المصدر: Getty

الجمهورية الثانية: إعادة تشكيل مصر في عهد عبد الفتاح السيسي

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في صدد بناء جمهورية جديدة تستند إلى مبدأ "مفيش حاجة ببلاش"، وشكلٍ جديدٍ من رأسمالية الدولة، فضلًا عن صلاحيات رئاسية فائقة في إطار وصاية عسكرية تضمن تماسك النظام إلّا أنها تتركه عاجزًا عن حلّ التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكثيرة.

نشرت في ١٢ مايو ٢٠٢٥

ملخّص

يسعى الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تحديث مصر. وتستند "الجمهورية الجديدة" التي يعكف على بنائها إلى إعادة تحديدٍ جذرية للعقد الاجتماعي الذي أُرسيت دعائمه بعد العام 1952، كما تنطوي على إنتاج شكلٍ جديد من رأسمالية الدولة، وتكريس سلطاتٍ رئاسية موسّعة في إطار الوصاية العسكرية الناشئة. ومع أن النظام قوي ومتماسك في أعلى الهرم، تبقى الجمهورية الثانية عرضةً لخطر التفكّك بسبب عجز النظام عن تحقيق الهيمنة الاجتماعية والسياسية واعتماده المفرط على الأدوات القسرية.

نقاط أساسية

  • استبدل السيسي برامج الرعاية الاجتماعية الموسّعة وسياسات إعادة توزيع الثروة التي كانت سائدة خلال جمهورية ما بعد العام 1952، بمبدأ "مفيش حاجة ببلاش" (لا شيء بالمجان)، بالتزامن مع تهميش القطاع العام، الذي شكّل في السابق القاعدة الاجتماعية والسياسية الأساسية للنظام.
  • منح الرئيس لنفسه صلاحياتٍ رئاسية "فائقة" أوسع بكثير من تلك التي اضطلع بها جميع رؤساء مصر السابقين.
  • تُعدّ الهيمنة السياسية للقوات المسلحة عاملًا راسخًا وأساسيًا في تشكيل الجمهورية الثانية.
  • إن نموذج رأسمالية الدولة الذي يتّبعه السيسي، والذي يرتكز على الكيانات شبه الحكومية الخاضعة لسيطرته، يرسي اقتصادًا هجينًا ينطوي على شراكات بين مختلف هيئات القطاع العام، وأيضًا على إخضاع رأس المال الخاص لحاجات الدولة.
  • ثمّة تضارب جوهري في الأهداف التي يسعى السيسي إلى تحقيقها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما يهدّد استدامة الجمهورية الجديدة التي يبنيها.

نتائج وتوصيات

  • يُعدّ النظام المصري قويًا ومتماسكًا في قمة الهرم، بيد أنه يرتكز على بنى سياسية وإيديولوجية ضعيفة، ما يرغمه على توسيع نطاق شبكات المحسوبية التابعة له لتشمل دائرةً أكبر من المستفيدين، على الرغم من تضاؤل الموارد المالية المتاحة أمام الدولة.
  • يستثمر النظام في القمع والهيمنة الإيديولوجية من خلال السيطرة على الفضاء الإعلامي، واتّخاذ إجراءات اقتصادية تخفيفية مثل برامج الدعم النقدي للفقراء. ولكن هذه المبادرات تبقى قاصرةً عن منحه إجماعًا اجتماعيًا وسياسيًا يُعتدّ به، نظرًا إلى التراجع الحادّ في الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والعزوف عن إجراء إصلاحاتٍ هيكلية من شأنها تحرير قوى السوق.
  • حالَت التدفّقات المالية المتكرّرة الوافدة من الشركاء الخارجيين وحدها دون دخول النظام في دوامة أزمة كبرى، لكنها سمحت له بمواصلة انتهاج سياسات عامة واستراتيجياتٍ استثمارية فاقمت المشاكل الاقتصادية القائمة، وأبقته غير مجهّزٍ لمواجهة التحديات المقبلة.
  • قد لا تستمرّ الجمهورية الثانية بعد رئاسة السيسي، لكن لا عودة عن القطيعة بينها وبين جمهورية ما بعد العام 1952، وبالتالي يبدو أن إرث الجمهورية الجديدة سوف يبقى، سواء كانت تأثيراته إيجابية أم سلبية.
  • إن تراكم الثروات الخاصة بأعضاء الدائرة الضيّقة للنظام يجعل منهم جزءًا من طبقة أصحاب الرساميل والأملاك، ما يشير إلى حدوث عملية دمجٍ جديدة بينهم وبين الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. وهذه هي ربما النتيجة الأكثر ديمومةً التي تفرزها الجمهورية الثانية.

مقدّمة

الرئيس عبد الفتاح السيسي يعيد تشكيل مصر. فقد أكّد في آذار/مارس 2021 "ميلاد دولة جديدة وجمهورية جديدة"، مع افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة لتحلّ محلّ القاهرة، العاصمة القديمة.1 وعلى الرغم ممّا بدا من غرورٍ في هذا التصريح، فالحديث عن انتقالٍ إلى جمهورية جديدة تعقِب تلك التي أنشأتها القوات المسلحة المصرية بعد العام 1952 لم يكن مجرّد مبالغة. في الواقع، لا يمكن التقليل من شأن القطيعة العميقة التي أحدثتها الثورة الشعبية التي انطلقت شرارتها في العام 2011 ثم الثورة المضادّة التي قادتها في العام 2013 القوات المسلحة بقيادة السيسي، الذي كان آنذاك وزيرًا للدفاع. ففيما تُعقَد في الكثير من الأحيان مقارناتٌ بين مقاربة السيسي الرئاسية ومقاربات رؤساء مصر السابقين، ولا سيما جمال عبد الناصر، الذي حكم من العام 1954 إلى العام 1970، تُعدّ أوجه الشبه هذه سطحية. فطبيعة نظام الحكم الراهن المركزي والمدعوم عسكريًا بقيادة شخصية قوية وكاريزمية، إنما تمثّل انقطاعًا عن الإرث السابق أكثر من كونها امتدادًا له.2

"الجمهورية الجديدة" هي عبارة بلاغية تجسّد مساعي السيسي الرامية إلى تحديث مصر. ويتجلّى ذلك من خلال إعادة بناء مساحاتها الحضرية، وتوسيع بنيتها التحتية القومية، وتطوير قدرات قواتها المسلحة، وهذه مشروعات يريد الرئيس في مقابلها امتثالَ الشعب. لا تزال "الجمهورية الثانية" في طور التشكُّل، لكن ابتعادها عن إرث الماضي ومساراته يظهر بوضوحٍ من خلال طرقٍ ثلاث: أولًا، حدث ما يمكن وصفه بعملية تفكيكٍ، أو حتى تقويضٍ، لعناصر رئيسة من النظام الاجتماعي السياسي السابق. ويشمل ذلك القضاء التام على هامش التنافس السياسي القانوني والمعارضة السلمية، وهو هامشٌ كان محدودًا أساسًا؛ وإعادة تعريف العقد الاجتماعي على نحو جذري؛ وإحداث تغيير استراتيجي في الاتجاه الاقتصادي للبلاد؛ إضافةً إلى إضعاف الجهاز البيروقراطي الحكومي والجناح المدني للدولة، بما في ذلك الهيئات الرقابية والقضاء.

ثانيًا، بُذلت جهودٌ لإعادة تشكيل أدوات السلطة وحرمان المنافسين السياسيين المحتملين من أي هامش مناورة. وتضمّن ذلك الانخراط في القمع المفرط وتوسيع صلاحيات أجهزة الأمن القسرية التابعة للدولة، والهيمنة على الفضاء الإعلامي والخطاب العام، ونشر إيديولوجيا قائمة على القومية المفرطة والارتياب، فضلًا عن تكوين كادرٍ جديدٍ من الشباب الموالين للنظام الحاكم والبيروقراطيين النموذجيين.

وثالثًا، شهد النظام الحاكم ونواته الداخلية تحوّلًا تجلّى من خلال تركُّز السلطة في يد السيسي ودائرته الضيّقة من المقرّبين، ما أفضى إلى غياب مراكز القوى المتصارعة التي لطالما أزعجت أسلاف السيسي، وإلى تكريس الوصاية العسكرية على الحياة المدنية في مصر. وأدّى ظهور هيئاتٍ شبه حكومية تابعة للرئيس، في موازاة تهميش مؤسسات القطاع العام الخاضعة للحكومة، إلى تحوّلٍ هيكلي ملحوظ يسمح للدولة بممارسة نفوذها على طبقة رجال الأعمال، ويتيح انضمام كبار أفراد النظام إلى طبقة أصحاب الرساميل والأملاك.

تُشكّل هذه الآليات الثلاث مجتمعةً برنامجًا جذريًا لإعادة تشكيل مصر. يبدو من نواحٍ عدّة أن إدارة السيسي تتبع ببساطة اتّجاهاتٍ عالمية، من ضمنها إعادة تنشيط رأسمالية الدولة، وتطبيق سياساتٍ تقشّفية تُسفر عن اتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء وعن طمس الخطوط الفاصلة بين الطبقة الوسطى وطبقة محدودي الدخل، والقمع المنهجي لأشكال المعارضة العلنية، وتقييد نشاط المجتمع المدني، واستخدام التشريعات والتحوّل الرقمي لتوطيد أركان الحكم السلطوي وسياساته.3 مع ذلك، ما يميّز إدارة السيسي إلى حدٍّ ما أنها لم تُنشئ حزبًا حاكمًا ولا تحالفاتٍ راسخة مع قوى اجتماعية بارزة، بل اختارت أن تحكم من خلال نظامٍ سلطوي تُفرَض فيه القرارات فرضًا من أعلى الهرم إلى قاعدته، مُستندةً في الغالب إلى مؤسسات الدولة. من هذا المنطلق، يُعدّ النظام الحاكم الذي نشأ منذ تسلُّم السيسي سُدة الرئاسة في العام 2014 أضيقَ اجتماعيًا وسياسيًا من أيّ نظامٍ مصري أُرسي منذ العام 1952. ونتيجةً لذلك، لم يستطع النظام الراهن حتى الآن ترجمةَ سلطته القسرية إلى هيمنةٍ سياسية أوسع، لكن من غير المؤكّد ما إذا كان ينوي ذلك أساسًا، نظرًا إلى اعتماده المكثّف على القمع على حساب السعي إلى بناء التوافق.

عمومًا، يظهر أن الأمور التي يريدها السيسي تتضارب في ما بينها باستمرار: فرضُ الحكم السلطوي من خلال أدواتٍ وأجهزة موالية له، إنما غير مسيّسة؛ وجذبُ رأس المال الخاص، لكن في ظلّ سيطرة الدولة على الاقتصاد وهيمنتها على السوق؛ وضبطُ الفساد، لكن مع ترسيخ المحسوبية؛ وإرساءُ حكمٍ مؤسّسي روتيني، إنما في ظلّ تمحوره حول شخص الرئيس؛ والتمتّعُ باستقلالية شبه كاملة في عملية صنع القرارات التنفيذية الرئاسية، في ظلّ التسليم بمصالح شركاء أقوياء ضمن تحالف مؤسسات الدولة الذي يرسّخ حكم الرئيس. وبما أن هذه التجاذبات تشكّل إحدى خصوصيات إدارة السيسي وجزءًا لا يتجزّأ من الجمهورية الجديدة التي يعمل على بنائها، فإنها تهدّد استدامة هذه الجمهورية على المدى البعيد.

