المصدر: Getty

مجلس التعاون الخليجي والتعددية القطبية: من أنماط التجارة المتغيّرة إلى تحالفات مالية ودبلوماسية جديدة

وجّه مجلس التعاون الخليجي تركيز صادراته من موارد الطاقة نحو آسيا، ولا سيما الهند والصين، في إطار تحوّل أكبر تسعى خلاله دول الخليج إلى توسيع نطاق تحالفاتها الجيوسياسية بعيدًا من الغرب.

 ألكسندر كاتب
نشرت في ١٣ يونيو ٢٠٢٤

مقدّمة

حوّلت دول عدّة في مجلس التعاون الخليجي، على مدى السنوات العشرين الماضية، تركيز صادراتها من موارد الطاقة نحو الاقتصادات الناشئة في آسيا، ولا سيما نحو الصين والهند اللتَين شهدتا ارتفاعًا كبيرًا في الطلب على النفط والغاز. كذلك، زادت دول مجلس التعاون الخليجي وارداتها من مناطق مثل شرق آسيا وجنوبها وجنوب شرقها. ويُعدّ هذا التغيير في أنماط التجارة جزءًا من تحوّل أوسع نطاقًا. فبعد اعتماد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الدولتَين الرائدتَين في مجلس التعاون الخليجي، تاريخيًا على الغرب لضمان أمنهما، تَعمَدان في الوقت الراهن على توسيع نطاق تحالفاتهما الجيوسياسية.

ومن المستبعد أن تتراجع وتيرة هذا المنحى، بل على العكس ستتسارع على الأرجح. فدول مجلس التعاون الخليجي تبدو حريصةً على مواصلة خفض اعتمادها على الدولار الأميركي في التعاملات التجارية والأصول الدولية، وتسعى في موازاة ذلك إلى تعزيز علاقاتها المالية مع دول مجموعة بريكس. تتيح هذه التغييرات فرصًا جديدة أمام دول مجلس التعاون الخليجي، وتطرح في الوقت نفسه مخاطر محتملة لها.

توجّه تجارة دول مجلس التعاون الخليجي شرقًا

أرست دول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات القليلة الماضية مزيدًا من التوازن في صادراتها النفطية، بعيدًا من الغرب وأقرب إلى الاقتصادات الناشئة في آسيا. وقد تأثّرت هذه العملية بعوامل عدّة، من ضمنها ارتفاع الطلب على الطاقة في الصين والهند، وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي والدول الآسيوية، وتحقيق الولايات المتحدة وكندا قدرًا أكبر من الاكتفاء الذاتي في إنتاج النفط، فضلًا عن تراجع الطلب على النفط في أوروبا الغربية.

يُعدّ نمو التجارة مع آسيا، ولا سيما مع الصين والهند، التطوّر الأهم على هذا الصعيد. فآسيا ككُل تستهلك راهنًا أكثر من 70 في المئة من إجمالي صادرات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط والغاز، وتستحوذ الصين وحدها على 20 في المئة منها. وبحلول العام 2023، كانت الهند قد أصبحت ثاني أكبر مستورد صافٍ للنفط الخام في العالم بعد الصين، إذ زادت وارداتها خلال عقدٍ من الزمن بنسبة 36 في المئة من أجل تلبية استهلاك مصافي النفط المتنامي. في الوقت الراهن، تستهلك الدول الأعضاء في رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، ومن بينها الهند، 15 في المئة من إجمالي صادرات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط والغاز. وتستحوذ اليابان بدورها على نسبة 15 في المئة. أما حصة كلٍّ من رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وكوريا الجنوبية فتمثّل 10 في المئة تقريبًا من إجمالي صادرات دول مجلس التعاون الخليجي من موارد الطاقة.

