مقدّمة
في ظلّ غياب الإصلاحات السريعة، ستدفع السياسات الاقتصادية التونسية البلادَ إلى لجّة الهاوية. وقد بدأت تلوح في الأفق بالفعل أزمة مالية تُعدّ النتيجة المُقلِقة للمسار الذي سلكته تونس منذ استيلاء الرئيس قيس سعيّد على السلطة في تموز/يوليو 2021. وقد ارتكز هذا المسار على جانبَين أساسيَّين من السياسة الاقتصادية. الجانب الأول هو توجّهٌ ماليٌّ توسّعي (وباهظ الكلفة) تَسبَّب لأربع سنوات متتالية بعجوزات كبيرة لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ البلاد، ما أدّى إلى بلوغ الدين العام مستوياتٍ غير مستدامة. والجانب الثاني هو عدم كفاية الدعم الحكومي للنشاط الاقتصادي، على وقع تدهور مناخ الأعمال وتزايد المخاطر على صعيد الاقتصاد الكلّي التي تثير الذعر في القطاع الإنتاجي وتؤدّي إلى توقّف النمو الاقتصادي.
كذلك، باتت الآلية التي يمكن أن تتسبّب باشتعال الوضع أكثر وضوحًا. فإغلاق مصادر التمويل الخارجية يدفع الحكومة إلى استخدام مصادر داخلية لتمويل المزيد من عجزها الكبير، من خلال زيادة الاقتراض (من المصارف، وحاملي السندات المحليين، والبنك المركزي). وهذا يفضي إلى مزاحمة القطاع الخاص، وخفض النمو الاقتصادي، وزيادة التضخّم، وإضعاف الميزانيات العمومية للمصارف، وزيادة خطر حدوث تراجع كبير في قيمة الدينار التونسي. تُنذر مختلف العناصر بوقوع أزمة مالية تطال الدين العام، وسعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية، والقطاع المصرفي.
جرت الانتخابات الرئاسية في تونس في أواخر العام 2024. لقد استندت جاذبية سعيّد الشعبوية على التزامٍ علني بمبدأَين اثنَين: المعارضة الحازمة لبرنامج صندوق النقد الدولي، بغية تجنّب المشقّات المرتبطة بالتقشّف التي قد يسبّبها للسكّان؛ ومحاربة الفساد من خلال إرغام "نخبة الأعمال الفاسدة" على التخلّي عن ثرواتها التي يزعَم أنها اكتسبتها بطريقة غير مشروعة، عن طريق عملية قضائية تهدّد مالكي الأعمال بزجّهم في السجن إذا لم يرضخوا. وقد لاقى هذان المبدآن أصداءً في أوساط المواطنين الذين ضاقوا ذرعًا بالفوضى التي شهدتها البلاد على مرّ عقدٍ من الزمن، انطبع بعمليات الإنقاذ المالي الخارجية المتكرّرة وتفاقم الفساد الداخلي. ولكن النهج الذي اتّبعه سعيّد أدّى أيضًا إلى قفزةٍ في الديون وانهيار النمو، وكلاهما يتسبّبان الآن بتقويض الاقتصاد.
نتيجةً لذلك كلّه، ثمة خطرٌ جدّي بحدوث أزمة مالية. فتونس على قاب قوسَين من الاضطرار إلى الإنفاق من احتياطياتها المالية. ولا ضمانة بأن الوضع سيظل مضبوطًا في المرحلة المقبلة. وفي حال اندلاع أزمة مالية، فمن المُحتمَل أن تُكبِّد البلاد مزيجًا مروّعًا من العواقب مثل إفلاس الدولة، والانهيار الاقتصادي، فضلًا عن أضرار اجتماعية بالغة، وتحدّيات سياسية جمّة، نظرًا إلى الحاجة لتوزيع هذه الخسائر الفادحة على السكان.
لقد أدّت تداعيات السياسات القاصرة إلى تراجع النمو الاقتصادي وتدهور الظروف الاجتماعية، إضافةً إلى انخفاض الأجور الحقيقية وزيادة البطالة. ودفعت هذه التبعات بالحكومة إلى زيادة حجم الدعم، ما يُسهم في عجز مالي كبير ويفاقم أوضاع المالية العامة غير المستدامة أساسًا. تبعًا لذلك، تواجه البلاد خيارات صعبة، ويتطلّب الهبوط الناعم برنامجًا إصلاحيًا جريئًا لتعزيز النمو الاقتصادي، وقيادةً سياسية سليمة وحازمة لضمان التماسك الاجتماعي، إضافةً إلى الحصول، في أفضل الأحوال، على الدعم من أصدقاء تونس في الخارج.
لمحة موجزة عن الاقتصاد التونسي في العام 2024
في العام 2023، سجّلت تونس أدنى معدّل نموٍّ اقتصادي خلال عقدٍ من الزمن، باستثناء السنة الأولى لتفشّي وباء كوفيد-19، أي العام 2020. ونجم هذا الأداء الضعيف عن أسباب محلية، مثل تراجع الاستهلاك نتيجة ارتفاع معدّل التضخّم، ومحدودية فرص العمل، وتدهور الظروف الاجتماعية، إضافةً إلى انخفاض حجم الاستثمارات. وثمّة مخاطر كبرى بانعدام استقرار الاقتصاد الكلّي في العام 2024. في الواقع:
- يتسبّب إصرار الرئيس على الإنفاق الاجتماعي المرتفع – الدعم والتحويلات المالية – بتنامي المديونية، ويؤدّي إلى زيادة اعتماد الدولة على الاقتراض المحلي والتمويل المباشر من البنك المركزي التونسي وسط ندرة التمويل الخارجي.
- لا تزال ميزانية العام 2024 تتضمّن فجوة تمويل خارجي كبيرة قد يكون سدّها صعبًا جدًّا في ظلّ الظروف الراهنة. ونظرًا إلى ندرة مصادر التمويل الخارجي وغياب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، استندت تونس بشكل متزايد إلى القطاع المالي المحلي، ولا سيما المصارف، من أجل تمويل العجز في ميزانيتها. لكن الاعتماد الكبير على الأسواق المالية المحلية أدّى إلى مزاحمة تمويل القطاع الخاص، وزيادة خطر تكبّد القطاع المصرفي خسائر مالية في حال تخلّف الدولة عن سداد ديونها.
- نظرًا إلى محدودية مصادر الاقتراض الخارجي المُتاحة أمام تونس، وضعف قدرة مصارفها على سدّ الفجوة التمويلية الكبيرة، يُرجَّح أن تزيد الدولة اعتمادها على الاقتراض المباشر من البنك المركزي (أو ما يُعرَف بالتمويل النقدي). تنطوي هذه الخطوة على مخاطر مرتبطة بارتفاع معدّل التضخّم، واستنزاف احتياطي العملات الأجنبية الذي سيؤدّي بدوره إلى وقوع أزمة مالية قد تواجه البلاد صعوبةً في التعافي منها.
