المصدر: Getty

توترٌ وتواطؤ: العلاقات بين الدولة التونسية وقطاع الأعمال في عهد قيس سعيّد

ما لم تُحدِث تونس تحوّلًا عميقًا في هيكليتها الاقتصادية، سيؤدّي أسلوب سعيّد الراهن القائم على التعايش مع الشركات الكبرى إلى مفاقمة الركود الاقتصادي في البلاد.

 حمزة المؤدّبهاشمي علية, و إسحاق ديوان
نشرت في ٢٠ يناير ٢٠٢٥

مقدّمة

منذ انتفاضة العام 2011 التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي الذي حكم البلاد لفترة طويلة، شهدت العلاقات بين الدولة التونسية والشركات الخاصة الكبرى تحوّلات مهمة. ففي الفترة الممتدّة بين العامَين 2011 و2021، حقّقت الشركات الخاصة الكبرى استقلاليةً متزايدة، فأصبحت متنفّذة سياسيًّا، واكتسبت فعليًّا حق تعطيل القرارات الاقتصادية التي يمكن أن تمسّ بامتيازاتها وريوعها. وبما أن النخب السياسية والاقتصادية في تونس رفضت وضع الاقتصاد في خدمة غالبية الشعب، تبلورت موجة شعبوية في مواجهتها. وقد ركب قيس سعيّد، السياسيّ الصاعد حديثًا ذو الخلفية القانونية، هذه الموجة، محقِّقًا الفوز في الانتخابات الرئاسية في العام 2019. وفي العام 2021، بعد إقدامه على إقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان، أقرّ دستورًا جديدًا أحكمَ من خلاله قبضته على السلطة. وقد تسبّب ذلك بإنهاء التجربة الديمقراطية التي لم تُعمّر طويلًا في البلاد (2011-2021)، وأدّى إلى توتّر العلاقات بين الدولة وقطاع الأعمال، وإلى تهميش القطاع الخاص في السياسة وفي صنع السياسات الاقتصادية على السواء.

ولكن على الرغم من أن سعيّد استعدى الشركات الخاصة الكبرى من خلال تبنّي سرديّة شعبوية مناهضة للأعمال التجارية وللنخبة الاقتصادية، لم يعمَد إلى إصلاح الأُطر التنافسية والتنظيمية التي كان من شأنها كبح سعي تلك الشركات إلى تحقيق الريع، ولم يستحدث فرصًا اقتصادية للشركات الصغيرة والمتوسطة. والحال هو أن سعيّد أبقى بصورة أساسية على الوضع القائم، ما أعاق إمكانية تحقيق التعافي الاقتصادي. وهذا يعكس أولويّات نظامه، الذي يسعى في المقام الأول إلى الحفاظ على بقائه السياسي من خلال الاعتماد على المصارف لتمويل العجز السنوي في ميزانية الدولة. وقد أتاح ذلك بدوره للشركات الخاصة الكبرى، التي تمارس نفوذًا على القطاع المالي، التخفيف من تأثير التهميش الجزئي الذي تتعرّض له.

تراجع القطاع الخاص تحت سطوة النفوذ السياسي

مع أن القطاع الخاص في تونس شهد تراجعًا مطّردًا منذ بداية القرن الحادي والعشرين، تدهورت الأوضاع بشكلٍ كبير في العقد الذي أعقب الانتفاضة. فخلال تلك المرحلة، انخفض النمو إلى 0.9 في المئة فقط في المتوسط، مقابل 4.4 في المئة في العقد السابق. ويُعزى تدهور الأداء الاقتصادي في تونس جزئيًّا إلى الصدمات الخارجية، بما في ذلك خسارة الشراكة التجارية الأساسية مع ليبيا بسبب الحرب الأهلية التي شهدتها (2014-2020)، والاغتيالات السياسية في الداخل التونسي في العام 2013، والهجمات الإرهابية على الأراضي التونسية في العامَين 2015 و2016، إضافةً إلى تفشّي وباء كوفيد-19 في فترة 2020-2021. ولكن السبب الرئيس للركود الاقتصادي في تونس هو النظام السياسي الذي يعاني من الاختلال والذي عانَد إجراء تحوّلٍ بنيوي في الاقتصاد. لا تزال القاعدة الإنتاجية أسيرة الأنشطة ذات القيمة المضافة المتدنّية، في ظلّ تباطؤ النمو في الشركات، وافتقار الاقتصاد إلى الدينامية اللازمة لاستحداث العدد الكافي والأنواع المطلوبة من فرص العمل التي تجتذب الشباب التونسي.

