفاق مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، أي قبل أشهر من صياغة سياسة ملكية الدولة، وقبل سنة فقط من تسليم مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية إلى صندوق النقد الدولي.

وعلى نحو مماثل، تم تقديم إعلان مدبولي في شباط/فبراير 2023 عن خطة الحكومة بيع حصص في اثنتين وثلاثين شركة مملوكة للدولة إلى مستثمرين في القطاع الخاص على أنه يندرج في إطار تطبيق سياسة ملكية الدولة، لكنه حاد عنها في مسألة أساسية واحدة على الأقل. ففيما تبنّت سياسة ملكية الدولة صندوق مصر السيادي باعتباره الإطار المفضّل لديها لجذب الاستثمارات الخاصة إلى الاقتصاد المصري، أعلن مدبولي من جهته أن طرح الأسهم سيجري من خلال البورصة المصرية أو في إطار مفاوضات ثنائية مع مستثمرين استراتيجيين. وكما أشار الصحافيان في موقع "مدى مصر"، أحمد بكر وريهام السعدني، لا تُحدث قائمة الشركات المطروحة حصصها للبيع تغييرًا ملحوظًا، بل تضفي "تعديلات طفيفة على قائمة الشركات والأصول نفسها التي كانت الدولة تحاول عرضها للاستثمار الخارجي خلال السنوات الخمس الأخيرة". وفي ذلك إشارة إلى محاولة الحكومة الفاترة بدءًا من العام 2018 طرح ثلاث وعشرين شركة مملوكة للدولة للخصخصة الجزئية، لكنها أخفقت كليًا تقريبًا في ذلك. وخلال الأسابيع التي أعقبت تاريخ إعلان بيع الحصص في شباط/فبراير 2023، عمدت الحكومة، بشكل غير مدروس على ما يبدو، إلى إضافة حفنة جديدة من الشركات إلى القائمة التي ستُطرح حصصها للبيع، وحدّدت مهلة غير واقعية، تبلغ سنة واحدة لإتمام عمليات البيع. وتعزّز هذه العوامل مجتمعةً الانطباع بوجود حالة من الارتباك على مستوى السياسات وافتقار الحكومة إلى استراتيجية حقيقية أو إرادة سياسية كفيلة بالوقوف في وجه جماعات المصالح الراسخة التي عطّلت عمليات الخصخصة السابقة.

تنطبق المشاكل المرتبطة بالمصداقية أيضًا على وثيقة سياسة ملكية الدولة في حدّ ذاتها. فبعد أن أعلنت الحكومة عن إطلاق مشاورات – وشرعت فيها بالفعل – في أعقاب إصدار مسودّة هذه الوثيقة في حزيران/يونيو 2022، غابت هذه المبادرة بالكامل عن التداول العلني. ولم يظهر أي دليل يُذكر على إجراء تحضيرات سياسية في أوساط المجموعات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية – سواء أكانت قطاع الأعمال أو العمّال أو موظّفي الدولة – لتأييد إحداث التغييرات المنشودة بمثل هذا الحجم والاتساع. وقد صوّرت الحكومة المؤتمر الاقتصادي الذي عقدته في أواخر تشرين الأول/أكتوبر على أنه يختتم مشاوراتها بشأن مسودّة سياسة ملكية الدولة، لكنها في الواقع كانت تبذل قصارى جهدها للاستجابة إلى تعليق عابر أدلى به السيسي ومفاده أنه يريد أن تكون للدولة كلمتها في الشؤون الاقتصادية. وفي نهاية الأمر، لم يجرِ سوى القليل من النقاش حول سياسة ملكية الدولة في هذا المؤتمر الذي دامت فعالياته ثلاثة أيام، وتخلّلته بدلًا من ذلك مداخلات طويلة من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

تظهر المقارنة التفصيلية للمسودتَين الأولى والنهائية من وثيقة سياسة ملكية الدولة أن جوهر ما تضمّنته، أي الإطار السياساتي العام وآلياته المطروحة، لا يزال نفسه، ما عدا بعض التعديلات التحريرية الصغيرة التي أُدخلت على النص. واقتصرت التغييرات المهمة على إعادة تصنيف بعض القطاعات والأنشطة الاقتصادية: أي من تلك التي ستتخارج منها الدولة كليًا لصالح القطاع الخاص، إلى تلك التي ستتخارج منها جزئيًا، أو تلك التي ستحافظ فيها على دورها، أو العكس. وانحصرت أهمية هذه التغييرات المحدّدة في ما تكشفه عن جماعات المصالح الاقتصادية التي مارست ضغوطًا لإدخال تلك التغييرات، وعمّا اعتبره معدّو الوثيقة مسموحًا أم لا. لكن الأهم أن القسم الذي يتطرّق إلى مبرّرات الإبقاء على ملكية الدولة وتدخّلها في مختلف أجزاء الاقتصاد – أو حتى زيادتهما – لم يتغيّر البتة.

وأخيرًا، يتعيّن على الحكومة المصرية التصدّي لجملةٍ من التحديات الكبرى إذا أرادت أن يُكتب النجاح لسياسة ملكية الدولة. ولكن من المستبعد حدوث ذلك. فكما تظهر المقالات التي يضمّها هذا الملفّ بين دفّتيه، تُعدّ سُبل تمويل هذه السياسة مُبهمة وموضع شك. قد يكون بيع الحصص في الشركات المملوكة للدولة والمدرّة للربح الوسيلة الوحيدة أمام الحكومة لتأمين رأس المال الذي تشتدّ الحاجة إليه، لكن ذلك من شأنه أن يحرمها من بعض العائدات المضمونة. يُشار إلى أن انحياز إدارة السيسي المفرط نحو القطاعات غير القابلة للتداول (أي غير السلعية وغير القابلة للتصدير) قد قوّض على نحو أكبر زيادة الإنتاجية والرِبحية في القطاعات القابلة للتداول، وساهم في تعميق الشرخ بين حاجة البلاد إلى رأس المال الاستثماري وقدرة الاقتصاد على توليده. وقد أعاقت بالفعل التأجيلات والانسحابات مسار المفاوضات مع "المستثمرين الاستراتيجيين" من بين شركاء مصر وحلفائها في الخليج. أخيرًا وليس آخرًا، غالب الظن أن اتّباع استراتيجية منقسمة تُطبَّق على الهيئات المدنية المملوكة للدولة فحسب، فيما تمنح إعفاءات للهيئات العسكري، وتمنح إعفاءات للهيئات العسكرية (سواء بحكم القانون أو بحكم الواقع)، سيحول دون تعزيز دور القطاع الخاص، وهو ما تزعم سياسة ملكية الدولة أنها تسعى إلى تحقيقه.

بغضّ النظر عن العيوب والتناقضات الجوهرية التي تنطوي عليها وثيقة سياسة ملكية الدولة، فهي لا تبدو كافية أساسًا لحلّ الأزمة التي تتخبّط فيها مصر، إذ إن المشكلة الحقيقية ترتبط بالنية والمصداقية. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: إلى أي مدى تملك الحكومة المصرية فعليًا الإرادة لتطبيق بنود مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، أو بالأحرى، وهذا ليس أقلّ مدعاةً للقلق، ما مدى قدرتها على ذلك، في مواجهة أفرقاء نافذين سياسيًا ومترسّخين في مواقعهم، ومن ضمنهم رئيس الجمهورية والمؤسسة العسكرية الناشطة اقتصاديًا؟

الاستثمار في مستقبل مصر أم بيع الأصول الوطنية؟

يبدو، عند مراجعة لحظة صدور مسودة وثيقة سياسة ملكية الدولة في أيار/مايو 2022، أن الحكومة المصرية توفّقت تمامًا في اختيار التوقيت المناسب. فقد تم الإعلان عنها بعد فترة وجيزة من بدء الحكومة مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرضها الرابع خلال ست سنوات، بقيمة 3 مليارات دولار، ثم جرى اعتمادها كمقياس هيكلي لبرنامج صندوق النقد الدولي الجديد للإصلاح المالي والاقتصادي. ثم إن السياسة تم إقرارها في كانون الأول/ديسمبر 2022، لتساعد في إطلاق التسهيل الائتماني الممتدّ من صندوق النقد الدولي. مع ذلك، يعكس هذا الترتيب ثقة محدودة بالاقتصاد المصري، إذ قامت الحكومة سابقًا بالتفاوض على اقتراض مبالغ وصلت إلى 12 مليار دولار وتلقّت تدفقات مالية "ساخنة" أكثر بكثير من الجهات التي أقبلت على شراء ديونها السيادية بعد قروض صندوق النقد الدولي السابقة. وفي ظل الحاجة إلى سداد 17 مليار دولار إلى صندوق النقد الدولي على مدى خمس سنوات، ناهيك عن تكاليف خدمة الديون الأخرى، ليس أمام الحكومة من خيار سوى بيع الأصول العامة. لذا، أعلنت الحكومة في أوائل شباط/فبراير 2023 عن نيّتها بيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة بحلول شهر آذار/مارس 2024.

يثير تسلسل هذه الأحداث وتوقيتها أسئلة متداخلة. هل عمليات خصخصة هذه الشركات أساسًا عبارة عن عمليات بيع طارئة وغير متوقعة استوجبتها الحاجة لدرء التخلّف عن السداد، تسهّلها بالصدفة الحميدة سياسة ملكية الدولة؟ أم أن الضغوط الاقتصادية التي تواجهها مصر توفّر للحكومة ببساطة فرصة لتنفيذ استراتيجية محدّدة مسبقًا لبدء عملية تحويل الاقتصاد؟ تورِد سياسة ملكية الدولة أهدافًا توحي بطموحات مصر الاستراتيجية، ومن ضمنها تعزيز دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، وإرساء اقتصاد مؤاتٍ للاستثمارات، وتحديد حضور الدولة في الاقتصاد. وتصحبها كذلك أهداف محدّدة، مثل زيادة الاستثمار إلى 25-30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ورفع النمو الاقتصادي إلى 7-9 في المئة، وجعل الدولة تتحمّل المسؤولية الأساسية في القطاعات التي لا تجذب الرساميل الخاصة، وإرساء الاستقرار المالي مع توسيع شبكات الأمان الاجتماعي.

ولكن هل كل هذا مجرّد كلام مُصمَّم فقط لنيل استحسان صندوق النقد؟ وسواء كان كلامًا للاستهلاك أم التزامًا سياسيًا حقيقيًا، فما الذي تشير إليه خطة الخصخصة التي تم الإعلان عنها في شباط/فبراير في ما يتعلق بمستقبل الاقتصاد السياسي في مصر؟ هل سينهار الاقتصاد أم سيزدهر؟ وهل ستتمكن الدولة من الصمود في وجه ردود الفعل السياسية من السكان المتضرّرين بشكل مباشر أو غير مباشر من بيع الأصول الوطنية؟ إذا تم تنفيذ الخطة بالكامل، ستؤثّر الخصخصة بشكل ملموس على المشتريات المستقبلية لديون مصر السيادية، وعلى العلاقات داخل فئات مختلفة من المستثمرين وفي ما بينها، وعلى تدفّق العوائد إلى أشخاص داخل النظام (سواء كانوا ضباطًا عسكريين أو أمنيين رفيعي المستوى أو مدنيين ضمن شبكات المحسوبية القائمة).

القطاعات المستهدفة للخصخصة الكاملة

يمكن وصف بعضٍ من الشركات الـ32 المعروضة للبيع الجزئي بأنها من بين "مجوهرات العائلة" في البلاد - أي تلك التي تُعدّ منذ فترة طويلة من بين أكثر الشركات المملوكة للدولة ربحيةً. ولكن ليست الشركات وحدها ما يكشف عن نوايا الحكومة والنتائج المحتملة لسياسة ملكية الدولة، بل القطاعات التي تعمل فيها أيضًا. وتشمل هذه القطاعات القطاع المصرفي والتمويلي، والعقارات، والسياحة، والخدمات اللوجستية، والصناعات الطبية والدوائية، وتوليد الكهرباء، والمعالجة الكثيفة الكربون. وثمة شركتان معروضتان، هما صافي ووطنية، تملكهما المؤسسة العسكرية، إنما لا تعملان في أيٍّ من هذه القطاعات، إذ تُنتج الأولى المياه المعبّأة بينما تبيع الثانية الوقود لسائقي المركبات. لم تُدرج سياسة ملكية الدولة أيًّا من هذَين النشاطَين للخصخصة، لكن من المفترض أن الشركتَين مُدرجتان من أجل تلبية متطلبات صندوق النقد الدولي حيال خصخصة بعض الأصول المملوكة للمؤسسة العسكرية. يمكن التخلّي عن الشركتَين بسهولة لأنهما ليستا ذات أهمية حيوية للمؤسسة العسكرية أو الدولة.

هذه جميعًا هي قطاعات سبق أن دخلها مستثمرون من القطاعَين العام والخاص من الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، أو أبدوا رغبتهم في دخولها. على سبيل المثال، استحوذ صندوق الثروة السيادية لدولة الإمارات العربية المتحدة على حصص كبيرة في القطاع الطبي والدوائي، وفي الخدمات اللوجستية في مصر. لكن العرض الجديد المقدّم من الحكومة المصرية أكثر إغراءً من العروض السابقة، ما يشير إلى أنها ترغب في جذب المزيد من الاستثمارات الكبيرة من دول مجلس التعاون الخليجي، وأنها لا تتوقع اهتمامًا كبيرًا من مصادر أجنبية أخرى. علاوةً على ذلك، تشير التصريحات الرسمية حول طريقة الخصخصة إلى تفضيل الشراء بالعملات الأجنبية من جانب مستثمرين أساسيين، بدلًا من الشراء من خلال الاكتتاب العام في البورصة المصرية، والذي سيكون بالعملة المحلية. لا يوحي هذا التفضيل فحسب بأن مصر في حاجة ماسة إلى العملات الأجنبية، بل أيضًا بأن الهدف الأساسي يتمثّل في المستثمرين الخليجيين. وتشير التجارب السابقة إلى أن المستثمرين الخليجيين سيتخوّفون أقل من المستثمرين المبتدئين أو الشركات المتعدّدة الجنسيات من امتلاك حصص كبيرة، ولو كانت حصصًا أقلية، في شركات لا تزال الحكومة هي المساهم الأكبر فيها.

الشركات المُراد خصخصتها جزئيًا

حتى البيع الجزئي للشركات المحدّدة المعروضة سيحرم الحكومة من تدفقات الإيرادات المستقبلية، مع توجيهها إلى أيدي القطاع الخاص. ففي القطاع المصرفي والتمويلي، تشمل البنوك المعروضة بنك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربي الأفريقي الدولي، وجميعها مربحة. مع ذلك، يُعزى نجاحها المالي في المقام الأول إلى الفارق السخي بين الفوائد المدفوعة على الودائع والفوائد المُحقَّقة من الاستثمار في ديون مصر السيادية، والتي تشكّل عادةً حوالى نصف قروضها. بلغ هذا الفارق، المستند إلى معدلات الفائدة على الودائع المصرفية ليوم واحد والفوائد المدفوعة على أذونات الخزينة، نسبة 7 في المئة العام الماضي. تتمتع البنوك بإمكانيات واضحة لتوسيع قاعدة عملائها بسرعة وبالتالي زيادة ربحيتها. صحيحٌ أن نحو ثلث المصريين البالغين فقط لديهم حسابات مصرفية، في حين أن ما يقرب من نصف الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في البلاد ليست لديها إمكانية الوصول إلى الائتمان. علاوةً على ذلك، ترفض الحكومة منح تراخيص لإنشاء بنوك جديدة، ما يزيد من ربحية وجاذبية ما يقرب من أربعين بنكًا عاملًا في البلاد.

من خلال عرض خصخصة ما بين 20 و30 في المئة من أسهم هذه البنوك، ستتخلّى الحكومة عن الأرباح التي تجنيها من خلال إيداع أذونات الخزينة معها، وهي أرباح تعوِّض حاليًا بعض الفوائد المدفوعة لخدمة الدَّين الوطني. من غير الواضح ما إذا كانت كلفة هذه الفرصة الضائعة قد تم خصمها من الأرباح المقدّرة التي يُتوقع أن تحقّقها الخصخصة، لكنها كلفة ستزيد من دون شك حاجة الحكومة إلى العملات الأجنبية.