الأداء الاقتصادي الضعيف في العام 2023
استمرّ تراجع الأداء الاقتصادي في العام 2023، كما شرحنا في دراسةٍ سابقة، إلى أن سجّل أحد أسوأ مستويات النمو الاقتصادي خلال عقدٍ من الزمن، عند حدود 0.4 في المئة (انظر الشكل 1). أما النمو الأدنى من ذلك (وكان نموًّا سلبيًا)، فقد سجّلته تونس فقط في العام 2020، أي خلال السنة الأولى من تفشّي وباء كوفيد-19. كذلك، أثارت توجّهات أخرى على صعيد الاقتصاد الكلّي القلق، إذ وصل معدّل التضخّم إلى مستوى قياسي عند 9.3 في المئة؛ وسُجِّل عجزٌ مالي كبير جدًّا للسنة الرابعة على التوالي بلغ 7.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ وتراجع حجم الاستثمارات المحلية على نحو قياسي إلى 12.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع هبوط الاستثمارات الخاصة إلى ما لا يزيد عن 7 في المئة تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي؛ وتنامى عبء الدين العام الإجمالي، بما في ذلك الديون المضمونة من الحكومة، التي تناهز راهنًا 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وترافق كل ذلك مع ارتفاع معدّلات البطالة، بحيث بلغت 39 في المئة في صفوف الشباب و24 في المئة في أوساط خرّيجي الجامعات.
لم ينجم الركود الاقتصادي عن عوامل خارجية معاكسة. بل ظلّت صادرات تونس مزدهرة، بدفعٍ من النمو المتواضع في الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجاري لتونس، فضلًا عن تحقيق البلاد عائداتٍ من أسعار زيت الزيتون والفوسفات المرتفعة. علاوةً على ذلك، استفادت تونس من استئناف النشاط السياحي واستمرار تدفّق التحويلات المالية من المغتربين. كذلك، كانت أسعار السلع المستوردة مؤاتية أكثر من السنوات السابقة، ولا سيما وسط انخفاض أسعار النفط والموادّ الغذائية عالميًا خلال العام 2023.

بدلًا من ذلك، عُزي سبب الركود الاقتصادي إلى مكامن الضعف المحلية. فمن جهة، تراجع إنتاج قطاعات الزراعة والبناء والصناعة، في ظلّ تباطؤ قطاع التصنيع (انظر الجدول 1). وبينما تضرّرت الزراعة بشكل كبير بسبب قلّة الأمطار، تأثّرت القطاعات كافة نتيجة انخفاض الطلب المحلي وتدنّي الاستثمارات المحلية. ومن جهة الطلب الكلّي، تقلّص استهلاك الأُسر بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض المداخيل، وواصلت الاستثمارات تراجعها – إلى أن بلغت مستويات متدنّية تاريخية - بسبب تدهور بيئة الأعمال والمخاطر المرتبطة بانعدام استقرار الاقتصاد الكلّي. ولم يكن إنفاق الحكومة المرتفع كافيًا للتعويض عن مكامن الضعف هذه.
لم يكن التضخّم ناجمًا عن تراجع سعر صرف الدينار التونسي، الذي بقي مستقرًا مقابل العملات الأجنبية الأساسية (انظر الجدول 1)، ولا سيما أن أسعار الموادّ الغذائية الأساسية المستوردة انخفضت ذلك العام. لكن يمكن تفسير التضخّم من خلال لجوء الدولة المتزايد إلى الاقتراض المباشر من البنك المركزي. فقد أمّن البنك المركزي حتى تاريخ كتابة هذه السطور السيولة التي تحتاجها خزينة الدولة لتغطية نفقاتها، أولًا بصورة غير مباشرة من خلال المصارف التي قام بإعادة تمويلها، ثم بصورة مباشرة منذ شباط/فبراير 2024. كلّ المؤشرات تشير إلى أن معدّل التضخّم سيبقى مرتفعًا في المستقبل القريب، ولا سيما إذا تراجعت قيمة الدينار بصورة إضافية، ما يسهم في تحقيق توازن الحسابات الخارجية.
الجدول 1. النمو الاقتصادي والظروف الاجتماعية
|
الوحدات |
2022 |
2023 (تقديرات) |
2024 (خطة) |
معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
2.5 |
0.7 |
1.9 |
الزراعة |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
1 |
12.5- |
4.2 |
الصناعة |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
5.4- |
4.6- |
5.5- |
التصنيع |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
5.5 |
0.2 |
0.4 |
البناء |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
5.7- |
3.9- |
3.1- |
السياحة |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
10.3 |
11.9 |
4.8 |
خدمات أخرى |
تغيّر النسبة المئوية سنويًا |
1.4 |
1.4 |
3.9 |
مستوى الأسعار |
تغيّر متوسط النسبة المئوية سنويًا |
8.3 |
9.4 |
10 |
نسبة الاستثمارات المحلية إلى الناتج المحلي الإجمالي |
النسبة المئوية |
14.9 |
12.8 |
12.2 |
نسبة المدّخرات الوطنية إلى الناتج المحلي الإجمالي |
النسبة المئوية |
6.3 |
7 |
5.6 |
البطالة |
النسبة المئوية |
15.5 |
15.8 |
16.3 |
البطالة في أوساط الفئة العمرية بين 15 و24 عامًا |
النسبة المئوية |
38.1 |
39.1 |
42 |
البطالة في أوساط خرّيجي الجامعات |
النسبة المئوية |
23.6 |
23.8 |
24.4 |
الفقر |
النسبة المئوية |
16.6 |
|
|
المصدر: المعهد الوطني للإحصاء، وزارة المالية؛ مركز TEMA. بيانات فترة 2023-2024 من قانون المالية التكميلي لسنة 2023 وقانون المالية لسنة 2024؛ وتوقّعات العام 2024 من مركز TEMA وصندوق النقد الدولي. |
بعد إقفال السنة المالية 2023، بدا واضحًا أن التحسُّن المأمول في حسابات المالية العامة لم يتحقق، بل انتهى ذلك العام بتسجيل الدولة عجزًا يعادل 7.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا مستوى قريب من المعدّلَين المسجّلَين خلال العامَين 2021 و2022 (انظر الجدول 2). والجدير بالذكر أن تونس تعاني عجوزات كبيرة في المالية العامة منذ العام 2011 (انظر الشكل 2). وقد تزامن تسارع نمو العجز المالي مع التغيير السياسي الذي أحدثته الانتفاضة في فترة 2010-2011، حين استخدمت الدولة عجوزاتها المالية وسيلةً لتهدئة السخط الشعبي من خلال رفع كتلة أجور القطاع العام والنفقات الاجتماعية، مع أنها كانت حتى ذلك الحين تُحسن إدارة حساباتها العامة. ازدادت هذه العجوزات من 2.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (حين كانت تونس معروفة باستقامتها المالية)، إلى 4.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط خلال العقد الثاني من القرن الحالي. وخلال السنوات التي أعقبت العام 2020، سجّلت البلاد عجوزات أكبر، واصطدمت بضرورة إجراء تعديلات صعبة. فقد قفز العجز من 3.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019 إلى 9.4 في المئة في العام 2020، نتيجة الدعم الذي قدّمته الحكومة للأُسر خلال فترة الإغلاق والحجر وانهيار المداخيل (انظر الشكل 2).