يُتوقّع أن تبقى آسيا أكبر وجهة للصادرات النفطية من دول مجلس التعاون الخليجي في المستقبل المنظور. ويُقدّر أن تصبح الهند أكبر مَصدر للطلب العالمي على النفط بحلول العام 2030. لكن الاعتماد المتزايد على وسائل النقل الكهربائية، ولا سيما في دول شرق آسيا، مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان، قد يسهم في إبطاء معدّل نمو استخدام المنتجات النفطية في المنطقة. مع ذلك، ثمة حالة من اللايقين حول وتيرة ونطاق الانتقال من المركبات ذات محرّكات الاحتراق الداخلي إلى المركبات الكهربائية. وتُعدّ المركبات الهجينة بمثابة حل وسط، ما يعني أن استيراد النفط الخام سيستمر لعقودٍ على الأرجح.

في الوقت نفسه، من المتوقّع أن يواصل الطلب على الغاز الطبيعي في آسيا ارتفاعه. فمن جهة، تزداد باطّرادٍ حاجة الدول النامية في جميع أنحاء المنطقة إلى توليد الطاقة. ومن جهة أخرى، تعني القدرة المحدودة على توسيع نطاق استخدام مصادر الطاقة المتجدّدة في ظل غياب الاستثمارات الضخمة التي تشتدّ الحاجة إليها لتحديث ورقمنة الأنظمة القديمة لنقل الطاقة وتوزيعها، أن الغاز الطبيعي سيواصل دوره الأساسي كوقودٍ انتقالي خلال عملية استبدال الفحم بمصادر الطاقة المتجدّدة. ويُرجَّح أيضًا أن يحافظ على مكانته كمادة وسيطة في قطاعات مختلفة، بدءًا من إنتاج الأسمدة ووصولًا إلى صناعة الصلب.

على سبيل المثال، يُتوقّع أن يصل طلب الصين على الغاز الطبيعي إلى 700 مليار متر مكعّب بحلول العام 2050، أي ما يقارب ضعف المستوى المُسجَّل في العام 2021 والبالغ 360 مليار متر مكعّب. هذا النمو مدفوعٌ بعوامل عدّة، مثل التوسع الاقتصادي والتمدّن والتحوّل من الفحم إلى الغاز. ووفقًا لمنتدى الدول المُصدّرة للغاز، يمكن أن تشهد منطقة آسيا والمحيط الهادئ ككُل ارتفاعًا كبيرًا في استهلاك الغاز الطبيعي، ليبلغ إجمالي الكميات التي تستهلكها أكثر من 1600 مليار متر مكعّب بحلول العام 2050، ما يشكّل زيادةً ملحوظة عن مستوى 600 مليار متر مكعب المُسجَّل في العام 2021.

علاوةً على ذلك، شهدت العلاقة بين كبار الدول المُستهلكة للطاقة في آسيا، مثل الصين، ودول الخليج تغيّرات تدريجية، إذ تحوّلت من تجارة تبادلية إلى استثمارات أجنبية مباشرة مشتركة واسعة النطاق في مصادر الوقود الأحفوري التقليدية والطاقة المتجدّدة. مثلًا، تسعى شركة أرامكو السعودية، وهي أكبر مُصدّر للنفط في العالم، إلى إبرام اتفاقات في مجال تكرير النفط وتصنيع المواد الكيميائية في آسيا لتوسيع نطاق أعمالها وتأمين مشترين للنفط الخام على المدى الطويل. وتشمل هذه الجهود مشاريع مشتركة في الصين مع شركات خاصة أو مملوكة للدولة على السواء، من ضمنها شركة أرامكو هواجين للبتروكيميائيات، وشركة فوجيان للتكرير والبتروكيميائيات وشركة سينوبك.