وفي قطاع التأمين، الشركتان المعروضتان هما مصر لتأمينات الحياة ومصر للتأمين. تُعدّ الشركة الأولى أكبر مُصدِّر لوثائق التأمين على الحياة في البلاد، وتتمتع الثانية باحتكار التأمين في قطاع الطاقة الحيوي. والشركتان مملوكتان للدولة حاليًا بنسبة 100 في المئة ولهما أملاك عقارية كبيرة، يعود عدد كبير منها إلى الإجراءات الاشتراكية التي اتّخذها الرئيس السابق جمال عبد الناصر في أوائل ستينيات القرن الماضي. وعلى غرار البنوك، من المحتمل أن توفّر هاتان الشركتان أرباحًا كبيرة لأولئك الذين يملكون حصة فيها ويستفيدون من الإدراك أن رأس المال لا يحقّق عائدًا من تجميده في العقارات المقوّمة بأقل من قيمتها. وعلى غرار البنوك أيضًا، فإن ربحية شركات التأمين مضمونة من الحكومة نفسها، إذ إن حوالى نصف إجمالي رأس المال الذي تستثمره شركات التأمين هو في الديون الحكومية.

وتُعتبر الشركات المعروضة في القطاعَين العقاري والسياحي جذّابة بالمثل، وتشمل أشهر الفنادق التاريخية في البلاد، مثل أولد كتراكت، ووينتر بالاس الأقصر، ومينا هاوس. وبحسب أحد التقارير، سيتمكن المشترون من بناء فنادق جديدة على أراضٍ قيّمة مجاورة للفنادق القائمة. ووفقًا للمصدر نفسه، من المتوقع أيضًا أن يتضاعف عدد الليالي السياحية بأكثر من ثلاث مرات بحلول العام 2025 من المستوى المنخفض الذي بلغ 43 مليونًا في العام 2020، ما يشير إلى أن الفنادق السبعة المعروضة ستشهد على الأرجح نموًا كبيرًا وفوريًا في أرباحها.

ومن المحتمل أن تشمل العروض الأكثر جاذبية الشركات العاملة في استخراج أو معالجة المواد الهيدروكربونية أو استخدام الطاقة التي تولّدها لإنتاج المواد الكيمياوية، والبلاستيك، والإسمنت، والأسمدة، والحديد والصلب. ونظرًا إلى أن الشركات تستطيع أن تشتري الغاز الطبيعي من الحكومة بأسعار مدعّمة وتصدير الكثير مما تنتجه، جنت أرباحًا كبيرة. وقد تكون الشركات المنتجة للكهرباء جذابة أيضًا، إذ يمكن للشركات الرئيسة شراء الغاز الطبيعي بنحو 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، أي أكثر بقليل من سعر هنري هب الذي كان الأدنى في العالم اعتبارًا من آذار/مارس 2023. ولكن الحصول على حصص جزئية في محطة كهرباء بني سويف، التي بنتها شركة سيمنز وتعمل بالغاز الطبيعي، له مخاطر على المشترين المحتملين الذين قد يواجهون ارتفاعًا في سعر الغاز من جهة وضرورة الالتزام بثبات سعره على المستهلكين، وهذان الأمران يصبّان في صالح الحكومة.

علاوةً على ذلك، سيتعيّن على المشترين المحتملين في قطاع الطاقة تحمّل مسؤولية ديون بنحو مليارَي دولار أميركي مستحقة لمؤسسات مالية أجنبية، ولا سيما في ألمانيا. لا بدّ من الانتظار لرؤية كيف ستردّ الحكومة الألمانية ودافعو الضرائب هناك على البيع الجزئي لشركات تلقّت أموالًا في إطار المساعدات الإنمائية لمصر - لأن القروض كانت مضمونة من جانب الحكومة الألمانية - ولكن هذا الأمر قد يشكّل عاملًا معقِّدًا إضافيًا. تعتمد المحطتان اللتان تعملان بطاقة الرياح لتحديد أساس معدل عائدهما على سعر التغذية للشبكة الوطنية. ولكن تراجعت الحكومة بالفعل عن التزامها بتحديد أسعار مرتفعة نسبيًا كوسيلة لجذب الاستثمارات في توربينات الرياح ومزارع الطاقة الشمسية، ومن المرجح أن تحافظ على هذا الموقف لتجنّب المزيد من التضخم وكبح ردود الفعل الشعبية.

التأثيرات

كما يشير التحليل أعلاه، ركّزت الحكومة المصرية على المستثمرين المقيمين في الخليج لشراء حصص أقلية بالعملات الأجنبية في الشركات المدرّة للربح عمومًا في القطاعات الاقتصادية الرئيسة. لكن ثمة أسئلة هامة لا تزال من دون إجابة، ويرتبط بعضها مباشرةً بهذه الصفقات، بينما يرتبط البعض الآخر بالنتائج الاقتصادية والسياسية البعيدة المدى.

بعض الأسئلة الأساسية متعلّقة بالريوع والتنظيمات، ويسهم هذان العاملان بشكل كبير في تحديد ربحية بعض، إن لم يكن كل، الشركات المعروضة. على سبيل المثال، هل ستستمر الريوع على شكل أسعار منخفضة للوقود بمعدلاتها الحالية مع بدء الخصخصة؟ وهل سيتم إرخاء القواعد التنظيمية التي تهدف حاليًا في جزء منها إلى حماية المستهلكين من التضخم، للسماح بزيادة الربحية؟ وهل ستقدّم الحكومة أي ضمانات للمشترين المحتملين حول هذه المسائل؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف ستبرّر الحكومة هذه الضمانات في الحالات التي يتأثر فيها الجمهور سلبًا بزيادة الأسعار فيما يستفيد الأجانب منها؟

يتعلق السؤال الأكثر إلحاحًا بسعر الصرف الذي سيشتري بموجبه المستثمرون الأساسيون الحصص. ففي شباط/فبراير 2023، أدّى الخلاف حول السعر إلى توقف المفاوضات بين صندوق الثروة السيادية السعودي والحكومة المصرية لشراء المصرف المتحد. قد يزيد تقديم سعر أفضل للسعوديين الضغط التنازلي الممارَس على الجنيه المصري، وسينظر المصريون الذين يكافحون للتعامل مع التضخم والعواقب الأخرى الناجمة عن نقص العملات الأجنبية إلى الصفقة على أنها معاملة تفضيلية للسعوديين على حساب المصريين. من الواضح أن المفاوضات بين الحكومة والمشترين المحتملين ستكون صعبة. وسواء جرت تلك المفاوضات بطريقة شبه علنية على الأقل أو بقيت خاصة تمامًا، ستشكّل مقياسًا لحساسية الحكومة تجاه ردود الفعل السياسية المحتملة والتوازن بين القمع والانفتاح في كيفية تفسير الخصخصة لمواطنيها.

الأسئلة الأخرى ذات الصلة اقتصاديةٌ بطبيعتها: هل ستكون التدفقات المالية الأجنبية المتولّدة عن عمليات الخصخصة الجزئية كافية لتغطية الفجوة التمويلية الكبيرة التي نمت جزئيًا بسبب صُغر التسهيل الائتماني الممتدّ من صندوق النقد الدولي والانخفاض الكبير في احتمال تدفّق الأموال الساخنة الجديدة؟ من المقدَّر حاليًا أن تولّد عمليات الخصخصة ما بين 2.5 مليار دولار و4.6 مليارات دولار في فترة 2023-2024، وهذا المبلغ هو أقل بكثير مما تحتاج إليه مصر، نظرًا إلى الفجوة التمويلية المقدَّرة بنحو 5 مليارات دولار بحلول صيف 2023. ولكن هل ستؤدي التدفقات المالية الأجنبية إلى تأثيرات إيجابية كافية على سعر الصرف ومعدّل التضخم لتحفيز الاستثمارات الأجنبية الجديدة في ديون مصر السيادية؟ وكم من الإيرادات الحالية للشركات سيتم التخلّي عنها بسبب الخصخصة الجزئية؟ وهل ستنجم تداعيات تضخّمية بسبب التعديلات المتوقعة على الأطر التنظيمية؟

ستصبح الجوانب الهيكلية للاقتصاد السياسي أكثر أهمية في أعقاب عمليات الخصخصة. على سبيل المثال، قد تخفّ متلازمة "الوسط المفقود" في اقتصاد يضمّ بعض الشركات الكبيرة جدًّا، والكثير من الشركات الصغيرة، والقليل نسبيًا من الشركات المتوسطة الحجم، ولكن من دون التوصّل إلى حلٍّ كامل لها. ويُعزى ذلك أساسًا إلى "تجزئة" الاقتصاد السياسي، على حدّ تعبير عمرو عادلي، و"تقسيمه بين من هم في الداخل ومن هم في الخارج"، على حدّ تعبير ستيفن هيرتوغ.1  لمعالجة متلازمة الوسط المفقود، ستحتاج الحكومة المصرية إلى "تسوية الملعب" الاقتصادي عن طريق خفض الريوع أو إلغائها وإزالة التنظيمات التي تفيد الشركات الكبيرة، على النحو الذي دعا إليه تقرير فريق صندوق النقد الدولي عن مصر. لكن الرغبة في بيع أسهم في الشركات المملوكة للدولة بأعلى سعر ممكن قد يقوّض هذه الإصلاحات إذ إنه يحدّ من ربحية تلك الشركات وبالتالي من جاذبيتها للمستثمرين المحتملين.

في الواقع، يمكن للخصخصة أن تفاقم الفجوات القائمة في الحجم والثروة وحصص السوق بين الشركات الكبيرة ذات الرساميل الكثيفة والشركات الصغيرة والمتوسطة. وتشير خطة الخصخصة المُعلنة إلى أن الحكومة تفضّل أن "تُكَبِّر حجرها" بدلًا من معالجة القيود التي تمنع حاليًا نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة. فإذا كانت الحكومة معنية بهذه الشركات، ستفضل الاكتتاب العام في البورصة المصرية على المبيعات لمستثمرين أساسيين. فمن شأن طرح الأسهم للاكتتاب العام أن يجذب رأس المال المحلّي، وغالب الظن أن يكون من داخل قطاعات السوق، ما يساعد على دمج الشركات الصغيرة والمتوسطة. من شأن ردود الفعل القومية أن تعزّز المصالح الاقتصادية المختلفة، والمتضاربة في بعض الحالات، لأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب الشركات الكبيرة، في أعقاب المبيعات لمستثمرين خليجيين.

وبالمثل، من المستبعد أن تدفع عمليات الخصخصة التحول من إنتاج السلع غير القابلة للتداول (أي غير القابلة للتصدير) إلى السلع القابلة للتداول، إلا في القطاعات المرتبطة مباشرةً بالمواد الهيدروكربونية. تُعدّ قطاعات أخرى مثل القطاع العقاري أو قطاع الصناعات الدوائية بطبيعتها إما غير قابلة للتداول أو تعتمد بشكل كبير على استيراد السلع الوسيطة. لكن القطاعات الهيدروكربونية الرئيسة ستواجه عمومًا تحدّي التحول إلى الطاقة الخضراء، والتي من المحتمل أن تخضع إلى جباية رسومٍ خاصة، على الأقل في الاتحاد الأوروبي، على واردات الصلب والأسمدة والإسمنت وغيرها من المنتجات التي تُنتَج بوسائل كثيفة الكربون. وبالتالي، ستتراجع الميزة النسبية لمصر القائمة بشكل أساسي على الغاز الطبيعي، وفي النهاية، ستضطر البلاد للتحول إلى الطاقة الخضراء. لكن هذا الأمر يتطلب إدخال تحديثات رأسمالية وتكنولوجية لا تستطيع الدولة توفيرها حاليًا. وأخيرًا، لماذا يجب على المستثمرين الخليجيين المساعدة في إجراء هذه التحديثات في مصر وليس في بلدانهم؟ باختصار، لن تسهم الجولة الأولى من الخصخصة الجزئية على الأقل بشكل كبير في معالجة ميزان العجز التجاري عن طريق تحويل الإنتاج إلى السلع القابلة للتداول.

ومن التأثيرات الأخرى أن سياسة ملكية الدولة لن تقلّل بشكل كبير على الأرجح الدور المهيمن للمؤسسة العسكرية في الاقتصاد. من المقرّر بيع شركتَين عسكريتَين فقط في إطار البيع الجزئي خلال ما يُفترض أنه جولة خصخصة أولية ستستمر لأكثر من عام. ويشير ذلك إلى أن الحكومة المصرية تماطل وتحاول كسب الوقت في هذه المسألة الحساسة، وربما تأمل أن يفقد صندوق النقد الدولي اهتمامه عندما تتحسّن الظروف الاقتصادية، إذا تحسّنت. وبالإضافة إلى عدم رغبة الحكومة في خصخصة الأصول العسكرية، يمكن لعملية الخصخصة نفسها أن تعزّز دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد. فهي ستُنشئ مصالح مشتركة بين المستثمرين والضباط، ليس فقط في الشركات التي كانت مملوكة بالكامل للمؤسسة العسكرية سابقًا، بل أيضًا في الشركات المدنية المملوكة للدولة. ويُعزى ذلك إلى أن الروابط العسكرية في "جمهورية الضباط" متغلغلة في جزء كبير من الاقتصاد السياسي، وإلى أن المستثمرين في المؤسسات الكبيرة يجب أن يعملوا عادةً ضمن الظروف التي شكلتها هذه الروابط.

تعزّز خطوة موازية اتّخذها مجلس الشعب المصري في كانون الأول/ديسمبر 2022 لتحويل الإيرادات من عمليات قناة السويس إلى صندوق خاص صرّح الرئيس عبد الفتاح السيسي أنه سيكون تحت إشراف "جهة سيادية" - وهو تصنيف يشير عادةً إما إلى المؤسسة العسكرية أو إلى جهاز المخابرات العامة - الانطباعَ بأن القصد من سياسة ملكية الدولة ليس تجريد المؤسسة العسكرية من الأصول الاقتصادية الهامة، بل العكس. ومن المؤشرات أيضًا أن الحكومة تواصل إسناد أدوار رئيسة للمؤسسة العسكرية في مشروعات استصلاح الأراضي العملاقة.

من المستبعد أيضًا أن تُحدث سياسة ملكية الدولة تغييرات سياسية جوهرية. سيكون المستثمرون الخليجيون، وخاصة صناديق الثروة السيادية، مدفوعين بالمصالح الجيوسياسية والاقتصادية، ما قد يثير توترات بينهم وبين المصريين. على الأقل، سيضع امتلاك مزيجٍ من الأجانب والمصريين حصصًا رئيسة من الاقتصاد عقبات أمام تشكيل برجوازية أكثر تماسكًا ووحدةً لديها مصلحة ونفوذ للدفع نحو تحرير الاقتصاد السياسي. ويعني تفضيل المستثمرين الأساسيين على الاكتتابات العامة أن الخطة تتجاهل فرصة تاريخية لتوسيع قاعدة المساهمين والمساعدة في تعزيز طبقة وسطى صاعدة. يُضاف إلى ذلك أن الحاجة إلى جذب الرساميل إلى الشركات الكبيرة في القطاعات الرئيسة ستجعل زيادة الربحية أولويةً على حساب تلبية مصالح العاملين والمستهلكين، ما يؤدي إلى تفاقم حالة عدم المساواة.

على شفا جرف هارٍ

لم تُنفَّذ سياسة ملكية الدولة بعد، وبالتالي، تُعتبر الإشارة العامة إلى أن بيع الأصول الوطنية لن يضمن مستقبلًا اقتصاديًا مشرقًا لمصر، ذات طبيعة نظرية وليست تجريبية. وستبقى أسئلة كثيرة مطروحة. على سبيل المثال، هل سيؤدي البيع الجزئي للأصول المملوكة للدولة بشكل عام إلى تحقيق مكاسب قصيرة الأمد فقط، مع فرض تكاليف طويلة الأمد على الاقتصاد السياسي؟ أم سيسهم في إحياء رأس المال الميت وتحسين معدلات النمو الاقتصادي، مع ما يصحب ذلك ربما من تسرّب الثروة إلى شرائح أوسع من السكان؟

تظهر المؤشرات الحالية أنه في أقل تقدير، لن تعالج عمليات الخصخصة الأولية الاختلالات المالية والتجارية. لكن يمكنها تحسين الاختلالات بدرجة كافية لتحفيز تدفّق الاستثمارات إلى الديون السيادية وحتى جذب بعض الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما في ذلك في قطاعات جديدة واعدة مثل الأعمال التجارية الزراعية والخدمات اللوجستية في منطقة قناة السويس. أما إذا لم يحدث هذا التحسّن، فسيتعيّن بيع المزيد من أصول الدولة، ما يؤدي إلى تفاقم التوترات المحتملة الناجمة عن الجولة الأولى من الخصخصة.

