المصدر: Getty

سورية باتت خطًّا أماميًا لحماية الأمن السعودي

تسعى الرياض إلى إدارة النفوذ الإيراني والإسرائيلي والتركي، بل ومواجهته في الكثير من الأحيان، في إطار لعبة أممٍ جديدة في سورية. أمّا نجاح المملكة في ذلك فيعتمد على قدرة القيادة السورية الجديدة على توحيد البلاد الممزّقة بسبب الحرب.

 هشام الغنام
نشرت في ٢٤ أبريل ٢٠٢٥

مقدّمة

على الرغم من معارضة المملكة العربية السعودية لنظام بشار الأسد، ساورها قلقٌ بالغٌ بشأن مستقبل سورية عَقِب الإطاحة به، وذلك لأسباب عدّة. فتركيا توسّع نفوذها في شمال سورية مستغلّةً انتشارها العسكري هناك ودعمها لفصائل سورية قد تسعى إلى إعادة ترتيب موازين القوى على حساب السعودية. كذلك، شكّل سقوط نظام الأسد ضربةً لاستراتيجية إيران الإقليمية، بعد أن ساهمت في إبقاء النظام في الحكم، وهي الآن تسعى جاهدةً لاستعادة بعضٍ من نفوذها السابق في سورية، وهذا احتمالٌ تودّ الرياض تجنّبه. إضافةً إلى ذلك، تبقى إسرائيل شوكةً في خاصرة السعودية من خلال إضعاف النظام السوري الجديد وضرب القدرات العسكرية السورية، ونسج روابط سياسية واقتصادية مع وجهاء الدروز في سورية من أجل استمالة الطائفة الدرزية.

تشكّل هذه العوامل مدعاة قلق للسعودية، وتشمل بعض شواغلها الملحّة الحؤول دون نشوب صراع طائفي في سورية، وضمان استتباب الأمن على طول حدودها مع الأردن والعراق، المعرّضة للتأثّر بتداعيات ما يحدث في سورية، سواء من خلال الإيديولوجيا الإسلامية السنّية المتشدّدة، أو نشاط الميليشيات الموالية لإيران، أو الإتجار بالكبتاغون. وتقتضي مصالح الرياض على المدى الطويل إعادة إحياء النفوذ السعودي في سورية والمنطقة ككل. ويسود شعورٌ في المملكة بأن عليها تعديل استراتيجيتها تجاه سورية من أجل تحقيق توازنٍ دقيق بين إرساء الاستقرار في البلاد من جهة، ومواجهة النفوذ التركي والإيراني والإسرائيلي المتنامي من جهة أخرى.

التحدّيات الثلاثة للمصالح السعودية في سورية

تتوجّس المملكة من المخطّطات التركية والإسرائيلية والإيرانية في سورية. وعلى الرغم من سعي كلٍّ من الرياض وأنقرة إلى مواجهة النفوذ الإيراني في البلاد، ثمّة تنافسٌ بينهما أيضًا. كذلك، تُعدّ تركيا حليفًا لقطر، التي كان تاريخها مع السعودية حافلًا بالخلافات، لذا تنظر الرياض بعين الريبة إلى مساعي توسيع النفوذ التركي أينما كان. أما إسرائيل، فتستغل الوضع الأمني ​​غير المستقر لمنع وقوع ما تبقّى من مخزون الأسلحة التابع للجيش السوري القديم، أو المعدّات والأسلحة الإيرانية المتروكة، في أيدي الجيش السوري الجديد، محاولةً في الوقت نفسه الاستفادة من علاقاتها المتنامية مع بعض الأقليات السورية، مثل الطائفة الدرزية، لتوسيع نفوذها. وعلى الرغم من تراجع الدور الإيراني في سورية بشكلٍ كبير منذ سقوط نظام الأسد، قد تستعيد طهران نفوذها هناك عبر استغلال الاضطرابات الأمنية المستمرة لإعادة إنشاء جيوب عسكرية في البلاد، وتأمين خطوط إمداد لحزب الله في لبنان. تخشى الرياض أن يؤدّي كل ذلك إلى زعزعة استقرار سورية، وتعزيز مكانة إيران الإقليمية، وتعقيد جهود المملكة الرامية إلى مواجهة وكلاء طهران في مختلف أرجاء الشرق الأوسط.