وفي إطار هذه المساعي، تعهّدت السعودية وشركة بترول أبو ظبي الوطنية الإماراتية (أدنوك) بتمويل مشاريع ضخمة بمليارات الدولارات من أجل تطوير قطاع النفط والغاز في الهند في مرحلة معالجة المنتجات وتكريرها وتوزيعها. وعلى الرغم من أن معظم هذه المشاريع واجهت انتكاسات، لا يزال الدور المتنامي الذي تضطلع به الهند كمستورد للنفط الخام، وكمُستهلك ومُصدّر للمنتجات البتروكيميائية يجذب اهتمام المستثمرين من دول مجلس التعاون الخليجي بشكل كبير. وفي الوقت نفسه، عزّزت الشركات الصينية مشاركتها في مشاريع الطاقة المتجدّدة بالتعاون مع شركات متخصّصة في هذا المجال من دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار شركتَي "أكوا باور" السعودية و"مصدر" الإماراتية، اللتَين تعملان على السواء في دول مجلس التعاون الخليجي ودول في آسيا الوسطى تقع ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية.

كذلك، شهدت التبادلات التجارية غير النفطية بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا نموًا مطّردًا، ولا سيما على صعيد الاستيراد، ما يعكس توجّهًا عالميًا تزيد فيه الدول وارداتها من آسيا، وعلى وجه الخصوص من الصين التي أصبحت أكبر شريك استيراد لدول مجلس التعاون الخليجي. ففي العام 2021، بلغت حصة الصين من إجمالي التبادل التجاري الخارجي لدولة الإمارات 11.7 في المئة، ووصلت قيمة التبادلات التجارية غير النفطية بين الدولتَين إلى 58 مليار دولار، ما يمثّل نموًا بنسبة 27 في المئة عن العام 2020 وبنسبة 19.8 في المئة عن العام 2019. وتشمل السلع الأساسية غير النفطية المُصدَّرة إلى الصين المنتجات الكيميائية والمواد البلاستيكية والمطّاط والمعادن. إضافةً إلى ذلك، تُعدّ خدمات السياحة والسفر من صادرات دول مجلس التعاون الخليجي إلى الصين. ففي العام 2019 مثلًا، كانت الصين خامس أكبر سوق مُصدّرة للسياح إلى دبي.

من جهة أخرى، تُعدّ دول مجلس التعاون الخليجي أكبر شريك تجاري إقليمي للهند. ففي السنة المالية 2022-2023، بلغ حجم التبادل التجاري للهند مع دول مجلس التعاون 15.8 في المئة من إجمالي التبادلات التجارية للبلاد، مقارنةً مع 11.6 في المئة مع الاتحاد الأوروبي. صحيحٌ أن المنتجات النفطية تحتل حصة كبيرة من هذه التبادلات، إلّا أن دول مجلس التعاون الخليجي احتلّت أيضًا المرتبة الثالثة من حيث التبادلات التجارية غير النفطية مع الهند، بعد منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية والاتحاد الأوروبي على التوالي، إذ بلغت 10 في المئة من التبادلات التجارية غير النفطية للبلاد. وتُعدّ الإمارات الشريك الأبرز للهند ضمن دول الخليج، وثالث أكبر شريك تجاري لها، تليها السعودية في المرتبة الرابعة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، تمّ الإعلان عن اتفاق لإقامة منطقة تجارة حرة بين دول الخليج والهند، بيد أن المفاوضات حول البنود لم تُحسم بعد.

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، ازداد انخراط روسيا في التبادلات التجارية النفطية بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا. وأدّى فرض الحظر الغربي على منتجات الطاقة الروسية إلى انتقال تجّار النفط والسلع الأساسية من لندن وجنيف إلى دبي، التي أبقت على تعاملاتها مع الشركات الروسية. وهكذا، نشأت شبكة من المصالح المشتركة تضمّ دبي والرياض ومومباي وسنغافورة وهونغ كونغ وشنغهاي وموسكو. واقع الحال أن اعتماد الهند على صادرات الطاقة من دول الخليج تراجع في العام 2022 مؤقتًا، حين بدأت نيو دلهي باستيراد النفط الروسي بسعر مخفّض مباشرةً. وفي فترة 2022-2023، أمّنت منطقة الخليج 55 في المئة من إجمالي طلب الهند على النفط الخام، ما شكّل تراجعًا عن نسبة 64 في المئة المُسجّلة في 2021-2022.

