المصدر: Getty

كيف يمكن أن يسهم تحسين الحماية الاجتماعية في تعزيز العقد الاجتماعي في لبنان

قد يتمكّن لبنان، من خلال إصلاح نظام الحماية الاجتماعية في البلاد، من معالجة أزمته الاقتصادية الراهنة، ومن استعادة ثقة الشعب بالحكومة.

 حنين السيد
نشرت في ٥ فبراير ٢٠٢٤

يحتاج لبنان إلى إصلاح نظام الحماية الاجتماعية لجميع مواطنيه في المراحل المختلفة من حياتهم. ويجب أن يؤمّن هذا النظام الشامل الحصول على الضمان الاجتماعي، والمساعدة والرعاية الاجتماعيتَين، وبرامج متعلقة بسوق العمل. وينبغي أن يضع أيضًا الأسس اللازمة لإنشاء عقد اجتماعي معزَّز يحلّ مكان العقد الضعيف الذي كان قائمًا قبل العام 2019، والذي كان دور الدولة محدودًا فيه. فحتى تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، حين انهارت الأوضاع المالية في لبنان إثر الاحتجاجات الشعبية ضد القيادة السياسية، كان نظام الحماية الاجتماعية في خدمة القلّة المحظوظة، ولا سيما موظّفي القطاع العام، مقابل تكاليف مرتفعة. أما معظم السكّان، ولا سيما الفقراء والأكثر احتياجًا، فقد تُرِكوا من دون حماية. وكان هؤلاء السكّان المحرومون من الحماية الاجتماعية يتّكلون على المساعدات التي يقدّمها أفراد عائلاتهم المقيمون خارج لبنان، أو على الخدمات التي تؤمّنها منظمات غير حكومية وترتدي في الكثير من الأحيان طابعًا مذهبيًا إذ تحظى بدعم زعماء سياسيين غالبًا ما يستخدمون المساعدات الاجتماعية أداةً للمحسوبيات السياسية.

يعاني لبنان، منذ العام 2019 وحتى الآن، أزمةً مالية واقتصادية متعدّدة الأبعاد صنّفها البنك الدولي بأنها "من ضمن أسوأ عشر أزمات، وربما حتى من ضمن أسوأ ثلاث" أزمات اقتصادية شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. في الواقع، يواجه الاقتصاد حالة انكماش للسنة الخامسة على التوالي، في أعقاب انكماش تراكمي بلغ 37.2 في المئة على مدى أربع سنوات بين العامَين 2018 و2021، إضافةً إلى تراجع كبير في قيمة الليرة اللبنانية، وتضخّم ثلاثي الأرقام، ما تسبّب بتدهور القدرة الشرائية للطبقة الوسطى والسكان الفقراء. ونتيجةً لذلك، ارتفعت مستويات الفقر والحاجة إلى حدٍّ كبير، وبات موظّفو القطاع العام في عداد الفقراء. كذلك، غادر مئات آلاف الشباب والعمّال المهرة البلاد، إذ بلغ صافي أعداد المهاجرين 160,000 شخص في العام 2022، وازدادت الدولة الضعيفة أساسًا ضعفًا، في ظل شحّ الموارد المتاحة وضآلة القدرة المؤسّسية على الاستجابة لهذه الأوضاع.

وهكذا، أصبحت الحاجة إلى نظام حماية اجتماعية منصف وفعّال أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى. لكن على الرغم من التحدّيات الكثيرة، تتيح الأزمة الراهنة فرصةً لإعادة النظر في نموذج الحماية الاجتماعية السابق في لبنان، وإرساء نظام شامل يُبنى على أساسه عقدٌ اجتماعي جديد وأقوى بين المواطنين والدولة.