الواقع أن تركيا تُحكم سيطرتها في شمال سورية والمناطق المحاذية لنهر الفرات. ومنذ العام 2016، نفّذت عمليات عسكرية عدّة في هذه المناطق لكبح نفوذ المجموعات السياسية العسكرية الكردية. هذا وتدعم أنقرة الجيش الوطني السوري، وهو تحالفٌ من الميليشيات يسيطر على مناطق رئيسة في شمال سورية مثل عفرين، وأجزاء من ريف حلب (بما في ذلك منبج وتل رفعت)، وما يُسمّى بمناطق درع الفرات. في الوقت الراهن، يتراوح عدد مقاتلي الجيش الوطني السوري، الذي تَشكّل في العام 2017 بدعم تركي، بين 35 ألفًا و70 ألف عنصر. وتتمثّل مهمّته إلى حدٍّ كبير في تعزيز أهداف تركيا الاستراتيجية من خلال منع قوات سورية الديمقراطية من إرساء حكم ذاتي في شمال شرق سورية. يُشار إلى قوات سورية الديمقراطية هي تحالف يضمّ ميليشيات عرقية يسارية مدعومة من الولايات المتحدة وفصائل متمرّدة تشكّل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري، وهذه الأخيرة عبارة عن فصيل كردي تعتبره أنقرة امتدادًا لحزب العمّال الكردستاني، عدوّها اللدود منذ عقودٍ من الزمن. ولا تزال تركيا تتوجّس من هذا الحزب على الرغم من أن زعيمه، عبدالله أوجلان القابع في أحد سجونها، دعا مؤخرًا حزبه إلى حلّ نفسه وإلقاء السلاح.

عمَدت أنقرة، من خلال العمليات العسكرية التي نفّذها الجيش الوطني السوري وسياسات إعادة التوطين التي تُحابي السكان العرب والتركمان، إلى تغيير التركيبة السكانية في مناطق مثل عفرين وتل رفعت، بهدف تقليص عدد السكان الأكراد وإضعاف نفوذهم. إضافةً إلى ذلك، أدخلت تغييرات على الأنظمة التعليمية والإدارية في هذه المناطق لنشر اللغة والثقافة التركيتَين. وشمل ذلك فرض مناهج تعليمية باللغة التركية في المدارس، ودمج الأنظمة الإدارية التركية في البنى التحتية التعليمية، ما عزّز نفوذ أنقرة في جزءٍ كبيرٍ من الشمال السوري. علاوةً على ذلك، شارك الجيش الوطني السوري، إلى جانب هيئة تحرير الشام، وهي الجماعة الإسلامية السنّية التي تتولّى زمام القيادة في سورية، في الهجمات التي أطاحت بنظام الأسد، وبالتالي امتدّ وجوده إلى خارج الشمال السوري. إذًا، تخشى المملكة من أن يؤدّي دور تركيا المتنامي – ولا سيما استخدام الجيش الوطني السوري وعودة اللاجئين السوريين من أجل إعادة تشكيل التركيبة السكانية وضمان قاعدة شعبية موالية لها في البلاد – إلى تغيير موازين القوى الإقليمية، معزّزًا مكانة أنقرة في سورية على حساب تقويض مكانة الرياض.