مع ذلك، يبدو أن السيسي يعوّل على قدرته على الحفاظ على "البنية التحتية" للهيمنة لضمان متابعة النهج الراهن على الجبهات كافة طوال الفترة التي يُفترض أنها ولايته الرئاسية الأخيرة، وفقًا للتعديلات الدستورية التي أُجريت في العام 2019. وإذا نجح في ذلك، غالب الظن أن يسعى إلى تعديلٍ دستوري جديد يسمح له بالتجديد لولايةٍ إضافية بعد العام 2030، أي عام انتهاء ولايته الحالية. لكن هذا السيناريو يعتمد ربما على قدرة إدارته على مواجهة التحديات المتزايدة خلال السنوات الخمس المقبلة: أي النقص المزمن في رأس المال، وارتفاع مستويات الدين العام، وزيادة الفقر والتفكّك الاجتماعي، والأزمة البيئية التي ستفاقم هاتَين المشكلتَين، فضلًا عن النزاعات الإقليمية التي تحيط بمصر وتهدّد أمنها القومي واقتصادها، ومن ضمنها تداعيات الحرب الأهلية في السودان التي تلقي بظلالها على مصر، والتهديدات المتشابكة في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بما في ذلك الخلاف مع إثيوبيا على مياه نهر النيل، وحالة انعدام الاستقرار في ليبيا، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر.

الرهانات إذًا مرتفعة للغاية. فمقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أوائل العام 2025 بإعادة توطين أعدادٍ كبيرة من الفلسطينيين من غزة في مصر، يُظهر مدى ضيق هامش الخطأ المتاح أمام دولةٍ تعتمد قواتها المسلحة بشكلٍ كثيف على المساعدات العسكرية الأميركية، وتحتاج بالقدر ذاته إلى دعم واشنطن السياسي لتلقّي التمويل من المؤسسات المالية الدولية. في ظلّ الاتجاهات الراهنة، يبدو من شبه المؤكد أن القوات المسلحة المصرية، التي شكّلت الركيزة الأساسية لسلطة السيسي منذ تسلّمه الرئاسة في العام 2014، ستواصل دعمها له، بما في ذلك لولايةٍ إضافية. لكن إذا تفاقمت التحديات التي تواجهها مصر، قد تطالب القوات المسلحة بالحصول على المزيد من المزايا مقابل ولائها، أو قد تبحث عن بديلٍ لخلافة السيسي. لكن السؤال الحاسم أوسع نطاقًا: ما المصير الذي ينتظر الجمهورية الثانية؟ هل ستتوطّد أركانها، أم ستراوح مكانها، أم سوف تتداعى؟ الآن وقد شهدنا أفولَ جمهورية ما بعد العام 1952، هل سيتمكّن السيسي من إحداث تحوّلٍ كافٍ في مصر لضمان استمرار إرثه السياسي بعد مغادرته سُدة الحكم؟

القطيعة مع الماضي وتفكيكه

كان هدف السيسي الأول بعد استيلاء القوات المسلحة المصرية على السلطة في العام 2013 تفكيكَ النظام الذي حكم من خلاله سلفُه حسني مبارك البلاد. فقد رأى السيسي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن اللبرلة السياسية والاقتصادية النسبية التي طبعت العقد الأخير من حكم مبارك كانت متساهلةً بشكل مفرط، وبالتالي حمّلاها مسؤولية اندلاع ثورة العام 2011، وما لحقها من اضطراب سياسي وانكماش اقتصادي. كذلك لامَت القوات المسلحة مبارك على صعود مُنافسَين محتملَين لمكانتها المتميّزة: طبقة رجال الأعمال المحسوبين على السلطة الذين اكتسبوا قدرًا كبيرًا من النفوذ في ظلّ نجل الرئيس مبارك، جمال، والذين منعت القوات المسلحة عودةَ نفوذهم السابق عقب إطاحة مبارك في شباط/فبراير 2011؛ وجماعة الإخوان المسلمين التي فاز مرشّحها محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية في العام 2012، وكان أول رئيس مدني في تاريخ مصر.

اتّخذت هذه القطيعة مع الماضي شكلَين رئيسَين. تَمثَّل الشكل الأول في هجومٍ متواصل هدفه القضاء على الحياة السياسية العامة وخنق المجتمع المدني، وبالتوازي، إخضاع طبقة الأعمال لنموذجٍ انتقاميّ من رأسمالية الدولة. وهنا تبدو المقارنةٍ بين عهدَي السيسي وعبد الناصر معقولة. أما الشكل الثاني، فتَضمَّن هجومًا مباشرًا على جانبَين رئيسَين آخرَين من إرث عبد الناصر: العقد الاجتماعي ما بعد العام 1952، وبيروقراطية الدولة. لقد أدّت "السلطوية المتجدّدة" التي كُرِّسَت على أنها "أسلوب حياة" إلى تجويفٍ شديدٍ لجميع هذه المجالات، ما جعَلَ النظامَ الحاكمَ راسخًا في السلطة، ولكنه يتمتّع بقاعدة اجتماعية أضيق ويُعدّ أكثر هشاشةً من الناحية السياسية من الأنظمة التي سبقته.4

تفريغ الميدان السياسي

تُرجِم نفور السيسي من التنظيم والنشاط السياسيَّين المستقلَّين إلى هجومٍ ثلاثيّ الجوانب يرمي إلى تفريغ الحياة السياسية في مصر بالكامل. يتمثّل الجانب الأول في تقويض النشاط السياسي الحزبي من أساسه، مع الحفاظ على عمليةٍ ديمقراطية ظاهرية من خلال إجراء الانتخابات الدورية، والإبقاء على مظهر الحياة البرلمانية. فعلى حدّ وصف محلّلة الشؤون المصرية مارينا أوتاوي، أدّى تفريغ الميدان السياسي باعتباره "ساحة تنافس بين قوى سياسية مُنظَّمة تُمثّل مطالب مختلف الفئات" إلى "موت الحياة السياسية"، فباتت الأحزاب "ضعيفةً إلى حدٍّ فقدت فيه أهميتَها".5 وبالفعل، أشارت الهيئة العامة للاستعلامات التابعة للحكومة في العام 2022 إلى أن الأحزاب القديمة التي تأسّست قبل العام 2013 لا تزال "تصارع بين التطوير والفناء" في الجمهورية الجديدة.6

والأهمّ أن الأجهزة الأمنية الرئيسة شجّعت بروز عددٍ كبيرٍ من الأحزاب الموالية التي يتمثّل دورها الأساسي في إظهار الدعم الشعبي للسيسي وسياساته. فعلى عكس النظام في عهد مبارك، الذي اعتمد على وسيلة وحيدة للسيطرة الاجتماعية وتدوير النخب، أي على "الحزب الوطني الديمقراطي"، اتّبع نظام السيسي نموذجًا أكثر لامركزيةً لتفويض السيطرة السياسية. وهكذا، أُنشِئَت الأحزاب الموالية الحالية بمعظمها بعد انقلاب العام 2013، وسرّع صعودُها وارتباطها بشبكات المحسوبية تراجعَ دور الأحزاب السياسية الحقيقية. وتتولّى الأجهزة الأمنية بشكلٍ روتيني اختيار المرشّحين والقوائم الحزبية، وتشكيل الكتل البرلمانية، التي تتحكّم بها إلى درجة غير مسبوقة حتى في عهد مبارك، الذي كان معروفًا بهذا النوع من التلاعب. وقد ترسّخ هذا التوجّه بعد إصدار تشريعٍ جديدٍ يلغي الإشراف القضائي على الانتخابات ابتداءً من العام 2024.7 ونتيجةً لذلك، مُني "حزب المصريين الأحرار" الليبرالي، الذي كان فاز بمقاعد أكثر من أيّ حزب موالٍ للحكومة في انتخابات العام 2015، بخسارةٍ فادحة في انتخابات العام 2020 إذ فشل في الحصول على أي مقعدٍ، بينما فاز حزب "مستقبل وطن"، وهو صنيعة النظام، بغالبية المقاعد في كلٍّ من البرلمان ومجلس الشيوخ، الذي جرى إحياؤه مؤخّرًا، وهو هيئة استشارية فقط إلى حدٍّ كبير.8

أما الجانب الثاني من هجوم السيسي على الحياة السياسية، فتمثّل في تهميش دور مجلس الشعب، أي البرلمان المصري، كمنبرٍ أساسي للاختلاف السياسي السلمي والجائز قانونًا مع سياسات الحكومة وتشريعاتها. صحيحٌ أن البرلمان لم يكن يومًا منبرًا ديمقراطيًا نابضًا بالحياة، فما بالك بمنبرٍ قويّ، ولكن منذ تولّي السيسي سُدة الرئاسة، تقلّص دوره بشكل أوضح من أيّ وقت مضى ليصبح مجرّد أداةٍ للمصادقة التلقائية على المراسيم الرئاسية ومشاريع القوانين التي تقترحها الحكومة. لقد كان فرض هيمنة الأحزاب والكتل البرلمانية الموالية للنظام خطوةً أولى، ولكن بتجريد البرلمان من أهميته وثقله، يمكن لإدارة السيسي استخدامه كواجهة توحي بوجود مظهرٍ من الانفتاح السياسي، من خلال إنشاء أحزاب ومنصّات جديدة بصورة دورية. ومن الأمثلة على ذلك حزب "الجبهة الوطنية" الذي أُنشئ في كانون الأول/ديسمبر 2024، والذي احتفت به وسائل الإعلام الحكومية بوصفه مؤشّرًا على التعافي السياسي.9 هذا وأدّت مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها السيسي في نيسان/أبريل 2022 وظيفةً مماثلة، ودفعت في الوقت ذاته بالأحزاب السياسية إلى "المشاركة الفعلية في صناعة القرار المصري خارج الإطار التقليدي المتعلّق بالبرلمان"، على حدّ تعبير الهيئة العامة للاستعلامات.10

الجانب الثالث للنهج الذي تتّبعه إدارة السيسي في الشؤون العامة هو توجيه النشاط السياسي والاجتماعي نحو مجالاتٍ تهدف إلى امتصاص تأثير هذا النشاط وتحييده. وكان التركيز باكرًا على قمع المنظمات الإسلامية غير الحكومية الناشطة في تقديم الخدمات، والتي نُظِر إليها على أنها تشكّل تهديدًا سياسيًا.11 وقد رمى قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي رقم 149 للعام 2019 إلى تحقيق تأثيرٍ مماثلٍ لتهميش البرلمان، عبر حصر عمل المنظمات غير الحكومية في نطاق "تنمية المجتمع... مع مراعاة خطط الدولة التنموية واحتياجات المجتمع". هذه الصياغة المبهمة أضفت الشرعية على قمع الحكومة لعمل المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، فيما سمحت بالمناصرة البيئية مثلًا.12 ولكن حتى في هذه الحالة، يحظّر القانون على المنظمات غير الحكومية المُعتمَدة نشر نتائج استطلاعات الرأي والدراسات الميدانية من دون الحصول على موافقة مسبقة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التابع للحكومة. ويفرض القانون أيضًا على الجمعيات الأهلية الحصول على موافقة وزارة الداخلية لتلقّي التبرّعات المحلية أو التمويل الأجنبي.13 على نحو مماثل، كان الهدف الواضح من إنشاء التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي في العام 2022، بمبادرةٍ من الرئاسة وجهاز المخابرات العامة كما قيل، احتواء النشاط الاجتماعي السياسي.14 فمع أن التحالف وُصِف بأنه هيئة مستقلّة لا تبغي الربح، مُنِح الرئيس صلاحية تعيين أربعة من أعضاء مجلس إدارته الثمانية عشر، والأغرب من ذلك صلاحية إصدار مراسيم بضمّ هيئات عامة وفروعها إلى التحالف.15