نظام حماية اجتماعية غير منصف وغير ملائم

تُستخدَم برامج وسياسات الحماية الاجتماعية على نطاق واسع عالميًا لمساعدة الأفراد والمجتمعات على إدارة المخاطر والصدمات، وحماية الأُسر من الفقر وعدم المساواة، وتعزيز استفادة السكان من الفرص الاقتصادية. وتشمل برامج الحماية الاجتماعية الضمان الاجتماعي، مثل المعاشات التقاعدية، والتأمين ضد البطالة، والتأمين الصحي؛ وبرامج المساعدات الاجتماعية وشبكات الأمان، مثل التحويلات النقدية وخدمات الرعاية الاجتماعية؛ وبرامج العمل والإدماج الاقتصادي. وتُعتبَر الحماية الاجتماعية عنصرًا أساسيًا من العقود الاجتماعية في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

قبل العام 2019، كان إنفاق الحكومة اللبنانية على الحماية الاجتماعية مرتفعًا مقارنةً مع مثيله في بلدان الأخرى من العالم العربي، إذ بلغ 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي فيما سجّل متوسّط هذا الإنفاق في البلدان العربية الأخرى 4.6 في المئة. لكن خلال العام 2019، وُجِّهت نسبة 93 في المئة من الإنفاق على الحماية الاجتماعية إلى البرامج التقاعدية للموظفين السابقين في القطاع العام، ولا سيما موظفي الخدمة المدنية والعسكريين، الذين شكّلوا 2 في المئة فقط من مجمل السكان. أما الموظفون في القطاع الخاص الرسمي فقد كانوا يحصلون على تعويض نهاية خدمة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لدى تقاعدهم، ولم تكن قيمته كافية على الإطلاق لتأمين الحماية الخاصة بالشيخوخة. وكانت الحكومة تنفق مبالغ ضئيلة جدًّا على باقي السكان – أي العمّال في القطاع غير الرسمي، والعاطلين عن العمل، والأشخاص غير النَشطين اقتصاديًا – ولم تغطِّ البرامج التي استهدفت الفقراء سوى ما بين 3 و4 في المئة من السكان. بعبارة أخرى، كانت نسبة 5.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي تُنفَق على 2 في المئة من السكان، في حين أن نسبة 0.6 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي كانت تُنفَق على الحماية الاجتماعية لما نسبته 3 إلى 4 في المئة من السكان. أما باقي السكان فلم تشملهم التغطية من البرامج الحكومية، ما يدلّ على نظام رجعي جدًّا لا يحدّ من الفقر بشكلٍ يُذكر.

واقع الحال أن أكثرية الخدمات الاجتماعية في لبنان تؤمّنها جهات غير حكومية، بما فيها المنظمات السياسية والجمعيات الخيرية الدينية، ويُعزى ذلك إلى أسباب تعود إلى الحقبة العثمانية ومرحلة الانتداب الفرنسي (1920-1943)، وكذلك إلى ضعف المؤسسات وعدم فاعلية الحكومات، ولا سيما خلال العقود الأخيرة. تشمل هذه الخدمات الاجتماعية توفير التعليم (ثلثا الطلاب مسجّلون في مدارس خاصة)، والرعاية الصحية (68 في المئة من مراكز الرعاية الصحية الأوّلية مملوكة لمنظمات غير حكومية)، والمساعدات الاجتماعية. طوال عقود، أدّت هذه الحماية الاجتماعية غير الرسمية دور الدولة في العناية بالفقراء، ويجوز القول بأنها أثبتت أنها أكثر فاعلية من الدولة، ولا سيما خلال المراحل التي شهدت شبه انهيار الدولة، مثل فترة الحرب الأهلية بين العامَين 1975 و1990 أو في أعقاب الأزمة المالية والاقتصادية في العام 2019.

لكن هذه الرعاية القائمة على أُسس مذهبية وطائفية أنتجت نظامًا مفكَّكًا وغير منظّم إلى حدٍّ كبير، وأدّت إلى تسييس عملية الحصول على المنافع الاجتماعية. لقد كشف استطلاع وطني نُشِر في كانون الثاني/يناير 2011 عن أن النشاط السياسي اللبناني مرتبط بشدّة بآفاق الحصول على المساعدات الاجتماعية. تبعًا لذلك، يتراجع احتمال تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين الذين ليس لديهم انتماء سياسي، إن لم يعتبرهم أحد الأحزاب السياسية موالين له – وهذا كان على الأرجح حال الأُسر المنخفضة الدخل بصورة أساسية، ما فاقم أوجه التفاوت الاجتماعي. في غضون ذلك، تشير أبحاث كثيرة إلى أن تولّي الجهات غير الحكومية زمام توفير الخدمات الاجتماعية في البلدان التي تعاني من ضعف الدولة، هو أمرٌ يتسبّب بتقويض شرعية الحكومة وتداعي العقد الاجتماعي. إذًا، يؤدّي نظام الحماية الاجتماعية غير الرسمية هذا إلى مفاقمة الزبائنية وشبكات المحسوبية المتأصّلة في البنية الاجتماعية اللبنانية.