الجدول 2. حسابات المالية العامة، 2020-2024
|
2020 |
2021 |
2022 |
2023 |
2024 |
التغيير الاسمي 2023-2024 |
الحصص من الناتج المحلي الإجمالي |
|
|
|
|
|
|
إجمالي النفقات |
40.1 |
42.2 |
42.2 |
44.6 |
44.6 |
6.70% |
كتلة الأجور |
16.1 |
15.5 |
14.7 |
14.3 |
13.6 |
4.10% |
نظام الدعم والتحويلات المالية |
9.4 |
9.7 |
12.5 |
12 |
11.3 |
2.80% |
نظام الدعم |
3.7 |
4.6 |
8.3 |
7.2 |
6.5 |
|
التحويلات المالية الاجتماعية |
5.6 |
5 |
4.1 |
4.8 |
4.8 |
|
الاستثمار |
3.5 |
3.5 |
3.2 |
2.9 |
3 |
12.40% |
الفائدة على الدين |
3.1 |
2.8 |
3.2 |
3.7 |
3.9 |
17.00% |
أخرى |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
الإيرادات الضريبية |
25.5 |
25.7 |
28.5 |
28.4 |
28.2 |
11.60% |
الضرائب المباشرة |
10.1 |
9.7 |
10 |
10.1 |
10.4 |
|
الضرائب غير المباشرة |
12.6 |
13.6 |
14.6 |
14.6 |
14.8 |
|
ضرائب أخرى |
2.8 |
2.4 |
3.9 |
3.7 |
3 |
|
|
|
|
|
|
|
|
الرصيد المالي الأولي |
9.4 |
7.7 |
7.7 |
7.7 |
6.6 |
-6.30 % |
|
|
|
|
|
|
|
وحدة القياس: مليون دينار تونسي |
|
|
|
|
|
|
العجز المالي الأولي |
11,229 |
9,988 |
11,046 |
12,288 |
11,515 |
-6.30 % |
أصل الدين المستحق |
4,668 |
4,236 |
7,264 |
9,643 |
16,673 |
72.90% |
إجمالي الاقتراض |
15,897 |
14,224 |
18,310 |
21,931 |
28,188 |
28.50% |
الاقتراض الخارجي |
4,771 |
7,456 |
7,777 |
10,563 |
16,445 |
55.70% |
الاقتراض الداخلي |
11,126 |
6,768 |
10,533 |
11,368 |
11,743 |
3.30% |
المصدر: المعهد الوطني للإحصاء، وزارة المالية؛ مركز TEMA. بيانات فترة 2023-2024 من قانون المالية التكميلي لسنة 2023 وقانون المالية لسنة 2024. |
خلال السنوات التي أعقبت الإطاحة بزين العابدين بن علي في العام 2011، كان العجز المالي مدفوعًا بزيادة أجور موظفي القطاع العمومي، وهي مبادرة اتّخذتها الحكومة لاسترضاء الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يُعدّ المنظمة النقابية الأكبر والأقوى في البلاد. فبلغ العجز مستويات مرتفعة للغاية وصلت إلى 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020 قبل أن يستقرّ الوضع. لكن بعد ذلك الحين، وبدلًا من أن ينخفض العجز إلى مستوياته الطبيعية، ظلّ مرتفعًا عند حدود 7.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة 2021-2023، وتزامن هذا المستوى القياسي مع رئاسة سعيّد (انظر الشكل 2).
ازداد العجز المالي على وقع زيادة الدعم والتحويلات الاجتماعية، وهي سياسة لاءمت النظام الشعبوي الجديد (انظر الشكل 3). وأثّرت خدمة الديون المتراكمة أيضًا بشكلٍ سلبي على العجوزات. فالأداء المالي الضعيف في العام 2023 كان ناجمًا عن الزيادة المطّردة في الإنفاق العام، ما أدّى إلى اتّساع فجوة العجز المالي على الرغم من ارتفاع إيرادات الدولة.


في العام 2023، أصبحت الإيرادات الضريبية تشكّل 30.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة أعلى بكثير من المتوسط الذي مثّل 21.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة الممتدّة بين 2015 و2019 (انظر الشكل 2). والواقع أنها بلغت راهنًا مستوى قياسيًا في تونس، وتُعدّ أيضًا الأعلى في أفريقيا والشرق الأوسط. ويُعزى أحد أسباب الزيادة في الإيرادات الضريبية، على الرغم من النمو المتباطئ، إلى رفع معدّلات الضريبة (زيادة إيرادات الضريبة على القيمة المضافة - نتيجة إلغاء نسبة 13 في المئة على بعض المنتجات وتطبيق نسبة 19 في المئة - وزيادة الرسوم الجمركية). لكن السبب الرئيس تَمثَّل في الجهود التي بذلتها إدارة الجباية التونسية لتحسين معدّل تحصيل الضرائب، مقرونةً بالزيادة غير المسبوقة في عمليات الرقابة الضريبية على مجتمع الأعمال.
وبحلول نهاية العام، سجّلت النفقات مستوى قياسيًا بلغ 37.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى في تاريخ تونس، حتى إنها فاقت المستوى الذي كان مرتفعًا أساسًا في العام 2022 عند 36.6 في المئة، وتجاوزت بقدرٍ لا يُستهان به متوسط 32 في المئة الذي سُجِّل في فترة 2015-2019 (انظر الشكل 2). بلغت النفقات هذا المستوى على الرغم من التراجع النسبي في كتلة الأجور، من 16.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020 إلى 14.3 في المئة في العام 2023، والتقليص الإضافي في الاستثمارات العامة، التي تشكّل راهنًا نسبة ضئيلة تعادل 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي غير كافية لصيانة البنية التحتية، ناهيك عن تحفيز النمو الاقتصادي (انظر الجدول 2).
يعكس تراجع كتلة الأجور وارتفاع الإيرادات الضريبية تغييرَين سياسيَّين مهمَّين تسبّب بهما حكم سعيّد القمعي، وهما: إضعافُ دور الاتحاد العام التونسي للشغل، ولا سيما بعد إصدار أمرٍ في أيلول/سبتمبر 2022 قضى بزيادة أجور أعوان الوظيفة العمومية بواقع 3.5 في المئة فقط خلال السنوات الثلاث المقبلة (من 2023 إلى 2025)؛ وشنُّ هجومٍ شعبوي على النخب الاقتصادية بسبب "فسادها" وقصورها في دعم الاقتصاد المحلي.
شكّلت النفقات الاجتماعية (التحويلات المالية ونظام الدعم) الجزء الأساسي من الميزانية الذي شهد ارتفاعًا. فقد جرى توسيعها لتصبح بمثابة شبكة أمان اجتماعي من شأنها التعويض عن تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد (انظر الجدول 2). لكن المفارقة أن هذا الإجراء يسهم في ارتفاع المديونية ويفاقم الأحوال الاقتصادية الصعبة. ويُشار إلى أن إصرار سعيّد على الإنفاق الاجتماعي المرتفع هو السبب الرئيس لرفضه إبرام اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي.
في العام 2023، بلغت نسبة التحويلات المالية ونفقات الدعم 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة في تونس (انظر الجدول 2)، لم تتغيّر كثيرًا عن مستوى العام السابق. الواقع أن الدعم الحكومي مُصمَّمٌ لمساعدة السكان على سداد تكاليف منتجات الطاقة، والنقل، والموادّ الغذائية الأساسية، لذا تضاعفت الحصة المخصّصة له من ميزانية الدولة منذ العام 2021. لكن تكاليف الدعم الفعلية أعلى في الحقيقة، إذ ثمّة جزءٌ من نفقات الدعم لا تموّله ميزانية الدولة بشكلٍ مباشر، ويُسجَّل كخسائر تتكبّدها الشركات المملوكة للدولة ليُموَّل بصورة غير مباشرة من خلال القروض المضمونة من الدولة أو حتى المتأخرات. ازدادت تكاليف دعم الوقود بأكثر من الضعف في فترة 2022-2023، من 1 مليار دولار في العام 2021 إلى 2.5 و2.3 مليار دولار في 2022 و2023 على التوالي. وبالمثل، ارتفعت النفقات المُخصَّصة لدعم سلعٍ استهلاكية غير الوقود. وخلال فترة تفشّي وباء كوفيد-19، ازدادت التحويلات المالية الاجتماعية، وهي عبارة عن منح مالية تُصرَف للأشخاص الذين يعيشون تحت خطّ الفقر، بسبب اتّساع نطاق برنامج الأمان الاجتماعي المعني بتوزيع التحويلات المالية إلى الفئات السكانية الأكثر فقرًا، والذي وصلت مساعداته إلى 341 ألف أسرة فقيرة في جميع أنحاء البلاد. ولا تزال الحكومة تقدّم التحويلات الاجتماعية على نطاق واسع حتى اليوم.