إعادة تعريف العقد الاجتماعي

إن إعادة صياغة العقد الاجتماعي في مصر هو هدفٌ واعٍ للحكومة، لا مجرّد حصيلة عرضية لسياساتها، أو نتيجة ضغوط الجهات الدولية المُقرِضة. فعلى سبيل المثال، لم يكن خفض دعم رغيف الخبز، الذي تسبّب بزيادةٍ في سعره بنسبة 400 في المئة في أيار/مايو 2024، أحد مطالب صندوق النقد الدولي، كما لم يشترط البنك الدولي لتمويل برنامجَي الدعم النقدي الحكومي "تكافل" و"كرامة"، اللذين بدأ تطبيقهما في العام 2015، التحاق الأطفال بالمدارس أو إجراء المستفيدين تقييمًا طبّيًا مثلًا.16 فقد قال السيسي بُعَيد انتخابه في العام 2014 إن إصلاح الدعم ضروريٌّ لأن "الأغنياء يمكن بينالهم من الدعم أكثر من اللي بينال الفقراء".17 ولكنه أوضح هو ووزراء الحكومة سعيَهم إلى إرساء عقد اجتماعي جديد حيث لا يحصل أحدٌ على شيء بالمجان ("مفيش حاجة ببلاش"). أدّى ذلك إلى تفاقم الفقر منذ العام 2013، وتراجع الطبقة الوسطى، وظهور نخبةٍ فاحشة الثراء، ما أحدث تحوّلًا غير مسبوق في المشهد الاجتماعي في مصر وشكَّلَ أحد أبرز ملامح الانتقال إلى الجمهورية الثانية.

تُعَدّ سياسات التقشّف التي تنطوي على تقليص الرعاية الاجتماعية المُقدَّمة من الدولة ظاهرةً عالمية، ومصر ليست استثناءً في هذا الصدد. كذلك، لا تختلف الدوافع الإيديولوجية، أو الحوافز المالية، أو العواقب الاجتماعية اختلافًا جوهريًا. لكن اللافت في الحالة المصرية هو قدرة السيسي على إحداث تغييرات جذرية، من دون احتجاج شعبي يُذكَر، في ما كان يُعتبَر عقدًا اجتماعيًا تم تكريسه في حقبة عبد الناصر. فخفض دعم الغذاء والطاقة، وما رافقه من ارتفاعٍ في أسعار السلع الأساسية ورسوم الخدمات والمرافق المختلفة، حدث على نطاقٍ ووتيرةٍ لم يكن من الممكن تصوّرهما في عهد أسلاف السيسي. وهذا يعكس إلى حدٍّ ما فاعلية القمع الذي تمارسه الدولة وتفشّي الخوف، ولكنه يكشف أيضًا عن تحوّلٍ في مواقف المؤسسة العسكرية. ففي حين أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة رأى في برنامج الخصخصة الحكومي خلال العقد الأخير من عهد مبارك تهديدًا للاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهو ما حثّه على تسهيل إطاحة مبارك في العام 2011، لم يُعرب عن أيّ قلقٍ مماثلٍ في عهد السيسي.18

يترافق العقد الاجتماعي الجديد مع تركيزٍ على خفض معدّلات النمو السكاني، الذي أُدرِج في إطار الحاجة إلى تعزيز الناتج الاقتصادي والاستدامة المالية. فعلى سبيل المثال، دعا السيسي، في حديثٍ له في أوائل العام 2021، إلى خفض النموّ السكاني إلى "400 ألف نسمة على الأقلّ سنويًا" – لكن عدد السكان ارتفع بمقدار 1.4 مليون نسمة في العام 2024 - مضيفًا "طول ما إن ده ما تحقّقش [ما لم يجرِ التحكّم بأعداد السكان]، إنتو مش هتشعروا إن في إنفاق حقيقي مناسب ليكم".19 في موازاة ذلك، روّج السيسي مرارًا وتكرارًا لما يوصَف في علم الاجتماع الغربي بأخلاقيات العمل البروتستانتية، إذ قال: "البلاد ما بتعشش وتنمو وتكبر كدا، لا، بتكبر وتنمو بعمل وشقا وتضحية وإخلاص وأمانة، مش كلام".20 وهكذا، تُعامِل إدارة السيسي عددًا كبيرًا من المصريين على أنهم "فائضٌ سكاني غير قادرٍ على تأمين معيشته من خلال العمل المأجور، وخاضع لإدارة الشرطة الأمنية"، على حدّ وصف الباحث في العلوم السياسية جايمي ألينسون.21

إن العواقب الاجتماعية المترتّبة عن ذلك لافتة. لقد حجبت الحكومة إحصاءات الفقر منذ العام 2020، حين كانت نسبة الفقر المُعلَن عنها رسميًا 29.7 في المئة،22 توقّع البنك الدولي زيادةً في نسبة الفقر مقدارها 3.6 في المئة بحلول العام 2024، نتيجة عوامل مثل تفشّي جائحة كوفيد-19، وحرب أوكرانيا، وتراجع قيمة العملة، والتضخّم، حتى بعد أخذ إجراءات التخفيف من حدّة المشقات الاقتصادية في الاعتبار (مثل برامج المساعدة النقدية الحكومية الناجحة).23 وقدّرت دراسةٌ مستقلّة استخدمت معدّل التضخّم المُعتمَد، بأن معدّل الفقر ارتفع إلى 36.7 في المئة بحلول تموز/يوليو 2022، وأن عدد "غير الفقراء" انخفض من 45 في المئة في العام 2020، إلى 36 في المئة.24 وبعد أكثر من عام، في كانون الأول/ديسمبر 2023، قال المرشح الرئاسي حازم عمرو إن معدّل الفقر تجاوز 60 في المئة.25 ناهيك عن ذلك، يمثّل انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية أيضًا مشكلةً متنامية، إذ يحصل 69 مليون مواطن، من أصل 112 مليون نسمة، على الدعم لشراء الخبز منذ كانون الأول/يناير 2025.26 وكما هي الحال دومًا، تتكبّد المناطق الريفية العبء الأكبر الناجم عن الفقر المتعدِّد الأبعاد، بمعدّلٍ يبلغ ضعفَ نظيره في المناطق الحضرية.27

الواقع أن برنامج الدعم النقدي الناجح نسبيًا خفّف التداعيات الناجمة عن إعادة تعريف العقد الاجتماعي على القطاعات الأفقر من المجتمع المصري، إلا أنه يلقى الضوء أيضًا على النظام ذي المستويَين المعمول به في عهد السيسي. فالمستفيدون "التقليديون"، كما يسمّيهم الباحث في العلوم السياسية بروس ك. رذرفورد، يحصلون على حماية جزئية من الضائقة المالية لتجنّب السخط الشعبي.28 هذا وتخدم إجراءاتٌ مثل زيادة الحدّ الأدنى للأجور، التي يستفيد منها العاملون في القطاع الرسمي، غايةً مماثلة، إلا أن العمالة غير الرسمية ارتفعت بشكل حادّ في عهد السيسي، لتصل نسبتها إلى 44.3 في المئة من إجمالي العاملين في القطاع الخاص، وهم لا يتمتّعون بأيّ ضمان اجتماعي أو حماية قانونية.29 في المقابل، حصلت الحواضن الأساسية الموالية للنظام على زيادة أكبر في الأجور وغيرها من المنافع.30 والأهمّ أن رواتب العسكريين ومعاشاتهم التقاعدية ارتفعت عشرة أضعافٍ في الفترة الممتدّة بين العامَين 2014 و2019، متجاوزةً نسب الزيادة الممنوحة لموظفي الخدمة المدنية والقطاع العام بفارقٍ كبير.31

ويعكس تزايد عدد الأُسَر الفقيرة أو المحتاجة أيضًا نوعًا من "التسطيح" الاجتماعي والاقتصادي، على ضوء تقلّص القدرة الشرائية للطبقة الوسطى. واللافت بوجه خاص هو تقويض ما يسمّيه الباحث في العلوم السياسية روبرت سبرينغبورغ "الطبقة الوسطى المُعتمِدة تاريخيًا على الدولة"، نظرًا إلى أن القطاع العام كان الدعامة الاجتماعية السياسية للأنظمة الحاكمة كافّة من العام 1952 فصاعدًا.32 جاء هذا التسطيح جزئيًا نتيجة الحملة المتواصلة منذ العام 2014 على القطاع العام، الذي عانى من تدنٍّ صافٍ للأجور الحقيقية نتيجة خفض قيمة الجنيه بشكلٍ متكرّر في العام 2016 والعامَين 2022 و2023، ولا سيما الزيادة الحادّة في معدّلات التضخّم مذّاك الحين. في موازاة ذلك، ارتفعت نسبة العاملين بأجور غير كافية بواقع 18.3 في المئة، لتصل إلى 73.3 في المئة بين العامَين 2006 و2018.33 كذلك أدّت التخفيضات الحادّة في الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم إلى مستويَين أدنى من النسبتَين المنصوص عليهما في الدستور، أي 3 و6 في المئة على التوالي، إلى تقويض الفرص الاقتصادية المتاحة أمام الطبقتَين الوسطى والفقيرة وسُبل الوصول إليها على نحوٍ متزايد.34

بدأت هذه الضائقة المالية تطال أيضًا حتى الأُسَر الأعلى دخلًا التي لا تعتمد على وظائف القطاع العام. فقد أسفرت التخفيضات المتتالية لقيمة الجنيه عن تراجع قيمة مدّخرات هذه الأُسَر إلى النصف، ما أثّر على قدرتها على تحمّل تكاليف التعليم الخاص أو الرعاية الصحية الخاصة، اللذَين أصبحا ضرورةً متزايدةً في ضوء تدهور الخدمات العامة في مصر اليوم، أو تكاليف السفر. أما مَن يملك القدرة المالية، فيلجأ إلى شراء العقارات في الخارج، في حين أن جزءًا كبيرًا من ازدهار سوق العقارات المحلي يُعزى إلى البحث عن ملاذٍ استثماريّ آمن للمدّخرات، وليس علامةً على الثراء. ومن المفارقات أن تحسُّن جباية الحكومة لضريبة الدخل وغيرها، بفضل التحوّل الرقمي، يسهم في تقليص هامش الدخل غير الخاضع للضريبة الذي كانت تستفيد منه أُسَر الطبقة الوسطى سابقًا، ما يدفعها إلى اللجوء إلى الاقتصاد غير الرسمي للحصول على مجموعة واسعة من السلع والخدمات.