مصر إذًا على شفا جرف هارٍ. فهي حاليًا في كفّة الميزان الهش، بينما تأمل قيادتها أن بيع الأصول القيّمة سيجنّبها الاضطرار إلى تحرير اقتصادها السياسي حقًا وإضفاء الطابع المدني عليه بفعل ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة. لكن إصلاح الاقتصاد سيكون ضروريًا لمستقبل البلاد، وبالتالي يكمن الاختبار الحقيقي لسياسة ملكية الدولة في ما إذا ستعزّز هذه النتيجة أم لا.

هوامش

1 Amr Adly, Cleft Capitalism: The Social Origins of Failed Market Making in Egypt (Palo Alto: Stanford University Press, 2020);
انظر أيضًا:
Steffen Hertog, Locked Out of Development: Insiders and Outsiders in Arab Capitalism (Cambridge: Cambridge University Press, 2022).

هل مصر أكبر من أن تفشل أم أكبر من أن تُنقذ؟

أثارت الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بمصر في العام 2022 نقاشًا كبيرًا حول الأسباب والحلول. وفيما يواصل الكثير من المراقبين التأكيد على الحاجة إلى مزيد من النمو، لم يتوافر الفهم الكافي لسبب انخفاض الاستثمار الوطني، ولا سيما من القطاع الخاص.

يتّضح ذلك من الاتفاق الأخير الذي توصّلت إليه مصر مع صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على قرض، والذي ينصّ على معدلات استثمار أقل بكثير من تلك الواردة في توقعات الحكومة ويفترض معدلات نمو مرتفعة على نحو غير مرجّح. يمكن القول إن الاتفاق السابق مع صندوق النقد الدولي في العام 2016 لم يسهم بتاتًا في تحسين مناخ الاستثمار، بل أدّى في الواقع إلى تدهوره بشكل غير مباشر. يسود الآن فهم أعمق في أوساط المجتمع الدولي مفاده أن على القطاع الخاص أن يكون أكثر ديناميةً لتحقيق نمو اقتصادي أكبر. وبالتالي، ينبغي على أي أجندة إصلاحية تهدف إلى تعزيز النمو الاقتصادي أن تزوّد القطاع الخاص المحلّي بالحوافز وبالقدرة على الاستثمار في مستقبل البلاد. ثمة أيضًا فهم بأن هذا الأمر يتطلب الحدّ من دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد لتقليل المنافسة. وبالإضافة إلى إرساء تكافؤ الفرص، يجب أن يشمل ذلك الوصول إلى التمويل بشكل أكبر. لكن معدّل الادّخار القومي في مصر منخفض للغاية. ومن أجل تنشيط العجلة الاقتصادية، لا بدّ من تقديم حوافز أيضًا لجميع الأفرقاء الاقتصاديين للادّخار بما يكفي حتى تتمكن الدولة من تمويل استثمارات أكبر.

توقعات بعيدة المنال وإطار عمل سياساتي تشوبه العيوب

تهدف الحكومة المصرية، من خلال سياسة ملكية الدولة الجديدة ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، اللتَين تُعتبران المقياس الهيكلي للاتفاق الحالي مع صندوق النقد الدولي، إلى زيادة معدلات الاستثمار إلى ما بين 25 و30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتتوقع الحكومة أن تحقّق هذه الزيادة معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، من 7 إلى 9 في المئة سنويًا على المدى المتوسط. وبالمقارنة، يتوقع تقرير خبراء صندوق النقد الدولي، الذي يضع الإطار السياساتي المتفق عليه، زيادةً أكثر واقعيةً في معدلات الاستثمار (من 12 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2022، إلى 14 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بعد 5 سنوات)، لكنه يتوقع معدل نمو طموحًا مماثلًا تقريبًا بنحو 6 في المئة.

يمكن تفسير الفرق بين التطلعات الاستثمارية الطموحة للحكومة والتوقعات الأكثر تحفظًا المتجسدة في اتفاقها مع صندوق النقد الدولي بشكل عام على أنه اختلاف في الرأي حول ما هو ممكن. لكن الأقل وضوحًا هو سبب توقّع الجانبَين معدلات نمو اقتصادي مرتفعة مماثلة. على الأقل، إن توقع الحكومة معدل نمو يتراوح بين 7 و9 في المئة يتوافق مع تطلعاتها نحو معدل استثمار مرتفع. لكن، في المقابل، لا تتسق توقعات صندوق النقد الدولي للنمو في مصر مع معدل الاستثمار المنخفض الذي توقعه، الأمر الذي ربما يطرح إشكالية أكبر.

في العام 2016، توقع صندوق النقد الدولي معدل نمو بنسبة 5 في المئة في برنامج قروضه لمصر بقيمة 12 مليار دولار. كان يمكن اعتبار هذا المعدل مرتفعًا أيضًا نظرًا إلى مستوى الاستثمار المتوقع آنذاك، والذي كان 14 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وفي حين أن النمو الفعلي خلال الفترة التي يغطيها البرنامج قارَب هذا الهدف، عند 4 في المئة، فإن صندوق النقد الدولي أقرّ في تقييمه الخاص للبرنامج بأن هذا الأداء الجيد نسبيًا لم يكن نتيجة الإصلاحات والنمو المستقل، بل نتيجة الاكتشاف المؤاتي من الغاز البحري في العام 2019، ما عزّز معدل النمو لبضع سنوات. وبينما لا يمكن استبعاد حدوث المزيد من المفاجآت، لم تَلُح مثل هذه المكاسب المفاجئة في أفق مصر في بداية العام 2023.

خلاصة القول هي أن تطلعات الحكومة المصرية تبدو مغالية في الطموح (فمن الناحية الواقعية، لا يمكن لمعدل الاستثمار أن يتضاعف في غضون خمس سنوات)، وتوقعات صندوق النقد الدولي غير متّسقة (فالنمو لا يمكن أن يكون بهذه الوتيرة السريعة مع هذا الاستثمار المنخفض). وجهة النظر المُشكِّكة هي أن الطرفَين توقعا معدلات نمو اقتصادي مرتفعة من أجل إقناع جمهورَيهما أن نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر لديها فرصة جيدة للانخفاض مع مرور الوقت، على الرغم من ارتفاعها الكبير، إذ تقترب من 100 في المئة. فمع معدل نمو اقتصادي مرتفع بدرجة كافية، تنخفض نسب الدَّين تلقائيًا.

لكن السيناريو الأكثر واقعية هو أن ترتفع معدلات الاستثمار إلى المستوى الذي توقعه صندوق النقد الدولي، لكن أن تبقى معدلات النمو منخفضة عند نحو 3 إلى 4 في المئة. ما يسمى حاليًا السيناريو الكلّي المُفترَض هو مفرط في التفاؤل. في السيناريو الواقعي، لا يُعتبر الدَّين العام مستدامًا، وبالتالي، يجب إعادة هيكلة الديون الخارجية التي تبلغ حوالى 155 مليار دولار قبل تنفيذ خطة الإنقاذ من جانب صندوق النقد الدوليوهذا تحدٍّ صعب وطويل الأمد من شأنه أن يؤرِق سوق السندات الدولية. إن صندوق النقد الدولي، من خلال افتراضه بأن مصر ستحقّق معدل نمو مرتفعًا، سهّل على إدارته نهج غضّ الطرف في الوقت الراهن، وبالتالي تقديم الدعم لدولة غالبًا ما توصف بأنها، سياسيًا، أكبر من أن تفشل.

لكن الحقيقة هي أن مصر قد تصبح أكبر من أن تُنقذ. في نهاية المطاف، لم يجعل صندوق النقد الدولي سوى قدرٍ صئيل من أمواله متاحًا. فثمة مقولة شائعة في الدوائر المالية، ومفادها: "إذا كنت مدينًا للبنك بمبلغ 100 دولار، فهذه مشكلتك، ولكن إذا كنت مدينًا للبنك بمبلغ 100 مليون دولار، فهذه مشكلة البنك". ونظرًا إلى أن مصر هي بالفعل ثاني أكبر دول العالم استدانةً من صندوق النقد الدولي، فثمة خطر أن تصبح، على غرار الأرجنتين، "مشكلة الصندوق". في ظل هذا الوضع، كان القرض الجديد الذي منحه الصندوق لمصر بقيمة 3 مليارات دولار بمثابة حل وسط: فقد أُفلت صندوق النقد الدولي من المأزق السياسي، على الأقل في المدى القصير، مع الحفاظ على إمكانية التحكم في انكشافه المالي. لكن الاستمرار في التأجيل من خلال هذا القرض سيترك مصر مع برنامج يعاني من نقص كبير في التمويل وغير مستدام. في مطلق الأحوال، لن يتطور البرنامج بطريقة مرضية وستُضطر مصر إلى إعادة النظر به عاجلًا وليس آجلًا. في الواقع، ما لم تحدث صدمة إيجابية خارجية غير مرجَّحة، فسيتعين خوض عملية إعادة النظر هذه في سياق إعادة هيكلة واسعة النطاق لديون مصر.

سبع سنوات ضاعت سُدًى

في العام 2016، كانت المشكلة الاقتصادية الأولى في مصر هي ضعف النمو بسبب انخفاض معدل الاستثمار. كان من المفترض أن يعمل برنامج صندوق النقد الدولي الذي تم إطلاقه في ذلك العام على استقرار الاقتصاد المصري والبدء في إصلاح عيوبه الهيكلية من أجل تعزيز الاستثمار والنمو واستحداث فرص العمل. كان انخفاض الاستثمارات في مصر، ولا يزال، مشكلة انخفاض الاستثمارات الخاصة. تظهر بيانات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن هذه الاستثمارات وصلت إلى مستويات منخفضة بشكل لا يصدق (انظر الشكل 1). صحيحٌ أن معدلات الاستثمارات الخاصة لم تكن مرتفعة للغاية في مصر أبدًا، إلا أنها استقرت عند مستوى مقبول يبلغ نحو 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العامَين 1989 و2008. ولكن منذ العام 2008، انخفضت معدلات الاستثمارات الخاصة بشكل كبير، أي إلى 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2011، وإلى 7 في المئة في العام 2014، حين أصبح عبد الفتاح السيسي رئيسًا. وبدلًا من ارتفاع أسعار الفائدة بفضل برنامج صندوق النقد الدولي للعام 2016، فقد انخفضت في الواقع أكثر في ظل إدارته. وبعد زيادة وجيزة في العامَين 2018 و2019، انخفض معدل الاستثمار إلى 2 في المئة بحلول العام 2021. ولا يمكن أن يستمر أي اقتصاد في ظل هذا المستوى المنخفض الكارثي من الاستثمارات الخاصة. وعلى سبيل المقارنة، يبلغ معدل الاستثمارات الخاصة حاليًا 37 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الصين، و22 في المئة في الهند، و20 في المئة في إثيوبيا، و11 في المئة في باكستان ذات النمو المنخفض.

ينعكس افتقار الاقتصاد المصري إلى الدينامية أيضًا في الأداء السيئ للصادرات، لأن الشركات الخاصة هي التي تصدّر بشكل حصري تقريبًا. منذ العام 2014، بلغت صادرات السلع والخدمات حوالى 50 مليار دولار سنويًا (في المتوسط، 15 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي). وما يثير القلق أن مناخ الأعمال كان سيئًا للغاية لدرجة أن الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه المصري في العام 2016 فشل في إثارة استجابة لتعويض نقص المعروض السلعي وتحقيق زيادة مستدامة في الصادرات. وهذا مهم بشكل خاص لأن الدَّين الخارجي نما بنحو 100 مليار دولار في الفترة نفسها، وكانت الفجوة بين الفوائد المستحقة على الدَّين الخارجي والقدرة على السداد وفقًا لإيرادات التصدير آخذةً في الاتساع بشكل كبير تقريبًا، ولا سيما منذ العام 2016 (انظر الشكل 2). تقع هذه الفجوة بين زيادة الاقتراض وعدم ارتفاع القدرة على السداد في صُلب الأزمة المالية الحالية.

بالنظر إلى الوراء، يبدو أن هذه الفجوة قد تفاقمت بسبب برنامج صندوق النقد الدولي للعام 2016. أدّت الأجواء الإيجابية التي ولّدها إلى تحسين التصنيف الائتماني لمصر وسمحت للبلاد بالاقتراض بشكل كبير والعيش بما يتجاوز إمكانياتها على مدى السنوات السبع التي تلت ذلك. اقتنعت الأسواق العالمية والمحلية بفكرة أن القيادة الوطنية القوية بدعم من صندوق النقد الدولي هي ضمان للقوة الاقتصادية. ولكن بدلًا من المساعدة في دعم الإصلاحات وتمويل الاستثمارات الإنتاجية، سمح برنامج صندوق النقد الدولي للحكومة المصرية باقتراض المزيد وتأخير تنفيذ إصلاحات مُكلفة سياسيًا كان من الممكن أن تحقّق مع ذلك نموًا مستدامًا. إذًا، بدلًا من إجراء إصلاحات حيوية، استثمرت الحكومة بشكل كبير في مشروعات البنية التحتية الكبيرة، التي ولّدت بعض النشاط الاقتصادي الفوري، ولكنها لم تعزّز الصادرات الوطنية بشكل كبير. سمح هذا المتنفَّس المؤقت للنظام بالاستمرار في تجاهل حاجات القطاع الخاص.

إنّ شبه القمع الذي يتعرض له القطاع الخاص ليس ظاهرة جديدة في مصر، لكنه تفاقم في السنوات الأخيرة. لم يثق الرئيسان السابقان أنور السادات وحسني مبارك في رجال الأعمال من القطاع الخاص، خشية أن تشكّل هذه المجموعة قوة سياسية مستقلة من شأنها أن تهدد قبضة الحكومة على السلطة. ولكن عندما أرغمت أزمات الديون الرؤساء على خفض انخراط الدولة في الاقتصاد، كان لا بدّ من انفتاحه على المشاريع الخاصة. أطلق السادات سياسة الانفتاح التي بدأت بإبعاد الاقتصاد عن اشتراكية الرئيس السابق جمال عبد الناصر. وأنشأ مبارك قطاعًا خاصًا مؤاتيًا، وقائمًا على المحسوبية، وأكثر بروزًا في ولائه السياسي من ديناميته الرأسمالية. مع ذلك، وبالنظر إلى الماضي، لا يسع المرء إلا أن يشعر ببعض الحنين إلى الأوليغارشية التي قادت حملة التحديث المتواضعة في مصر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فبعد سبع سنوات من إطلاق برنامج صندوق النقد الدولي للعام 2016، ترزح البلاد تحت وطأة دين عام أكبر يبلغ حوالى 300 مليار دولار. حتى نظام المحسوبيات كان أكثر إبداعًا من الشركات العسكرية التي حرّرها عهد السيسي من القيود المالية.

فشل جميع الأفرقاء الاقتصاديين في الادّخار من أجل مستقبل أفضل

إلى جانب التهميش بدوافع سياسية، يعاني القطاع الخاص أيضًا من القمع المالي، إذ يتم تجاهل حاجاته لصالح الحاجات التمويلية الكبيرة للقطاع العام. وقد تعاظم هذا التأثير مع مرور الوقت، ويعود ذلك جزئيًا إلى أن الدولة زادت من اقتراضها لإعادة تمويل الديون المتزايدة، ولكن أيضًا بسبب تقلّص المدّخرات. فوفقًا لإحصاءات صندوق النقد الدولي، كان لمصر في العام 2022 أحد أدنى معدلات المدّخرات الوطنية من بين البلدان الكبيرة، وتحديدًا 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنةً مع 45 في المئة في الصين، و34 في المئة في نيجيريا، و33 في المئة في إندونيسيا، و30 في المئة في الهند، و25 في المئة في إثيوبيا الشديدة الفقر. المعدّل في باكستان أقرب إلى مصر، لكنه لا يزال أعلى بمعدل 1.5 مرة، عند 14 في المئة.

ربما يكون معدل الادّخار الوطني اليوم هو الأدنى في التاريخ المصري. في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأت الموجة الأولى من الإصلاحات الاقتصادية، كانت النسبة 35 في المئة، لكنها تراجعت بعدئذ إلى 23 في المئة في العام 2006 في ظل "حكومة رجال الأعمال" التي هيمن عليها جمال نجل مبارك، والتي شكّلت ذروة مرحلة رأسمالية المحسوبيات (انظر الشكل 1). ومنذ ذلك الحين، شهد هذا المعدل انخفاضًا مستمرًا، إذ انخفض إلى 17 في المئة عشية انتفاضة العام 2011، ثم إلى 12 في المئة بحلول الفترة التي تولّى فيها السيسي منصبه في العام 2014، ليتراجع إلى مستوى أدنى بشكل خطير في السنوات الأخيرة.