يثير تنامي عبء الدين القلق أيضًا. فلا يتعيّن على تونس اليوم سداد الفوائد العالية المتراكمة على ديونها فحسب، بل عليها أيضًا دفع أصل الدين، الذي باتت عملية إعادة تمويله من خلال الحصول على قروض جديدة أصعب من السابق بعد أن فقدت البلاد قدرتها على النفاذ إلى الأسواق المالية العالمية. وقد وصلت تكاليف خدمة الدين في العام 2024 إلى 8.3 مليارات دولار، أي أنها ارتفعت بأكثر من الضعف خلال أربع سنوات، ما يعادل نسبة 14.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (مقارنةً مع 13.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023، و7.8 في المئة فقط في العام 2019). سجّلت خدمة الدين 10.4 في المئة من نفقات الميزانية في العام 2023، لتشكّل بالتالي ثالث أكبر إنفاق في ميزانية الدولة، بعد الرواتب (40.6 في المئة) ونظام الدعم (20.5 في المئة). ويشمل ذلك سداد مبالغ كبيرة من أصل الدين الخارجي. والمبلغ المطلوب سداده هو 6 مليارات دولار للعام 2024، وقد ازدادت هذه التكلفة بواقع ثلاث مرات خلال خمس سنوات (إذ كانت مليارَي دولار فقط في العام 2019). وبلغت فاتورة الفوائد وحدها 3.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023، بعد أن كانت 3.1 في المئة في العام 2020 (انظر الشكل 4).

يُعزى ارتفاع تكاليف خدمة الدين إلى ارتفاع المديونية. ففي أواخر العام 2023، بلغ إجمالي الدين العام التونسي 42.5 مليار دولار، ما يعادل 81 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أعلى بنسبة 10.8 في المئة عمّا سجّله في أواخر العام 2022، وأكثر بخمس مرات من معدّله عشية انتفاضة العام 2011. ولا يشمل هذا الرقم ديون الشركات العمومية المضمونة من الحكومة. يُشار إلى أن ديون الكثير من الشركات المملوكة للدولة تضخّمت خلال السنوات القليلة الماضية عَقِب تدهور وضعها المالي، إلّا أن الأرقام الدقيقة غير متوافرة. مع ذلك، وصلت القيمة الإجمالية للضمانات على قروض أكبر 43 شركة مملوكة للدولة، وفق ما نشرته وزارة المالية، إلى 7 مليارات دولار في أواخر العام 2023، أي إلى ضعف ما كانت عليه قبل سبع سنوات. وعند إضافة ديون هذه الشركات العمومية إلى ديون الحكومة المركزية، يكون مجموع الدين العام قد بلغ 94.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام 2023 (انظر الجدول 3).
الجدول 3. الدين العام والدين المضمون من الحكومة
وحدة القياس: مليون دينار تونسي
|
2020 |
2021 |
2022 |
2023 |
2024 |
إجمالي الدين العام والدين المضمون من الحكومة |
|
|
|
|
|
النسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي |
|
|
|
94.4% |
|
الدين العام المركزي |
93,040 |
104,298 |
114,791 |
127,164 |
139,976 |
النسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي |
77.8% |
79.9% |
79.8% |
80.9% |
81.8% |
ديون الشركات المملوكة للدولة المضمونة من الحكومة |
|
|
|
21,300 |
|
النسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي |
|
|
|
14.4% |
|
ديون الحكومة المركزية |
|
|
|
|
|
الدين الخارجي |
61,287 |
62,957 |
66,518 |
72,143 |
80,912 |
الدين الداخلي |
31,754 |
41,341 |
48,273 |
55,021 |
59,064 |
نسبة الديون الخارجية الإجمالية |
65.9% |
60.4% |
57.9% |
56.7% |
57.8% |
دين الحكومة الخارجي |
|
|
|
|
|
ديون متعدّدة الأطراف |
53% |
57.5% |
60.2% |
61.4% |
|
ديون ثنائية |
16.3% |
17.9% |
18.6% |
20.7% |
|
ديون من الأسواق المالية |
30.8% |
24.6% |
21.3% |
17.8% |
|
دين الحكومة المحلي |
|
|
|
|
|
أذون خزينة قصيرة الأجل |
0% |
7.3% |
4.9% |
40% |
|
سندات حكومية متوسطة الأجل |
55.7% |
46.2% |
54.9% |
59.9% |
|
قروض بالعملات الأجنبية |
11.1% |
9.6% |
5.2% |
|
|
المعهد الوطني للإحصاء، وزارة المالية؛ مركز TEMA. بيانات فترة 2023-2024 من قانون المالية التكميلي لسنة 2023 وقانون المالية لسنة 2024. |
خطة العام 2024: انتقال الدولة من الاقتراض الخارجي إلى الاقتراض الداخلي
تُعدّ ميزانية 2024 التي جرت الموافقة عليها أقلّ توسّعًا بقليل من ميزانية 2023، إذ يبلغ العجز المُخطَّط له 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذا الصدد، يُطرح سؤالان أساسيان: هل الميزانية قابلة للتمويل؟ وهل يمكنها تجنيب البلاد أزمة مالية؟
كي تتمكّن الدولة من بلوغ أهدافها المالية، يجب أن يكون معدّل النمو للكثير من بنود الميزانية – الأجور والدعم والتحويلات المالية – أقل من معدّل نمو التضخّم. قد يصبح العجز في نهاية المطاف أكبر من الحجم المُخطَّط له، مثلما هو الحال غالبًا في تونس، نظرًا إلى أنه يستند إلى توقّعات مُفرطة في التفاؤل من حيث الإيرادات والنمو الاقتصادي على السواء. تفترض ميزانية العام 2024 أن الاقتصاد سيحقّق انتعاشًا بمعدل 2.1 في المئة وأن التضخّم سينخفض إلى 7.3 في المئة.
في حين أن الحكومة تصرّ على أن ما من زيادات ستطرأ على معدّل الضرائب في العام 2024، فهي تتوقّع زيادةً في الإيرادات الضريبية بنحو 1.5 مليار دولار أميركي، ما يمثّل ارتفاعًا بنسبة 10 في المئة مقارنةً مع العام 2023، بدفعٍ من إيرادات الضرائب على الشركات، التي يُتوقَّع أن تزداد بنسبة تناهز 20 في المئة. ونظرًا إلى أن قطاع الشركات يخضع بالفعل لضرائب مرتفعة، من غير المرجّح أن تؤدّي هذه الزيادة في الإيرادات الضريبية إلى تحسين مناخ الأعمال المتدهور، كما أنها لا تؤذن بزيادة استثمارات القطاع الخاص. علاوةً على ذلك، وعلى الرغم من الخطوط الحمراء السياسية التي فرضها سعيّد، تشير توقّعات الميزانية إلى تحقيق إيراداتٍ من عمليات الخصخصة تزيد عن 160 مليون دولار أميركي – وهو هدف غير واقعي، نظرًا إلى أن هذه العمليات حقّقت أقل من 15 مليون دولار بين العامَين 2020 و2023.