مع ذلك، تراجعت الواردات النفطية المباشرة للهند من روسيا خلال العام 2023 والأشهر القليلة الأولى من العام 2024، وازدادت وارداتها من دول الخليج إلى حدٍّ ما. قد يُعزى ذلك ربما إلى أن الصفقات المقدّمة من منتجي النفط الروس إلى عملائهم من الهند لم تَعد مغرية جدًّا، إضافةً إلى مخاوف نيو دلهي من فرض الولايات المتحدة وحلفائها عقوبات ثانوية عليها. في هذا الإطار، لفتت تقارير إلى ارتفاع حجم التبادلات التجارية النفطية الثلاثية بين شركات نفط روسية، وتجّار في دبي، ومشترين في الهند والصين (شنغهاي وهونغ كونغ) وسنغافورة. وتشير معلومات متناقلة إلى أن منتجي النفط الروس يستعينون على نحو متزايد بشركات وهمية تقع في هونع كونع ودبي لإجراء تعاملاتهم مع الهند، وعملائهم الآسيويين الآخرين على الأرجح، وذلك للتملّص من العقوبات والقيود التي فرضتها مجموعة الدول السبع.

يمكن القول إن العقوبات الغربية على روسيا سرّعت نشوء ممرّات غير غربية لتجارة النفط وتشكيل تحالفات مرتبطة بها. وتشير اقتصاديات التركّز الجغرافي إلى أن دبي، بصرف النظر عن مسار الصراع بين روسيا وأوكرانيا، قادرة على أن تحل بصورة دائمة محل جنيف كأكبر مركز لتجارة النفط في العالم. لا شكّ في أن بناء شبكة معقّدة من مقدّمي الخدمات والمورّدين والعملاء من أجل إدارة تجارة السلع الأساسية بكفاءة يستغرق سنوات، لكن مجرّد إنشاء مثل هذه الشبكة سيزيد من القدرة على جذب الوافدين الجدد. علاوةً على ذلك، لا بدّ من أن يكون أي مركز للتبادلات التجارية محصّنًا ضدّ العقوبات، وهو وضع يضمنه في معظم الأحيان موقف الحياد السياسي الذي يتبنّاه البلد المضيف. كانت هذه المواصفات تنطبق على جنيف، لكن حين باشرت سويسرا تطبيق العقوبات التي فرضتها مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي على روسيا، بدأ تجّار السلع الأساسية، الكبار والصغار على السواء، بنقل تعاملاتهم التجارية المرتبطة بكيانات روسية إلى دبي.

توجّه دول مجلس التعاون الخليجي الأوسع بعيدًا من عالم متمحور حول الغرب

تلقّت السعودية والإمارات خلال قمة مجموعة بريكس الموسّعة، التي عُقِدَت في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، في آب/أغسطس 2023، دعوةً للانضمام إلى هذه المنظمة الحكومية الدولية. ويُتوقَّع أن يستفيد مجلس التعاون الخليجي ككلّ من انضمام الدولتَين الأبرز فيه إلى مجموعة بريكس الموسّعة، نظرًا إلى دورها المتعاظم ضمن مجموعة الدول العشرين كقوة موازنة لمجموعة الدول السبع. فمن شأن هذا التطوّر أن يمنح المزيد من المصداقية والنفوذ لمجلس التعاون الخليجي ودوله الأعضاء في مجال تشكيل الأجندات الاقتصادية والسياسية العالمية.