ينعكس غياب الروح الدينامية في الأسواق من خلال بيئة الأعمال التي تهيمن عليها الشركات الكبرى، العامة والخاصة على السواء، إضافةً إلى الكثير من الشركات الصغيرة غير الرسمية. ويفتقر الاقتصاد بشدّة إلى الشركات المتوسطة الحجم – التي تُعتبر في الكثير من الأحيان الأكثر ديناميةً في توفير فرص العمل في مختلف أنحاء العالم – بسبب المنافسة غير العادلة من الشركات غير الرسمية وأيضًا من الشركات المهيمنة التي تتمتّع بامتيازات. وهذا الشحّ في الشركات المتوسطة الحجم هو السبب الرئيس في نقص الابتكار وتدنّي مستوى الدينامية الاقتصادية. لقد أخفقت النخب السياسية في مرحلة ما بعد العام 2011، بمَن فيها سعيّد، في تفكيك الحواجز البيروقراطية التي تفرض قيودًا على المنافسة والدخول إلى الأسواق، وفي إصلاح الأطر التنظيمية التي تشجّع على السعي وراء الريع والاستحواذ على السوق. كشفت استقصاءات البنك الدولي المعنية بمؤسسات الأعمال التجارية أن الشركات العاملة في تونس تواجه عائقَين أساسيَّين يتمثّلان في انتشار الفساد على نطاق واسع، وفي اشتداد درجة المخاطر السياسية والاقتصادية الكلّية (انظر الشكل 1).

سيطرت كارتلات الأعمال، خلال حكم بن علي وبعد سقوطه، على القطاعات الاقتصادية الأساسية، فاستحوذت على الأسواق ومنعت دخول وافدين جدد إلى القطاعات الصناعية الأساسية، والخدمات والقطاع المصرفي. ووفقًا للبنك الدولي، اضطلعت الشركات ذات الروابط السياسية في ظلّ نظام بن علي بدورٍ مهم في القطاعات التي كان الدخول إليها يخضع لتنظيمات وتراخيص شديدة. فقد كانت هذه الشركات تستحوذ على 10 في المئة من فرص العمل، و39 في المئة من الإنتاج، و53 في المئة من صافي الأرباح، وكانت محميّةً من المنافسة وتتمتع بأفضلية الحصول على الائتمان المصرفي. ولم تسفر عملية التحوّل الديمقراطي التي انطلقت في العام 2011 عن تغيير جوهري في هذا الوضع، على الرغم من استيلاء الدولة على الشركات المملوكة لبن علي وعائلته. وفي سياقٍ من التعدّدية السياسية الهشّة انطبع باتّساع الشرخ بين الإسلاميين والعلمانيين وبالإهمال النسبي للإدارة الاقتصادية – نظرًا إلى أن المسائل الدستورية والسياسية كانت لها الأولويّة – نجحت هذه الشركات في الإبقاء على الإطار التنظيمي والتنافسي على حاله من دون أن يطاله أيّ تغيير تقريبًا. وقد فعلت ذلك بثلاث طرق. أولًا، عمَد الكثير من رجال الأعمال البارزين إلى تمويل الأحزاب السياسية، مستغلّين حاجتها إلى الدعم المالي لكسب النفوذ. ثانيًا، انخرط بعض رجال الأعمال مباشرةً في السياسة، فترشّحوا للانتخابات البرلمانية واضطلعوا بأدوار حاسمة في لجانٍ أساسية، مثل لجنة المالية. وثالثًا، وظّفت شركاتٌ كبرى استثمارات طائلة في المشهد الإعلامي الذي تحرّر حديثًا، مستخدمةً وسائل مختلفة للتأثير في الرأي العام وممارسة النفوذ على السياسيين.