منذ سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، أقدمت القوات الإسرائيلية على توسيع انتشارها العسكري في مرتفعات الجولان إلى خارج المناطق التي تحتلّها منذ العام 1967، فدخلت المنطقة العازلة المنزوعة السلاح التي تديرها الأمم المتحدة، ونفّذت عمليات توغلّ برّي داخل الأراضي السورية، وكثّفت غاراتها الجوية على أهداف سورية، وهذه خطوات تقوّض رغبة المملكة في رؤية سورية مستقرّة وموّحدة وخالية من النفوذ الإيراني. وفي 18 آذار/مارس، أدانت وزارة الخارجية السعودية القصف الإسرائيلي للأراضي السورية، واعتبرته انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، متّهمةً إسرائيل بزعزعة أمن سورية واستقرارها من خلال هذه الانتهاكات المتكرّرة. وحثّت كذلك مجلس الأمن الدولي على الوقوف بشكل جادٍّ وحازمٍ أمام هذه الاعتداءات المتواصلة، ومنع اتّساع رقعة الصراع، وتفعيل آليات المحاسبة الدولية على هذه الانتهاكات.

كذلك، يحاول الإسرائيليون التقرّب من دروز سورية من خلال موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل. وعلى الرغم من معارضة قطاعات عدّة من الدروز السوريين، أيّد طريف بشدّة هدف إسرائيل المُعلَن المتمثّل في "حماية" الدروز من النظام الجديد في دمشق، لكن من دون تدخّل مباشر. في غضون ذلك، يبدو أن أحد الوجهاء الدروز في سورية، خلدون الهجري، قد التقى بمسؤولين أميركيين لم يُكشف عن هويتهم في واشنطن العاصمة، حيث حثّ إسرائيل على دعم ثورة مسلّحة على مستوى البلاد ضدّ النظام السوري الجديد. يُشار إلى أن خلدون شريكٌ مقرّب لحكمت الهجري (وتجمعه به صلة قرابة)، الذي هو رجل دين درزي مهم ينتمي لطائفة الموحّدين الدروز في سورية، بيد أن هذا الأخير قال إن خلدون لا يمثّله. في هذه الأثناء، سعت إسرائيل أيضًا إلى استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، إذ عرضت مساعدات تنموية وفرص عمل لبعض سكانها الدروز في مرتفعات الجولان المحتلّة، وذلك في إطار استراتيجية أوسع لتعزيز نفوذها. وتخشى السعودية من أن يُحدِث هذا التدخل الإسرائيلي في سورية فراغًا في السلطة قد يسمح لطهران، عن غير قصدٍ، بالعودة إلى البلاد. وتُفاقم هذا الهاجس مخاوف إضافية من انعدام الاستقرار الإقليمي الذي قد يهدّد نفوذ المملكة وأمنها.

إن قدرة إيران على إعادة بناء شبكة نفوذها في سورية في مرحلة ما بعد الأسد تعتمد جزئيًا على دورها الاقتصادي، ولا سيما من خلال تجارة الكبتاغون، التي قُدِّرَت قيمتها بنحو 10 مليارات دولار، وانخرطت فيها دمشق وحزب الله وطهران، وتلقّت ضربةً كبيرة بعد سقوط نظام الأسد. وقد برزت جهاتٌ جديدة لملء هذا الفراغ، مع العلم أن بعض الشبكات المرتبطة بإيران لا تزال ناشطة. تراقب السعودية عن كثب جهود إيران الرامية إلى استخدام العراق كنقطة عبورٍ لتوسيع نفوذها العسكري والاقتصادي في سورية. وتخشى الرياض بشكلٍ خاص من إقدام الميليشيات المدعومة من طهران على استغلال حالة انعدام الاستقرار في مرحلة ما بعد الأسد من أجل تحويل مسار تهريب المخدّرات من سورية إلى دول الخليج عبر الحدود العراقية.