من الشوائب الأساسية الأخرى في نظام الحماية الاجتماعية اللبناني عدم توافر نظام معلومات وطني وموحّد، يُعرف بالسجل الاجتماعي ويتضمّن معلومات محدَّثة وخاضعة للتدقيق حول حاجات الأُسر ومتطلّبات الرعاية استنادًا إلى رمز تعريف موحّد لكل مواطن. يستخدم المواطنون في مختلف أنحاء العالم هذه السجلات للتقدّم بطلبات من أجل الاستفادة من البرامج الاجتماعية المختلفة. وتُعدّ هذه السجلات الاجتماعية بمثابة العمود الفقري لنُظم المعلومات التي تتيح للأفراد والأسر التقدّم بالطلبات، والتسجيل، وتحديد أهليّتهم المحتملة للمشاركة في واحد أو أكثر من البرامج الاجتماعية. وهكذا، تسمح هذه السجلات للمواطنين بطلب الدعم مباشرةً من دون تدخّل أطراف ثالثة أو الاستعانة بها، ما يحدّ أيضًا من حالات ازدواجية المساعدة، والفساد، والتعسّف، ناهيك عن أنها تشكّل منصّات قوية لتنسيق السياسات الاجتماعية. في ظل غياب هذه السجلات، تبقى استجابات السياسة العامة مبعثرة، وقاصرة، وغير قادرة على تحديد الأُسر الأكثر حاجةً إلى المساعدة، والوصول إليها على نحو فعّال. قبل العام 2019، لم يكن لبنان يمتلك سجلًّا اجتماعيًا وكان يعتمد على قاعدة بيانات محدودة ويدوية للبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا، وهو برنامج صغير في إطار شبكة الأمان الاجتماعي تنفّذه وزارة الشؤون الاجتماعية، وبالكاد يطال 10,000 أسرة.

نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية التي شهدها لبنان، ازدادت معدّلات الفقر بشكل حادّ، بعد أن كانت مرتفعة أساسًا، ما فاقم بدوره الأزمة الاجتماعية. فبين العامَين 2012 و2019، ارتفعت نسبة الفقر الكلّي من 25.6 في المئة إلى 37 في المئة من السكان، وازداد معدّل الفقر المدقع من 10 إلى 16 في المئة. وتشير التقديرات حول الفقر راهنًا إلى أن الفقر المدقع - أي نسبة الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم – تضاعف ليصل إلى 22 في المئة، فيما يُرجّح أن تكون نسبة الفقر الكلّي قد ارتفعت لتشمل 45 في المئة من السكان. ويعني ذلك عمليًا أن 1.29 مليون شخص يعيشون في حالة فقرٍ مدقع.

وما زاد الأمور سوءًا أن الحكومة الأولى بعد اندلاع الأزمة، برئاسة رئيس الوزراء حسّان دياب، تبنّت سياسات خاطئة في فترة 2020-2021. أولًا، تم استخدام احتياطي العملات الأجنبية المتضائل لدعم استيراد الوقود وسلع أساسية أخرى. وقد استنزف نظام الدعم بسرعة هذا الاحتياطي، فضلًا عن أموال المودعين المحتجزة داخل المصارف اللبنانية. وخلال عهد حكومة دياب الذي دام سنتَين تقريبًا، تم إنفاق ما يتراوح بين 6 و10 مليارات دولار أميركي تقريبًا على برنامج دعم الوقود والسلع الأساسية. وكان لدعم الوقود خصوصًا تأثيرٌ سلبي إلى حدٍّ كبير، إذ صبّ في صالح أصحاب الدخل المرتفع الذين يستهلكون عمومًا كميات أكبر من الوقود. وأدّى نظام الدعم أيضًا إلى تكثيف نشاط تهريب الوقود إلى سورية المجاورة التي كانت فيها أسعار الوقود أعلى بشكل ملحوظ.