أتاحت الأزمة السياسية الحادّة في العام 2013، التي تسبّبت بها الاغتيالات السياسية وشبه انهيار التجربة الديمقراطية، فرصةً أمام نخب الأعمال لتوسيع نفوذها. وقد فعلت ذلك بصورة أساسية من خلال كلٍّ من الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد العام التونسي للشغل. فبعد الاصطفاف طوال عقودٍ إلى جانب القيادة السلطوية لحبيب بورقيبة (1956-1987) وبن علي، استغلّ الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية الأزمة للحفاظ على موقعهما في زمن التحوّل الديمقراطي. وقد نجح الاتحادان في دفع النخبة السياسية، الإسلامية والعلمانية على السواء، إلى القبول بفتح حوارٍ وطني مهّد الطريق لإقرار دستور العام 2014 وإجراء انتخابات عامة.

فيما أبدت حكومات ما بعد العام 2014 حرصها في الكثير من الأحيان على تأمين دعم النقابات لها من أجل البقاء في السلطة، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية فعليًّا صانعَي الحكومات. ونظرًا إلى أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان يركّز على حماية قاعدة عضويته وتوسيعها بدلًا من إحداث تحوّل في الهيكلية الاقتصادية للبلاد، وبما أن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية كان مدينًا بالفضل للشركات الكبرى، فقد عارضا وضع استراتيجيةٍ للتنمية كان من شأنها إجراء إصلاحٍ اقتصادي شامل وتوطيد دعائم الديمقراطية. وقد توسّعت قاعدة العضوية في الاتحاد العام التونسي للشغل إلى حدٍّ كبير بسبب استحداث أكثر من 155 ألف وظيفة جديدة في القطاع العام بعد 2011، في إطار برنامجٍ حكومي لدرء الاضطرابات الاجتماعية. في غضون ذلك، نجح الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية في ضمان مكاسب للشركات الخاصة الكبرى، بدءًا من تقديم مزايا ضريبية وتنظيمية ووصولًا إلى منحها القدرة على الدخول إلى الأسواق، على الرغم من التأثيرات الضارّة لهذه السياسات على الاقتصاد. وكانت الشركات الكبرى محظيّة لدى الحكومات في مرحلة ما بعد العام 2014، ولا سيما من خلال عددٍ من قوانين الميزانية التي أُقرَّت بين العامَين 2014 و2019 ونصّت على منح إعفاءات ضريبية وحوافز استثمارية. وعلى الرغم من الضغوط التي تمارسها المؤسسات المالية الدولية والمنظمات التونسية غير الحكومية لإصلاح الإطار التنافسي وتحسين دخول الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وروّاد الأعمال الجدد إلى الأسواق، لم يُحرَز تقدُّم يُذكَر بسبب المقاومة التي أبدتها نخب الأعمال النافذة وما أظهرته النخب السياسية من موقف مُهادِن تجاهها.

في العام 2017، اقترحت حكومة رئيس الوزراء يوسف الشاهد تدابير تقشّفية تهدف إلى خفض العجز السنوي للميزانية وكذلك الدين الوطني، في إطار تنفيذ برنامج الإصلاح الذي وضعه صندوق النقد الدولي وأُقِرّ في العام 2016. وقد سعت الحكومة إلى توزيع عبء الإصلاحات بين القوة العاملة ورأس المال من خلال تجميد التوظيف في القطاع العام وزيادة الضرائب على الشركات. ولكن ممثّلي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية رفضوا هذه التدابير، فاضطُرَّت الحكومة إلى التراجع. نتيجةً لذلك، أوقف صندوق النقد الدولي صرف القرض، واصطدم البرنامج الإصلاحي بطريق مسدود. هيّأ هذا الوضع الساحة لتدهورٍ بطيء في الأوضاع الاقتصادية، وتسبّب بزعزعة الاستقرار، وأدّى في نهاية المطاف إلى تنامي الشعبوية.