تُعَدّ اللامساواة في الأجور والدخل، المُحدَّدة بمؤشّر جيني (Gini)، مرتفعةً في مصر، وهي تتّخذ منحى تصاعديًا.35 وما يدلّ على أن ذلك ليس تأثيرًا جانبيًا، بل سمة مُميِّزة للجمهورية الثانية، هو الجهد الدؤوب التي تبذله إدارة السيسي لإعادة تشكيل الحيّز المكاني وفق تصوّراتها لمكانة مختلف الفئات الاجتماعية ودورها. الواقع أن انتشار المجمّعات السكنية المُسوَّرة يمثّل ظاهرةً عالميةً كانت بدأت بالبروز في مصر في عهد مبارك، إلى جانب بناء مدن جديدة ، انتقلت إليها بعض الأُسَر من الطبقة الوسطى. لكن إدارة السيسي مضت أبعد من ذلك بكثير، إذ وسّعت نطاق هذه العملية وسرّعت وتيرتها، ونظّمت الفصل المكاني الذي كان غير رسمي في السابق طبقًا لشرائح الدخل. ناهيك عن ذلك، ترتبط المدن الجديدة الراقية بطرق سريعة ضخمة، وشبكات قطارات فائقة السرعة وأُحادية السكّة، ما يتيح للأثرياء العيش والتنقّل من دون المرور عبر المناطق الفقيرة، ويخدمها عمّال يسكنون في مدن منفصلة. أما أحياء الطبقة الوسطى القديمة، فتُرِكَت لتتدهور أو تعاني من غزو الامتيازات التجارية المدعومة من المؤسسة العسكرية، فيما تُنقَل الفئات ذات الدخل المنخفض التي تعيش في أحياء غير رسمية إلى مواقع جديدة كلّيًا على أطراف المدن، بداعي إعادة تأهيل المناطق العشوائية، بحيث تُعزَل عن أماكن عملها وأسواقها المعتادة. وقد رسّخ استملاك الشركات العسكرية للعقارات الرئيسة في وسط القاهرة وعلى طول واجهات القاهرة النهرية والإسكندرية البحرية، واستغلالها تجاريًا، "التوزيع المكاني للاختلافات الاجتماعية وأوجه انعدام المساواة"، كما رأت الباحثة دينا خليل.36

عكس الاتجاه الاقتصادي

أشرف السيسي على عملية إعادة تنشيط رأسمالية الدولة المصرية منذ تولّيه السلطة، ما أدّى فعليًا إلى عكس الاتجاه العام للإدارة الاقتصادية التي رافقت برنامج الخصخصة الذي أُطلِق في عهد مبارك في العام 1991. ومع ذلك، تختلف رأسمالية الدولة في مصر اليوم اختلافًا جذريًا عن تلك التي أنشأها عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، والتي تضمّنت تأميم معظم القطاع الخاص غير الزراعي عبر نقل الشركات والمنشآت الخاصة إلى المُلكية العامة، إضافةً إلى إرساء سياسات اقتصادية تتوخّى إعادة توزيع الدخل، وتوفير رعاية اجتماعية شاملة. أما رأسمالية الدولة في عهد السيسي، فتتّسم بسياسات التقشّف النيوليبرالية، وتسييل الأصول المملوكة للدولة، وفرض رسوم استخدام على السلع والخدمات العامة، وازدياد تركّز الثروة. هذا وتسعى إدارة السيسي على نحو نشِط إلى ضخّ رؤوس أموالٍ خاصة في الأصول المملوكة للدولة، مع احتفاظها بالسيطرة عليها. هذا السلوك الاقتصادي للإدارة لا يستند إلى رؤية متماسكة للنمو والتنمية، سواء كانت رأسمالية أم غير ذلك، ولا يمثّل استراتيجيةً متعمّدة لمراكمة الثروة، بل تحرّكه اعتبارات الحفاظ على السلطة.

تسعى إدارة السيسي إلى ما أسمته الباحثة في العلوم السياسية بياتريس إيبو "الاقتصاد السياسي للهيمنة" في السياق التونسي، حيث السلوك الاقتصادي للجهات الفاعلة المؤسّسية والاجتماعية يتشكّل من خلال الضغوط الناجمة عن سلطة الدولة القسرية.37 وهكذا، ينطوي نهج الإدارة على توتّرات واتجاهات متناقضة تتجلّى في أوجه ثلاثة. أولًا، ما من إطار سياسي موحّد لصياغة الأهداف الاقتصادية والاستراتيجيات الاستثمارية والتوفيق في ما بينها، ولا حتى لدمج مفهوم المنفعة الاجتماعية، أي الأنشطة التي تعود بالفائدة على المجتمع أو فئات اجتماعية معيّنة. ثانيًا، أدّى المنطق السياسي الذي يحكم الممارسة الاقتصادية في سياقٍ سلطويّ قمعيّ أكثر فأكثر إلى إعادة ترتيب شبكات المحسوبية والزبائنية، والشركات المحسوبة على النظام، وتحصيل الريع. وثالثًا، نظرًا إلى أن هذا النوع من الاقتصاد السياسي يعيق نموّ القطاع الخاص وتوليد المدّخرات والاستثمارات المحليّة، تعتمد إدارة السيسي إلى حدٍّ كبير على الشركاء الخارجيين بدلًا من طبقة الأعمال المصرية للحصول على الدعم السياسي وتدفّقات رأس المال.

تجدر الإشارة إلى أن الحكومة المصرية أعلنت عن ستّ وثائق بشأن الإصلاح الاقتصادي أو برامج الخصخصة منذ العام 2018، لم يُستكمَل أيٌّ منها، أو حتى يُتابَع بشكلٍ حثيث.38 أما أجندة الإصلاح الهيكلي التي جرى الاتفاق عليها مع منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي في العام 2021، فتبخّرت من دون أثر، في حين أن مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية التي قدّمتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي في العام 2022 ألغت بشكل مباشر سياسة مُلكية الدولة التي صاغتها وصادقت عليها في العام نفسه.39 ومن المفارقات أن صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى مثل المفوضية الأوروبية يعتبران وثيقة سياسة مُلكية الدولة معيارًا للإصلاحات الهيكلية في مصر، ومع ذلك، تكشف القراءة النقدية أنها بيانٌ مُعلَنٌ للإبقاء على مُلكية الدولة وتَدخُّلها في شتّى مفاصل الاقتصاد، أو حتى زيادتهما في بعض الحالات.40 أما المقترحات الحكومية المتعاقبة لخصخصة الشركات المملوكة للدولة جزئيًا، بين العامَين 2018 و2025، فقد فشلت جميعها تقريبًا في تحقيق أي نتائج ملموسة، بسبب نهج الحكومة الارتجالي، وإحجامها عن التنازل عن السيطرة الفعلية على الأصول المُخصخَصة. وقد تجلّت هذه العيوب في المؤتمر الاقتصادي الذي عقدته الحكومة على عجل بناءً على طلب السيسي في تشرين الأول/أكتوبر 2022، حيث لم تُستَشَر الهيئات المالية الرئيسة مثل البنك المركزي المصري بشأن جدول الأعمال، واغتنم الرئيس الفرصة لوَعْظ المشاركين بدلًا من البحث في المشاكل والحلول.

يدلّ هذا الارتباك السياساتي على أنماط الحكم الراسخة القائمة على النظام الزبائني الأبوي الحديث، ومقاومة أصحاب المصالح الخاصة المتجذّرة للإصلاح، فيما يتيح في الوقت نفسه إعادةَ تنظيم العلاقات الزبائنية وأنماط توزيع الريع تماشيًا مع نشأة الجمهورية الجديدة. هذا وأدّى انتشار المجمّعات السكنية المُسوَّرة إلى زيادة الطلب على خدمات الأمن والأسواق المتخصّصة، مثل توصيل الأطعمة والمشروبات، وهي خدمات تتولّاها في الغالب شركاتٌ مرتبطة بالنظام. فضلًا عن ذلك، تستغلّ الأجهزة العسكرية والاستخباراتية، إلى جانب الضبّاط والمسؤولين النافذين، سيطرتها على استخدام الأراضي ومنح التراخيص لتوسيع انتشار مطاعم الوجبات السريعة المملوكة للمؤسسة العسكرية، وغيرها من الامتيازات التجارية في المناطق الحضرية وعلى طول الواجهات النهرية والبحرية.

يكشف ما سبق عن إعادة ترتيبٍ للاقتصاد السياسي بطرقٍ تخدم مصالح أضيق مجموعةٍ من المستفيدين عرفتها مصر في ظلّ أيّ رئاسة سابقة. وتشمل هذه الشريحة رجال أعمالٍ محظيّين والشريحة العليا من الطبقة الوسطى، ممّن يزاولون أنشطةً كثيرة خارج الحسابات الرسمية. ويشير انخفاض نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر، والتي كانت الأدنى في أفريقيا في العام 2022 حينما بلغت 14.2 في المئة، إلى أن الكثير من الأموال يتركّز في أيدي هؤلاء.41 وعوض أن تمنع الإدارة هذا السلوك، تعمل على تحفيزه، متغاضيةً بذلك عمليًا عن تبييض الأموال. هذا وتجني المؤسسة العسكرية وجِهاتٌ أخرى مرتبطةٌ بالنظام أرباحًا كبيرةً من المضاربات العقارية وغيرها من المشاريع المُموَّلة من الحكومة. ويستحوذ عددٌ من ضبّاط القوات المسلحة على مصادر دخل إضافية من خلال إنشاء شركات صغيرة للفوز بعقود من الباطن في مشروعاتٍ كبيرة تديرها المؤسسة العسكرية؛ فقد يُمنَح أحدُهم جزءًا من مشروعٍ لإنشاء طريق أو تبطين الترع، ويُعطى آخرٌ قطعة أرض في مشروعٍ للتجديد الحضري.

يؤدّي نموذج الاقتصاد السياسي هذا دورًا أساسيًا في تعزيز تماسك النظام، عن طريق تكثيف ممارسات السعي إلى كسب الريع داخل الدائرة الضيقة لهيئات النظام الرئيسة والمقرّبين منه، ما يفسّر أيضًا سبب عدم تباطؤ المشاريع الضخمة أبدًا، ناهيك عن توقّفها، حتى خلال جائحة كوفيد-19. نتيجةً لذلك، وباستثناء قطاعَي العقارات والطاقة، بقي الاقتصاد الحقيقي راكدًا في الغالب في ظلّ الجمهورية الثانية، كما يتّضح من الانكماش المتواصل لأنشطة القطاع الخاص غير النفطية طوال 93 شهرًا من أصل 108 أشهر حتى أواخر العام 2024، أي ما يعادل فترة رئاسة السيسي بأكملها تقريبًا.42 أما وصول القطاع الخاص إلى التمويل الائتماني، فظلّ منخفضًا بسبب مزاحمة الاقتراض الحكومي له على الموارد المتوفّرة، إذ لم يتجاوز متوسّط ​​حصّته من الاستثمار نسبة 6.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد الماضي، أي ما يناهز خُمس المستوى في الدول متوسّطة الدخل، وأقلّ حتى ممّا كان عليه في ظلّ تطبيق مجموعة القوانين الاشتراكية في مصر في ستينيات القرن المنصرم.43

أدّى إحجام إدارة السيسي عن تعديل نموذجها الاستثماري، بالتوازي مع رفضها إجراء إصلاحات هيكلية، إلى تقييد قدرتها على توليد فوائض محلية بشكلٍ كبير. فكان أن تمكّنت من الحفاظ على استقرارها بفضل تدفّق ما لا يقلّ عن 200 مليار دولار منذ العام 2013، على شكل قروض، ومنح، ومساعدات عينية، واستثمارات ذات دوافع سياسية، من دول الخليج والمؤسسات المالية الدولية ووكالات التنمية، ناهيك عن مساعدات عسكرية أميركية بلغ مجموعها نحو 13 مليار دولار، وصفقات سلاح تساوي قيمتها تقريبًا المبلغ نفسه، وضمنت تمويلها حكومات أوروبية في الفترة عينها.44 ومن الواضح أن الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية أمرٌ بالغ الأهمية للمالية العامة المصرية، ولذا تُولي الحكومة أهمية كبرى للتصنيفات الائتمانية الدولية، وتلجأ إلى حيلٍ محاسبيةٍ (مثل إبقاء المشروعات العملاقة خارج موازنة الدولة الرسمية لئلّا تؤثّر على التصنيفات)، وكل ذلك بعلمٍ كامل وتواطؤٍ ضمنيّ من شركائها الخارجيين.