الواقع أن لكلٍّ من السعودية والإمارات أسبابه الخاصة للانضمام إلى مجموعة بريكس الموسّعة. فصحيحٌ أن الإمارات لا تمتلك اقتصادًا بقيمة تريليون دولار، إلا أن دعوتها للانضمام إلى هذه المجموعة تُعَدّ شهادةً على المكانة التي تتمتّع بها بوصفها مركزًا تجاريًا عالميًا، إذ تؤدّي دورًا كبيرًا في مجالات الطاقة والتجارة والتمويل على المستوى العالمي. أما في ما يتعلّق بالسعودية، فانضمامها إلى مجموعة بريكس الموسّعة يعني أنها تتحوّل من تحالفها مع الولايات المتحدة بصورة أساسية لتصبح قوة إقليمية مستقلّة، وزعيمة فعلية لمجلس التعاون الخليجي والعالم العربي. وفي تاريخ كتابة هذه السطور، كانت الإمارات قد قبلت الدعوة، إلّا أن السعودية لم تقبلها أو ترفضها رسميًا بعد.

في حال بدأت دول مجلس التعاون الخليجي الانضمام إلى مجموعة بريكس الموسّعة، فمن شأن ذلك مساعدة المجموعة في سعيها المُعلَن إلى اعتماد بديل للدولار الأميركي كعملة عالمية رائدة في نهاية المطاف. ومن المُحتمل أن تُعيد دول مجلس التعاون الخليجي توجيه بعضٍ من احتياطياتها المالية الكبيرة بعيدًا من الدولار لدعم اتحاد مقاصة خاص بمجموعة بريكس الموسّعة، وفي نهاية المطاف إنشاء عملة مشتركة للبريكس. ومع أن هذه العملة لا تزال احتمالًا بعيدًا، قد يؤدّي إصدارها إلى تحويل المشهد المالي العالمي. في المدى القريب، تتوخّى المجموعة هدفًا أقلّ طموحًا يتمثّل في إنشاء نظام دفع بالجملة والتجزئة لدولها الأعضاء، يتمتع بميزة الاكتفاء الذاتي، وتستخدم بموجبه هذه الدول عملاتها الخاصة بدلًا من الاعتماد على الدولار في التحويلات بين العملات الوطنية.

تحاكي هذه الخطوة تجاربَ سابقةَ لاتحادات المقاصة الدولية، مثل اتحاد المدفوعات الأوروبي الذي سعى بنجاح عقب الحرب العالمية الثانية إلى تسهيل آليات المقاصة والتسوية في الأسواق المالية بين الدول الأوروبية المعنيّة، مع تقليل الاعتماد على السيولة بالدولار. ونظرًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وما تلاها من استخدام الدولار كسلاح من خلال فرض قيود شاملة على وصول النظام المصرفي الروسي إلى السيولة بالدولار، وتجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي من الدولار واليورو، أصبحت أجندة التخلّص من الدولرة أكثر أهميةً للكثير من البلدان. وإذا لم يُحرَز أيّ تقدّم على مستوى مجموعة العشرين في إنشاء عملة احتياطية دولية حقيقية، وهو ما جرى التفكير فيه لفترة وجيزة في أعقاب الأزمة المالية في العامَين 2007-2008، فإن حافز مجموعة بريكس الموسّعة لإنشاء نظام دفع ومقاصة خاص بها سيكون أكبر حتى.

يتزامن اهتمام دول مجلس التعاون الخليجي بمثل هذا النظام مع الخطوات التي اتّخذتها مؤخّرًا نحو تسوية مدفوعات شحناتها من النفط والغاز إلى الصين والهند بالرنمينبي الصيني (الذي غالبًا ما يُشار إليه باليوان)، والدرهم الإماراتي على التوالي. إن احتمال طرح "البترويوان" على غرار "البترودولار" التاريخي قد لا يتحقّق أبدًا، نظرًا إلى طبيعة النظام المالي الصيني الموجّه نحو الداخل، وتنويع صادرات النفط من دول مجلس التعاون الخليجي إلى دول آسيوية أخرى، والمخاوف المرتبطة بالهيمنة الصينية على مجموعة بريكس الموسّعة. مع ذلك، قد تصبح عملة خاصة بمجموعة بريكس الموسّعة مدعومة بالذهب والنفط بديلًا ناجعًا للدولار كوحدة حساب، ووسيلة للتبادل، وفي نهاية المطاف كمخزن موثوق للقيمة.