تعكس معدلات الادّخار الوطنية المتدنية ظاهرتَين مختلفتَين: الإنفاق الكبير من جانب الحكومة (أكثر من الدخل) وانخفاض مدّخرات الأسرة. حين تنفق الحكومة أكثر مما تجني، فهي تدخل في دوّامة الادّخار السلبي، الذي تظهر عواقبه في كل مكان في مصر على شكل البنى التحتية المتهالكة، والتعليم المتدنّي الجودة، وزيادة تلوّث الهواء والماء. ويسلّط ذلك الضوء على الفرصة الضائعة الكبيرة التي سبّبها الإنفاق على عاصمة إدارية جديدة لن تحقّق، في أفضل الأحوال، سوى عوائد على المدى البعيد. فالموارد التي يتم إنفاقها على العاصمة يمكن استثمارها بشكل أفضل في الأصول المُنتجة القادرة على توليد إنتاجية أكبر والحفاظ عليها، واستحداث المزيد من فرض العمل وزيادة الدخل. تعكس المدّخرات المنخفضة والمتناقصة أيضًا وجود فئة سكانية تعيش بشكل متزايد على إنفاق كل ما تجنيه، وبالتالي تعجز عن الادّخار. ومع تفاقم الفقر وندرة السيولة، يميل الأفراد والمؤسسات إلى استخدام الأصول لتحسين سُبل عيشهم على المدى القصير، على الرغم من ارتفاع التكاليف التي سيتم تكبّدها في المستقبل. أدّى تراجع قيمة الجنيه المصري في العام 2016 إلى تقليص الأجور الحقيقية بنسبة 40 في المئة على مدى السنوات الثلاث التالية، ما رفع معدل الفقر ليشمل أكثر من 30 في المئة من السكان. يُضاف إلى ذلك أن خفض قيمة العملة بالمقدار نفسه تقريبًا، الذي حدث في العام 2022، سيؤدّي إلى تداعيات أسوأ.

من المرجح أن يكون الارتفاع السريع في معدل الادخار الخاص في ظل الظروف الحالية لمصر ناتجًا عن انخفاض حاد في الاستهلاك، ما يعني زيادة الفقر. إنّ العجز العام مبرمج بالفعل على الانخفاض، وينتج بالتالي فائضًا أوليًا بنسبة 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن في ظل عدم تخفيف عبء الدين، من الصعب تحقيق المزيد في هذا الصدد بعد سنوات من خفض النفقات الاجتماعية. علاوةً على ذلك، تستأثر خدمة الدَّين بحوالى 50 في المئة من النفقات العامة، وفقًا للتوقعات الحالية. وبالتالي، لإعادة تمويل الدَّين العام، يجب تقييد مبلغ الائتمان الموجّه للقطاع الخاص بشدة. وبالفعل، يتوقع صندوق النقد الدولي أن الائتمان المقدَّم للقطاع الخاص لن يتّسع إلا قليلًا خلال مدة البرنامج. قد يكون الحل الجيد هو جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وستخدم صندوق النقد الدولي هذه الورقة بقوة، إذ ضاعف توقعاته للاستثمار الأجنبي المباشر في مصر من المستوى الحالي البالغ 8 مليارات دولار سنويًا إلى 16 مليار دولار سنويًا في غضون خمس سنوات. لكن الافتراض الأساسي هو أن الحكومة ستجمع ما مجموعه 8 مليارات دولار من خلال خصخصة الشركات المملوكة للدولة، ما سيواجه معارضة محلية على الأرجح.

هل يمكن تجنّب مستقبل قاتم؟

إلى أين يأخذ هذا الوضع مصر؟ يفتقر البرنامج المحدّد في اتفاق القرض الحالي من صندوق النقد الدولي إلى المصداقية، وينعكس ذلك في تقبّله البارد في أسواق رأس المال. وهذا يعني أن مصر، على عكس العام 2016، ستواجه صعوبة أكبر في جذب تدفقات رأسمالية جديدة بأسعار فائدة معقولة. ويعني ذلك أيضًا أن إعادة التمويل الدَّين المحلي، الذي يمثّل ثلثي الدَّين العام، ستصبح مكلفةً بشكل متزايد. وسيتعيّن فرض ضوابط على حركة الرساميل لمنع أسعار الفائدة من الارتفاع بشكل مفرط، لكن ذلك سيجعل من الصعب جذب التحويلات من المصريين العاملين في الخارج، الذين يشكّلون المصدر الأساسي للعملة الصعبة في البلاد حاليًا. في غضون ذلك، قد يضعف القطاع المصرفي أيضًا. إذًا، تسير مصر من نواحٍ عدة على خطى لبنان، وتتّجه نحو الانهيار المالي والتضخم المفرط.

ما من حل سهل في هذه المرحلة. فالوضع الذي تعيشه في مصر محفوف بالمخاطر. والسؤال الواضح هو كم سيكلّف الحؤول دون انهيار الاقتصاد المصري إذا كان الناتج المحلي الإجمالي ينمو بنحو 3 في المئة فقط سنويًا، بنسبة قريبة من معدل النمو السكاني؟ من الصعب الإجابة على ذلك، لكن نظرًا إلى حجم البلاد، فالتكلفة ستكون باهظة. من بين البلدان النامية الكبيرة، تمثّل باكستان فقط مشكلة بهذا الحجم. إنّ خطر أن تصبح مصر أكبر من أن تُنقَذ حقيقي للغاية، ولا سيما أن التمويل يتضاءل بسبب القيود المفروضة باطّراد على الميزانية في جميع أنحاء العالم.

إنّ القيادة المسؤولة ستجعل النمو الاقتصادي هدفها الأساسي، بدل أن يكون مهمة هامشية تُترك للوزراء التكنوقراط (بغض النظر عن مدى كفاءتهم). مثل هذه القيادة ستعمل بجدٍّ من أجل إنشاء تحالف وطني لتطبيق إصلاحات من شأنها أن تحرّك عجلة الإنتاجية والابتكار. سيكون الطريق شاقًّا ومؤلمًا، لكنه ليس أكثر إيلامًا من المسار البديل المتمثّل في النمو المنخفض الذي قد يؤدي إلى الموت البطيء للاقتصاد المصري.

مشكلة الاقتصاد المصري في حشد القطاع الخاص وليس مزاحمته

قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية في العام 2022، انصبّ الكثير من التركيز على معدل النمو في مصر، الذي تمكن من تجاوز العام الأول من جائحة فيروس كورونا بشكل جيد نسبيًاـ فقد بلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي للبلاد 4.38 في المئة سنويًا من العام 2016 إلى العام 2021، ما مثّل تحسنًا كبيرًا في المتوسط بمعدل 2.97 في المئة من 2011 إلى 2016 واقترب من متوسط 4.67 في المئة الذي سُجِّل من 2002 إلى 2011، وهي فترة شهدت أعلى معدلات نمو منذ سبعينيات القرن الماضي. لكن في الربع الأول من العام 2022، كشف هروب رأس المال الهائل البالغ 20 مليار دولار، أي ما يعادل حوالى 50 في المئة من الاحتياطيات الأجنبية الرسمية لمصر، أن التعافي الاقتصادي الظاهر في السنوات الست السابقة كان هشًا. علاوةً على ذلك، أرغم ذلك الحكومة على السعي للحصول على خطة إنقاذ أخرى من شركائها الخليجيين وصندوق النقد الدولي، على غرار تلك التي امتدت من 2013 إلى 2016.

يُعدّ التكوين القطاعي للتعافي الاقتصادي في مصر أمرًا بالغ الأهمية لفهم نقاط الضعف المزمنة في البلاد، وخاصة حاجتها المستمرة للتمويل الأجنبي على الرغم من جولات الإصلاحات التي يرعاها صندوق النقد الدولي. يُعزى جزء كبير من هذه الحاجة إلى الاستخدام الأساسي للدولة للقطاعات غير القابلة للتداول خارجيًا (أي من خلال التصدير والاستيراد) من أجل التعافي من الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة التي أعقبت انتفاضة 2011. ووفقًا للخبير الاقتصادي أرنولد هاربرغر، تشمل السلع غير القابلة للتداول "الخدمات التي يجب أن يكون فيها الطالب والمُنتِج في المكان نفسه، والسلع ذات القيمة المنخفضة بالنسبة إلى وزنها أو حجمها"، وبالتالي، لا يتم تداولها دوليًا. وقد أدت الاستثمارات الحكومية الضخمة في مصر في الإنشاءات والعقارات والصناعات المغذية المرتبطة بها إلى توليد معدلات نمو وتوظيف عالية إلى حدٍّ ما اعتبارًا من العام 2013 فصاعدًا. ولكن نظرًا لأن هذه السلع غير القابلة للتداول لم تزِد الصادرات ولم تحل محل الواردات، فشلت في معالجة الموقف الخارجي لمصر وحاجتها إلى توليد العملة الصعبة أو الاحتفاظ بها.

ومع أن الكثير من الاقتصاديين سلّطوا الضوء على أوجه القصور في استراتيجية التعافي هذه، فإن الدولة لم تغير مسارها. وبدءًا من العام 2014، أعطت الأولوية للقطاعات غير القابلة للتداول، على الرغم من المخاطر الاقتصادية المحتملة. وكان المبرّر الأساسي سياسيًا إلى حدٍّ كبير: فإلى جانب البحث عن الإيرادات، كان إضفاء الشرعية على نظام ما بعد العام 2013 وتعزيز الائتلاف الحاكم أمرًا بالغ الأهمية.

الوضع المالي

ينعكس التحدي المتمثّل في الموقف الخارجي لمصر في رصيد حسابها الجاري، الذي لا يزال أقل من مستويات ما قبل العام 2011 (انظر الشكل 1). فقد ساعد خفض قيمة الجنيه المصري في العام 2016 بسرعة على تقليص العجز من 6 في المئة إلى 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه ظل راكدًا عند هذا المستوى أو ساء بشكل طفيف منذ العام 2018، ولا سيما أن التعافي الاقتصادي قد أدى إلى زيادة الطلب على المدخلات المستوردة.

يمكن فهم عجز الحساب الجاري المزمن للدولة في ضوء قوتَين مترابطتَين ولكنهما متمايزتان. أولًا، لم يتحسن الميزان التجاري منذ العام 2016 على الرغم من الانخفاض الهائل في قيمة الجنيه المصري. وكما يوضح الشكل 2، فقد ظل العجز التجاري من دون تغيير تقريبًا، ما يشير إلى غياب المرونة في الواردات والصادرات على حدٍّ سواء. ثانيًا، لا تزال الفجوة التمويلية في البلاد تُسدّ بالديون الخارجية المتزايدة، التي تضاعف رصيدها كنسبة مئوية من الدخل القومي الإجمالي من 15.4 في المئة في العام 2015 إلى 36.67 في المئة في العام 2020، ما فرض ضغوطًا إضافية على الحساب الجاري، إذ تضاعفت خدمة الدَّين الخارجي خلال نفس الفترة من 1.17 في المئة إلى 3.9 في المئة من الدخل القومي الإجمالي لمصر.

كان الانخفاض بنسبة 50 في المئة في قيمة الجنيه مقابل الدولار بين العامَين 2016 و2019والذي أتى بتكلفة اجتماعية واقتصادية هائلة، إذ غذّى التضخم في مصر، وهي مستورد صافٍ للمواد الغذائية والطاقةغير كافٍ على الإطلاق للتخفيف من نقاط الضعف الهيكلية في القطاعات القابلة للتداول في البلاد. وبالمثل، لم يجتذب قطاعا البناء والعقارات استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة. ووفقًا لتقرير العام 2020 الصادر عن منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، بلغت حصة البناء والعقارات من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في العام 2016، 1.5 في المئة و3.6 في المئة على التوالي، مقارنة مع 53.5 في المئة في مجال استخراج النفط.

لم يكن هذا الأداء المخيب حتميًا، إذ كان بإمكان الدولة إعطاء الأولوية للقطاعات القابلة للتداول والسعي إلى التعميق الصناعي للحد من كثافة الواردات في قطاعاتها الإنتاجية (التصنيع والزراعة) وتعزيز الصادرات. لكن التحيّز تجاه السلع غير القابلة للتداول واضح عند مقارنة متوسط النمو السنوي في قطاعَي البناء والعقارات مع التصنيع (باستثناء تكرير النفط)، كما هو موضّح في الجدول 1.

الجدول 1: معدلات النمو، قطاعات مختارة
المتوسط السنوي/القطاع 2007-2011 2012-2016 2017-2020
معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 5.17 2.65 4.39
قطاع البناء والتشييد 11.42 5.14 4.70
القطاع العقاري 3.70 4.39 4.23
قطاع الصناعات التحويلية (باستثناء تكرير النفط) 4.15 5.40 3.32

المصدر: حسابات المؤلف بناءً على بيانات من "الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج وفقًا للأنشطة الاقتصادية بالأسعار الثابتة"، البنك المركزي المصري، تمت زيارة الصفحة في 6 نيسان/أبريل 2023،

https://www.cbe.org.eg/ar/economic-research/time-series/downloadlist?category=DEF6421CA1354B128A1113D7A5BBFC66

الاقتصاد السياسي لخيارات سياساتية سيئة

منذ البداية، تشكّلت استراتيجية التعافي المصرية من خلال الأزمة المالية المزمنة التي واجهتها البلاد. من جهة، وعلى الرغم من الجهود المتضافرة، لم تتمكن الدولة من رفع نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتي ظلت راكدة حول 13.67 في المئة بين العامَين 2015 و2020 وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري، وهي أقل بشكل ملحوظ من متوسط النسب في دول محل مقارنة مثل تركيا والمغرب (19.94 في المئة و17.61 في المئة، على التوالي، بناءً على بيانات البنك الدولي). ومن ناحية أخرى، اقتضى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في العام 2016 اتّخاذ تدابير تقشفية من أجل تقليص عجز الموازنة، للحدّ من الحيز المالي للاستثمار العام. لم يسمح التحيّز اللاحق نحو البناء والعقارات بسيطرة الدولة على التخطيط فحسب، بل أتاح أيضًا تخصيص الأراضي الصحراوية واستخدامها كوسيلة أساسية لتوليد تدفقات الإيرادات وتوسيع نطاق الإنفاق من خارج الموازنة.

لذلك، اعتمدت استراتيجية التعافي بشكل كبير على جمع الأصول المملوكة للدولة من أجل تحويلها إلى سيولة وأوراق مالية تدريجيًا. وفي هذا السياق، تم إنشاء صندوق مصر السيادي في 2018 وإطلاق مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة كمشروع من خارج الموازنة. وبالمثل، في العام 2019، أصدرت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة سندات توريق بقيمة 4 مليارات جنيه (حوالى 260 مليون دولار وفقًا لأسعار الصرف السائدة في 2019)، باستثمار كبير من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وفي العام 2022، استفادت الدولة من "بنك" الأراضي الصحراوية الضخم الذي بحوزتها من أجل إصدار أكبر برنامج سندات توريق في مصر بقيمة 20 مليار جنيه (حوالى 800 مليون دولار وفقًا لأسعار الصرف للعام 2022).

ومع ذلك، لم يكن توليد المال غايةً في حدّ ذاته، بل وسيلة لإضفاء الشرعية على النظام الحاكم. علاوةً على ذلك، ساعدت القطاعات المُستهدفة غير القابلة للتداول، مثل تشييد المساكن والبنية التحتية، بما في ذلك ما يسميه الباحث في الشؤون المصرية دبليو جيه دورمان "مشروعات عمرانية" واسعة النطاق، في تحقيق هدفَين في الوقت نفسه. أولًا، وعدت هذه المشروعات العملاقة بالتعافي السريع من الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة في أعقاب ثورة 2011، وبتحقيق أولوية سياسية، بغضّ النظر عن التكوين القطاعي للاستراتيجية. وثانيًا، صوّر المسؤولون الرسميون المشروعات العملاقة كدليل مرئي على الإنجازات الوطنية، مستخدمين ما أطلق عليه عالم السياسة روبرت سبرينغبورغ عامل "عامل النجاح الباهر".