بيروقراطية الدولة: حليف أم عدوّ؟

فيما يُعيد السيسي بناء شكلٍ مُعدَّل جذريًا من رأسمالية الدولة المصرية، يعمل على تفريغ الجناح المدني للدولة، ونزع الطابع المؤسّسي عن جوانب رئيسة من عملية الحكم. ويعود ذلك إلى تصوّره بأن القطاع العام غير كفؤ، وأيضًا إلى قناعته بأن القيادة النشطة كتلك التي يمثّلها هو، هي وحدها القادرة على بناء دولة جديدة وتحقيق نهضة وطنية.45 وبناءً على هذا المنطق، يتطلّب عكسُ مسار تدهور مؤسسات الدولة القائمة، وزيادة الكفاءة، تركيزَ سلطة اتّخاذ القرار في يد الرئيس، وهو ما تجلّى على مدى العقد الماضي من خلال تجاوز اللوائح الحكومية بغية العمل بشكلٍ مستقلّ عن القيود المؤسّسية القائمة. وقد شكّلت المؤسسة العسكرية، التي تشارك السيسي رؤيته العامة، رأس الحربة في قيادة مبادراته في مجالات الإدارة والاقتصاد والإعلام، لتكتسب بذلك عمليًا صفة حكومة ظلّ.

لقد ضغط السيسي على القطاع العام بشكلٍ غير مسبوقٍ في سعيه إلى بناء دولة جديدة. كان ثمّة حاجة حقيقية إلى الإصلاح الإداري عندما تسلّم زمام السلطة، نظرًا إلى تضخّم الجهاز الإداري للدولة وتدنّي الإنتاجية والكفاءة فيه، حيث وظّف 31 في المئة من إجمالي القوى العاملة في مصر في العام 2012، عشية استيلاء المؤسسة العسكرية على السلطة، وحيث أكثر من نصف مجموع الموظّفين زائدون عن الحاجة ويعملون في وظائف لا تستفيد من مؤهلاتهم بالكامل وفقًا لبعض التقديرات.46 وقد ساهم قانون الخدمة المدنية رقم 81 للعام 2016 في تخفيضٍ صافٍ لفاتورة أجور القطاع العام بمقدار 3.5 في المئة تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2019 (مقارنةً مع العام 2014)، بما تجاوَزَ الهدف المُتّفَق عليه مع صندوق النقد الدولي، أي 5.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول السنة المالية 2020-2021.47 هذا وجرى تشديد شروط الالتحاق بالخدمة المدنية، وتجميد التعيينات الجديدة في الكثير من القطاعات، ما عكس التزام الحكومة بخفض التوظيف العام بنسبة 38 في المئة خلال عشر سنوات.48 أسفر ذلك، من جملة أمورٍ أخرى، عن نقصٍ في عدد المعلّمين في قطاع التعليم العام قدره 469 ألف معلّم بحلول العام 2024.49 في الوقت نفسه، سَعَت إدارة السيسي إلى احتواء مشاعر الاستياء داخل القطاع العام، فزادَت الأجور ثماني مرّات بين العامَين 2017 و2024. لكن على الرغم من الخدمات الاجتماعية التي تنتفع منها هذه الشريحة من الطبقة الوسطى، تدهورت قدرتها الشرائية بشكلٍ حادّ في أعقاب التخفيضَين الكبيرَين في قيمة الجنيه المصري منذ العام 2016، والتضخّم المرافق، وتقليص الدعم إلى حدٍّ كبير.

في موازاة ذلك، ركّز السيسي سلطاته الإدارية من خلال تولّيه السيطرة المباشرة على أهمّ أجهزة الرقابة في مصر. فقد صوّت البرلمان الموالي في تشرين الأول/أكتوبر 2017 على إنهاء الوضع المستقلّ السابق لهيئة الرقابة الإدارية، من خلال تمكين رئيس الجمهورية من تعيين رئيسها وإقالته.50 والهيئة هي أقوى جهاز رقابي في مصر، بفضل صلاحياتها في التحقيق القضائي، وقد استخدمها الرؤساء المتعاقبون لمعاقبة المعارضين وضبط المؤيّدين.51 هذا ويعزّز إدراجها كهيئة حكومية تُصَنَّف عقودُها على أنها سرّية "لأسبابٍ تتعلّق بالأمن القومي"، إعفاءَها من اللوائح والإجراءات الحكومية الاعتيادية. وعلى النحو نفسه، وُضِع الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي يراقب أداء الهيئات العامة كافّة وامتثالها المالي، تحت السيطرة الرئاسية المباشرة، فيما حُجِبَت تقاريره السنوية، التي كانت تُنشر علنًا في السابق.52 كذلك جرى إخضاع السلطة القضائية، التي يمكن القول إنها الفرع الحكومي الوحيد الذي كان مستقلًّا حقًّا. ففي العام 2019، أدخل السيسي تعديلاتٍ دستورية ليصبح رئيسًا للمجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، ما منح رئيس الجمهورية السلطةَ المطلقة على الشؤون القضائية، ومن ضمنها تعيين القضاة.53

وما لا يقلّ أهميةً عن ذلك أن دستور العام 2019 دمج القضاء العسكري في الهيكل القضائي الأوسع، مانحًا إيّاه الحقوق نفسها التي يحظى بها نظيره المدني.54 وفي تموز/يوليو 2022، عيّن السيسي رئيسَ هيئة القضاء العسكري نائبًا أول لرئيس المحكمة الدستورية العليا.55 هذان التطوّران إنما يؤكّدان الدور المحوري للقوات المسلحة المصرية في ترسيخ إدارة السيسي، وفي تحديد ملامح الجمهورية الثانية، ناهيك عن أنهما يضفيان الشرعية على اللجوء المتزايد إلى المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين في قضايا لا تمتّ إلى أفراد القوات المسلحة أو منشآتها بصلة، ويجعلان هذه الممارسة أمرًا طبيعيًا. وتشمل هذه القضايا "الجرائم التي تضرّ باحتياجات المجتمع الأساسية"، من بينها السلع الغذائية وغير الغذائية، والمنتجات الأساسية كالوقود.56 وقد اتّسع نطاق هذا الدور بموجب مراسيم رئاسية متعاقبة منذ العام 2014، أوكلت إلى القوات المسلحة حماية المرافق العامة والبنية التحتية، ومنحت أفراد هذه القوات صلاحيات الشرطة القضائية لإنفاذ القانون. ثم أقرّ البرلمان في كانون الثاني/يناير 2024، مشروعَ قانونٍ يُدمِج هذه الأحكام في قانون واحد، مدّعيًا أنها حقّ دستوري للقوات المسلحة.57

ترتّبت عن هذا الواقع نتائج متناقضة. فالجمهورية الثانية تتّصف في المقام الأول بسلطة دولةٍ مستبدّةٍ ومنهكةٍ في آن واحد. وهجوم السيسي المتواصل والمباشر على بيروقراطية الدولة، وإخضاع هيئات الرقابة إلى سيطرته المباشرة، أدّيا إلى تهميش القطاع العام وإضعاف المؤسسات التي يحتاج إليها للعمل بكفاءة وتحقيق طموحاته عمومًا. لكن إصراره على نهجه هذا يشهد على الأهمية القصوى التي يوليها لترسيخ سيطرته السياسية، وتحقيق رؤيته الاجتماعية، وتلبية تطلّعات حاضنته الأساسية، وتحديدًا مؤسسات الدولة الرئيسة التي تشكّل ائتلافه الحاكم، وأنصاره من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. يُضاف إلى ذلك أن نقل أصول الدولة ومصادر إيراداتها إلى هيئاتٍ خاضعة لسلطته، مثل الدمج العكسي لشبكات النظام ضمن إدارات الدولة، يطمس بشكلٍ متزايد الحدود الفاصلة بين المُلكية العامة والخاصة، ويؤدّي إلى نشوء اقتصادٍ هجين يجمع بين قطاعَين عامَّين منفصلَين: أحدهما يرأسه مجلس الوزراء، والآخر يخضع للرئيس مباشرةً.

تشكيل الجمهورية الثانية في مصر

تكشف الطريقة التي يُعيد بها السيسي تشكيل الحكم السلطوي في مصر عن عيوبٍ وتناقضاتٍ جوهريةٍ تعيق سعيه إلى بسط السيطرة السياسية الكاملة، إن لم يكن الهيمنة.58 وتتجلّى هذه العيوب والتناقضات في الركائز الأربع التي تقوم عليها الجمهورية الثانية: اللجوء المنهجيّ إلى القمع الشديد والعنف الروتيني؛ والسيطرة على وسائل الإعلام والهيمنة على الخطاب العام؛ والتركيز على العصبية القومية المفرطة والتلقين العقائدي القائم على نظرية المؤامرة؛ وإعداد كوادر من القادة الشباب والبيروقراطيين النموذجيين، غير المُسيَّسين ولكن المُوالين للنظام.

تبدو مصر في عهد السيسي، عند النظر إليها ككلّ، وكأنها عودةٌ إلى ما وصفه الباحث في العلوم السياسية روبرت باكستون بـ"الدكتاتوريات التنموية القومية الشعبوية ذات المظاهر الفاشية".59 لكن نموذج السيسي يختلف بدرجة كبيرة في أنه يعتمد على اقتصاد شديد التمركز حول الدولة، حيث يُعاق بشدّة نشوء طبقاتٍ اجتماعيةٍ مستقلّة. وهي إذًا تختلف بشكل كبير في أساليب التعبئة السياسية وبناء التحالفات الاجتماعية. في الواقع، امتنعت عمدًا عن وضع آليةٍ للتعبئة السياسية الجماهيرية، وعن التحالف بوضوحٍ مع أصحاب الرأسمال الكبار. ونتيجةً لذلك، تُبنى الجمهورية الثانية بالكامل من الأعلى إلى الأسفل، مُعتمِدةً اعتمادًا مفرطًا على الركائز الأربع المذكورة أعلاه كبديلٍ عن السياسة. ويمهّد هذا الطريق في نهاية المطاف أمام فشلٍ محتملٍ لدكتاتورية السيسي التنموية، أي النظام السلطوي الذي يدّعي تحقيق نموّ اقتصادي مستدام.