يمكن استخدام التقنيات الرقمية، ولا سيما العملات الرقمية للبنوك المركزية، من أجل تسهيل إنشاء عملة خاصة بمجموعة بريكس الموسّعة، وتوطيد الروابط الاقتصادية بين الدول الأعضاء، بما فيها الإمارات والسعودية (شرط أن تؤكّد هذه الأخيرة انضمامها إلى المجموعة). ويجري العمل الآن على إعداد البراهين اللازمة لإثبات جدوى هذه المساعي، وهي تشمل مشروع "الجسر" الأول للعملات الرقمية للبنوك المركزية العابر للحدود بين دول عدّة (mBridge)، الذي صمّمه مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي إلى جانب سلطة النقد في هونغ كونغ، والبنك المركزي التايلندي، ومعهد أبحاث العملات الرقمية التابع لبنك الشعب الصيني. وقد خضعت منصّة "الجسر" (mBridge)، التي تربط مباشرةً العملات الرقمية للبنوك المركزية في مختلف الدول، إلى اختبار ناجح على مدى ستة أسابيع من 15 آب/أغسطس إلى 23 أيلول/سبتمبر 2022، من خلال تجربة تتضمّن معاملات ذات قيمة حقيقية تركّز على التجارة الدولية.

ومن المسائل المهمّة التي لا بدّ من معالجتها، في ضوء هذه التطوّرات كلها، مسألة التطوّر المحتمل لنظام سعر الصرف الذي تستخدمه دول مجلس التعاون الخليجي. فما عدا الكويت، التي أعادت وضع نظام تعويم موجَّه في العام 2007، تُعَدّ دول مجلس التعاون الخمس الأخرى من بين بلدان قليلة في العالم لا تزال تربط عملاتها رسميًا بالدولار الأميركي. يمكن القول إن الإبقاء على هذا الربط ينطوي على بعض المنافع، إذ يؤمّن الاستقرار والوضوح للمستثمرين، ولكنه يقيّد أيضًا خيارات السياسة النقدية، ويحدّ من قدرة البلد على الاستجابة بفعالية للظروف الاقتصادية الداخلية والخارجية المتغيّرة. فضلًا عن ذلك، قد يتطلّب طموح السعودية بأن تصبح مركزًا صناعيًا المزيدَ من المرونة في نظام سعر الصرف الخاص بها، ولا سيما خلال فترات ارتفاع قيمة الدولار. فمن شأن الانتقال إلى سياسات نقدية أكثر قدرةً على التكيّف، مثل سعر صرف متحرّك ضمن حدود معيّنة أو تعويم موجَّه، أن يفيد دول مجلس التعاون الخليجي في عالمٍ يصبح متعدّد الأقطاب أكثر فأكثر. ونظرًا إلى احتياطيات هذه الدول الرسمية وأصولها المالية الكبيرة في الخارج، التي يبلغ مجموعها الصافي 3 تريليون دولار (أي ما يعادل احتياطيات الصين الرسمية)، قد يسرّع هذا الانتقال عملية تنويع احتياطيات النقد الأجنبي بعيدًا من الدولار، ويشكّل حافزًا للتخلّص من الدولرة.