كان تنسيق أنشطة البناء والعقارات وتنفيذها أسهل بكثير من السعي وراء أهداف كتعميق الصناعة أو تنويع الصادرات، كما أنها استغرقت وقتًا أقصر في التنفيذ، وسمحت لبيروقراطية الدولة أن تفعل ما تعرفه، بدلًا من أن تفعل ما يتعين عليها فعله. ومنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، عمدت الدولة إلى بناء بلدات ومدن جديدة في الصحراء والسيطرة الكاملة على إمدادات الأراضي الصحراوية، ما مكّنها من الحفاظ على اليد العليا في حشد شركات التطوير العقاري من القطاع الخاص لهذه المهمة. وكانت الاستراتيجية البديلة للتعميق الصناعي أو ترقية الصادرات تتطلب استثمارات مؤسسية أكبر بكثير لتنسيق العمل ورصد أداء المنتجين من القطاع الخاص، الذين يسيطرون على ما يقرب من 96 في المئة و100 في المئة على التوالي من الإنتاج الصناعي والزراعي في مصر.

وأخيرًا، ظهر التركيز الشديد على السلع غير القابلة للتداول كوسيلة لبناء تحالف سياسي والحفاظ عليه، ومن الأمثلة البارزة على ذلك العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، التي ينقسم هيكل ملكيتها بالتساوي تقريبًا بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (51 في المئة) ووزارة الدفاع (49 في المئة). بلغت مساحة أراضي العاصمة الإدارية 170,000 فدان اعتبارًا من شباط/فبراير 2023. واستُخدم الوصول إلى هذه المساحات الشاسعة من الأراضي لجذب أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية، بما في ذلك أعضاء من مجلس التعاون الخليجي ومستثمرين صينيين. ومن المفارقات، واستجابةً للأزمة المالية العامة المزمنة من خلال توسيع الإنفاق من خارج الموازنة، عمدت الإدارة التي ظهرت في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد العام 2013، إلى حشد القطاع الخاص وليس مزاحمته.

الحشد وليس المزاحمة

ركّز النقد الليبرالي لانخراط الدولة المتزايد في الاقتصاد، وخاصة المؤسسة العسكرية، إلى حدٍّ كبير على تأثير المزاحمة المفترض على القطاع الخاص، على الصعيدَين الدولي والمحلي. لكن الجهات المرتبطة بالمؤسسة والهيئات الحكومية الأخرى لم تحل بشكل يُذكر مكان شركات التطوير العقاري في القطاع الخاص، ناهيك عن أخذ مكانها، بل في الواقع، اعتمدت هذه الجهات بشكل كبير نسبيًا على القطاع الخاص لتمويل المشروعات الضخمة الخاصة بالتطوير العقاري والبناء. لذلك، وخلافًا لوجهة النظر التقليدية، عمدت الدولة إلى حشد الاستثمارات الخاصة ومدّخرات الأسر للمساعدة في تمويل السلع غير القابلة للتداول.

تُميّز الإحصاءات المصرية الرسمية بين قطاعَي البناء والعقارات. ففيما يشير الأول إلى البناء المادي للمنازل وكذلك البنية التحتية والأشغال العامة، يشير الثاني في الغالب إلى الخدمات، بما في ذلك التسويق والمبيعات والإعلان والأنشطة المتعلقة بالممتلكات. وعلى نحو بديهي، يُعدّ قطاع البناء أكبر بكثير من قطاع العقارات. واستنادًا إلى بيانات البنك المركزي المصري، استحوذ قطاع البناء على متوسط 4.54 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة 2015-2020، فيما استحوذت العقارات على 2.94 في المئة، وبلغ المعدل الإجمالي 7.48 في المئة.

تاريخيًا، هيمنت الجهات الفاعلة في القطاع الخاص على قطاعَي البناء والعقارات، ولا سيما الإسكان. كان هذا هو الحال بشكل خاص في قطاع العقارات منذ العام 2014. وبين العامَين 2015 و2020، بلغ متوسط نصيب القطاع الخاص في العقارات 96.9 في المئة من إجمالي الاستثمارات، مقارنةً مع 95.83 في المئة بين العامَين 2005 و2011. تُعدّ الكثير من الجهات الفاعلة في القطاع الخاص شركات صغيرة ومتوسطة الحجم، سواء كانت عبارة عن أفراد متعاقدين أو شركات عائلية، وتعمل غالبًا في الاقتصاد غير الرسمي، فيما تلبّي بعض كبريات شركات التطوير العقاري حاجات العملاء ذوي الدخل المرتفع وتعمل على إنتاج الوحدات ذات القيمة الأعلى، الواقعة عادةً في مجمّعات سكنية في ضواحي القاهرة.

في قطاع البناء، طرأ تغيير مُلفت، وإن لم يكن جذريًا، منذ العام 2014، ولا سيما نظرًا إلى زيادة الاستثمار في البنية التحتية. فبين العامَين 2005 و2011، بلغ متوسط نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات السنوية 88.95 في المئة. كانت فترة 2011-2013 غير مستقرة ، ولكن بين العامَين 2015 و2020، انخفض متوسط حصة القطاع الخاص إلى 81.33 في المئة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تعزيز الاستثمارات الحكومية في البنية التحتية. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن قطاعَي البناء والعقارات بشكل عام بقيا إلى حدٍّ كبير في أيدي القطاع الخاص. إضافةً على ذلك، أخفى الدور المتنامي نسبيًا للقطاع العام منذ العام 2015 تقسيم العمل بين الدولة وشركات التطوير العقاري من القطاع الخاص، الذي عبّر عن شراكة بين الجانبَين، وإن متفاوتة، وليس عن مزاحمة.

في هذا السياق، اعتمدت العاصمة الإدارية الجديدة، التي تُعتبر جوهرة المشروع الإنمائي الذي يقوده النظام الحاكم، على جذب الاستثمارات الخاصة من مصادر محلية وأجنبية على السواء. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2022، قدّر رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية أن حجم استثمارات القطاع الخاص في المشروع العملاق يصل إلى 300 مليار جنيه (نحو 12 مليار دولار آنذاك) وأن الإنفاق الحكومي على مرافق العاصمة الإدارية وبنيتها التحتية بلغ ما لا يقل عن 80 مليار جنيه (نحو 3.2 مليارات دولار). ومن الأمثلة الصارخة على الأولوية الممنوحة لجذب كبار المطوّرين من القطاع الخاص مجموعة طلعت مصطفى، وهي أكبر الشركات الرائدة في مجال التطوير العقاري في مصر إلى حدٍّ بعيد. وقد حُكم على رئيسها التنفيذي هشام طلعت مصطفى في العام 2009 بالسجن لمدة 15 عامًا بتهمة القتل، لكنه حصل على عفو رئاسي في العام 2017. وبعد بضعة أشهر، أعلنت المجموعة عن شراء 500 فدان من الأراضي لتطويرها في العاصمة الإدارية الجديدة بقيمة 4.4 مليارات جنيه (حوالى 290 مليون دولار بحسب أسعار الصرف للعام 2017).

تشير العاصمة الإدارية الجديدة إلى نموذج استثماري تعمد فيه الجهات الحكومية إلى بيع قطع أرض في الأراضي الصحراوية ذات الأسعار المرتفعة لشركات تطوير عقاري من القطاع الخاص من أجل بناء وحدات سكنية وتجارية راقية. وتبيع هذه الشركات الوحدات عملًا بنظام "أوف بلان"، أي قبل التنفيذ الفعلي للمشروع، للعملاء النهائيين، وعادةً ما يكونون من المصريين الأثرياء، الذين تموّل أقساطهم الشهرية أو ربع السنوية عملية البناء على فترات قد تمتد ما بين 7 إلى 13 عامًا. وتُمكّن هذه التدفقات النقدية شركات التطوير العقاري من دفع أقساطها بفضل الجهات الحكومية المعنية، وأبرزها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة أو العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تستخدمها الجهات الحكومية بدورها لتمويل مشروعات البنية التحتية من خارج موازنة الدولة.

من الاقتصاد القطاعي إلى الاقتصاد الكلّي

سواء كانت جهات حكومية مدنية أو هيئات تابعة للدولة أو بعض المؤسسات داخلها، في قمة التسلسل الهرمي للتنمية، فهذا أمر ذو أهمية ثانوية في تقييم نموذج التنمية في مصر على مدى العقد الماضي. الأهم من ذلك هما تركيبة القطاعات الداعمة للنمو والتوظيف في البلاد ورجحان القطاعات غير القابلة للتداول. تكمن المشكلة الحقيقية في هندسة الدولة لنوع من الندرة المصطنعة في الأراضي الصحراوية، ما يؤدي إلى أراضٍ باهظة الثمن لا تضفي الكثير من القيمة المضافة إلى الاقتصاد أو تحسّن فجوة التمويل الخارجي المزمنة في البلاد. وتعتمد كيفية مشاركة الدولة وشركات التطوير العقاري من القطاع الخاص الريع المتولّد من آلية المضاربة هذه على القطاع، ولا ينبغي أن يحجب ذلك أوجه القصور على مستوى الاقتصاد الكلّي التي تعتري نموذج التنمية الشامل المتّبع في مصر.

يحوّل التحيّز تجاه السلع غير القابلة للتداول، خاصةً العقارات الراقية، مدّخرات الأسرة المحلية الضئيلة إلى أصول عقارية باهظة الثمن لا تُستخدم لأي غرض إنتاجي آخر، فتمثّل بالتالي "رأس مال ميتًا". ووفقًا لبيانات البنك الدولي، بلغ متوسط نسبة المدّخرات الإجمالية في مصر إلى الناتج المحلي الإجمالي 13 في المئة فقط من العام 2010 إلى العام 2020، مقارنةً مع 26 في المئة لبقية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (باستثناء البلدان ذات الدخل المرتفع) ومع 28.7 في المئة و34.1 في المئة بالنسبة للبلدان ذات الدخل المتوسط المنخفض والمتوسط، على التوالي، على مستوى العالم. أدّى إعطاء الأولوية للبناء (بما في ذلك البنية التحتية) والعقارات إلى تحويل الاستثمار بعيدًا عن السلع القابلة للتداول، ما يفسر جزئيًا الأداء المخيب للآمال للصادرات عقب الانخفاض الهائل في قيمة العملة الوطنية في العام 2016. وكما لاحظ تقرير مرصد الاقتصاد المصري الصادر عن البنك الدولي في العام 2019، على الرغم من أن "صافي الصادرات أصبح أكبر مساهم في نمو الناتج المحلي الإجمالي، مدعومًا بمكاسب القدرة التنافسية للعملة المحلية المتدنية قيمتها... فإن قاعدة الصادرات لا تزال ضيقة وتتركّز في الغاز المستخرج".

يضفي الشكل 3 وزنًا إلى حجة حشد القطاع الخاص على مستوى الاقتصاد الكلّي. يُعدّ إجمالي تكوين رأس المال أحد أكثر مؤشرات الاستثمار استخدامًا. وتجدر الإشارة إلى حدوث ارتفاع كبير في معدل النمو السنوي بين العامَين 2017 و2019، على الرغم من أن الحصة الإجمالية للقطاع الخاص من إجمالي تكوين رأس المال في مصر ظلّت متواضعة، إن لم تكن راكدة، منذ العام 2006. لم يكن ليحصل ذلك لولا الزيادة في مجموع إجمالي تكوين رأس المال، مدفوعةً بالانخراط المكثّف للدولة في البناء، وخاصة في بناء البنية التحتية والإسكان الاجتماعي. وانقلب هذا المنحنى التصاعدي فقط بعد بدء تفشّي فيروس كورونا.

ما السبيل للخروج من هذا الوضع؟

بات من الواضح الآن أن تعافي الاقتصاد المصري بعد العام 2016 شابته نقاط ضعف كبيرة. يكشف الموقف الخارجي للدولة عن عجزٍ ضخم في الحساب الجاري واعتمادٍ متزايد على الديون الخارجية قصيرة الأجل. كان من المفترض أن يسهم التراجع الحاد في قيمة الجنيه مقابل الدولار الأميركي في العام 2016، مع تباطؤ التجارة الدولية، في زيادة القدرة التنافسية للمنتجين المصريين في الأسواق المحلية والدولية. تمتّعت مصر بسياق سياساتي مؤاتٍ -على الأقل نظريًا- للاستفادة من سعر الصرف الأجنبي المناسب حتى العام 2022، وكان يمكن أن تستهدف بشكل عملي السلع القابلة للتداول بدلًا من السلع غير القابلة للتداول بهدف التعميق الصناعي ورفع مستوى الصادرات. ولتحقيق ذلك، كان بإمكان الدولة أن تمنح قطاع التصنيع بشكل استباقي مزيدًا من الوصول إلى رأس المال المالي والمادي، بما في ذلك الأراضي التي استُخدِمَت بدلًا من ذلك في المضاربة العقارية، وأن تدعم نقل التكنولوجيا أيضًا.

ولأن الدولة لم تنتهج هذه الاستراتيجية، فهي تواجه حاليًا الظروف الاقتصادية نفسها التي واجهتها في فترة 2016-2017. فقد تراجعَ الجنيه مجدّدًا، وسط خطة إنقاذ أخرى من صندوق النقد الدولي ودول خليجية عدة. من شأن تبنّي سياسات تهدف إلى تعميق الصناعة في قطاعات مختارة، أو حتى في صناعات محدّدة ضمن هذه القطاعات، أن يعزّز قدرة المصنّعين المصريين على التنافس من خلال السلع المستوردة في الأسواق المحلية، والاندماج بشكل أكثر فعالية في سلاسل القيمة التصديرية. ويمكن إنتاج السلع الوسيطة، التي تمثّل نحو 30 في المئة من إجمالي فاتورة الواردات في مصر، محليًا بموجب خطط سياسات داعمة، مع الاستفادة من الحمائية الفعلية التي يوفرها الانخفاض الكبير في قيمة العملة. وتشمل هذه السلع المنتجات البتروكيماوية، والبلاستيك، والحديد، والصلب، والمواد الحديدية، والخيوط الصناعية، وغيرها. وإذا شرعت السلطات المصرية في هذا المسار، فيجب على الشركاء الإقليميين والدوليين أن يدركوا أن تسهيل انتقال البلاد من نموذج النمو الذي يعتمد على السلع غير القابلة للتداول إلى نموذج يعتمد على السلع القابلة للتداول، أمرٌ ضروري لتحقيق تعافٍ مستدام على المديَين المتوسط إلى الطويل.

الاستثمار الخليجي في مصر: إرساء التوازن بين الحاجات المتبادلة

على مدى العقد الماضي، ساهمت المساعدات المالية الكبيرة التي تلقّتها مصر من دول الخليج في توطيد النظام الحاكم الجديد الذي أُرسي في أعقاب الاستيلاء العسكري على السلطة وصعود الرئيس عبد الفتاح السيسي في فترة 2013-2014. على وجه الخصوص، سمح الدعم المقدّم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت للحكومة المصرية بإطلاق استثمارات كبيرة بقيادة الدولة والمؤسسة العسكرية. لكن هذه المعادلة المجانية نسبيًا، بالنسبة إلى إدارة السيسي، تتعرّض لضغوط، إذ يشعر الحلفاء والشركاء الخليجيون بشكل متزايد بأن إدارة السيسي قد أهدرت المتنفَّس الذي أمّنه دفع ما يُقدَّر بـ100 مليار دولار أو أكثر في أشكال مختلفة من المساعدات منذ العام 2013. هذا إلى جانب الدعم الإضافي الذي يصل إلى 13 مليار دولار والذي أُودع في البنك المركزي المصري في العام 2022 وحده لإصلاح سياسات مالية ضارة استخدمت الاحتياطيات الأجنبية كوسيلة لحماية عملة مقدّرة بأكثر من قيمتها.

يُضاف إلى ذلك أن التباينات المتزايدة في سياسات الأفرقاء الخليجيين الخارجية تجاه المنطقة دفعتهم للتريّث، من أجل إعادة تقييم الدعوات المصرية للحصول على دعم مالي جديد، حتى مع استمرارهم في اعتبار الاستقرار السياسي والأمني المصري مصدر قلق بالغًا. وفيما تشعر دول الخليج بأنها غير قادرة على تقليص المساعدات التي تقدّمها إلى مصر أو وقفها تمامًا، فإن الأزمة المالية والاقتصادية المتفاقمة في مصر منذ العام 2022 سمحت لدول الخليج بتشديد مطالبتها مصر بإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية.

ما لا يقل عن ذلك أهمية أن دول الخليج تسعى الآن إلى الحصول على حصة مسيطرة من الأسهم في بعض أصول الدولة المصرية مقابل تقديم المزيد من المساعدات، إضافةً إلى ضغطها، وفق ما ذُكر، على صندوق النقد الدولي لاتخاذ موقف حازم في المشاورات بشأن اتفاق القرض الجديد مع مصر العام الماضي. أخذ هذا المطلب مصر على حين غرة، إذ إنها اعتادت منذ فترة طويلة الاستفادة من روابطها السياسية والثقافية التاريخية مع دول الخليج. ربما لا تزال إدارة السيسي مطمئنة إلى استمرار الدعم السياسي والمالي من دول الخليج، لكن سيتعيّن عليها التأقلم مع الأولويات الاقتصادية والاعتبارات التجارية لهذه الدول، والتي يبدو أنها ستحدّد شكل الاستثمارات وحجمها في السنوات المقبلة.