القمع: دولة سجنيّة

يعتمد النظام المصري على استخدام العنف للحفاظ على السيطرة السياسية، ويتجلّى ذلك في تحويل الإخفاء القسري، والتعذيب، والقتل خارج نطاق القانون، والسجن الجماعي، والمراقبة الرقمية الاحترافية لكلّ مَن يعترض علنًا على أيّ جانب من جوانب السياسة الحكومية أو سلوك أيّ هيئة حكومية، إلى ممارسات اعتيادية ومشروعة.60 وعلى وجه الخصوص، كان استعداد النظام لاستخدام العنف مصدرًا رئيسًا لشرعيته لدى قطاعاتٍ من الشعب المصري كانت تنظر إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي توّلت الرئاسة لفترة وجيزة وهيمنت على البرلمان في العامَين 2012-2013، على أنها تهديدٌ وجوديّ لأسلوب حياتها.61 ومذّاك الحين، يجري تصنيف أيّ شكلٍ من أشكال الاحتجاج على أنه إرهابٌ بغية إضفاء الشرعية على قمع النظام، وإفلاته من العقاب. والواقع أن الحصانة القانونية الواسعة التي تتمتّع بها الأجهزة القمعية في الدولة تمنحها هامشًا كبيرًا لاستخدام القوة التعسفية والاحتجاز غير القانوني، في حين أن طبيعة العلاقات ضمن الائتلاف الحاكم القائمة على تبادل المصالح تُمكّن الهيئات المختلفة من القيام بذلك السلوك بشكلٍ مستقلّ بعضها عن بعض. وبهذا، يُمارَس القمع بصورة لامركزية، إذ قد تتصرّف المستويات الأدنى من الأجهزة من دون الرجوع إلى الرئاسة، بطرقٍ يمكن أن تقوّض الأهداف السياساتية للإدارة في مجالات أخرى.

اتّبعت إدارة السيسي التوجّه العالمي القائم على إصدار تشريعات تمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة لملاحقة المعارضة قضائيًا باسم مكافحة الإرهاب. ويستخدم قانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية رقم 8 للعام 2015، وقانون مكافحة الإرهاب رقم 94 للعام 2015، وتعديلاتهما اللاحقة للعامَين 2020 و2021، تعريفاتٍ فضفاضةً للغاية لمصطلح الإرهاب بهدف تقييد حرية التعبير والاحتجاج بدعوى "الإضرار بالوحدة الوطنية" و"الإخلال بالنظام العام"، في ظلّ توسيع نطاق الجرائم التي يُعاقَب عليها بالإعدام.62 ووفقًا لتقييم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الذي يتمتّع بوضع استشاري خاص في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، تُمكّن هذه القوانين فعليًا الأجهزة الأمنية المصرية من ارتكاب "جرائم الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون".63 فضلًا عن ذلك، استُخدِمَت هذه القوانين على نحو منهجيّ لشلّ قدرات المنظمات الحقوقية والأهلية والناشطين السياسيين، لا بل أيضًا الشركات والنقابات العمّالية والجمعيات الأخرى، التي يمكن أن تجمَّد جميع أموالها وأصولها قانونًا حتى قبل المحاكمة أو الإدانة. كذلك وُجِّهَت تهم الإرهاب ونشر المعلومات الكاذبة إلى المعارضين في المنفى، الذين تعرّضوا للمراقبة أثناء وجودهم خارج البلاد، بالتوازي مع تجميد أصولهم وترهيبهم واعتقال أفراد أُسَرهم في مصر.64 وقد مَكَّن التحوّل الرقمي إدارةَ السيسي من تطوير أدوات القمع، مثلًا من خلال استيراد تكنولوجيا برامج التجسّس، وتركيب أنظمة مراقبة لجمع البيانات من شبكات الاتصالات في البلاد.65 أتاحت هذه التقنيات القمعية مجتمعةً للسيسي القضاء على المعارضة، مقارنةً مع مبارك الذي اكتفى بـ"إدارتها"، بحسب تقييم الصحافي والناشط المصري حسام الحملاوي.66

ويُعَدّ السجن الجماعي للمعارضين جزءًا لا يتجزّأ ممّا وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش بخط إنتاج التعذيب في مصر.67 ومع أن مصلحة السجون لم تصدر أرقامًا عن عدد السجناء منذ التسعينيات، نقلت وزارة الخارجية الأميركية عن منظمات مصرية لحقوق الإنسان تقديرات عن وجود 80 ألف سجين مُدان، و40 ألف محتجز احتياطيًا بحلول أواخر العام 2023، وهو معدّل يساوي نحو 116 سجينًا لكلّ 100 ألف شخص.68 وتُعرّض سياسة الباب الدوّار المُطبَّقة منذ العام 2013 المحتجزين الذين تفرج عنهم النيابة العامة إلى "الاختفاء" في أقسام الشرطة أو المرافق التي يديرها قطاع الأمن الوطني، إلى أن تُوجَّه إليهم تهمٌ جديدة.69 وما يزيد من تعقيد عملية تقدير إجمالي أعداد السجناء هو "الحبس الاحتياطي"، الذي يُلزِم المُفرَج عنهم بقضاء نصف اليوم محتجزين في أقسام الشرطة.70 وفي جميع الأحوال، بُنيَت عشرات السجون الجديدة لاستيعاب أعداد الأشخاص المحتجزين المتزايدة، ليصل عدد السجون إلى 168 سجنًا بحلول العام 2021.71

الهيمنة على الخطاب العام

سعت إدارة السيسي بصورة متواصلة إلى الهيمنة على الفضاء العام من أجل الإشادة بإنجازاتها، ولا سيما في مجالَي الاقتصاد والبنية التحتية، والترويج لشخص الرئيس وصورة القوات المسلحة. وفعلت ذلك من خلال الاستحواذ المباشر على وسائل إعلامٍ وشركات إنتاج، وإخضاع السياسات التحريرية والمحتوى الإعلامي لسيطرة الرئيس، إضافةً إلى قمع الآراء المُعارضة عبر فرض الرقابة والحظر الصريح. في ظلّ غياب استطلاعات الرأي، يستحيل تقييم مدى تأثير المحاولات المبذولة للهيمنة بشكل كامل على الخطاب العام، واختزاله بمجرّد سرديّة واحدة عن تطلّعات المصريين وولاءاتهم تحظى بموافقة النظام. لكن ثَبُت أن المقاربة السلطوية التي تنتهجها إدارة السيسي عبر فرض القرارات من أعلى الهرم إلى قاعدته، مُكلفة ماليًا وقاصرة عن التسويق للنظام بشكل فعّال يتماشى مع رغبة السيسي.

إن أوضح تجسيدٍ لمقاربة النظام هذه استحواذه على عددٍ من أبرز الشركات الإعلامية الخاصة في مصر، من خلال شركات استثمارية وقابضة تعمل لصالح المخابرات العامة والمخابرات الحربية.72 يُشار إلى أن هذَين الجهازَين استحوذا بالقوة على بعض الشركات الخاصة، ودفعا شركاتٍ أخرى إلى خارج السوق الإعلامي من خلال إعادة توجيه عقود الإنتاج والبثّ إلى الشركات الجديدة التي استحوذا عليها.73 وبحلول العام 2024، كانت شركات الواجهة التابعة للمخابرات العامة والمخابرات الحربية تدير أربعين مؤسسة تقريبًا، من بينها شبكات تلفزيونية فضائية، ومحطات إذاعية، وصحفًا ومواقع إلكترونية، ووكالات إعلانية، وشركات بيع التذاكر، إضافةً إلى أكبر شركة إنتاج تلفزيوني وسينمائي في البلاد.74 كذلك، تنخرط الرئاسة بصورة مباشرة في الهيمنة على الفضاء العام: على سبيل المثال، يقوم ضابط سابق في القوات المسلحة يعمل في مكتب الرئيس بإرسال تعليماتٍ يومية إلى رؤساء التحرير في وسائل الإعلام عبر مجموعة على تطبيق واتساب، فيُملي عليهم المواضيع والإرشادات الخاصة بالبرامج الحوارية.75

تشكّل الرقابة حتمًا جانبًا مكمّلًا للهيمنة المباشرة على الإعلام. في هذا الإطار، ورد في تقريرٍ صادر عن وزارة الداخلية البريطانية حول مصر في العام 2023 ما يلي:

تسمح قوانين متعدّدة للسلطات بفرض الرقابة على المحتوى الإلكتروني من دون الحاجة إلى إذن قضائي، وبحجب أي موقع إلكتروني ترى أنه يشكّل تهديدًا للأمن القومي، مع الإشارة إلى أن هذه صيغةٌ فضفاضة يُمكن إساءة استخدامها بسهولة. وقد حظّرت السلطات المصرية منذ العام 2017 مئات المواقع الإلكترونية، واستمرّت في ذلك في العام 2022. وقد أدّت التعديلات التي أُدخلت على بعض أحكام قانون العقوبات في العام 2021 إلى تشديد العقوبات المفروضة على الصحافيين الذين يغطون جلسات المحاكمات الجنائية من دون الحصول على تصريح مسبق، وعلى تشديد العقوبة على إفشاء أسرار الدولة. ورفعت التعديلات أيضًا قيمة الغرامات الممكن فرضها، وتضمّنت عقوبة السجن بحقّ مرتكبي هذه المخالفات لمدّةٍ تتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات.76

في موازاة ذلك، يتيح قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات للسلطات حجبَ المواقع الإلكترونية التي تعتبرها إجرامية أو تطرح تهديدًا للأمن القومي والاقتصاد. وقد استخدمت الأجهزة الأمنية هذا الإطار القانوني لاعتقال الصحافيين قُبيل أحداث مهمة على غرار الانتخابات البرلمانية، ولمنع وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرتها من تغطية الأخبار المتعلقة بالمجموعات المُعارضة.77 علاوةً على ذلك، نصّ تعديلٌ لأحكام قانون العقوبات في العام 2021 على معاقبة كل من قام بجمع الاستبيانات أو الإحصائيات أو إجراء الدراسات لأي معلومات أو بيانات تتعلق بالقوات المسلّحة أو مهامها في أيٍّ من المجالات - والتي تشمل من الناحية النظرية أنشطتها في قطاعَي الأعمال والأشغال العامة التي يجري الترويج لها كثيرًا - من دون الحصول على تصريح كتابي مُسبق من وزارة الدفاع.78

تروّج وسائل الإعلام التابعة للنظام بصورة متواصلة للسيسي والقوات المسلحة. وخير مثالٍ على ذلك المسلسل التلفزيوني "الاختيار"، الذي عُرض للمرة الأولى خلال شهر رمضان في العام 2020 برعاية إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، وصوّر الرئيس بشكلٍ بطولي، واستند إلى فتاوى الشيخ السنّي ابن تيمية (1263-1328)، الذي اعتبر أن من واجب المؤمنين طاعة حكّامهم وإن كانوا طغاةً.79 هذا وأطلقت القوات المسلحة مشاريع إعلامية أخرى، من بينها مشروع "مصري" الذي دُشّن في العام 2022، وهو "مشروع ثقافي متكامل" جديد، بالتعاون مع وسائل إعلامية خاضعة لسيطرة الحكومة، يتمّ في إطاره "تنظيم سلسلة مهرجانات واحتفالات ومسابقات في المدارس والجامعات بالتنسيق مع قوات الدفاع الشعبي".80 يُشار إلى أن رئيس إدارة الشؤون المعنوية في القوات المسلحة تولّى إدارة الكثير من المبادرات الإعلامية التي أطلقها النظام بعد العام 2014، قبل أن يصبح مدير مكتب رئيس الجمهورية في العام 2018، وبعدئذٍ المستشار الإعلامي للرئيس، وأن ينضم إلى شركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" القابضة التابعة لجهاز المخابرات العامة، بعد إعادة تشكيل مجلس إدارتها في العام 2024. وتساعد السيطرة على وسائل الإعلام النظامَ أيضًا في مواجهة نفوذ الهيئة الدينية الإسلامية الوحيدة التي تتمتّع بشيءٍ من الاستقلالية – أي مؤسسة الأزهر، أعلى مرجعية دينية للمسلمين في البلاد، والتي يرأسها الإمام الأكبر وتضمّ هيئة كبار العلماء – بعد أن كان النظام قد فرض سيطرته الكاملة على وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، وهي الجهة المعنية بالإرشاد الديني والفتاوى الشرعية في وزارة العدل.81