وثانيًا، في أواخر العام 2020، وافقت حكومة دياب على عجل على تخصيص 100 مليون دولار تقريبًا لبرنامج مساعدات اجتماعية من أجل توزيع 400,000 ليرة لبنانية نقدًا (أي ما كان يعادل تقريبًا 40 دولار أميركي وفق سعر الصرف في العام 2020) إلى نحو 400,000 أسرة. وقد صُمِّم هذا البرنامج بشكل سيّئ وطُبِّق بشكل عشوائي، بمساعدة الجيش اللبناني الذي لا يملك خبرة في مثل هذه البرامج. وقد طُلب من الجيش التحقّق من أهلية الأُسر لتلقّي هذا المبلغ من خلال زيارات أجراها عناصره إلى المنازل للاستفسار عن مدخول العائلة، وهذه مهمة يتعذّر تطبيقها بشكل عملي وتفتقر حُكمًا إلى الدقة. وقام عناصر الجيش اللبناني بتوزيع المبالغ النقدية إلى المنازل وتسليمها باليد. لكن نظرًا إلى عدم توافر سجل اجتماعي وغياب البنى التحتية الرقمية الضرورية في الحكومة، من المستحيل معرفة كيف تم اختيار الأُسر المُستفيدة، وكيف جرى إنفاق الأموال، وإذا ما حصلت الأُسر المحتاجة على مستحقاتها.

وفي أواخر العام 2020، عرض البنك الدولي خطة انطوت على إنشاء المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي للاستجابة للأزمة وجائحة كوفيد-19، بقيمة 246 مليون دولار، من أجل تقديم المساعدة الاجتماعية للسكان الذين يتّضح أنهم يرزحون تحت خط الفقر المدقع. لكن التأخير الطويل في الموافقة على البرنامج فاقم حدة الأزمة الاجتماعية. وكان السبب الأساسي خلف هذا التأخير عدم استعداد حكومة دياب لتلبية شروط البنك الدولي في إنشاء سجل اجتماعي وطني متكامل والعمل مع جهة ثالثة مستقلة تتولّى مراقبة كيفية استخدام الأموال والتدقيق بالعملية.

مع ذلك، وعلى وقع تفاقم حدّة الأزمة واستمرار تدهور الأوضاع الاجتماعي والمعيشية في العام 2021، وافقت الحكومة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي التي تسلّمت مهامها في تشرين الأول/أكتوبر على إنشاء سجل اجتماعي. وفي الأول من كانون الأول/ديسمبر 2021، بدأ تسجيل أسماء المستفيدين. وتسجّل خلال شهرَين ما يقارب 60 في المئة من اللبنانيين في شبكة "دعم" على المنصة الإلكترونية IMPACT التي تشكّل المنبر المشترك بين الوزارات والبلديات للتقييم والتنسيق والمتابعة. ويُعتبر سجل "دعم" راهنًا حجر الأساس لنظام معلومات متكامل خاص بالحماية الاجتماعية، إذ يفسح المجال أمام كل مواطن بحاجة إلى المساعدة للتسجيل على المنصة، ثم الخضوع للتقييم والتحقّق من معلوماته، والحصول بناءً على ذلك على مساعدة اجتماعية مباشرة من الدولة ومن دون وسطاء. ومن المهم الإشارة إلى أن استبيان شبكة "دعم" وقاعدة بياناتها لا يشملان معلومات متعلّقة بانتماء الفرد الديني، ما يحرم الحكومة والسياسيين من إمكانية التلاعب بالبرنامج لأغراض مذهبية وطائفية.

المسار نحو نظام حماية اجتماعية شامل للجميع في لبنان

لقد خطا لبنان خطواته الأولى نحو إرساء الأسس الضرورية لإنشاء نظام حماية اجتماعية شامل. واليوم، تحصل أكثر من 145,000 أسرة لبنانية تعيش في حالة فقر مدقع على مساعدات نقدية شهرية عبر دفعات إلكترونية مباشرة من خلال برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الطارئة والبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا. لكن يتعيّن بذل جهود أكبر بكثير في هذا الإطار. فمن خلال اتّخاذ عدد من التدابير الأساسية، ستصبح السلطات اللبنانية على المسار الصحيح نحو إرساء أسس عقد اجتماعي جديد للبنان.