قطاع مالي في خدمة الدولة

بدءًا من العام 2022، أحكم سعيّد قبضته على السلطة من خلال إقرار دستور جديد يتمحور حول شخص الرئيس عن طريق منحه صلاحيات واسعة وتهميش الهيئات التشريعية والنقابات العمّالية والأحزاب السياسية. أما في ما يتعلق بالاقتصاد، فقد انصبّ تركيزه على سداد خدمة الدين العام المتصاعد، وعمَد لهذه الغاية إلى زيادة الضرائب وسحب الأموال تكرارًا من احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية. وسعى سعيّد أيضًا إلى إخضاع الشركات الكبرى من خلال إطلاق حملة لمكافحة الفساد بهدف استنزاف أموال النخب، وأيضًا من خلال تعزيز الشركات الأهلية المُنشأة حديثًا، وهي عبارة عن شركات مُموَّلة من الدولة وخاضعة لسيطرتها، أُنشئت للتنافس مع شركات القطاع الخاص عن طريق بناء شبكات المحسوبيات، من جملة وسائل أخرى.

أخفقت استراتيجية سعيّد في كبح التراجع الاقتصادي للبلاد، فما بالكم بتحفيز النمو. والحال هو أنها زادت الأمور سوءًا. وفي نهاية المطاف، تسبّبت محاولته ضرب الشركات الكبرى بشلّ القطاع الخاص ككل، علمًا أنه ضروريٌّ لأي اقتصاد ناجح عمليًّا. إضافةً إلى ذلك، وعلى الرغم من أن نخب الأعمال فقدت بعضًا من نفوذها في تونس، فقد تمكّنت من حماية مصالحها الأساسية من خلال دعم النظام في الوفاء بالتزاماته التمويلية. وقد أدرك النظام أنه يحتاج إلى المؤازرة من هذه النخب في الضغط على القطاع المصرفي للمساعدة في تمويل الميزانية السنوية للحكومة. فضلًا عن ذلك، وفي ما خلا فرض ضريبة ثروة في العام 2023 على العقارات، أبقى نظام سعيّد إلى حدٍّ كبير على التشريعات الضريبية القائمة. لا تزال الشركات – ولا سيما الكيانات الخارجية – والأفراد الأثرياء الذين يكسبون دخلًا من الفوائد والأرباح الرأسمالية يستفيدون من المزايا الضريبية.

في الوقت نفسه ونظرًا إلى ندرة مصادر التمويل الخارجي، باتت احتياطيات العملات الأجنبية الخيار المفضّل لتلبية حاجات البلاد، بما في ذلك الواردات، وخدمة الدين، وسائر الالتزامات المالية. منذ العام 2022، أدّى تقنين احتياطيات العملات الأجنبية، في خطوةٍ هدفت إلى الحفاظ على الأموال، إلى تقييدٍ شديد لقدرة الشركات على استيراد المواد الإنتاجية التي تشتدّ الحاجة إليها. وقد أسفر ذلك عن تراجعٍ كبير في إيرادات الأعمال التجارية التي تعتمد على العملات الأجنبية لاستيراد السلع والدفع للمورّدين، وإلى مفاقمة الركود الاقتصادي، وزيادة تهميش القطاع الخاص.

ساد توتّرٌ شديد في العلاقات بين الدولة والشركات بعدما شنّ سعيد حملة انتقائية طالت كبار رجال الأعمال في العام 2023. وقد برّر خطوته هذه بالإشارة إلى فشل عملية العدالة الانتقالية التي انطلقت بعد العام 2011 في استرداد الثروات التي كُسِبت بطريقة غير مشروعة في عهد بن علي، وأنشأ عملية تنطوي على تسوية إدارية يلتزم الطرف المتّهم بموجبها بسداد كامل المبلغ الذي تُقرّر اللجنة الوطنية للصلح الجزائي أنه كُسب بطريقة غير مشروعة، إضافةً إلى الفوائد. ولكن العملية أثبتت عدم فعاليتها خلال العامَين اللذَين انقضَيا منذ بدء العمل بها. فقد رفضتها نخب الأعمال إلى حدٍّ كبير، وفرّ كثرٌ إلى خارج البلاد لتجنّب التعرّض للملاحقة القضائية أو تفادي زجّهم في السجن لرفضهم التعاون.