من ناحية التمويل، تتوقّع خطة الميزانية للعام 2024 أن تطرأ حاجةٌ إلى اقتراض نحو 3.8 مليارات دولار لتمويل العجز الحالي، إضافةً إلى 6 مليارات دولار لإعادة تمويل أصل الدين المستحق على الديون السابقة. يُضاف ذلك إلى احتياجات اقتراضية تبلغ نحو 10 مليارات دولار، وهذا الرقم أعلى من الرقم القياسي السابق الذي سُجِّل في العام 2023. يكمن التحدي الأساسي في الحاجة إلى استيفاء أكثر من نصف خدمة الدين (58.3 في المئة) بالعملات الأجنبية، وإلى التعاقد عليها من الخارج للحؤول دون تناقص احتياطيات العملات الأجنبية.
جرى تأمين 1.5 مليار دولار فقط من القروض الخارجية الجديدة، وهذا الأمر هو الأكثر مدعاةً للقلق. أما المبلغ المتبقّي، وقدره أكثر من 3.5 مليارات دولار، فلم تتأمّن مصادر تمويله بعد. لذلك، يبقى التحدّي الأساسي الذي تواجهه الدولة في ميزانية 2024 هو فجوة التمويل الخارجي الكبيرة، التي سيكون من الصعب جدًّا ردمها في ظلّ الظروف الراهنة.
واجهت تونس، وسط تراجع جدارتها الائتمانية، قيودًا في الحصول حتى على تمويلٍ تجاري قصير الأجل. وقد كان للقيود المتزايدة على الواردات التي تتعرّض لها الشركات المملوكة للدولة تأثيرٌ على عددٍ من المنتجات، بما في ذلك البن والشاي والزيوت النباتية والقمح الليّن والصلب والأدوية، ما يتسبّب بنقص متكرّر في هذه المنتجات منذ العام 2022. وكان انخفاض الواردات مدفوعًا أيضًا بضعف الطلب الداخلي وانكماش القطاع الصناعي. في نيسان/أبريل، حصلت تونس على قرضٍ تجاري بقيمة 1.2 مليار دولار من المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة، المعنيّة بتوفير التمويل الإنمائي، لدعم الشركات المملوكة للدولة التي تواجه تحدّيات في تمويل الواردات الأساسية، مثل النفط الخام والمنتجات النفطية. سيخفّف هذا القرض من نقص الواردات الناجم عن عدم القدرة على تمويل الاستيراد، ولكنه لن يساعد في سدّ فجوة التمويل في الميزانية.
بدأ مستوى المديونية المرتفع في تونس يثير قلق دائنيها، الخارجيين والداخليين على السواء، ويتفاقم ذلك بسبب رفض البلاد الدخول في برنامجٍ مع صندوق النقد الدولي. وقد أدّى ارتفاع مخاطر التخلّف عن السداد إلى جفاف مصادر التمويل الخارجية. وأصبح تحدّي إعادة تمويل الدين الخارجي أكثر صعوبةً نتيجة إغلاق سوق التمويل الخارجي. ولا يزال العائد على سندات اليوروبوند التونسية أكثر من 20 في المئة، ما يعني أن السوق المالية الدولية قد أُغلقت بصورة أساسية، ما أفضى إلى إدراج تونس على قائمة البلدان التي يُحتمل أن تتخلّف عن سداد ديونها.
في العام 2023، بلغ الدين العام الخارجي أكثر من نصف (56.7 في المئة) مجموع الدين العام. وقد شكّل ذلك 53.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في ذلك العام، وهي نسبة أقلّ من الذروة التي بلغت 65.5 في المئة في العام 2018 (انظر الشكل 4). في ضوء مستوى الدخل في تونس، لا يُعدّ هذا المستوى من المديونية الخارجية مرتفعًا جدًّا، ولا سيما أن نسبةً كبيرة منه هي من مصادر متعدّدة الأطراف بأسعار فائدة مُيسَّرة. ما يزيد من خطورة الدين الخارجي هو عدم اتّخاذ إجراءات لتسوية الوضع التمويلي. فالدين الخارجي يصبح أشدّ خطورة بسبب مخاطر ارتفاع سعر الصرف، لأن انخفاض قيمة العملة الحقيقي (لا الاسمي) يزيد التكلفة الداخلية لخدمة الدين الخارجي. وقد جرى خفض التصنيف الائتماني للبلاد مرارًا في السنوات الأخيرة، ما عبّر عن تدهور جدارتها الائتمانية. ففي حزيران/يونيو 2023، منحتها وكالة موديز تصنيف Caa2، ووكالة فيتش تصنيف CCC-، ما يشير إلى خطر كبير بالتخلّف عن السداد. وفي أيلول/سبتمبر 2024، رفعت وكالة فيتش تصنيف تونس إلى CCC+، مشيرةً إلى تعهّد البلاد بالوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالديون الخارجية. ولكن وكالة التصنيف شدّدت على التحديات المستمرّة، بما في ذلك الحاجات التمويلية المرتفعة، ومحدودية الوصول إلى التمويل الخارجي، وعدم اليقين بشأن قدرة القطاع المصرفي واستعداده لتحمّل تمويل نسبٍ كبيرة من الدين الداخلي.
دفع إغلاق باب الوصول إلى الدين الخارجي السلطات التونسية إلى اللجوء بصورة أكبر إلى أسواق رؤوس الأموال المحلية. ولكن الإفراط الكبير في الاقتراض الداخلي أصبح إشكاليًّا بصورة متزايدة. وقد ازدادت حصّة الاقتراض الداخلي من إجمالي اقتراض الدولة إلى 52.6 في المئة في المتوسط خلال فترة 2021-2023 مقارنةً مع 29.5 في المئة خلال فترة 2015-2019 (انظر الشكل 4).
قطاع مالي في خدمة الدولة
تتمثّل المساوئ الرئيسة للتوجّه نحو أسواق الرساميل المحلية في أنه يتسبّب بمزاحمة تمويل القطاع الخاص ويزيد من خطر تعرّض القطاع المصرفي إلى انعدام الاستقرار المالي.
بلغ صافي مديونية الدولة للقطاع المصرفي، والتي تَضاعفت تقريبًا خلال السنوات الخمس المنصرمة، 23.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العام 2023 (انظر الشكل 5). ونظرًا إلى العوائد المغرية، والمخاطر الائتمانية التي تُعتبر منخفضة (مقارنةً بالإقراض للقطاع الخاص)، والدعم المنهجي الذي يقدّمه البنك المركزي من خلال توفير السيولة في أوقات العُسر، رحّب القطاع المصرفي بزيادة انكشافه على الديون السيادية. وتشجّعت المصارف أيضًا على التحوّل نحو إقراض الدولة بسبب تراجع الطلب على الائتمان من القطاع الخاص، نتيجة إحجام الأعمال والمؤسسات إلى حدٍّ كبير عن الاستثمار في ظلّ الأوضاع المتدهورة.