في غضون ذلك، شهدت منطقة الساحل السوري أحداثًا أدّت إلى زعزعة استقرار البلاد بشكلٍ أكبر، ومن ضمنها الكمين الذي تعرّض له عناصر من قوات الأمن العام التابعة للنظام الجديد في آذار/مارس الفائت على أيدي متمرّدين علويين، ثم أعمال القتل التي نفّذتها هذه القوات بحقّ مئات المدنيين العلويين. قد يتيح شعور العلويين بالسخط والمظلومية الفرصة أمام إيران لإعادة إدراج نفسها في المعادلة السورية، ما سيعزّز قدرتها على دعم حزب الله المنهك في لبنان من خلال إحياء خطوط الإمداد القائمة أو إنشاء خطوط إمداد جديدة. ترى إسرائيل في عودة زخم النفوذ الإيراني إلى سورية تهديدًا أمنيًا كبيرًا، ما قد يدفعها إلى شنّ ضربة استباقية ضدّ الميليشيات المدعومة من إيران وهي في طور إعادة تنظيم صفوفها. وغالب الظن أن يؤدي ذلك إلى وقوع اشتباكات قد تسفر عن زعزعة الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع، ولا سيما إذا كان حزب الله منخرطًا في الأحداث.

تُعدّ استراتيجيات التدخّل التي تنتهجها تركيا وإسرائيل وإيران في سورية متشعّبة وطموحة، إذ تشمل المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والديموغرافية. وفي حال فشلت السعودية في وقف هذا التدخّل أو على الأقل إبطاء وتيرته، سيتعّرض دورها الراسخ كقوّة إقليمية وحامية للمصالح العربية، إلى انتكاسةٍ كبيرة. هذا الأمر من شأنه أن يشجّع تركيا وإسرائيل وإيران على اتّخاذ خطوات متزايدة، وأن يدفع ببعض الدول العربية، بما فيها دول الخليج المجاورة للسعودية، إلى تجاوز الرياض وتشكيل تحالفات إقليمية جديدة، أو العمل منفردةً لتحقيق أهدافها. في ضوء هذه السيناريوهات المُقلقة، تبذل المملكة جهودًا حثيثة من أجل تشكيل ثقلٍ موازنٍ في وجه النفوذ التركي والإسرائيلي والإيراني في سورية.

كيف تواجه السعودية التحدّيات المتعلقة بسورية

في أعقاب الإطاحة بالأسد، اتّبعت السعودية نهجًا متعدّد المسارات لتشكيل معالم المشهد السياسي في سورية. ويتضمّن ذلك مزيجًا من المساعي الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية الرامية إلى دعم النظام الجديد في دمشق وإعادة دمجه في محيطه العربي، ومنع أي محاولة إيرانية لاستئناف التدخّل في الشؤون السورية، واحتواء التوسّع الإسرائيلي في الأراضي السورية. إضافةً إلى ذلك، تدعو السعودية إلى رفع العقوبات الدولية عن دمشق، مُعتبرةً أن التعافي الاقتصادي أمرٌ ضروري لتحقيق الاستقرار في البلاد على المدى الطويل.

تَبرز استراتيجيتان تتّبعهما السعودية لتحقيق أهدافها في سورية. قد تبدو الاستراتيجية الأولى غير متوقّعة، إذ تستند إلى التعاون مع تركيا، التي تمارس نفوذًا واسعًا في سورية عبر شبكة وكلائها. وتتمثّل الاستراتيجية الثانية في استفادة الرياض من علاقاتها مع القبائل العربية في شمال شرق سورية المتعدّد الأعراق. أما في ما يتعلّق بإحباط المخطّطات الإسرائيلية، فلدى السعودية خيارات أقلّ تكمن في التعويل على السخاء الاقتصادي من أجل استمالة قطاعاتٍ من السوريين إلى جانبها وكسب تأييدهم، والضغط في الوقت نفسه على إسرائيل بالوسائل السياسية أو الدبلوماسية غير المباشرة.

التعاون السعودي التركي

يُعزى التنافس بين أنقرة والرياض إلى تباين مصالحهما من جهة، وإلى تزاحمهما بصورة أعمّ على موقع القيادة الإقليمية. فدعم تركيا للفصائل الإسلامية المتمرّدة، وبعضها جزءٌ من النظام الجديد، وطموحها لممارسة النفوذ أو السيطرة على مناطق مثل إدلب وحلب، يتعارضان مع المصالح السعودية. لكن على الرغم من التنافس القائم، بإمكان الدولتَين التعاون في بعض المجالات. فعلى سبيل المثال، تُعدّ تركيا مورّدًا بارزًا للسلاح إلى السعودية، التي تتطلّع إلى إبرام المزيد من هذه الصفقات، ما يعطي الرياض ورقة ضغط اقتصادية على أنقرة لا يمكن الاستهانة بتأثيرها.