لكن نهج دول الخليج الجديد القائم على الاستثمار لمساعدة مصر، واجه على الفور جملةً من المشاكل. من الواضح أن لدى الجانبَين توقعات مختلفة حيال الرقابة والحوكمة، ولا سيما لدى مقارنة توقعات دول الخليج مع تلك التي حدّدتها الحكومة المصرية في سياسة ملكية الدولة الجديدة. تواجه إدارة السيسي والمؤسسة العسكرية القوية في مصر تحديًا متزايدًا يتمثّل في جذب الاستثمارات الخليجية إنما مع ضمان عدم التخلّي عن السيطرة على أصول الدولة أو باقي الاقتصاد.

من المساعدات إلى الاستثمارات

بالكاد أثّرت سياسة ملكية الدولة الجديدة في مصر، التي صادق عليها السيسي في 29 كانون الأول/ديسمبر 2022، على شكوك دول الخليج. وفيما خاضت المسودّة جولات متتالية من المراجعة بين أيار/مايو وتشرين الأول/أكتوبر، كانت دول الخليج بقيادة الإمارات العربية المتحدة، تضغط على صندوق النقد الدولي لضمان أن برنامج الإقراض الجديد لمصر سيعالج بفعالية السياسة المالية الكارثية للبلاد. وفي بيان عام حازم عقب الموافقة على القرض، فرض صندوق النقد الدولي شروطًا على مصر شكّلت استجابةً لمخاوف الإمارات. فبحسب بعض التقارير، رفض صندوق النقد الدولي الطلب المصري بالحصول على قرض جديد بقيمة 9 مليارات دولار إلى 12 مليار دولار، وبدلًا من ذلك تم الاتفاق على 3 مليارات دولار، وبالتالي أصبحت مصر الآن أكثر اعتمادًا من أي وقت مضى على تجدّد التدفقات النقدية من دول الخليج لتعويض هذا النقص. ومن المتوقع أن يأتي الجزء الأكبر من الائتمان البالغ 17 مليار دولار والذي يهدف قرض صندوق النقد الدولي إلى تأمينه، من دول الخليج.

من خلال الشراكة مع صندوق النقد الدولي بهذه الطريقة، يهدف المانحون الخليجيون إلى تحويل نموذج مساعداتهم السابق إلى برنامج أكثر تنظيمًا يعتمد على صناديق الاستثمار التي لديها فرصة أفضل لجني نتائج وعوائد يمكن التحقّق منها. إذا نجح ذلك، يعتقدون أن البرنامج الجديد (الاستثمار عوضًا عن المساعدات المباشرة) يمكن أن يشكّل نموذجًا لدعم الاقتصادات الأخرى التي تعاني من ضائقة مالية مثل الأردن وتونس وباكستان، وربما حتى لبنان. وعلى الرغم من أن سياسة ملكية الدولة في مصر سلّطت الضوء على صندوق الثروة السيادية في البلاد باعتباره الوسيلة الأساسية لجذب الاستثمارات الخاصة وإدارتها، فإن دول الخليج تسعى إلى إرساء نموذج يوفّر لها قدرًا أكبر من الشفافية والسيطرة الفعّالة.

يبدو أن شركات الاستثمارات المشتركة مثل الشركة القابضة المصرية الكويتية، التي أنشأها لفيفٌ من رجال الأعمال الكويتيين والمصريين في العام 1997، تقدّم نموذجًا يمكن أن يُحتذى به. ويبدو أن أدوات مماثلة هي الشكل الأساسي الذي ستتحقق من خلاله الاستثمارات الخليجية في مصر. ويُعزى ذلك إلى واقع أن هذه الأدوات تُخرج السياسة من المعادلة، وتساعد في تجنّب المفاجآت من الصفقات الثنائية التي تُعقد خلف الأبواب المغلقة، وتضمن عوائد مجزية على المساعدات الخليجية. وقد أنشأت الإمارات والسعودية بالفعل أدوات استثمارية مشتركة، ووفقًا لمصادر مصرية، ستحذو قطر حذوهما. بالإضافة إلى ذلك، قادت الإمارات تشكيل إطار استثماري جديد للصناعة والتنمية المستدامة مع مصر والأردن والبحرين، وتعهّدت بتقديم نحو 10 مليارات دولار.

إطار إشكالي

صحيحٌ أن أدوات الاستثمار الجديدة تلبّي حاجة حقيقية، إلا أنها ليست خالية من المشاكل. لقد حققت الشركة القابضة المصرية الكويتية أرباحًا كبيرة في قطاع الطاقة في العام 2022، لكن المنصة الاستثمارية الاستراتيجية المشتركة بين مصر والإمارات والتي تأسّست في العام 2019 لم تحقّق هذا القدر من النجاح على الرغم من أن قيمة تعهداتها وصلت إلى 20 مليار دولار، إذ أدت محاولات الاستثمار الأخيرة من أبو ظبي إلى إثارة حساسيات سياسية وأمنية، وأتت عقب اجتماعات ثنائية بين الزعيمَين، من خارج الأداة الاستثمارية، ويمكن القول إنها كانت مشحونة سياسيًا بدرجة أكبر. في الوقت نفسه، تواجه الشركة السعودية المصرية للاستثمار، التي تأسست في العام 2022، جملةً من التحديات. وتختلف دول الخليج ومصر حول كيفية إجراء الاستثمارات، وحول ما تأمل القاهرة في الحصول عليه من شركائها الخليجيين.

وما يزيد الأمور تعقيدًا أن النوايا السياسية الحقيقية للحكومة المصرية غير واضحة. لم يتعامل الشركاء الخليجيون بشكل كبير مع سياسة ملكية الدولة باعتبارها وثيقة إطارية، على الأقل ليس علنًا، بل ركزوا بدلًا من ذلك على إعلان الحكومة في كانون الثاني/يناير 2023 عن نيتها بيع حصص (تتراوح من 10 في المئة إلى 40 في المئة) من 32 شركة مملوكة للدولة.

وفيما انصبّ الكثير من التركيز في مصر على الشركات المعروضة، كان الشركاء الخليجيون أكثر اهتمامًا بحجم الأسهم التي يتم بيعها. في السر، أعرب بعض المسؤولين الخليجيين عن خيبة أملهم بشأن العرض، لأنه لا يشمل الخصخصة الكاملة لأيٍّ من الأصول المملوكة للدولة، ناهيك عن بيع حصة أغلبية من شأنها نقل السيطرة الإدارية. وأعربوا أيضًا عن خيبة أملهم بشأن الشركات المعروضة، من منظور تجاري. تكشف ردود أفعالهم عن عدم استعدادهم لربط مشترياتهم من الحصص بقوة العلاقات السياسية الثنائية فقط، بل يتوقعون أيضًا تحقيق مكاسب مالية.

هذا التوقع هو الأكثر وضوحًا بالنسبة إلى السعودية. تهدف الشركة السعودية المصرية للاستثمار، بشكل كبير، إلى نقل المسؤولية الكاملة وصلاحية اتخاذ القرارات المالية إلى صندوق الاستثمارات العامة الذي يُعدّ صندوق الثروة السيادية للمملكة، ما يعكس تركيزه الحصري على تحقيق عوائد طويلة الأمد على الاستثمارات. وبالتالي، يبدو أن صندوق الاستثمارات العامة غير مهتم بالاستثمار في القطاعَين السياحي والعقاري المصريَين اللذَين يعتبرهما مشبعَين. بدلًا من ذلك، ينظر الصندوق إلى الأعمال المصرفية المناسبة للاستثمار الطويل الأمد وإلى الاستحواذ على وسائل الإعلام، ما يساعد في ممارسة القوة الناعمة. يُعتقد أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يترأس صندوق الاستثمارات العامة، يعارض تقديم مساعدات غير مشروطة لدولة تدين بالفعل بالمليارات لبلاده. ويساعد هذا الواقع في فهم سبب إصرار السعودية على الاستحواذ على المصرف المتحد، وهو أحد المصارف المصرية الأكثر ربحية، بالجنيه المصري المخفّضة قيمته بدلًا من الدولار كما تريد الحكومة المصرية. ونتيجةً لهذا الخلاف، توقّفت مفاوضات الاستحواذ في شباط/فبراير 2023.

لدى حلفاء مصر الخليجيين الآخرين نظرة أشمل للتوازن بين الاستثمار التجاري والسياسي. ترى الإمارات أن الاستثمار في الموانئ والخدمات اللوجستية المصرية (من خلال مجموعة موانئ أبو ظبي المملوكة للدولة) يمكن أن يوفر مكاسب سياسية وأمنية، بالإضافة إلى عوائد مالية. وبحسب بعض التقارير، كانت المفاوضات جارية اعتبارًا من آذار/مارس 2023 بشأن استحواذ الإمارات على منشآت في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وربما الحصول على حقوق انتفاع من عمليات هيئة قناة السويس وخدماتها. والجدير بالذكر أن هذا القطاع بكامله يقع خارج نطاق سياسة ملكية الدولة الجديدة في مصر. لكن الأهم أن بعض أجهزة الأمن المصري، التي تنظر بالفعل إلى النفوذ السياسي الإماراتي ببعض القلق، تبدو متوترة بشأن الخطط المقترحة للمنطقة. يمكن القول إن ردود الفعل العامة العنيفة لما تم تصويره، بشكل مضلّل، في وسائل التواصل الاجتماعي المصرية على أنه خطة حكومية لـ"بيع قناة السويس" يفاقم توترهم.

نتيجة نفوذ الإمارات ونواياها المتصورة، والاستياء السعودي غير الخفي تمامًا بشأن مفاوضات الاستثمار، باتت جهود مصر لجذب الاستثمارات من قطر أكثر إلحاحًا، باعتبارها وسيلة لتحقيق التوازن بين الحليفَين الخليجيَين الآخرَين. تبدو قطر متردّدة بشأن ضخ مبالغ كبيرة من الأموال في مصر نظرًا إلى أن حالة الثقة والتوافق السياسي بين الجانبَين لا تزال هشة، لكن الحكومة المصرية تأمل أن وعودها بإعفاء الاستثمار الأجنبي من الضوابط المعوّقة المفروضة على الرساميل وضمان عودة الأرباح إلى الوطن، ستشجّع المستثمرين المحتملين.

واصلت شركات القطاع الخاص في الخليجالمموّلة بمعظمها من الدولةالاستثمار في مصر، على الرغم من تذبذب العلاقات الثنائية بين دول الخليج ومصر. حقّقت الشركات العقارية العملاقة في الإمارات، مثل شركة إعمار (دبي) وشركة الدار (أبو ظبي)، أرباحًا كبيرة من استثماراتها في مصر. وواصلت استثمارات الشركات القطرية نموّها، حتى أثناء الخلافات بين الحكومات. الاستثمار الأكثر وضوحًا لقطر هو مجمّع الديار، الذي يضم منازل سكنية وفندقًا فاخرًا ومكاتب تجارية. تم افتتاح المجمّع رسميًا في آذار/مارس 2021، بعد فترة وجيزة على استعادة الدولتَين علاقاتهما السياسية والدبلوماسية. وأعلنت قطر منذ ذلك الحين عن استثمارات عقارية أكبر في مصر، على خطى الإمارات.

تجاوز سياسة ملكية الدولة

من غير الواضح ما إذا كانت سياسة ملكية الدولة في مصر متعذّرة التنفيذ أو أنها لا تزال في مراحلها الأولى، وما إذا كان الشركاء الخليجيون سيعتبرونها إطار عمل مناسبًا لاستراتيجية استثمارية طويلة الأمد. على المدى القصير، يبدو أن الحلفاء يريدون من مصر أن تدير سياستها المالية بطريقة متّسقة ومستدامة وأن تلتزم بالكامل ببرنامج صندوق النقد الدولي الأخير. ويريدون كذلك إجابةً على هذا السؤال الأكبر: هل تسعى الحكومة المصرية فقط إلى جذب الأموال الخليجية من خلال بيع حصص أقلية في الشركات والأصول المملوكة للدولة والمؤسسة العسكرية، مع الاحتفاظ بسيطرتها عليها؟

لا يمكن لمصر تحمّل فكّ الارتباط مع دول الخليج، لكن على الرغم من الجهود التي يبذلها الأفرقاء المصريون حتى الآن، لم يتوصّلوا بعد إلى أرضية مشتركة مع نظرائهم الخليجيين بشأن النهج الاستثماري. قد يكون من الأسهل على الجانبَين التنازل عن المبيعات الجزئية للشركات المصرية المملوكة للمؤسسة العسكرية، طالما أن الشركاء الخليجيين مطمئنّون إلى وجود شفافية أكبر في هذه الحالات. وسيسمح هذا الأمر للمؤسسة العسكرية بالاحتفاظ بدورها في الاقتصاد إلى حدٍّ كبير، وإن لم يعُد من دون رادع تمامًا. ولكن مع نفاد الوقت المتاح أمام مصر لزيادة التدفقات المالية، قد تضطر الحكومة إلى استرضاء دول الخليج من خلال توسيع عروض المحافظ الاستثمارية.

يبدو أن انهيار المفاوضات مع الشركة السعودية المصرية للاستثمار بشأن تقييم المصرف المتحد، والفشل اللاحق للمفاوضات مع الإمارات بشأن الحصص في شركة المصرية للاتصالات، قد أرغما الحكومة المصرية على إعادة تقييم نهجها، على الرغم من أنها لا تزال غير مستعدة للتخلّي عن إدارة الشركات المعروضة، أو الاحتفاظ بحصة أغلبية فيها. وبعد أسابيع فقط من إدراج 32 شركة للبيع الجزئي، أضافت الحكومة المصرية شركات جديدة عدةبما فيها شركة المصرية للاتصالاتمن قطاعات اقتصادية لم تكن مدرجة في سياسة ملكية الدولة، للخصخصة الكاملة أو الجزئية. من الواضح أن هذه الخطوة كانت محاولة لجذب المزيد من الأموال الخليجية والتقليل من أهمية الخلاف حول إدارة الدولة، وخاصة سيطرتها، على الحصص. لكن من المستبعد أن ينجح هذا العرض. ويؤكد بعض المراقبين أن الخلاف مدفوعٌ بمحاولات خليجية لاستغلال تراجع الآفاق الاقتصادية في مصر والحصول على أصول الدولة بثمن بخس، لكن من المرجح أنه يتأجّج بفعل سنوات من الاختلافات المحدودة ولكن المتراكمة حول السياسات الاقتصادية والخارجية لإدارة السيسي.

ما وراء المال: إعادة تقييم الروابط الجيوسياسية

يبدو أن السيسي، منذ تولّيه منصبه، مطمئن في اعتقاده أن شركاء مصر لا يستطيعون ترك البلاد تنهار اقتصاديًا. وهو واثق من أن موقع مصر الاستراتيجي، وكثافتها السكانية المتزايدة باطّراد، وشراكاتها الأمنية مع إسرائيل والولايات المتحدة، كلّها عوامل تقلّل بشكل كافٍ من خطر أن تحمّله دول الخليج مسؤولية السياسات المالية لحكومته وإنفاق مساعداتها على خطط استثمارية ضخمة. لكن من وجهة نظر دول الخليج، لم يؤدِّ عقدٌ من دعم الاقتصاد المصري إلى حدوث توافق كامل حول السياسة الخارجية أو الأمن الإقليمي.

لقد غيّرت الإمارات والسعودية، على وجه الخصوص، سياساتهما الخارجية على نطاق واسع، فابتعدتا عن مواقف المواجهة وركّزتا على التكامل الإقليمي والتقارب مع الخصوم السابقين، وأبرزهم قطر وتركيا. في العلن، يواصل المسؤولون الإماراتيون القول إن مصر شريكٌ أمني إقليمي أساسي، لكن السياسات الخارجية لهذَين البلدَين تجاه إثيوبيا وليبيا والسودان تباعدت بشكل واضح. علاوةً على ذلك، كان موقف مصر ملتبسًا بشأن الاتفاقيات الابراهيمية للعام 2020 الرامية إلى تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، وذلك خوفًا من أن تؤدي شراكتهما الأمنية المزدهرة إلى تقليص دور مصر كشريك أمني أساسي لإسرائيل في المنطقة. وأحدث رفض مصر الانضمام إلى حرب اليمن في العام 2015 توترًا في العلاقات مع السعودية. صحيحٌ أن التزام السيسي بنقل السيادة على جزيرتَين في البحر الأحمر إلى السعودية في العام 2016 أفضى إلى تحسين العلاقات الثنائية على مستوى القيادة، إلا أن ردود الفعل المحلية الناتجة عن ذلك في مصر تسبّبت بتأخير عملية النقل الرسمي. وبالمثل، فإن عملية استئناف العلاقات الرسمية مع قطر في العام 2021، التي تأمل مصر أن تسمح لها بتوسيع علاقاتها في الخليج، لم تحلّ الخلافات حول الأمن، ولا سيما المخاوف بشأن دعم قطر لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر.