أصبح الاختلال في التوازن أكثر حدّةً خلال العام 2023. فقد ازدادت القروض المصرفية الممنوحة إلى الدولة بنسبة 24.8 في المئة خلال ذلك العام، في حين أن القروض الممنوحة إلى القطاع الخاص ارتفعت بمعدّل 2 في المئة فقط – وهو أدنى معدّل نمو يسجّله التمويل المصرفي للاقتصاد منذ عقدَين على الأقل. فمن أصل الدين الداخلي الذي بلغ 17 مليار دولار في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، كانت نسبة تزيد قليلًا عن 75 في المئة (12.9 مليار دولار) في حوزة المصارف التونسية، ونسبة 22.7 في المئة (3.8 مليارات دولار) مُدرَجة في الميزانية العمومية للبنك المركزي. وعمَدت المصارف التونسية أيضًا على منح قروض مباشرة بالعملات الأجنبية، إذ تضاعفت قيمتها ثلاث مرات في العام 2023 مقارنةً مع العام 2022، وبلغت 400 مليون دولار (انظر الشكل 5). أشارت هذه الأرقام إلى أن وضع المصارف التونسية سيضعف كثيرًا في حال تخلّف الدولة عن السداد.
واليوم، يمثّل الدين العام حصة مهمّة من أصول القطاع المصرفي، ولا سيما قياسًا بقاعدة رؤوس أمواله. في الواقع، تشير التقديرات الآن إلى أن الدين العام يمثّل 20.7 في المئة من أصول القطاع المصرفي، و73 في المئة من قاعدة رؤوس أمواله. ويمثّل الإقراض بالعملات الأجنبية وحده 11 في المئة من رأس مال القطاع المصرفي. وقد أدّت زيادة الانكشاف على الدين العام إلى ارتفاع معدّلات الأرباح والعوائد على الأصول، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، من جملة أسبابٍ أخرى. ولكن في الوقت نفسه، أدّى انكشاف المصارف المتزايد إلى ارتفاع خطر التخلّف عن سداد الدين العام، ما من شأنه أن يؤثّر بشدّة في النظام المالي الداخلي.
في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2023، كان في حوزة البنك المركزي أيضًا قدرٌ متزايدٌ من الدين العام (3.7 مليارات دولار)، إذ تضاعف هذا المبلغ ثلاث مرات في غضون أربع سنوات وبات يساوي تقريبًا ربع الميزانية العمومية للبنك المركزي. في السابق، كان البنك المركزي يشتري أذون الخزينة من القطاع المصرفي كجزءٍ من سياسته النقدية فقط. ولكن منذ فترة 2020-2021، تعوّل الدولة التونسية على التمويل المباشر من البنك المركزي. يُشار إلى أن هذا الإجراء – الذي يحظّره قانون استقلالية البنك المركزي للعام 2016 – اتُّخذ لأول مرة في العام 2020، خلال أزمة وباء كوفيد-19، حين باتت الدولة عاجزة عن تحصيل الضرائب لسداد النفقات الطارئة خلال هذه الفترة الاستثنائية. وأجازت ثغرةٌ أُدخلت في العام 2023 للدولة إصدار سندات خزينة جرى تحويلها تلقائيًّا إلى البنك المركزي بفائدة صفرية. وكان الهدف من ذلك الامتثال لنص القانون الذي يحظّر على البنك المركزي إقراض الخزينة مباشرةً. وإزاء تفاقم احتياجات الخزينة، قدّمت الحكومة إلى مجلس النواب، في مطلع العام 2024، مشروع قانون يجيز للبنك المركزي إقراض الدولة مبلغ 2.25 مليار دولار، وقد نصّ أيضًا على منح سلفٍ من دون فوائد.
على صعيد منفصل، أدّت الأزمة المالية ونفاد المصادر المالية إلى تراكم المتأخرات المستحقّة على الدولة. فقد توقّفت الدولة عن السداد للكثير من مورّديها، ويُلاحظ ذلك بوجهٍ خاص من خلال توقّف مشاريع العمران والبنية التحتية الحيوية، مثل الطرق والجسور. ووفقًا لخبراء وبيروقراطيين رفيعي المستوى، لم تُسجَّل المتأخرات في الدفاتر الرسمية بسبب نظام المحاسبة الوطني البائد، الذي لا يسجّل المدفوعات إلا بعد سدادها. وهذا يسلّط الضوء على الخطر المتزايد بتسييس الإحصاءات التونسية، وهي مسألة حسّاسة تسبّبت في الآونة الأخيرة بإقالة مدير المعهد الوطني للإحصاء، الذي نشر أرقامًا دقيقة عن المدفوعات، ما أثار غضب السلطات. ومنذ ذلك الحين، أصبحت البيانات شحيحة ويصعب الحصول عليها بسبب الإجراءات التي تفرضها الحكومة والبنك المركزي.
نظرًا إلى محدودية خيارات الاقتراض الخارجي وضعف قدرة المصارف التونسية على تمويل العجز المالي الكبير، اتّضح أن العام 2024 هو عامٌ صعب ومحفوفٌ بالمخاطر للبلاد. فالحكومة، من خلال الإعلان عن نيّتها خفض مخصّصات الميزانية لفترة 2025-2026، كانت كمَن يقول فعليًّا إن الوفرة الحالية لن تدوم لأكثر من عامٍ إضافي، على أن تتبعها، بعد الانتخابات الرئاسية في أواخر العام 2024، سنوات عدّة من الإجراءات التصحيحية القاسية. ليس واضحًا إذا كان من الممكن تحقيق ذلك، على الرغم من خارطة الطريق التي وضعتها الحكومة لاستعادة الاستدامة المالية خلال العامَين المقبلَين. وتقضي الخطة بتقليص عجز الميزانية إلى النصف بحلول العام 2026 – وهذا هدفٌ يتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي – من خلال خفض نفقات الدولة، ولا سيما تلك المتعلقة بالأجور والدعم والتحويلات الاجتماعية. والسؤال الأساسي المطروح هو ما إذا كان ممكنًا الحؤول دون انهيار القطاع المالي حتى ذلك الحين.