كشف التغيير في قيادة شركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" عن أوجه قصور شملت، بحسب التقارير، خسائر مالية ضخمة ناجمة عن تدنّي جودة الإنتاج وسوء الإدارة.82 وأفاد موقع مدى مصر، وهو أحد الأصوات القليلة التي لا تزال تتمتّع بالاستقلالية، أن مكتب رئيس الجمهورية يخطّط منذ أواخر العام 2024 لإجراء مراجعة مالية لحسابات شركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" لمعالجة المخالفات، مثل الرواتب والمكافآت المبالغ فيها، وأسعار المشتريات المضخّمة، وتكاليف السفر غير الضروري إلى الخارج.83 وفي الوقت نفسه، أدّى تعليق إعلاميين بارزين عن العمل، بعدما خرجوا عن النص ووجّهوا انتقاداتٍ لبعض المشروعات الحكومية، إلى تسليط الضوء بشكلٍ أكبر على عدم التسامح مع أيّ محتوى يُظهر النظام في صورةٍ سلبية، وتفضيل بثّ الموادّ الدعائية البحتة.84 يُضاف إلى ذلك أن تدخّل الأجهزة الأمنية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 في تعيين أعضاء جدد في مجالس إدارة الهيئات الثلاث التي أُنشئت في العام 2018 لمراقبة وتنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئي والصحافة المطبوعة في مصر (وهي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام)، دَحَض على نحو مماثل الادّعاءات بشأن الرغبة في تحقيق قدرٍ أكبر من التنوّع الفكري والاستقلالية الإعلامية.85

السعي إلى فرض الهيمنة الإيديولوجية

على غرار الأنظمة السلطوية الأخرى، شعرت إدارة السيسي بالحاجة إلى استخدام خطابٍ إيديولوجي يرمي إلى إضفاء الشرعية على حكمها وإبراز كفاءتها. ومع أن مبدأ "مفيش حاجة ببلاش" يعبّر بقوة عن النهج الاجتماعي للنظام بعد العام 2013، فإنه لا يُعدّ بديلًا عن العقد الاجتماعي السابق الذي كان أحد أهم الركائز الإيديولوجية لجمهورية ما بعد العام 1952. فقد بدا النظام غير قادرٍ على بلورة إيديولوجيا اجتماعية موّحدة بسبب أوجه التفاوت واللامساواة الاجتماعية الاقتصادية الصارخة، ورفضه التفكير في نسج تحالفاتٍ وشراكاتٍ فعلية بين الطبقات الاجتماعية. ولجأ بدلًا من ذلك إلى الترويج لمشروعاته، وتبنّي مزيجٍ من النزعة القومية الدفاعية ونظريات المؤامرة، ناهيك عن العسكرة المتزايدة لقطاعَي التعليم والخدمة المدنية. لكن تصريحات الرئيس المتكرّرة المُنتقِدة لشعبه تدلّ على أن الهيمنة الإيديولوجية التي يمارسها النظام على الفضاء العام من قمّة الهرم فشلت في تحقيق توافقٍ اجتماعي وسياسي على مستوى القاعدة.

يُعدّ الترويج المتواصل لإنجازات النظام سمةً فريدة لإدارة السيسي، تحاول من خلالها إبراز كفاءتها. لذا، يسلّط المسؤولون ووسائل الإعلام بشكلٍ منتظم الضوء على تدشين ما يوصَف بأنه أكبر مصنع غزل، وأكبر مزرعة تمور، وأكبر محطة لمعالجة مياه الصرف الزراعي في العالم؛ أو أكبر مجمّع لصناعة الرخام، وأكبر مصنع لإنتاج لبن الأطفال، وأكبر مجمّع صناعي للبولي إيثيلين، وأكبر محطة لمناولة الحاويات، وأكبر مصنع للجلود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.86 وتتباهى العاصمة الإدارية الجديدة، التي وُصفت الشركة التي تديرها كـ"أكبر مطوّر عقاري في العالم"، بأنها تضمّ مجمّع الأوكتاغون، أحد أكبر مقرّات وزارات الدفاع في العالم، فضلًا عن ثاني أكبر مسجد في العالم، وثاني أكبر ملعب في أفريقيا، وأكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأطول برج في القارة الأفريقية، إضافةً إلى القصر الرئاسي المُصمّم على الطراز الفرعوني والذي يُعدّ أيضًا من بين الأضخم عالميًا.87 ومن غير المفاجئ ما أُفيد أيضًا عن أنها تضمّ أطول سارية علم في العالم. ويُقال إن تنفيذ هذه المشروعات وغيرها من المنجزات التي تموّلها الدولة تراعي "أعلى المعايير الدولية"، في محاولةٍ لترسيخ مكانة مصر بين بلدان العالم.

أما الوجه الآخر من الإشادة بإنجازات إدارة السيسي فهو تبنّي خطابٍ يحمّل المصريين مسؤولية تفاقم المشاكل المالية الكبرى التي تواجهها البلاد والظروف الاجتماعية الاقتصادية السيئة التي يعانون منها، إن لم يكن التسبّب بها. فقد نسج السيسي على وجه الخصوص سرديةً يلقي فيها اللوم على مؤيّدي ثورة العام 2011 لإلحاقهم ضررًا اقتصاديًا هائلًا بالبلاد، ما تركها عرضةً للتأثّر بالصدمات الخارجية، ويحمّلهم أيضًا مسؤولية الزيادة السكانية المفرطة باعتبارها تعرقل النمو الاقتصادي وتضغط على موارد الدولة.88 فقد علّق قائلًا: "تثوروا، وتخرجوا للشوارع، وتهدّوا بلادكم"؛ ومكرّرًا: "متقعدوش كل شوية تهدّوا في بلدكم".89 ووجّه تحذيراتٍ قائلًا إن "الأحوال ما بتتحسنش إلا إذا كان معدل نمو سكاننا يتناسب مع قدراتنا.. قدراتنا الاقتصادية وقدراتنا للتشغيل والموازنة العامة للدولة".90 وخلال حديثٍ له في أيلول/سبتمبر 2023، في ذروة الأزمة المالية الناجمة عن الإنفاق الحكومي الهائل على المشروعات الضخمة التي يميل إليها السيسي، وجّه رسالةً قاطعة، قائلًا: "لو ثمن التقدّم والازدهار للأمة إنها ما تاكلش وما تشربش زيّ ما الناس بتاكل وتشرب، ما ناكلش وما نشربش".91 ولكنّه تبنّى نبرةً أكثر تصالحيةً، إذ وعد المصريين، على الرغم من خصوم البلاد (الذين لم يسمّهم): "لو فِضلت معدّلات حركتكم والنمو بتاعكم كده، [بعد] 10 أو 15 سنة إنتو حتبقو بحتة تانية"، في عهد من سيخلفه.92

يبدو واضحًا أن هذا الخطاب موجّهٌ بشكلٍ أساسي إلى الفئات الفقيرة في مصر، لكن التدهور الحادّ في الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية لدى الطبقة الوسطى استلزم نسج حجةٍ ضمن السردية الإيديولوجية للجمهورية الثانية، مفادها أن الدولة المصرية تواجه تهديدًا وجوديًا في إطار مؤامرةٍ تُحاك ضدّها. وبناءً على هذه السردية، تواجه مصر "حربًا من الجيل الرابع" تُخاض في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.93 بدأ مسؤولو الإدارة الجديدة ووسائل الإعلام المرتبطة بها بالترويج لهذه الفكرة مباشرةً بُعيد انقلاب العام 2013، ما يظهر أن هذه السردية هدفت إلى الحفاظ على ولاء الطبقة الوسطى للنظام، بعد أن تظاهر أبناؤها بأعداد كبيرة ضدّ الرئيس محمد مرسي ممهّدين الطريق للإطاحة به. منذ ذلك الحين، حاول ضباط القوات المسلحة والأكاديميون الموالون للنظام إضفاء طابعٍ علمي زائف على هذه السردية، وعمَدوا أيضًا إلى تدريسها في إطار المناهج الرسمية الخاصة بموظفي الخدمة المدنية والشرطة والمدّعين العامين والطلبة في القوات المسلحة، والترويج لها بشكلٍ مكثّف في وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة والمواد التعليمية الخاصة بالأطفال ومؤتمرات الشباب والخطب الدينية.94 ويشدّد السيسي بصورة منتظمة على هذه الرسالة، إذ ادّعى مجدّدًا في كانون الأول/ديسمبر 2024 بأن أجهزة مخابرات لم يسمّها (ولكن أجنبية) كانت وراء "حجم من الشائعات والكذب كتير أوي" جرى تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي بهدف "تحريك الدنيا [بأكملها]" ضدّ مصر.95

مع ذلك، تكمن الركيزة الحقيقية لسردية الجمهورية الثانية الإيديولوجية في عسكرة الحياة المدنية، مثل التعليم، والتوظيف والتدريب في الخدمة المدنية. ينطوي ذلك عمليًا على ضبط سلوك مواطني الطبقة الوسطى الأكثر تضرّرًا من التدهور الحادّ في قدرتهم الشرائية وغير المنبهرين على الأرجح بإنجازات الرئيس. وقد تسارعت وتيرة العسكرة منذ العام 2017، حين أصبح لزامًا على الدبلوماسيين المصريين إتمام دورة تدريبية مدتّها ستة أشهر، تتضمّن تلقينًا إيديولوجيًا قوميًا في الكلية الحربية.96 وفي العام 2020، صادق السيسي على تعديلات قانونية تنصّ على أن يكون لكل محافظٍ في محافظات البلاد السبع والعشرين مستشار عسكري، تشمل مسؤولياته الإشراف على تنفيذ منهج التربية العسكرية وفقًا للقواعد التي تحدّدها وزارة الدفاع في مرحلتَي التعليم الثانوي والعالي.97 وفي نيسان/أبريل 2023، أصدرت الحكومة قرارًا يُلزم جميع الراغبين في شغل وظائف في الخدمة المدنية بالخضوع لدورة تأهيل داخل الكلية الحربية لمدّة ستة أشهر كشرط أساسي للتعيين، إلى جانب اجتياز الاختبارات الرياضية والنفسية المؤهّلة لها.98 وتقوم لجانٌ عسكرية حاليًا بتقييم واختبار الراغبين في شغل وظائف في الخدمة المدنية، وكشفت تقارير عن أن الكلية الحربية باتت صاحبة الكلمة الأولى في الترقيات والتعيينات داخل الجهاز الإداري للدولة.99

إعداد نخبة إدارية موالية سياسيًا

تندرج عسكرة التعليم والتدريب من أجل تشكيل "نخبة إدارية تكنوقراطية موالية سياسيًا" في إطار ردّ السيسي على المأزق السياسي الذي تواجهه البلاد نتيجة رفضه المتعمّد إنشاءَ حزبٍ حاكم.100 لكن ذلك لم يحلّ المشكلة المتّصلة والمتمثلّة في إيجاد مرشّحين ومحاورين يساعدون في الحفاظ على مظهر انتخابي شكلي، وتمرير أجندة السيسي في البرلمان، وحشد الدعم الشعبي للرئيس.101 وأدّى ذلك إلى اختبار نماذج سياسية مختلفة تهدف إلى تحقيق هذه النتائج شرط الحفاظ على طاعتها للنظام. وتؤدّي الأجهزة الأمنية والمخابراتية الدور الأساسي في هذا السياق، إذ تعمد بصورة منتظمة إلى تأسيس أحزاب وتشكيل كتل برلمانية جديدة والتحكّم في اختيار قادتها ومرشّحيها للانتخابات. مع ذلك، ظلّ السيسي متردّدًا في دعم حتى أكثر هذه الأحزاب الصورية تزلّفًا، خشية تكرار تجربة "الحزب الوطني الديمقراطي"، الذي تمكّن من اكتساب نفوذ حقيقي في عملية صنع السياسات ومن تمثيل مصالح طبقة اجتماعية مستقلة في عهد مبارك.