أولًا، لا بدّ من توسيع نطاق تغطية نظام الحماية الاجتماعية، ومنح الأولوية للأُسر الفقيرة والأكثر احتياجًا، قبل الانتقال تدريجيًا إلى فئات أخرى من المجتمع. ويتعيّن على لبنان، تبعًا للموارد المالية المتاحة، توسيع نطاق تغطية المساعدات الاجتماعية من نحو 145,000 أسرة راهنًا إلى جميع الأُسر التي تعيش في فقر مدقع على الأقل، والتي يبلغ عددها 220,000 أسرة تقريبًا. علاوةً على ذلك، تحتاج مجموعات سكانية أخرى إلى المساعدة أيضًا، ومن بينها الأشخاص ذوو الإعاقة وكبار السن.

وثانيًا، في ما يتعلق بتوسيع نطاق تغطية نظام الحماية الاجتماعية، لا بدّ من زيادة الإنفاق العام على المساعدات الاجتماعية، على غرار التحويلات النقدية وخدمات الرعاية الاجتماعية. ويجب إيلاء الأولوية إلى الفئات السكانية الأكثر احتياجًا قبل توسيع نطاق التغطية تدريجيًا. وتماشيًا مع المتوسط العالمي للإنفاق على المساعدة الاجتماعية، ينبغي أن يتراوح هذا الرقم بين 1.5 و2.0 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، مقارنةً مع نسبة 0.11 في المئة التي سجّلها لبنان قبل الأزمة. ولكي تكون مثل هذه الزيادة قابلة للتطبيق، يتعيّن على السلطات تخصيص حيّز مالي في الموازنة من خلال الابتعاد عن الإعانات الشاملة والتحويلات، مثل تلك المخصّصة لشركة كهرباء لبنان الوطنية التي تتكبّد الخسائر، والتركيز بدلًا من ذلك على البرامج الموجّهة. ويتعيّن عليها أيضًا تطبيق إصلاحات ضريبية تؤدي إلى توسيع القاعدة الضريبية، وسدّ الثغرات، وتحسين الامتثال الضريبي في أوساط جميع دافعي الضرائب. ويشمل ذلك فرض ضرائب مباشرة وموجّهة وتصاعدية، وإعادة النظر في سياسات الإعفاءات التي تُفيد بشكل أساسي الأفراد الأثرياء والمؤسسات.

وثالثًا، ينبغي على الدولة وضع نظام تقاعد وطني يوفّر تغطية منصفة لجميع العاملين، ويجب تحويل برنامج الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المتعلق بتعويض نهاية الخدمة إلى نظام مماثل عبر تشريع جديد، وذلك لتغطية العاملين في القطاع الخاص بعد التقاعد، وتوفير الحماية المناسبة في الشيخوخة. في غضون ذلك، ينبغي إصلاح نظام التقاعد الحالي في القطاع العام لضمان استدامته على الصعيد المالي، ويجب دمج نظامَي التقاعد للقطاعَين العام والخاص بشكل تدريجي في نظام وطني موحّد ومتكامل لجميع العاملين، بصرف النظر عن وضعهم الوظيفي. أخيرًا، لا بدّ من إصلاح إدارة نظام التقاعد بشكل يُفضي إلى إلغاء الزبائنية والممارسات الفاسدة، بدءًا من تغيير أعضاء مجلس إدارة ومدراء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومرورًا بإجراء عمليات تدقيق سنوية في حسابات الصندوق المالية، ووصولًا إلى أتمتة إجراءات نظام التقاعد.

ورابعًا، على صنّاع السياسات الانطلاق من سجل "دعم" لتطبيق برامج مساعدة اجتماعية وأيضًا برامج حماية اجتماعية أخرى. والخطوة الأولى في هذا الصدد هي أن تعمد جميع برامج المساعدة الاجتماعية الحكومية (على غرار البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا، وشبكة الأمان الاجتماعي الطارئة، والمنح المقدّمة للفئات الأكثر احتياجًا، وغيرها) إلى استخدام سجل "دعم". أما الخطوة الثانية فتشمل ربط قواعد بيانات وزارتَي الصحة، والتربية والتعليم، بسجل "دعم" من أجل تحديد المستفيدين من برامج أخرى، إضافةً إلى إجراء مراجعة وتدقيق لتجنّب ازدواجية المساعدة للمستفيد الواحد. وفي مرحلة لاحقة، يمكن أيضًا ربط قواعد بيانات كلٍّ من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ووزارتَي المالية، والعمل، بسجل "دعم". وهكذا، يمكن أن يحدّ لبنان من ازدواجية المساعدة، ويخفّض تكاليف برامجه الاجتماعية من خلال إرساء نظام رقمي متكامل مع سجل اجتماعي وطني، وبطاقات هوية رقمية، وأنظمة دفع. ويجب أن يتقيّد السجل الاجتماعي بالمعايير الدولية على مستويات عدة، منها الحفاظ على خصوصية البيانات، وأمنها، وتحقيق الحوكمة الرشيدة، وأن يحدّد كيفية إدارة البيانات ومن يديرها. ولا بدّ أيضًا من ضمان سلامة تخزين البيانات، وإرساء نظام تدقيق خارجي للإشراف على تطبيق المعايير الأمنية اللازمة، من جملة تدابير أخرى. وتُعدّ هذه الخطوات أساسية لحماية النظام من التدخلات السياسية.