والأهم، تتشارك السعودية وتركيا هدف الحدّ من النفوذ الإيراني في سورية والمنطقة. في الواقع، تعتبر الرياض أن أنقرة شريكٌ ضروري في هذا المسعى، نظرًا إلى الوجود العسكري التركي في سورية والعلاقات التي تجمع أنقرة بفصائل المعارضة السورية. ومنذ سقوط الأسد، عزّزت السعودية وتركيا تعاونهما الذي لم يعد يقتصر على مجرّد تبادل المعلومات الاستخبارية. في الواقع، يحقّق البلَدان تقاربًا متزايدًا في موقفهما من التهديدات الأمنية الناجمة عن رغبة إيران في استعادة دورها في سورية، ويسعيان إلى التصدّي لها من خلال توسيع نطاق نفوذهما في البلاد خلال المرحلة الانتقالية الراهنة.

وثمّة أيضًا إمكانية التنسيق معًا في ملفّ إعادة إعمار سورية، حيث يمكن أن تتضافر الاستثمارات المالية السعودية مع الخبرات التركية في قطاع الإنشاءات. وقد أعلنت المملكة أن المساعدات التي تقدّمها للشعب السوري ضمن الجسر الإغاثي "ليس لها سقف محدّد"، إذ ستبقى مفتوحةً لضمان إعادة إعمار البلاد واستقرار الوضع الإنساني في ظلّ الحكومة الانتقالية. إضافةً إلى ذلك، تشارك السعودية في تعهّد دولي بقيمة 6.5 مليارات دولار لمساعدة الحكومة الانتقالية في إعادة إعمار سورية، فيما أرسلت تركيا شركات هندسية إلى حلب ودمشق لتقييم حاجات البنية التحتية. ولكن التوافق بين الرياض وأنقرة لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية، بل تركّز مناقشاتهما أيضًا على إرساء آلية مشتركة للتأثير على العملية الدستورية في سورية، بهدف تهميش حلفاء إيران وتوطيد أركان نموذج حكم سنّي. وقد يؤدّي هذا التعاون بين الجانبَين إلى تشكُّل محورٍ سعودي تركي رسمي حول الشؤون السورية، قد يُعيد ترتيب موازين القوى في منطقة المشرق العربي.

النفوذ السعودي على القبائل السورية

لطالما حرصَت المملكة على توطيد علاقاتها مع القبائل العربية في شمال شرق سورية، مثل شمّر، والبقارة، وطيّ، والبوسرايا، والعكيدات، وعنزة، والظفير، وبني خالد، والجبور، والنعيمي، مُستخدمةً الروابط القبَلية المشتركة، وطرق التجارة التاريخية، والدعم المالي، لخدمة المصالح السعودية. وتُعدّ هذه القبائل، التي تنشط في مناطق دير الزور والحسكة والرقة، أطرافًا رئيسة في الصراعات المحلية على السلطة. وشمل انخراط السعودية مع القبائل توفير الدعم المالي واللوجستي لها، وتَكثَّف هذا الانخراط بعد العام 2014، حين حشدت الرياض بعض القبائل لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الأسد.

وهكذا، شكّلت مواجهة الدور الإيراني في الحملة الدولية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية هدفًا سعوديًا أساسيًا، ولا سيما حين بدت طهران مستعدّة لاستخدام النجاح الذي حقّقه وكلاؤها في ساحات المعركة في شمال العراق من أجل بسط نفوذ أكبر في شمال شرق سورية عبر الحدود. وفي العام 2017، حين خاض كلٌّ من نظام الأسد والتحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة والميليشيات العراقية المدعومة من إيران القتال بشكلٍ منفصل ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق، كان الانخراط السعودي في الحملة واضحًا في مناطق مثل دير الزور، حيث دعمت الرياض الشبكات القبلية والقوات التابعة للمعارضة لتقويض كلٍّ من تنظيم الدولة الإسلامية والنفوذ الإيراني.