في محاولةٍ لتلبية الطلبات الملحّة على استحداث فرص العمل، والتخفيف من حدّة الفقر، وإدرار الدخل، تجنّب سعيّد القطاع الخاص لصالح الشركات الأهلية التي تعمل في قطاعات مثل الخدمات والنقل والزراعة. وهذه هي أيضًا محاولة لبناء قاعدة دعم زبائنية، إذ نقل سعيّد ملكية الأراضي من الدولة إلى داعميه وأعاد توزيع الثروات من نخب الأعمال إلى قاعدته عن طريق الاعتمادات المصرفية. ولكن بيروقراطية الدولة عطّلت بصورة متزايدة هذه المبادرات وسواها، إذ تعتبرها ديماغوجية وتفضي إلى نتائج عكسية. على سبيل المثال، فإن المعارضة البيروقراطية التي اصطدمت بها الإصلاحات التي اقترحها سعيّد لقانون العمل (مجلّة الشغل)، والتي تهدف إلى إنهاء العمل بعقود المناولة (التلزيم) وبالعقود المحدودة في الزمن في القطاع الخاص، أدّت إلى عملية استشارية طويلة وغير حاسمة بين الدوائر والوزارات الحكومية المختلفة. وقد أسفر ذلك في نهاية المطاف عن استبدال حكومة أحمد الحشاني بحكومة يقودها كمال المدوري الذي كُلِّف بتنفيذ هذه الإصلاحات العمّالية. ولكن كان لا بدّ من أن تبدأ العملية مجدّدًا من نقطة الصفر، مع إجراء مشاورات بين الحكومة والنقابات، وتحديدًا الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية.

لجأت الحكومة أيضًا، في مسعاها لتمويل العجز السنوي في ميزانيتها، إلى بيع السندات السيادية إلى المصارف التونسية. وقد تضاعف تقريبًا صافي مديونية الدولة للقطاع المصرفي خلال السنوات الخمس المنصرمة، فبلغ نحو 23.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بحلول نهاية العام 2023. ونظرًا إلى العوائد المغرية، والمخاطر الائتمانية التي تُعتبر منخفضة (مقارنةً مع الإقراض للقطاع الخاص)، والدعم الذي يقدّمه البنك المركزي من خلال توفير السيولة في أوقات الحاجة، رحّب القطاع المصرفي بالانكشاف المتزايد على الدين السيادي. وقد ازدادت القروض المصرفية الممنوحة إلى الدولة بنسبة 24.8 في المئة في العام 2023، فيما ازدادت القروض الممنوحة إلى القطاع الخاص بنسبة 2 في المئة فقط – وهو أدنى معدّل نمو يسجّله التمويل المصرفي للاقتصاد منذ عقدَين على الأقل.

تتيح الزيادة في الإقراض الداخلي للشركات الكبرى حماية نفسها. في الواقع، تولّد خمس شركات قابضة، معظمها شركات عائلية في قطاعات عدّة، أكثر من 60 في المئة من إيرادات الشركات الخاصة الكبرى في البلاد. وتساهم روابطها المباشرة مع المصارف في تعزيز قبضتها على الاقتصاد: فهي تملك أسهمًا في سبعة مصارف من أصل اثنَي عشر مصرفًا مُدرَجة أسهمها في البورصة. وهذا يضمن لها الحصول بسهولة على خطوط الائتمان من المصارف، ويُقصي فعليًّا الشركات الصغيرة والمتوسطة من العملية. ويمنحها أيضًا ورقة ضاغطة سياسية على نظام سعيّد، ما يمكّنها من حماية مصالحها ويُجهض المحاولات الإضافية لتهميشها، مقابل ممارسة نفوذها على المصارف لتوفير التمويل الذي تحتاج إليه الدولة لتلبية متطلباتها التمويلية. ولكن هذا الأمر محفوفٌ بمخاطر جمّة، ففي حال تخلُّف الدولة عن السداد، ستكون التداعيات على القطاع المصرفي كارثية.