في غضون ذلك، يتعيّن على دول الخليج التعامل مع مطالب مواطنيها المتزايدة بتأمين المساءلة والشفافية في الاستثمارات الخارجية. يبدو أن الصبر يتضاءل حيال عمليات الإنقاذ المالي المستمرة لمصر (أو دول أخرى في المنطقة الأوسع)، ما دفع دول الخليج إلى مضاعفة مطالبها للدولة المصرية بإبداء مزيدٍ من الشفافية. يتعرّض السيسي لضغط مماثل محليًا، ولكن هذا الضغط ناجمٌ بشكل أكبر عن الانتقادات اللاذعة التي وُجّهت في وسائل إعلامية أساسية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي لدول الخليج بسبب عدم تدخلها لإنقاذ مصر، ما أثار بدوره ردود فعل غاضبة في مختلف أنحاء الخليج، تعتبر أن مصر يجب أن تتحمّل بنفسها مسؤولية تخطيطها المالي.

هل من تسوية مؤقتة جديدة؟

تحتاج مصر إلى دول الخليج التي قد لا تملك التأثير الكافي لفرض التغييرات المالية والإصلاحات الهيكلية التي تريدها. وتُعتبر دول الخليج عالقة في معضلة: فبعد أن استثمرت بكثافة في دعم إدارة السيسي منذ العام 2013، لا يمكنها ببساطة السماح لها بالانهيار، لكن لا يمكنها أيضًا تبنّي التصوّر الشائع بأن مصر "أكبر من أن تفشل"، وهو تصوّر استغلّه السيسي بحنكة. في الحدّ الأدنى، لقد انتهى عصر المساعدات المالية غير المشروطة إلى مصر، التي اتخذت شكل ودائع نقدية مباشرة في البنك المركزي المصري خلال فترة 2013-2017.

قد تضطر إدارة السيسي إلى اتّخاذ بعض الإجراءات المؤلمة. مع ذلك، فإن واقع أن دولًا خليجية بارزة تريد صوغ علاقاتها الاقتصادية مع دول أخرى في المنطقة بحسب نموذج العلاقة مع مصر، يقدّم لإدارة السيسي فرصة لإعادة تشكيل علاقاتها مع دول الخليج. وتشير الأهمية المستمرة للمصالح السياسية والأمنية الخليجية في مصر خصوصًا أن المجال متاحٌ أمام الجانبَين للتفاوض بشأن شروط حصول مصر على مزيدٍ من الدعم الاقتصادي والمالي وتهيئة مناخ استثماري مُربح للجانبَين ومتجذّر في برنامج صندوق النقد الدولي. لا بدّ من الانتظار لمعرفة حجم التنازلات التي سيقدّمها كل جانب لمعالجة مخاوف الجانب الآخر، ولكن غالب الظن أن المأزق الحالي سيتم تجاوزه من خلال التسويات المتبادلة.

سياسة ملكية الدولة والاقتصاد العسكري في مصر: فجوة عصيّة على الرأب

أثار إصدار الحكومة المصرية مسودّة وثيقة سياسة ملكية الدولة في حزيران/يونيو 2022 سؤالًا فوريًّا: هل سيشمل هذا الإطار الجديد الشركات العسكرية ودور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد عمومًا؟ لم تأتِ المسودّة على ذكر أيٍّ من دلك، ما يطرح سؤالًا أوسع نطاقًا حول مدى اتّساق هذه الوثيقة طالما أنها لا تتطرّق إلى تدخّل المؤسسة العسكرية المستمر في الاقتصاد، إذ من شأن ذلك أن يقوّض بشكل مباشر تماسك الأهداف المُعلنة للحكومة في عدد كبير من القطاعات الاقتصادية، وبالتالي جدوى هذه الأهداف. بدا أن مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية الرسمية التي سلّمتها الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي في 30 تشرين الثاني/نوفمبر في إطار الاتفاق بشأن حصولها على قرض جديد قد حلّت هاتَين المسألتَين من خلال إخضاع جميع الشركات العسكرية مباشرةً إلى إطار تنظيمي وإداري واحد على غرار باقي القطاع العام (المدني). وجرى أيضًا تعديل وثيقة سياسة ملكية الدولة في صيغتها النهائية لتتماشى مع ذلك من خلال إضافة جملة تُدرج "الشركات التابعة للقوات المسلحة التي تعمل في المجال الاقتصادي" تحت سقفها.

تُعدّ مفاعيل مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية ضخمة بالفعل. باختصار، أشارت الحكومة إلى أنها ستفرض سيطرة مباشرة على الشركات العسكرية. لكن هذا الأمر يمثّل مشكلة في حدّ ذاته، ولا سيما في ظل غياب القدرة أو الإرادة السياسية اللازمة لتطبيق هذا البند. واقع الحال أن المؤسسة العسكرية قد وسّعت أنشطتها في قطاعات كانت تشملها المسودة الأولى لوثيقة سياسة ملكية الدولة، ناهيك عن أن بعضًا من أبرز الهيئات العسكرية الناشطة اقتصاديًا ليست شركات إطلاقًا. وعلى الرغم من أن المذكرة صادقت على سياسة ملكية الدولة باعتبارها "المقياس الهيكلي" للإنجاز (كما فعل برنامج قرض صندوق النقد الدولي)، لم تُبذل أي محاولة لتكييف الأولويات القطاعية والآليات الواردة في الوثيقة، من أجل حلّ التناقضات بين هذا الالتزام الجديد من جهة، وواقع استمرار تدخّل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد من جهة أخرى.

لا يبعث هذا التقلّب الكبير في غضون أشهر قليلة على الثقة. ومن غير الواضح مدى التزام الحكومة، طالما أنها لم تشرح كيف تعتزم إخضاع المؤسسة العسكرية البالغة القوة لأحكام سياسة ملكية الدولة. ونظرًا إلى ضعف الحكومة أيضًا في وجه الأجندة الاقتصادية لرئيس قوي، هل هي تتصرّف الآن بجرأة أم أنها تراوغ ليس إلا؟ في الحالتَين، يخلّف إطارها السياساتي فجوة يصعب تجسيرها بين هدفها المُعلن الرامي إلى "تسوية الملعب" الاقتصادي مع القطاع الخاص من جهة، والواقع المتمثّل في الدور الاقتصادي الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية وأنشطتها التجارية من جهة أخرى.

التأثيرات على المؤسسة العسكرية

في اعتبارها وثيقة سياسة ملكية الدولة مقياسًا للإصلاحات الهيكلية، تسلّط مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية الضوء على ثغرات كبيرة تتيح للدولة المصرية، وبالتالي المؤسسة العسكرية، الاحتفاظ بحصص كبيرة في القطاعات الاقتصادية. لكن الملكية ليست سوى جزء واحد من المعادلة. فمن شأن إخضاع المؤسسة العسكرية إلى الإطار التنظيمي والإشرافي الشامل الذي جرى تحديده في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية أن يسهم في سدّ بعض الثغرات المهمة التي خلّفتها سياسة ملكية الدولة. وتحديدًا، نصّت المذكرة أن على الشركات المملوكة للدولة، بما فيها الشركات العسكرية، (1) تسليم حساباتها المالية كل ستة أشهر والتصريح عن "أي أنشطة شبه مالية تمارسها" (مع إصدار البيانات علنًا)، و(2) اعتماد عقود توظيف للمدراء تستند إلى الأداء قياسًا بالأهداف العملاتية والمالية، و(3) الخضوع إلى المزيد من الإشراف المركزي في كل قطاع وإلى الممارسات المعزّزة المانعة للمنافسة، و(4) إجراء المشتريات العامة بطرقٍ تنافسية وشفافية تمامًا، و(5) إلغاء كافة الإعفاءات الضريبية الراهنة لهذه الشركات.

في الحدّ الأدنى، قد يفضي تطبيق هذه الأحكام بحسن نية إلى لجم الانتهاكات الصارخة والتلاعب بأسعار السوق في جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية، بما فيها تلك التي ستتخارج الدولة منها بصورة جزئية فحسب، أو تلك التي لن تتخارج منها على الإطلاق. لكن حتى لو نُفِّذت سياسة ملكية الدولة بالتوازي مع مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، ستظل المؤسسة العسكرية تتمتّع بهامش كبير من الحرية يتيح لها مواصلة مسارها الراهن. أولًا، تُميّز الوثيقتان بشكل حاسم بين القطاعات "الاستراتيجية" و"غير الاستراتيجية" من أجل تبرير الإبقاء على استثمارات الدولة، وبالتالي المؤسسة العسكرية، في عددٍ من القطاعات والأنشطة الاقتصادية، إلى حدٍّ كبير، لا بل زيادتها في الكثير من الحالات. من الواضح أن تعريف القطاعات "الاستراتيجية" واسعٌ وفضفاضٌ، إذ يتراوح من تلك التي تلبّي حاجات المواطنين اليومية (مثل الغذاء، والتعليم، والرعاية الصحية، والطاقة)، مرورًا بتوفير السكن اللائق لذوي الدخل المحدود ومشاريع البنية التحتية العامة، وصولًا إلى تلك التي تنطوي على نقل التكنولوجيا الصناعية، ومجالات متنوّعة من التصنيع التحويلي، والإعلام، والمُدخلات الكيماوية الزراعي، واستصلاح الأراضي.

ومن المُلفت أنه في الوقت الذي تسعى الدولة إلى خفض حصصها في القطاعات غير الاستراتيجية، قد ينمو دور المؤسسة العسكرية كرأس الحربة في إدارة استثمارات الدولة في القطاعات الاستراتيجية، مقارنةً مع الهيئات العامة الأخرى. ويشكّل ذلك مصدرًا كبيرًا للقلق، إذ إن المؤسسة العسكرية هي أساسًا حاضرة أو في المقدّمة في مجالات عدة، مثل إنشاء وإمداد ودعم البنية التحتية للنقل البري والبحري، والمستشفيات، ومراكز الرعاية الأولية؛ وفي مجالات الاتصالات والإنتاج والتوزيع الإعلامي؛ والصناعات الهندسية (المعدات والآلات، وأشباه الموصلات، وبناء السفن والقوارب، والطاقة المتجدّدة)؛ والصناعات المعدنية؛ والطباعة والإعلانات؛ والمستلزمات الدوائية والطبية؛ والأسمدة.

ثانيًا، تُعدّ المؤسسة العسكرية منخرطة في قطاعات مهمة لم تذكرها تحديدًا سياسة ملكية الدولة، ومن ضمنها صناعات الإسمنت (حيث ارتفعت حصة المؤسسة من إجمالي القدرة الإنتاجية من الصفر تقريبًا في العام 2011 إلى حوالى 25 في المئة بحلول العام 2019)، والسيارات، والكيماويات الوسيطة. وكان من المُلفت كذلك إغفال قطاع السياحة. ففي كانون الأول/ديسمبر من العام 2022، حصلت وزارة الإنتاج الحربي على حق الانتفاع من إدارة حديقة الحيوان وحدائق عامة مجاورة في القاهرة لمدة خمسة وعشرين عامًا. وفي شباط/فبراير من العام 2023، استحوذت الشركة الوطنية للفنادق والخدمات السياحية "توليب" المملوكة للمؤسسة العسكرية على فندق "ستيلا" في شرم الشيخ. وسبق أن مُنحت القوات المسلحة سيطرة حصرية على مناطق مدرّة للربح على ساحل البحر الأحمر، وخُصّصت 47 جزيرة لصالحها كأراضٍ استراتيجية ذات أهمية عسكرية في العام 2019.

ثمة إغفال صارخ آخر يتمثّل في الأنشطة العقارية، التي كانت مذكورة في المسودّة الأولى لوثيقة سياسة ملكية الدولة، لكنها حُذفت في النسخة النهائية منها. تمتلك وزارة الدفاع 51 في المئة من الشركة التي تتولّى أعمال بناء العاصمة الإدارية الجديدة، التي تراوحت أصولها بين 3 و4 تريليونات جنيه (أي ما بين 191 مليار دولار و255 مليار دولار) بحلول آب/أغسطس 2021 وفقًا للسيسي، وحققت مكاسب وصلت إلى 2 تريليون جنيه (حوالى 102 مليار دولار) بحلول تشرين الأول/أكتوبر 2022. علاوةً على ذلك، تدير المؤسسة العسكرية حوالى 22 مدينة (من أصل ثلاثين مدينة مُزمع بناؤها) باستثمارات وصل مجموعها إلى 700 مليار جنيه في جميع أنحاء البلاد بحلول مطلع العام 2021، وفق ما صرّح به رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي. وفي سياق توغّل المؤسسة العسكرية الإضافي في المجال الاقتصادي، حصل جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة على حق استغلال معظم الأراضي المطلة على نهر النيل في القاهرة الكبرى والأراضي الرطبة المحيطة به، إضافةً إلى  36جزيرة نهرية في مواقع حضرية رئيسة على طول النيل، وأكبر حدائق محافظة الإسكندرية خلال العام 2022.

الثغرات

نظريًا، يمكن إخضاع ما يُسمّى بالقطاعات الاستراتيجية للأطر التنظيمية وأطر الحوكمة نفسها كما القطاعات غير الاستراتيجية، بغضّ النظر عما إذا كانت الملكية للقطاع العام أو القطاع الخاص. لكن مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية مبهمة في هذه النقطة. فهي تَعِد باتّخاذ "إجراءات محدّدة لضمان الحياد التنافسي تماشيًا مع المجالات الثمانية ذات الأولوية التي حدّدتها [منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية] (2012)، وهي: الصيغة العملاتية للأعمال الحكومية، وتحديد التكلفة، ومقتضيات معدّل العائد، وتعهّدات الخدمات العامة، والحياد الضريبي، والحياد في المدينونات، والحياد التنظيمي، والحياد في إجراءات المشتريات العامة". ولكن المذكرة تورد تطبيق هذه الإجراءات تحديدًا في القطاعات غير الاستراتيجية. وينسحب ذلك أيضًا على إطار الرقابة والتقييم المنصوص عليه في المذكرة، والذي يستوجب إصدار تقارير سنوية تشمل تقييم عمليات التجريد (أي البيع والتصفية)، والإفصاح عن الأصول وعن الأفرقاء المعنيين، وشرح كيفية استخدام إيرادات عمليات التجريد.

يسلّط ما تقدّم الضوء على الثغرات القانونية والتنظيمية التي ستعرقل تطبيق وثيقة سياسة ملكية الدولة ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية على المؤسسة العسكرية. على سبيل المثال، لا يوجد ما يدلّ على أن الأنشطة الاقتصادية للشركات والهيئات العسكرية في المجال المدني ستخضع لنظام تنفيذ العقود والتحكيم الذي يُطبَّق على شركائها المدنيين، والمتعاقدين المدنيين معها من الباطن، والمستثمرين المدنيين – ما يشكّل عائقًا كبيرًا أمام محاولات السيسي المتكررة لطرح أسهم الشركات العسكرية من خلال البورصة المصرية أو صندوق مصر السيادي. وتتمثّل ثغرة قانونية أخرى في أن نسبة الشركات العسكرية المسجّلة كشركات في القطاع العام أو في قطاع الأعمال العام (تُصنَّف الشركات في إحدى هاتين الخانتَين وفقًا للقانون الذي أُنشئت بموجبه والوزارة التي تتبع لها)، لا تتعدّى النصف تقريبًا من أصل حوالى 75 شركة عسكرية تعمل في مجال إنتاج السلع والخدمات المدنية: النصف الآخر من الشركات تابع لوزارة الدفاع، لذا قد لا يخضع للقيود والمقتضيات الواردة في سياسة ملكية الدولة ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية.