2024: سنة كل المخاطر
إن التحوّل في المشهد السياسي، بدءًا من عملية إرساء الديمقراطية ووصولًا إلى استعادة السلطوية، لم يضع حدًّا للممارسة المتمثّلة في تفاقم العجوزات المالية للحؤول دون انهيار الاقتصاد. وكانت زيادة الإنفاق المالي في البداية قرارًا من الائتلاف الذي تقاسَم السلطة عقب انتفاضة العام 2011، ثم تفشّى الوباء في العام 2020 ليشكّل نقطة تحوّلٍ في إدارة المالية العامة التونسية، بحيث وصل العجز في الميزانية إلى نسبة مرتفعة قدرها 9.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ومع أن اتّخاذ إجراءات حاسمة كان أمرًا لا بدّ منه لتصحيح المسار الآيِل إلى الفوضى المالية، أدّت فترة حكم سعيّد، ولا سيما بعد "الانقلاب السياسي" في تموز/يوليو 2021، إلى زيادة حالة انعدام الاستدامة. وبالفعل، ناهز العجز المالي خلال السنوات الثلاث الأخيرة نسبة 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولمّا كان سعيّد قد منح نفسه صلاحياتٍ كاملة، أصبح هو المسؤول الوحيد عن السياسة الاقتصادية التي تخلّت عن كل مظاهر الحصافة المالية. فهو فضّل إحداث قطيعة مع صندوق النقد الدولي، حتى على حساب خسارة كل مصادر التمويل التقليدية لتونس تقريبًا، وعمَد إلى تسييل جزءٍ كبير من العجز المالي، ما قد يتسبّب بتسريع وتيرة التضخّم. وهذا الوضع يثير المخاوف أيضًا بشأن آفاق الدين العام في تونس، لا على المدى المتوسّط فحسب، بل حتى على المدى القصير أيضًا. في المرحلة الراهنة، يبدو المنحى الذي سيأخذه الدين العام غير مؤكّد. فتوقّعات صندوق النقد الدولي الأخيرة، الصادرة في نيسان/أبريل 2024، لا تستشرف استئنافًا للنمو السريع. بل قدّر صندوق النقد أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي 1.8 و1.9 في المئة في العامَين 2024 و2025 على التوالي، أي أقلّ حتى من المستويات المنخفضة التي سجّلها بين العامَين 2021 و2023 (أي 2.7 في المئة). وتوقّع الصندوق أيضًا أن تستمرّ إيرادات الدولة في النمو خلال العامَين 2024 و2025، وأن تتقلّص نسبة النفقات المالية من الناتج المحلي الإجمالي. هذه التوقّعات هي سيناريو متفائل إلى حدٍّ ما، إذ يسمح لتونس بخفض عجزها المالي مع مرور الوقت، ويُمكّنها بالتالي من تثبيت دينها العام عند أقلّ من 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2025. والسيناريو التي تتصوّره وزارة المالية التونسية مشابهٌ جدًّا، وإن كان يتوقّع نموًّا أبطأ في إيرادات الميزانية في الفترة الممتدّة بين العامَين 2024 و2026 (7.4 في المئة). يجوز وصف هذَين السيناريوهَين بالواقعيَّين لولا القيود التي تفرضها السياسة المحلية، والتي ترتبط خصوصًا بمعارضة سعيّد لمسائل خفض الدعم، والإصلاح الهيكلي، واللجوء إلى صندوق النقد الدولي، وخصخصة الشركات العامة. فهذه السياسات، إلى جانب ارتفاع الإنفاق المالي بمعدّل عالٍ بلغ 11.2 في المئة بين العامَين 2021 و2023، تجعل من الصعب على الدولة إجراء تعديلات عميقة، خصوصًا على المدى القصير.
إن أحد العوامل الحاسمة المُحرِّكة للديناميات المستقبلية هو الوضع الذي سيشهده سعر الصرف. فصلابة الدينار التونسي في العام 2023 قوّضها تدهور حسابات المالية العامة، وتراجع احتياطيات العملات الأجنبية، وفشل الحكومة في استئناف المحادثات مع صندوق النقد الدولي. وإذ لم يُسمَح بتعويم الدينار منذ العام 2019، ارتفع سعر الصرف الحقيقي بنسبة تُقدَّر بـ40 في المئة (وأدّى التضخّم المتراكم منذ العام 2019، إلى جانب التضخّم في منطقة اليورو، إلى تقدير العملة التونسية بسعرٍ أعلى من قيمتها الفعلية مقابل اليورو). وهذا يعني أن تعديلًا كبيرًا قد يُجرى في مرحلة ما، مثلما حدث مؤخّرًا في مصر بعد خفض قيمة الجنيه في العام 2024. ومن شأن انخفاض قيمة العملة في تونس، إذا حدث، أن يطرح تحدّيات معقّدة مرتبطة بعملية التعديل، إذ سيؤدّي إلى ارتفاعٍ كبير في معدّل التضخّم، وانخفاضٍ حادّ في الأجور الحقيقية، وزيادة تكلفة خدمة الدين الخارجي. فضلًا عن ذلك، في حال تراجع قيمة العملة، يُتوقَّع أن تؤدّي التأثيرات التي تطال الميزانية العمومية إلى إضعاف القطاع المالي. أولًا، يُرجَّح أن ترتفع القروض الممنوحة إلى الدولة بالعملات الأجنبية، ما سيزيد خطر تخلّفها عن السداد. ثانيًا، سترتفع أيضًا القروض المتعثّرة لمؤسسات القطاع العام، نظرًا إلى ارتفاع مستوى الديون الخارجية للشركات المملوكة للدولة، إضافةً إلى تعرّضها لخطر التخلّف عن سداد التزاماتها المالية للدائنين المحليين. فالتقرير الأخير حول المؤسسات العامة (المُلحَق بقانون الميزانية للعام 2023) يشير إلى أن ديون المؤسسات العامة الرئيسة بلغت 7.2 مليارات دولار، 2.6 مليار دولار منها مُقترَضة من المصارف التونسية، والباقي من المصارف الأجنبية. والواقع أن إدارة احتياطيات العملات الأجنبية في الآونة الأخيرة بقيت لغزًا محيّرًا للمحلّلين. فقد تقلّبت الاحتياطيات على مدى السنوات الثلاث الماضية، ما يشير إلى أن البنك المركزي استفاد، في أوقاتٍ مختلفة، من الودائع الآتية من مصادر خارجية. مع ذلك، ما من معلومات عن عدد هذه العمليات، أو مدّتها، أو تكلفتها، فما بالك بالتاريخ الذي يجب أن يتمّ فيه سدادها. وفي الآونة الأخيرة، أسفر نضوب التمويل الخارجي عن تآكل احتياطيات العملات الأجنبية، التي انخفضت من قدرتها على تغطية 150 يومًا من الواردات في تموز/يوليو 2021، إلى 125 يومًا على مدى الأشهر التسعة الأولى من العام 2022، ثم إلى 92 يومًا خلال الفترة نفسها من العام 2023. وعلى الرغم من أن مستوى الاحتياطيات الإجمالية استقرّ رسميًا عند 7.4 مليارات دولار في شباط/فبراير 2024، لا يزال من غير المؤكّد كم يبلغ مستوى الاحتياطيات القابلة للاستخدام وصافي الاحتياطيات لدى البنك المركزي. ولكن الواضح أن هذا الأخير يجب أن يعتمد الآن أكثر على الاحتياطيات من العملات الأجنبية لتغطية تكلفة خدمة الدين الخارجي المتزايدة، كما حدث عندما اضطّر إلى سداد 850 مليون يورو من سندات اليوروبوند التي استحقّت في شباط/فبراير 2024. والحال أن وطأة خدمة الدين ستزداد حُكمًا، إذ يتعيّن على تونس سداد مبالغ كبيرة من الديون المستحقّة على مدى سنوات عدّة. فستستنزف خدمة الدين في العام 2024 وحده عائدات السياحة وتحويلات المغتربين كلّها تقريبًا. في نهاية المطاف، تُعرّض قلّةُ فرص الحصول على القروض الدولية استقرارَ الدينار للخطر، إذ قد تنخفض قيمتُه بشكل حادّ في الأشهر المقبلة. فقد انتهج البنك المركزي سياسةً نقديةً استيعابية، من خلال الإبقاء على معدّل الفائدة الرئيس من دون تغيير عند مستوى 8 في المئة منذ أواخر العام 2022، إلا أن سعر الفائدة الحقيقي هو سلبيّ إلى حدٍّ ما. هذا الوضع لا يساعد في زيادة المدّخرات الوطنية، التي هبطت إلى مستوى تاريخي قدره 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الانخفاض مرتبطٌ في الأساس بتراجع الإيرادات. وفي الأمد القريب، قد تؤدّي التوقّعات المتزايدة بتراجع قيمة الدينار، وهي خطوة ترتبط بمعدّلات الفائدة المتدنّية، إلى انخفاض التحويلات المالية من الخارج، إذ قد ينتظر المغتربون التونسيون تراجع قيمة الدينار قبل تحويل أموالهم إلى تونس، أو يجرون المعاملات في سوق موازية غير رسمية. ويمكن لذلك بدوره أن يسرّع استنزاف الاحتياطيات، ما من شأنه أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى خفض قيمة العملة بشكل حادّ، وإلى تدهور متسارع. إذا ما سُمِح بحدوث هذا الأمر، فستغرق تونس في لُجج أزمة مالية قد يصعب التعافي منها، في ضوء تجربة لبنان التي تُعَدّ أقصى ما يمكن أن يحدث عندما لا يُصار إلى معالجة التوقّعات السلبية على وجه السرعة (انظر الإطار أدناه).