وفي منتصف العام 2018، كثّفت المملكة اتّصالاتها مع قوات سورية الديمقراطية من أجل تعزيز انخراط القبائل العربية في هذا التحالف الذي يقوده الأكراد. كان هدفها إضعاف النفوذ الإيراني في شرق سورية، ولا سيما في المناطق القريبة من الحدود العراقية، مثل دير الزور، واستخدام المسألة الكردية ورقةً استراتيجيةً للضغط على تركيا. وشملت خطوات المملكة تقديم دعمٍ مالي كبير إلى قوات سورية الديمقراطية، واستثمار 100 مليون دولار في أواخر العام 2019 في إطار جهود إرساء الاستقرار في المناطق المحرّرة من تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سورية، ولا سيما في الرقة ودير الزور، وإعادة إعمارها. وكانت الدبلوماسية المباشرة عنصرًا أساسيًا في هذه الاستراتيجية، كما اتّضح من خلال زيارة أجراها وزير الدولة السعودي إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية في دير الزور في أواخر حزيران/يونيو 2019، حين حثّ شيوخ القبائل العربية على المساعدة في الحفاظ على الاستقرار في ظلّ إدارة قوات سورية الديمقراطية؛ وأيضًا من خلال زيارة قام بها وفدٌ من قوات سورية الديمقراطية إلى المملكة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019.

وعَقِب الإطاحة بالأسد، كثّفت المملكة جهودها الدبلوماسية المتعلقة بسورية. وتجلّى ذلك بوضوح في مطلع كانون الثاني/يناير 2025، عندما أجرى وزير الخارجية السوري زيارة رسمية إلى الرياض. في الوقت الراهن، ما من دليلٍ مباشر على أن السعودية واصلت استخدام علاقاتها القبلية لدعم المرحلة الانتقالية السورية. مع ذلك، يشير النهج الذي اتّبعته الرياض تاريخيًا إلى أنها تعمل ربما خلف الكواليس على توطيد أركان الحكومة الجديدة وتقويض النفوذ الإيراني بشكلٍ متزايد، من خلال ثروتها الاقتصادية وروابطها مع القبائل العربية.

مواجهة المخطّطات الإسرائيلية

تؤدّي هجمات إسرائيل المستمرّة على المواقع العسكرية وتدخّلها السياسي المتزايد في سورية إلى تقويض الدور القيادي السعودي في العالم العربي من خلال تصوير الرياض على أنها ضعيفة وغير فعّالة. لمواجهة ذلك، حاولت المملكة الضغط على إسرائيل من خلال اتّخاذ إجراءات دبلوماسية والتنديد بالسلوك الإسرائيلي. على سبيل المثال، أدانت وزارة الخارجية السعودية في 10 كانون الأول/ديسمبر 2024 استيلاءَ إسرائيل على المنطقة العازلة في مرتفعات الجولان واعتبرته خطوةً مُخلَّةً بالاستقرار. وأدلت الرياض بتصريحات مماثلة بشأن الغارات الجوية التي شنّتها إسرائيل على سورية، إذ وصفتها بأنها تشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، مُتّهمةً إسرائيل بالسعي إلى زعزعة استقرار سورية.

إضافةً إلى ذلك، حشدت السعودية دول مجلس التعاون الخليجي لاتّخاذ موقف موحّد دعمًا لسورية، كما أكّد جاسم البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، متجاوزةً بذلك الخلافات الأولية مع كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة وعُمان وقطر.1 هذا الموقف الموحّد لدول مجلس التعاون يعزّز شرعية النظام السوري الجديد، ويشكّل جبهةً عربية معارِضة للنفوذ الإسرائيلي. كذلك، سعت وسائل الإعلام السعودية النافذة المرتبطة بالدولة، مثل قناة العربية، إلى تشكيل الرأي العام العربي والدولي ضدّ التوسّع الإسرائيلي المتنامي من خلال برامجها ومقالاتها وتقاريرها. كذلك، أبدت مجموعةٌ من الحسابات الموالية للدولة على وسائل التواصل الاجتماعي دعمها للنظام السوري الجديد ضدّ إسرائيل من خلال مختلف أشكال الإدانة للغارات الجوية الإسرائيلية على البلاد والتحريض الإسرائيلي المعلوماتي على النظام الجديد في سورية. وتعمل هذه المنصّات على تشكيل سرديّةٍ مؤيّدة للحكومة السورية في أوساط الرأي العام العربي.