والأهم أن الإطار السياساتي الجديد الذي تطرحه وثيقة سياسة ملكية الدولة ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية لا ينطبق على الهيئات العسكرية التي تتولّى الأشغال العامة الضخمة المموّلة من الحكومة، مع العلم بأنها غير مسجلة كشركات. ومن أهمها الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، تليها إدارات الأشغال والمشروعات الكبرى والمياه والمساحة. والجدير بالذكر أن هذه الهيئات العسكرية مجتمعةً قد أدارت حوالى ربع مشروعات البنية التحتية والإسكان بين العامَين 2013 و2018، ويبدو أن هذه النسبة بقيت مستقرة منذ ذلك الحين، إن لم تكن قد ارتفعت.1  حتى سلاح الجو ناشط اقتصاديًا: إذ يُشرف على مشروع الدلتا الجديدة (المعروف أيضًا بمشروع "مستقبل مصر")، حيث تبلغ المساحة المستهدف استصلاحها 2.2 مليون فدان (أي حوالى 2.28 مليون هكتار) من الأراضي الصحراوية، وينجز مباشرةً نصف المشروع بتكلفة ناهزت 260 مليار جنيه (حوالى 19.1 مليار دولار، استنادًا إلى تكلفة الفدان الواحد التي حدّدها السيسي في نيسان/أبريل 2021).

وفي مجال السياسات العامة، من المستبعد أن تضع وثيقة سياسة ملكية الدولة ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية حدًّا لانخراط المؤسسة العسكرية المتنامي في وضع السياسات الخاصة بقطاعات رئيسة، على غرار تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة والتنمية الصناعية، وفي توجيه المشتريات الحكومية في مجالات مثل الواردات الصناعية والطبية. علاوةً على ذلك، تتمتّع المؤسسة العسكرية بالسيطرة القانونية والفعلية على المفاصل البيروقراطية المهمة من أجل تحقيق المكاسب المالية، ما أسفر بالتالي عن تقييد عمل النشاط الاقتصادي المدني. فعلى سبيل المثال، يتحكّم المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة، الخاضع عُرفًا لمدير عسكري، جنبًا إلى جنب مع وزارة الدفاع، باستخدام ما يصل إلى 94 في المئة من مساحة الأراضي المصرية. وحتى في الحالات التي لا تؤدي فيها القوات المسلحة دورًا رسميًا في وضع السياسات العامة، فإن مشروعاتها تؤثر بشكل كبير على كيفية تعامل الحكومة مع قضايا الدين الخارجي، والاستثمارات الأجنبية والمحلية، والمدّخرات.

علاوةً على ذلك، تحافظ الاستخبارات العسكرية المصرية ومديرية المخابرات العامة (التي يعمل فيها عدد كبير من العسكريين، وتتبع للرئيس) على شركات "واجهة"، فيما تنخرط "جمهورية الضباط" التي تضمّ آلاف المتقاعدين العسكريين العاملين في الجهاز البيروقراطي المدني، في المتاجرة الداخلية والممارسات الافتراسية، وفي أحيان كثيرة بالاشتراك مع نظرائهم في الخدمة الفعلية. فعلى سبيل المثال، كشف تقرير صدر في كانون الأول/ديسمبر 2022 عن تحقيق المتقاعدين العسكريين ومديرية المخابرات العامة أرباحًا طائلة من تسلّم إدارة مشروع المتحف المصري الكبير، مع العلم بأن المشروع لم يكتمل بعد على الرغم من تلقيه تمويلًا بقيمة 800 مليون دولار من هيئة التعاون الدولي اليابانية (جايكا) منذ العام 2006.

تعزيز القبضة العسكرية

بغضّ النظر عن الميزات التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية في القطاعات الاستراتيجية، يتعيّن عليها في المبدأ تخفيض حصصها أو القيام بالتجريد (أي بيع حصصها أو تصفيتها)، تماشيًا مع خطط الدولة الرامية إلى التخارج من القطاعات غير الاستراتيجية، سواء بشكل كلّي أو جزئي. لكن ما من مؤشرات على أن ذلك سيحدث فعلًا، إذ لم يظهر حتى الآن تخفيضٌ لحضور المؤسسة العسكرية في القطاعات التي تَقَرَّر تخارج الدولة الكامل منها (ومن بينها قطاعات استيراد المواشي، والألبان ومشتقاتها، والتعدين واستغلال المحاجر، وتجارة الجملة، والمرافق الرياضية، والطاقة المتجدّدة، والصناعات المعدنية، والصناعات الكيماوية) أو من تلك التي تَقَرَّر تخارج الدولة الجزئي منها (ومن ضمنها أنشطة الاستزراع السمكي، والزراعة، وتجارة التجزئة، ودباغة الجلود، وصناعة الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات، والصناعات الغذائية والمشروبات، وإعادة تدوير المخلّفات). وبالفعل، يكفي مجرّد إلقاء نظرة سريعة لملاحظة حجم الاستثمارات الجديدة الكبرى في قطاعات تربية المواشي، وتحويل مخلّفات صناعة الجلود، والزراعة والإنتاج الزراعي، واستيراد الدواجن المجمّدة، وإنتاج الذهب بحلول شهر نيسان/أبريل 2023.

لا تزال المؤسسة العسكرية متمسّكة بنشاطها الاقتصادي، على الرغم من الإخفاقات المتكرّرة. فقد عطّل مصنع عسكري ضخم للإسمنت أُنشئ في العام 2018 بتكلفة 1.2 مليار دولار – وهو المصنع الثاني في قطاع مُتخَم أساسًا – الأسواق المدنية منذ بدء تشغيله، علمًا أنه يعمل بأقل بكثير من طاقته الإنتاجية الكاملة. ومن الأمثلة الأخرى مجمّعات تربية الماشية التي تم افتتاحها في العام 2019 بتكلفة بلغت 20 مليار جنيه (حوالى 1.25 مليار دولار)، والتي إما أُغلقت لاحقًا أو لا تزال تعمل لكن بطاقة إنتاجية أقل بكثير، مُتكبّدةً خسائر فادحة. كذلك، استثمرت المؤسسة العسكرية في مشروع طموح للأحياء المائية، سعت في إطاره إلى إنشاء مزارع سمكية بتكلفة أقل من تكلفة السوق ثم بيعها مقابل ربح؛ لكن، بدلًا من ذلك، تجاوزت تكاليف هذا المشروع التكاليف المقرّرة، ويُعزى ذلك جزئيًا على الأقل إلى الفساد المستشري داخل الدهاليز المغلقة للتعاملات التجارية والإدارة المالية العسكرية، ما أسفر عن خسائر تحمّلت أعباءها في نهاية المطاف الخزينة العامة للدولة. قد تستمر المؤسسة العسكرية في مقاومة المقتضيات المالية والإدارية التي تنصّ عليها مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، وذلك لحجب مثل هذه المشاكل والإخفاقات.

لم يردع هذا القصور الشركات والهيئات العسكرية عن إطلاق مشروعات جديدة منذ إصدار المسودّة الأولى من وثيقة سياسة ملكية الدولة. وقد أُعلن عن بعضٍ منها قبل العام 2022، وشملت إنشاء مصانع وخطوط إنتاج لصناعة الأسمدة العضوية، ودباغة الجلود والمواد الكيماوية المستخدمة في الصباغة، والمواد الغذائية، والجيلاتين الصناعي؛ وتركيب أبراج الإرسال والاتصالات؛ وافتتاح مجمّع ضخم لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية والأزوتية. لكن المشروعات الأحدث عهدًا شملت إنشاء مصانع وخطوط إنتاج لتصنيع الضمادات الطبية، واللقاحات والأدوية البيطرية، وإطارات المركبات، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وأنظمة إضاءة بتكنولوجيا الصمام الثنائي الباعث للضوء (LED)، وألواح الطاقة الشمسية، والصوب الزراعية، والألمنيوم، وعبوات المنتجات الغذائية، وبوادئ الاشتعال في محطات توليد الطاقة الكهربائية، واستخراج المعادن الثقيلة من الرمال السوداء. كذلك، أطلقت الهيئات العسكرية خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، وأنشأت ما يُعدّ أكبر مجمّع صناعي لإنتاج البولي-إيثيلين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

مؤسسة عسكرية محصّنة؟

لو تم فعلاً، سيؤثّر التطبيق الكامل لالتزامات الحكومة الواردة في وثيقة سياسة ملكية الدولة تأثيرًا كبيرًا على الشركات العسكرية والهيئات العسكرية الناشطة اقتصاديًا في القطاعات كافة. ومن شأن العمل على تسوية الملعب الاقتصادي في الأسواق المدنية بين القطاعَين الخاص والعام، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، أن يؤدي دورًا مهمًا وأن يسهم إلى حدٍّ بعيد في تحقيق أحد أهداف صندوق النقد الدولي الأساسية. تصف اقتراحات متداولة في المجال العام كيف يمكن للسلطات المصرية العمل مع المؤسسة العسكرية، على إعادة هيكلة أو تجريد شركاتها في المجال المدني وأنشطتها في مجال الإدارة والمشتريات العامة، وكيف يمكن لصندوق النقد الدولي المساعدة في هذه العملية.

ولكن لا توجد أدلة على أن المؤسسة العسكرية تعتزم إبطاء وتيرة مسارها التوسّعي، ناهيك عن الرجوع عنه. ولا سبب يدعو للاعتقاد أن الرئيس أو الحكومة سيُخضعان المؤسسة العسكرية للمساءلة استنادًا إلى الأحكام المنصوص عليها في سياسة ملكية الدولة أو مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، إلا حيثما تصبّ هذه الأحكام في مصلحة المؤسسة العسكرية. أما المؤسسة العسكرية، فقد تحتجّ من جهتها بأن أنشطتها الاقتصادية والتجارية المتواصلة تتوافق مع "المبادئ التوجيهية بشأن حوكمة الشركات المملوكة للدولة"، وهي نقاط مرجعية أصدرتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وتسترشد بها سياسة ملكية الدولة كما ورد في وثيقتها. ولكن هذه الحجّة ستسقط إذا تم تجاهل جميع النقاط المرجعية الأخرى التي وضعتها المنظمة. وهكذا، تبدو الالتزامات الحكومية حول مستقبل الشركات العسكرية مجرّد شكليات.

بغضّ النظر عن كيفية تفسير وثيقة سياسة ملكية الدولة ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، قد تؤدّي الأزمة المالية والاقتصادية في مصر فعليًا إلى تسريع المسار الاقتصادي التوسّعي للمؤسسة العسكرية، من خلال تعزيز الحجج الداعمة لتدخّل الدولة، من جملة أمور أخرى. والحال أن الأزمة، من خلال مفاقمتها مأزق الشركات في القطاعَين العام والخاص على السواء، قد تعزّز موقع المؤسسة العسكرية نسبيًا، فيما تواجه البلاد نقصًا حادًّا في العملات الصعبة والمدّخرات. ولكن إذا فسّرت الحكومة المصرية سياسة ملكية الدولة بأنها تُعفي المؤسسة العسكرية من التخارج من القطاعات الاقتصادية التي تُعتبَر "مُتخَمة"، فسوف يحول ذلك دون توظيف استثمارات خاصة في هذه القطاعات. والأسوأ أن ذلك سيؤدّي إلى استمرار التفكّك المسبِّب للخلل، ويُبقي على الدينامية المنخفضة، ليس فقط في الاقتصاد ككل، إنما أيضًا داخل هذه القطاعات، مثلما حدث فعليًا في قطاعَي الإسمنت والصلب في مصر.

في الحدّ الأدنى، من شأن اعتماد مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية إطارًا أساسيًا للسياسات أن يخفّض عدد العقود التي تُمنَح للمؤسسة العسكرية لتزويد السلع والخدمات من دون تنظيم عطاءات تنافسية عامة. وسوف يؤدّي أيضًا إلى الحدّ من قدرة المؤسسة العسكرية على منح العقود بالأسلوب نفسه، أي على أساس غير تنافسي. وفقًا لمصادر مطّلعة، تستغل المؤسسة العسكرية هذه الورقة في يدها لتحقيق هوامش أرباح تتراوح من 5 إلى 30 في المئة من موازنات المشروعات المموّلة من الحكومة. وكذلك، سيؤول إقرار قانون موحّد للمشتريات العامة، فضلًا عن اعتماد الشفافية المالية، إلى تقليص قدرة المؤسسة العسكرية على اقتناص العقود الحكومية التي يُفترَض أن تكون من نصيب جهات منافسة مدنية في القطاع العام أو الخاص.

أخيرًا وليس آخرًا، لن يؤدّي الإفصاح المالي إلى وضع حدٍّ لنقل أصول الدولة إلى المؤسسة العسكرية فحسب، بل أيضًا إلى زيادة إيرادات الدولة، وسيتيح تحليل التكلفة والعائد الاقتصادي (ما يسمح بوضع دراسات الجدوى واستراتيجيات الاستثمار المعقولة)، ويحدّ من الممارسات التعسفية والافتراسية (بما في ذلك إخفاء المتأخرات أو فرض رسوم غير معقولة مقابل ترخيص الاستخدام المدني لأراضي الدولة). علاوةً على ذلك، من شأن إلغاء إعفاءات المؤسسة العسكرية من الضرائب والرسوم الجمركية، ووضع حدٍّ لتشغيل المجنّدين إلزاميًا، أن يساعدا على "تسوية الملعب" الاقتصادي مع القطاع الخاص، والأهم من ذلك، أن يخضعا المؤسسة العسكرية على نحوٍ لا لبس فيه للقوانين والمحاكم الناظمة للأعمال المدنية في ما يتعلق بجميع أنشطتها في المجال المدني.

في غياب الإرادة السياسية، تُعدَم السبل

هل توجد سبل للبدء في معالجة هذا الوضع، ناهيك عن سبل قابلة للإتمام؟ لقد لفت نائب رئيس الوزراء السابق زياد بهاء الدين إلى أن الحكومة اعتمدت خلال السنوات الماضية الوسائل نفسها لزيادة مشاركة القطاع الخاص، من دون تحقيق أيّ تأثير يُذكَر. لا تكمن المشكلة في أن سُبل المعالجة غير معروفة، أو في أنها غير مُعتمدة رسميًا، بل تكمن في غياب الإرادة والسلطة السياسيتَين اللازمتَين لتنفيذها. فحتى السيسي، الرجل الأقوى نفوذًا في مصر بلا منازع، هو أسير ولاء المؤسسة العسكرية له من منطلق قائم على تبادل المصالح. والدليل على ذلك القرار الذي أصدره في 31 كانون الثاني/يناير 2023 بتصنيف 15,000 كيلومتر مربّع مما يُسمّى "الأراضي الصحراوية" على جانبَي طرقات قومية تمتدّ على طول 3,700 كيلومتر، على أنها "مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية" – ويمنح هذا التصنيف وزارة الدفاع تلقائيًا امتيازًا تجاريًا حصريًا في تلك المناطق. يُشار إلى أن صدور هذا القرار بعد ثلاثة أسابيع فقط من نشر صندوق النقد الدولي النص الكامل لاتفاقه مع الحكومة المصرية يحمل دلالات كثيرة.

نظريًا، قد تدرك المؤسسة العسكرية قيمة التخارج من القطاعات القابلة للتداول (أي السلعية والقابلة للتصدير)، ولكنها لن تُقدِم على ذلك على الأرجح إلا بهدف ترسيخ قبضتها على الأصول غير التجارية والخدمات المرتبطة بها، وتعزيز دورها في إدارة المشاريع العقارية ومشاريع استصلاح الأراضي في مختلف أنحاء البلاد. ولا شك في أن ذلك سيهدّد موقف الحكومة عمومًا أمام صندوق النقد الدولي وحلفائها الخليجيين والمستثمرين الدوليين، ولكن المؤسسة العسكرية لا تزال تعتقد بقوة أن الانتفاع من أصول الدولة، بل ومن الموارد القومية عمومًا، هو استحقاقٌ لها. فبدلًا من أن تقبل بالتخلّي عما تعتبره حقًّا لها، غالب الظن أنها ستضاعف جهودها للتمسك به وتوسيعه – ولن تردعها دعوات السيسي الملحّة والمتكررة للقطاع الخاص كي يزيد حصته الاستثمارية في الاقتصاد (دعمًا للأهداف التي يتوخّاها الرئيس). وحتى لو كان السيسي يفهم هذا المأزق، فهو لن يفرض التغيير على المؤسسة العسكرية قسرًا، لأن ذلك قد يكلّفه رئاسة الجمهورية.

هوامش

1 البيانات غير المحدَّد مصدرها مُستمدّة في الغالب من: يزيد صايغ، "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 14 كانون الأول/ديسمبر 2019،
https://carnegie-mec.org/2019/12/14/ar-pub-80489

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.