القطاع الخاص بحاجة إلى إصلاحٍ شامل

كي يتمكّن صنّاع القرار في تونس من بناء استراتيجية تنموية قادرة على معالجة مكامن الضعف البنيوية في بلادهم، عليهم إنعاش القطاع الخاص. ويُعَدّ التحوّل الديمقراطي والإصلاح شرطَين أساسيَّين لتحقيق ذلك. عمومًا يمكن اتّخاذ إجراءات أربعة من شأنها أن تسهم في إنجاز هذَين الهدفَين. أولًا، لا بدّ من إرساء استقرار الاقتصاد الكلّي للحدّ من حالة اللايقين الاقتصادية وتحسين آفاق حصول الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم على التمويل والواردات، ما يسمح لها بالنمو. ثانيًا، يجب تحسين الإدارة الاقتصادية، بما في ذلك إصلاح التنظيمات الاقتصادية، لضمان المنافسة العادلة وسيادة القانون. ثالثًا، ينبغي وضع استراتيجية إنمائية ملائمة من أجل توسيع أنشطة الشركات الكبرى لتطال الأسواق الدولية، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم من خلال تقديم حوافز لها لتحسين استخدامها لتكنولوجيا المعلومات والأنظمة الروبوتية، ودمج سلاسل القيمة العالمية وجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، والتشجيع على التدريب، فضلًا عن تعزيز البحث والتطوير. ورابعًا، يتعيّن على تونس التكيّف مع عملية الانتقال الأخضر التي يشهدها الاتحاد الأوروبي، شريكها التجاري الأكبر، ولا سيما في ما يتعلق بالسياسات المناخية ومساعي خفض انبعاثات الكربون، وإلّا فستؤدّي الانبعاثات الكربونية الجديدة إلى خفض عدد الشركات الأوروبية التي تشتري منتجات من تونس.

كذلك، ينبغي على تونس استئناف محادثاتها مع صندوق النقد الدولي بشأن تنفيذ برنامج إصلاحي وطني. فهذا الأمر لا غنى عنه من أجل تلبية حاجات البلاد من التمويل الخارجي، وتأمين التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والحدّ من انكشاف القطاع المصرفي على الديون السيادية. واقع الحال أن الكثير من الشركات التونسية لا تستطيع الحصول على التمويل المصرفي. فبحسب الإصدار الأخير من استقصاءات البنك الدولي المعنية بمؤسسات الأعمال التجارية، يعتبر نحو نصف الشركات التونسية (45.5 في المئة) أن الحصول على الائتمان صعبٌ للغاية في البلاد، وهذه النسبة أعلى بكثير من نظيرتها في المغرب (34.2 في المئة) ومصر (24.6 في المئة).

يسبّب التواطؤ بين الشركات الكبرى والمصارف مشكلةً كبيرة أيضًا لأنه يقوّض التنافس، ويزيد احتمال الحصول على معلومات حساسة متعلّقة بالأعمال، ويتيح للشركات الكبرى التدخّل في طريقة تخصيص الائتمانات وفي قرارات الاستثمار. لدى تونس "فائضٌ من المصارف"، إذ يتخطّى عددها 30 مصرفًا، وتسيطر ثلاثة مصارف مملوكة للدولة على 36 في المئة من حجم السوق، وتستحوذ خمسة مصارف كبرى (بما في ذلك المصارف المملوكة للدولة) على ما يزيد عن 50 في المئة من القطاع. ولكن، على الرغم من هذا العدد الكبير من المصارف، لا يتمتّع أيٌّ منها بالقدرة على تمويل مشاريع إنمائية كبرى في البلاد.

يُعَدّ إصلاح الإطار التنافسي من خلال تشريعات مكافحة الاحتكار أمرًا بالغ الأهمية لإضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد، وتحفيز نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة الابتكارية، ووضع حدٍّ لنفوذ الكارتلات التي تهيمن على القطاعات الاقتصادية الأساسية. وقد فشلت معظم هذه الكارتلات في التنافس على مستوى الأسواق العالمية، ما قلّص بشكلٍ أكبر الهامش المُتاح للشركات الصغيرة والمتوسطة كي تنمو وتتوسع. علاوةً على ذلك، إن العلاقات بين الدولة وقطاع الأعمال في ظلّ النظام السياسي الراهن تحمي التواطؤ القائم بين النخب البيروقراطية والشركات الخاصة الكبيرة وتشجّع على السعي وراء ضمان الريع وتسهم في انتشار الفساد.