خاتمة
إن أداء الاقتصاد التونسي هو اليوم دون مستوى إمكاناته بكثير. والواقع أن المشاكل التي تعاني منها الدولة ناجمة عن سلوكها، أي بتعبير آخر مبسّط إلى حدٍّ ما، تكمن المشكلة في حكومةٍ تُفرط في الإنفاق لتيسير الظروف الاجتماعية، وهذا نهجٌ يُبقي النمو منخفضًا. وبما أن مصادر التمويل بدأت تنضب، تستنفد العجوزات المالية التمويلَ المحلي. يؤدّي ذلك إلى مزاحمة القطاع الخاص، ويسفر أيضًا عن تراكم الديون العامة المحلية، ما قد يتسبّب بزعزعة الاستقرار المالي في المستقبل، وتقليص الاستثمار الخاص أكثر. هذا الوضع يفضي إلى مفاقمة التضخّم، وانخفاض الأجور الحقيقية، وارتفاع معدّلات البطالة، وهذه كلّها عوامل تدفع الحكومة إلى الإفراط في الإنفاق. ولذا، أصبح كسر هذه الحلقة المُفرَغة التحدّي الوطني الرئيس.
سيكون تمويل العجوزات المالية الخارجية والداخلية أمرًا صعبًا للغاية في المستقبل القريب. فعلى الصعيد الخارجي، لم تحصل تونس إلّا على 1.5 مليار دولار فقط من أصل 5 مليارات دولار مطلوبة للعام 2024، الأمر الذي خلّف فجوةً تمويليةً ضخمة. أما على الصعيد الداخلي، فحجم الاقتراض الكبير المُخطَّط له لن يستمرّ في مزاحمة القطاع الخاص فحسب، بل سيُبقي التضخّم مرتفعًا أيضًا. وقد يتأتّى الخطر الرئيس على الهيكل المالي الحالي من ارتفاعٍ إضافي في معدّلات التضخّم. فالتضخّم يسفر في نهاية المطاف عن انخفاض قيمة العملة، الأمر الذي يجعل سداد الدين الخارجي أكثر تكلفة. يُضاف إلى ذلك أن ندرة العملات الأجنبية، إذا تفاقمت، ستزيد أكثر فأكثر خطر تداعي النظام برمّته، بحيث ستولّد على وجه الخصوص مخاطر أكثر حدّةً باستنزاف الاحتياطيات، وربما أيضًا بحدوث تهافتٍ على سحب الودائع من المصارف، نظرًا إلى انكشاف هذه الأخيرة الكبير على الديون العامة.
نظرًا إلى هذه الظروف، باتت تونس مُعرَّضة بشدّة للتأثّر سلبًا بالصدمات، سواء كان مصدرها من الخارج أم من الداخل. ولا يمكن للبلاد تحمّل الوضع الراهن إلّا على المدى القصير جدًّا. من المُحتمَل أن تخرج تونس من براثن الديون التي تُثقل كاهلها عبر دفعة استثمارية كبيرة، لكن ذلك يتطلّب تغييرًا جذريًا في سياساتها الداخلية، وحزمة دعم كبيرة من شركائها الدوليين. غالب الظن أن تضطرّ تونس خلال الأشهر المقبلة إلى الاختيار بين خيارَين أحلاهُما مرّ: إما اللجوء إلى إعادة هيكلة ديونها، وإما الشروع في مسار تقشّفي بدعمٍ من صندوق النقد الدولي.
دروس مُستَقاة من أزمة لبنان
أدّى التوقف المفاجئ لتدفّقات رؤوس الأموال في أواخر العام 2019 إلى وقوع أزمة ثلاثية الأبعاد في لبنان، طالت المالية العامّة والقطاع المصرفي وميزان المدفوعات. نتيجةً لذلك، شهدت البلاد ارتفاعًا بالغًا في معدّل التضخّم، وتدهورًا ملحوظًا في الظروف المعيشية، وتراجعًا حادًّا في القيمة الحقيقية للعملة الوطنية، وانخفاضًا كبيرًا في الواردات، وتجميد ودائع الناس في المصارف، وشلل مؤسسات الدولة. كذلك، تقلَّص الناتج المحلي الإجمالي بمقدار النصف تقريبًا، وبات أكثر من نصف سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر ، مقارنةً مع 21.5 في المئة قبل الأزمة. أما السبب الحقيقي للأزمة اللبنانية واستفحالها، فيُعزى إلى ضعف الحوكمة والسياسة الاقتصادية في البلاد. فقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن اتّخاذ التدابير اللازمة لتفادي حدوث هذه الأزمة المُتوقَّعة، كما عجزت عن وضع خطة يُعتدّ بها لإرساء الاستقرار بسبب الخلافات بين الأفرقاء اللبنانيين حول كيفية توزيع الخسائر.
أدّت الحرب الأهلية السورية التي انطلقت شرارتها في العام 2011، وقرار المملكة العربية السعودية في العام 2017 سحب "ضماناتها الضمنية" بتحقيق الاستقرار النقدي في لبنان من خلال توفير حزم إنقاذ مالي عند الحاجة ، إلى إضعاف الاقتصاد اللبناني. لكن الطريق إلى الأزمة كان مُعبَّدًا أيضًا بسياساتٍ مالية ونقدية سيّئة. وأضحت الحوافز التي لجأت إليها الدولة لجذب العملات الأجنبية لتمويل الديون والحفاظ على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي مُكلفةً بشكلٍ متزايد. وتسبّبت معدّلات الفائدة المرتفعة وسعر صرف الليرة المُقيَّم بأعلى من قيمته الحقيقية بتقويض حوافز الاستثمار على نحو متزايد. كان من شأن خفض قيمة العملة في وقتٍ سابق أن يَحول دون تقلّص النشاط الصناعي، وأن يشجّع على الاستثمار وزيادة الصادرات. بدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية، انتشرت الأنشطة الساعية إلى تحقيق الريع المالي، ولا سيما في القطاعات غير القابلة للتداول خارجيًا مثل قطاع العقارات والقطاع التمويلي، حيث وُجِّهَت العائدات ومُنحَت الامتيازات لمجموعة صغيرة من ذوي الارتباطات السياسية.
تحمل تجربة لبنان دروسًا حول كيفية تجنّب الانهيار وتفادي الغرق في أزمة مالية. ويكمن الحلّ في تقليص العجوزات وإبقاء سعر الصرف عند مستوى تنافسي. علاوةً على ذلك، تتطلّب معالجة المشاكل الاقتصادية التوصّل إلى اتفاق سياسي حول كيفية توزيع الخسائر وتفادي هروب رؤوس الأموال. في غضون ذلك، من الضروري الحرص على حماية الفئات السكانية الفقيرة، وتجنّب انتقال العدوى إلى القطاع المصرفي، والأهم من ذلك تطبيق استراتيجية يُعتدّ بها من أجل تحفيز النمو الاقتصادي ودعم البرنامج الإصلاحي، أملًا في بناء مستقبلٍ أفضل.