تعبّر هذه الجهود مجتمعةً عن تنامي المعارضة السعودية للنفوذ الإسرائيلي في سورية في مرحلة ما بعد الأسد. وتخشى الرياض بشكلٍ أساسي أن تؤدّي عمليات إسرائيل العسكرية وتدخّلها السياسي إلى إضعاف الحكومة الجديدة، ولا سيما أن ذلك قد يفاقم تشرذم سورية، ما قد يسمح لإيران بإعادة فرض سيطرتها على مناطق من البلاد من خلال وكلائها. لذا، تبذل السعودية مساعيَ دبلوماسية من أجل حشد الدعم الدولي لمحاسبة إسرائيل وإرغامها على تغيير نهجها الحالي.

خاتمة

إن المملكة مُلتزمة بدعم النظام السياسي الناشئ في سورية، وحريصة على تحقيقه النجاح على جبهات عدّة. في الواقع، على النظام الجديد أن يحكم البلاد بشكلٍ فعّال، ويمنع عودة نشاط الجماعات الجهادية، ويُعيق محاولات استعادة النفوذ الإيراني، ناهيك عن تفادي الوقوع بالكامل تحت سيطرة تركيا، والحدّ من التوسّع الإسرائيلي، وقطع دابر تجارة الكبتاغون في البلاد. ولمساعدة دمشق على تحقيق هذه الأهداف، قد تزيد المملكة دعمها الاقتصادي المباشر لسورية من خلال الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار وغيرها. على الصعيد الإقليمي، غالب الظن أن تواصل الرياض مبادراتها الدبلوماسية لاستعادة العلاقات السياسية الطبيعية بين دمشق والدول العربية. وعلى الصعيد الدولي، تطالب الرياض برفع العقوبات المفروضة على دمشق وتأمين المساعدات الضرورية للبلاد.

لا بدّ من الانتظار لرؤية ما إذا ستكون هذه المساعي كافية لتعزيز قدرة النظام السوري الجديد على البقاء والاستمرار في ظلّ التحديات الداخلية لشرعيته، والتهديدات الخارجية المُحدقة بسيادة البلاد ووحدة أراضيها. وسيعتمد نجاح المبادرات السعودية إلى حدٍّ كبير على قدرة الحكومة السورية على توحيد بلدٍ ممزّق، وهذه مهمّةٌ ستزداد صعوبةً في حال تأجّجت جذوة التوتّرات الطائفية والعرقية، أو استغلّت القوى الخارجية مكامن ضعف سورية. وفي حال تراجع الدعم المالي والدبلوماسي السعودي، أو اكتسبت دولٌ إقليمية منافسة للمملكة، مثل إيران، نفوذًا أكبر في سورية، قد تواجه القيادة الجديدة في دمشق صعوبةً في توطيد أركان حكمها، ما من شأنه أن يُغرق البلاد مجدّدًا في لُجج انعدام الاستقرار، ويزيد من صعوبة استعادة الرياض نفوذها هناك في المستقبل.

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK International Development التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

هوامش

  • 1حصل المؤلّف على معلومات حول مساعي المملكة العربية السعودية لتوحيد موقف دول مجلس التعاون الخليجي بشأن سورية خلال اجتماع خاص عُقِد وفقًا لقاعدة تشاتام هاوس. للمزيد من التفاصيل، يمكن زيارة الرابط التالي:

     

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.