يجب أن يبقى القطاع الخاص في تونس مواكبًا للتحوّل الرقمي ولعملية إعادة التشكيل التي تشهدها سلاسل القيمة العالمية. لقد بدأت الكثير من الشركات في دول الاتحاد الأوروبي، مدفوعةً بالقلق من المخاطر الجيوستراتيجية، بإعادة توطين أعمالها في مناطق مجاورة لها، لتلافي التحدّيات المتمثّلة في تشتّت الإنتاج والنقل المحفوف بالمخاطر. وهذا يتيح لتونس فرصًا لإعادة النظر في نموذجها التنموي من خلال الاندماج في سلاسل قيمة جديدة في قطاعَي السيارات والأدوية، وكذلك في سلاسل القيمة الخاصة بقطاع الخدمات حيث تُحدِث الرقمنة تحوّلًا ملموسًا. وفي موازاة ذلك، ينبغي على البلاد تطوير بنيتها التحتية الرقمية وتوسيع نطاق استخدام تقنيات النطاق العريض الثابتة والمتنقّلة.

يجب أن تتكيّف تونس أيضًا مع أشكال الحمائية الخضراء المناصرة للبيئة الذي بدأت تظهر في أوروبا. فمن المقرّر أن يفرض الاتحاد الأوروبي تدريجيًا آلية جديدة تتمثّل في ضريبة الكربون الحدودية، التي ستقتضي من المستوردين الأوروبيين الإبلاغ عن انبعاثات الكربون المرتبطة بالسلع المستوردة، وشراء شهادات الكربون للتعويض عن انبعاثاتها الكربونية. مع أن هذه الآلية ستشكّل تحدّيًا لتونس، يمكن أيضًا أن تصبح ميزة مهمّة للبلاد بفضل تمتّعها بموارد وفيرة من الطاقة الشمسية. من الناحية النظرية، بإمكان البلاد أن تستفيد من مواردها من الطاقة الشمسية لتطوير منتجات مصنوعة من الطاقة المتجدّدة. ولكن ذلك لا يتطلّب فقط مراجعة السياسات الصناعية لتلبية المعايير المراعية للبيئة والمناخ، بل يقتضي أيضًا توظيف استثمارات كبيرة في الطاقة المتجدّدة. وفي حال لم تتمكّن تونس من مواكبة هذه التغييرات، فستتعرّض في نهاية المطاف إلى التهميش على الصعيدَين الاقتصادي والجيوسياسي.

خاتمة

إذا لم يتخلَّ سعيد عن أسلوبه الراهن المتمثّل في التعايش الانتهازي مع الشركات الكبرى، والمدفوع بحاجته إلى تمويل العجز السنوي للميزانية الحكومية وخدمة الدين العام في ظلّ غياب التمويل الخارجي، فسوف يستمر الجمود الاقتصادي في تونس. لكنه للأسف، لا يبدو مستعدًّا لقطع علاقاته مع النخب الأوليغارشية في قطاع الأعمال، بسبب تركيزه على البقاء السياسي في وجه المشقّات الاقتصادية المتزايدة التي ستُشعل حتمًا فتيل الاستياء الشعبي (وهذه مفارقة، نظرًا إلى الصورة الشعبوية التي حرص على رسمها لنفسه). لذلك، سيكون من المفرط في التفاؤل توقّع أن يُجري سعيّد أكثر من مجرّد تعديلات طفيفة، مثل زيادة الضرائب على الشركات الكبرى لتهدئة الغضب الشعبي. المشكلة هي أن تونس تحتاج إلى خوض تغيير أكبر بكثير، ولا سيما على ضوء فرص النمو الجديدة التي تظهر على الصعيد العالمي، والتي يجب اغتنامها من خلال تطبيق آليةٍ سليمة لاتّخاذ القرارات. وإلّا فسيتفاقم تقويض القطاع الخاص، ما سيهدّد بدوره المستقبل الاقتصادي للبلاد.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.