إن تحدّي الوضع القائم من منظور الاقتصاد السياسي ليس بالأمر السهل، ومع ذلك تشير تجربة الكويت في اعتماد ربط موجَّه مقابل مجموعةٍ من العملات تعكس بصورة أفضل تكوين شركائها التجاريين، إلى أنّ تحوّلًا في نظام سعر الصرف لدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى قد لا يكون مُجديًا فحسب، بل من المستحسن أيضًا، حتى لمصدّري السلع الأساسية. الجدير ذكره أن الكويت اعتمدت ربط عملتها بالدولار لفترة وجيزة بين العامَين 2002 و2007، بموجب ترتيبات التحوّل نحو عملة موحّدة لدول مجلس التعاون الخليجي. لكن نتيجة السياسة النقدية التيسيرية التي اتّبعتها الولايات المتحدة في تلك الفترة، واجهت الكويت تحدّيات مثل ارتفاع التضخّم وتأثير انخفاض قيمة الدولار على حسابها الجاري. وبعد أن عُلِّق مشروع العملة الموحّدة لدول مجلس التعاون الخليجي، عادت الكويت إلى نظام الربط الموجَّه.

والأهمّ من ذلك ربما هو أن دول مجلس التعاون الخليجي، بتحدّيها الوضع القائم، يمكن أن تحيي مشروع العملة الموحّدة، وتحاكي تجربة سنغافورة الناجحة. فنظام التعويم الموجَّه الذي تعتمده هذه الأخيرة عمل كأداةٍ فعّالةٍ لمكافحة التضخّم، وساعد هذه المدينة الدولة على تخفيف التأثيرات السلبية الناجمة عن التقلّبات قصيرة الأجل على اقتصادها الحقيقي. وبفضل البيئة التنظيمية الدينامية الصديقة للأعمال في سنغافورة، جذب هذا النهج أيضًا المستثمرين الأجانب في مجالَي الصناعات المتطوّرة والخدمات.

خاتمة

طوال عقود من الزمن، جمعت دول مجلس التعاون الخليجي علاقة مميّزة بالولايات المتحدة. لكن النخب السياسية والاقتصادية الجديدة في هذه الدول باتت الآن أكثر حزمًا وأكثر إدراكًا للمشهد العالمي المتغيّر. صحيحٌ أنها تسعى إلى الحفاظ على علاقة جيّدة مع الولايات المتحدة، إلّا أنها تُدرك جيّدًا تحوّل العالم بعيدًا من الأحادية القطبية. إن العوامل التي تُقيّد الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي - التي لم تتحوّل إلى تحالف عسكري متكامل أو اتفاق أمني شامل – ناهيك عن القناعة بأن جهات محلية يجب أن تتولّى إدارة الأمن الإقليمي، تدفع دول الخليج إلى إعادة النظر في تحالفاتها الدبلوماسية وسياساتها الاقتصادية. في هذا الإطار، قد تمكّنها علاقاتها المتنامية مع مجموعة بريكس الموسّعة من المشاركة في بلورة أدوات تجارية ومالية جديدة قد تحل في نهاية المطاف محل النظام النقدي والمالي الدولي القائم حاليًا والمرتكز على الدولار الأميركي.

مع ذلك، تنطوي مثل هذه الخطوة على مخاطر قد تحمل تداعيات جيوسياسية واقتصادية. وبينما تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على تنويع اقتصاداتها استعدادًا لحقبة ما بعد النفط، ستحتاج على نحو متزايد إلى استيراد التقنيات المتقدّمة المتوفّرة وإلى تعزيز سُبل التعاون في التطوير المشترك لتقنيات جديدة. قد يطرح تحوّل المشهد الجيوسياسي العالمي نحو مواقف أكثر تصادمية، في ظل مواجهة تدور رحاها بين المعسكر الغربي والمعسكر غير الغربي على المستوى الدولي، تهديدًا على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في حال أُرغِمت على الانحياز إلى طرف دون آخر. في مثل هذا السيناريو التصادمي، قد يكون من الأجدى لهذه الدول تحويل جهودها نحو تعزيز التعاون والتكامل الإقليميَّين، والمشاركة بشكل نشِط أكثر في صياغة اتفاقات أمنية إقليمية، وتبنّي سياسة الانحيازات المتعدّدة على الساحة العالمية.

هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية )نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية(. للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الرابط التالي: نَسبُ المصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية | المشاع الإبداعي.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.