وخامسًا، على لبنان الاستثمار في إنتاج بيانات أساسية لعملية صنع السياسات التي تستند إلى الأدلة، ولا سيما البيانات التي توفّر معلومات تمثيلية حول مستويات المعيشة، وأوجه التفاوت، ومعدّل الفقر في أوساط السكان. تُعدّ هذه البيانات التي يتم جمعها عادةً من خلال استطلاعات تمثيلية كبيرة للأُسر على الصعيد الوطني، بالغة الأهمية من أجل تصميم برامج الحماية الاجتماعية ورصدها وتقييم تأثيرها. يُصنَّف لبنان من بين أكثر الدول التي "تفتقر إلى البيانات" في العالم، إذ إنه لا يُجري استطلاعات دورية لقياس معدّل الفقر، مع الإشارة إلى أن آخر استطلاع رسمي حول الفقر في البلاد أُجري في العام 2011.

خاتمة

تشتدّ حاجة لبنان إلى نظام حماية اجتماعية شامل مع تغطية واسعة، يكون منصفًا وفعّالًا وشفافًا ومستدامًا على الصعيد المالي. ومن خلال اعتماد التدابير المُقترحة أعلاه، يمكن أن تشرع البلاد في تحسين الرعاية الاجتماعية لمواطنيها، وفي تحقيق تعافٍ سليم من أزمتها الراهنة. وقد تسهم التحسينات في مجال الرعاية الاجتماعية من خلال برامج الحماية الاجتماعية في التوصّل إلى نتائج تُفضي إلى بناء الدولة، ويُعزى سبب ذلك إلى أن هذه الخدمات هي بمثابة خط تواصل ومحاسبة مباشر بين الحكومات والمواطنين، ما يساعد في ترميم العلاقة المتصدّعة بين الدولة والشعب، وهو أمرٌ يُعتبر لبنان في أمسّ الحاجة إليه اليوم.

حين طُرح السؤال على اللبنانيين حول ما يريدونه، أجابوا بأنهم يرغبون في إرساء عقد اجتماعي أقوى مع الدولة. يرى السواد الأعظم من اللبنانيين أن المسؤولية الكبرى في مساعدة الفقراء تقع على عاتق الحكومة، التي يتعيّن عليها توفير شبكات الأمان الاجتماعي للفئات المُحتاجة. ويولي المواطنون أيضًا الأولوية لوظيفة الدولة المتمثّلة في توفير الخدمات، أكثر من وظائفها الأخرى، على غرار ضمان المشاركة السياسية وإرساء الأمن. لذا، يمكن إدراج عملية بناء دولة قوية وتوطيد الروابط بين الدولة والمجتمع في صُلب عقدٍ اجتماعي جديد يتميّز بدور أكبر للدولة في تأمين الحماية الاجتماعية وتمويلها.

في غضون ذلك، يمكن الحفاظ على دور الجهات غير الحكومية في توفير الخدمات الاجتماعية، لكن لا بدّ من تنظيم هذه العملية بشكل أفضل. علاوةً على ذلك، يجب التنسيق بين الدولة والجهات غير الحكومية في توفير الخدمات الاجتماعية من خلال أدوات مثل السجلات الاجتماعية، وذلك للربط بين قواعد بيانات مختلف الأطراف. إذًا، حين يتم إرساء نظام حماية اجتماعية شامل للجميع، قد يبدأ اللبنانيون، ولا سيما السكان الفقراء والأكثر احتياجًا، في استعادة ثقتهم بالدولة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.