خرج عددٌ كبير من الأحزاب الجديدة الموالية للنظام "من رحم ثورة 30 يونيو" (أي الانقلاب العسكري في العام 2013)، وارتبط بمختلف أجهزة المخابرات، غير أن السيسي سعى بدايةً إلى تجنّب السياسات الحزبية ككل.102 وبدءًا من العام 2014، خضع الناشطون الشباب المدنيون الموالون للنظام والذين ساعدوا في الانقلاب العسكري، إلى تدريب "عسكري–قومي" في إطار البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، الذي أطلقه السيسي في العام 2015 بهدف ملء جهاز الدولة الإداري بموظفين حكوميين أكفّاء.103 تَعزَّز هذا المسعى من خلال إنشاء الأكاديمية الوطنية للتدريب في العام 2017، التي قالت إنها تولّت تدريب أكثر من 6 آلاف شاب بحلول العام 2020.104 وفي وقتٍ لاحق، تولّى الكثير من هؤلاء التكنوقراط النموذجيين مناصب في الجهاز الإداري للدولة ووسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة المخابرات، لكنهم لم يستطيعوا تزويد النظام الجديد بشبكة المحسوبية السياسية التي سعى إلى تشكيلها على المستوى الوطني. فما كان من النظام إلا أن نقل تركيزه من برنامج تأهيل الشباب إلى تأسيس حزب "مستقبل وطن" في العام 2015. لكن هذا الأخير كان يفتقر إلى التنظيم القومي اللازم لتقديم 55 ألف مرشّح لخوض انتخابات المجالس البلدية، لذا استعان النظام في العام 2016 بقدامى "الحزب الوطني الديمقراطي" من أجل تزويد كيانٍ سياسي جديد حمل اسم "من أجل مصر" بخبرتهم التنظيمية. ونظرًا إلى غياب الاختلافات السياسية أو البرامجية بين الحزبَين الجديدَين، اندمج حزب "من أجل مصر" مع حزب "مستقبل وطن" في العام 2020، الذي فاز بغالبية مقاعد البرلمان خلال انتخابات ذلك العام. أما باقي الناشطين الشبابيين الحائزين على "الشهادة الأمنية"، فقد انضمّوا إلى "تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين"، التي حصدت ثلاثةً وأربعين مقعدًا في مجلسَي الشيوخ والنواب في العام 2020، ما سلّط الضوء بشكل أكبر على قابلية الأحزاب الموالية للنظام للتبادل في ما بينها من دون إحداث تغيير في المشهد السياسي.105

لا تزال الرئاسة والأجهزة الأمنية الرئيسة بمثابة الهيئات السياسية الأساسية في البلاد، بسبب سيطرتها على آليات توزيع المكافآت مقابل الولاء. وتعمل الأحزاب السياسية بشكل أساسي كأدوات لحشد الأصوات الانتخابية، سواء من أجل المساعدة على إقرار المراسيم الرئاسية في مجلس الشعب، أو من أجل تقديم مظهر التأييد الشعبي الجارف للسيسي قُبيل الأحداث المهمة. فعلى سبيل المثال، شكّل أربعون حزبًا تحالفًا مرحليًا بتوجيهٍ من جهاز المخابرات العامة في آب/أغسطس 2023، لدعم انتخاب السيسي لولاية رئاسية ثانية، حتى قبل أن يؤكّد هو ترشّحه.106 وفي كانون الأول/ديسمبر 2024، أطلق مسؤولون حكوميون سابقون حزبًا جديدًا هو "حزب الجبهة الوطنية"، استعدادًا للانتخابات البرلمانية المزمعة في العام 2025. وكانت النيّة من إعلانهم السعي إلى "استعادة الثقة في العملية السياسية"، عبر اتّباع "نهجٍ متوازن يحتفظ فيه [الحزب] بمسافة واحدة بين الموالاة والمعارضة"، هي تهدئة الاستياء الشعبي المتنامي من التضخم عبر الإيحاء بتخفيف القيود السياسية.107

طبيعة النظام في ظلّ الجمهورية الجديدة

يشكّل مبدأ "مفيش حاجة ببلاش" إذًا إحدى الخاصّيتَين اللتَين تميّزان الجمهورية الثانية عن جمهورية ما بعد العام 1952. أما الخاصية الثانية فتتمثّل في الانتقال إلى ما يمكن وصفه بـ"النظام ذي القدرات الرئاسية الفائقة"، حيث كرّس السيسي لنفسه وضعًا قانونيًا خاصًّا. وأضحت بذلك سلطته على تعليق أو تجاوز القيود والتوازنات القانونية والدستورية، والتي لم يكن بالإمكان في السابق اللجوء إليها إلا بصورة مؤقتة أو خلال حالة طوارئ مُعلنة، أمرًا طبيعيًا ودائمًا، في ظلّ إعادة تشكيل الجمهورية عبر تكريس الوصاية العسكرية على الحياة المدنية.108 أمّا أكثر ما يميّز هذا النظام عن نظام مبارك فهو مدى تركّز النفوذ في يد السيسي، وممارسة السلطة على نحو أكثر إحكامًا وتجانسًا ممّا كانت عليه الحال في الماضي.

نتيجةً لذلك، يحكم السيسي على رأس نظامٍ مستقر ومتماسك داخليًا إلى حدٍّ كبير، تخضع فيه المهام الحكومية الأساسية إلى الرئاسة وإلى الأجهزة "السيادية"، التي تُعدّ القوات المسلحة أبرزها، وبالتالي تشكّل هذه الهيئات عمليًا دولةً موازية. ويضطرّ رجال الأعمال إلى العمل داخل هذه البنية الهجينة، فيعمَدون إلى "استمالة أدوات الدولة القسرية أو التلاعب بها أو تجاوزها، نظرًا لافتقارهم إلى أدوات نفوذ مستقلّة خاصة بهم"، على حدّ تقييم الخبير في الاقتصاد السياسي عمرو عادلي.109 لكن في ظلّ تراكم الثروات الخاصة لدى شخصيات من الدائرة الضيّقة للنظام بفعل تولّيها المناصب العامة، باتت هي أيضًا جزءًا من طبقة أصحاب الرساميل والأملاك على نحوٍ لم يسبق له مثيلٌ في جمهورية ما بعد العام 1952. وهكذا، بات يصعب على نحو متزايد التمييز بينها وبين الشرائح العليا من طبقة رجال الأعمال والنخب ذات الدخل المرتفع سواء من حيث مظاهر الثراء أو التطلّعات الاجتماعية.

نواة النظام

يترأس السيسي نظامًا تتألّف نواته من دائرتَين: دائرة داخلية تُعرَف بـ"خليّة العمل"، وهي الأقرب إلى شكلٍ من التشاور الجماعي ضمن هيكل سلطةٍ شديد التمركز حول شخص واحد، إن لم يكن شكلًا من صنع القرار الجماعي؛ ودائرة خارجية تتكوّن من بضع عشراتٍ من كبار الضبّاط والمسؤولين المدنيين الذين ينقلون القرارات الرئاسية وتوجيهات السياسات إلى المستويات الأدنى، ويرفعون التقارير إلى المستويات الأعلى عن سير عملية التنفيذ والاحتياجات.110 هذا ويشكّل مستوى ثالث يتألّف من مسؤولين عسكريين وأمنيين قدامى، وهم عادةً متقاعدون، ومن موظّفين في الخدمة المدنية، مجموعةً أوسع من الموالين الموثوق بهم الذين يمكن تعيينهم لرئاسة هيئات الدولة المهمّة والمجالس القومية، والذين غالبًا ما يجري نقلهم من منصب إلى آخر. ويشكّل الجيل القادم من الضبّاط في الخدمة الفعلية وموظّفي الخدمة المدنية، الذين ينتظرون ترقيتهم إلى مناصب قيادية في أجهزتهم، مستوى رابعًا ينفّذ التوجيهات الرئاسية ضمن مجالات مسؤولياتهم.

وتضمّ خليّة العمل، إلى جانب السيسي، نجلَه محمود الذي رُقّي بسرعة إلى رتبة عميد في العام 2020، قبل أن يصبح الرجل الثاني في جهاز المخابرات العامة النافذ، إضافةً إلى مدير مكتب الرئيس، ومستشار الرئيس للشؤون المالية (وهو من متقاعدي القوات المسلحة)، ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وهو مدني لكن يتحدّر من عائلة عسكرية.111 وقد تولّى الفريق المتقاعد كامل الوزير، وهو وزير الصناعة، جزئيًا الدور الذي أدّاه سابقًا اللواء المتقاعد محمد أمين نصر، الذي كان له تأثيرٌ كبيرٌ على الاستثمارات الاستراتيجية للدولة بصفته المستشار المالي للسيسي، حتى وفاته في العام 2023.112

أما الدائرة الخارجية لنواة النظام، فتضمّ أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومُديري الأجهزة العسكرية الرئيسة المعنيّة بتقديم السلع والخدمات العامة، وبإدارة الاستثمارات العقارية والتجارية، وبضعة وزراء أساسيين في الحكومة، وحاكم البنك المركزي. والدائرة الخارجية هي أيضًا حلقة الوصل الرئيسة للنظام مع القوى الاجتماعية المهمّة، مثل طبقة رجال الأعمال، أو الجهات الخارجية، على غرار صندوق النقد الدولي. وفي حين أن العضوية في أيٍّ من الدائرتَين هي عضوية غير رسمية، تشكّل الدائرتان معًا "بيئةً" من الأفراد الأساسيين الذين يتفاعلون بعضهم مع بعض باستمرار، لا بل حتى يوميًا، ما يُضفي على النظام قدرًا من الاستمرارية والتماسك في السياسات.

وأبرز ما يميّز هيكل النظام هذا ثباتُه. فقد نجح السيسي، على وجه الخصوص، حيثما فشل جميع أسلافه، أي في منع ظهور مراكز قوى خارج دوائره المقرّبة. عليه بالطبع أن يسترضي مؤسسات الدولة التي تشكّل العمود الفقري للنظام، ولذا يمنحها الاستقلالية المؤسّسية لإدارة شؤونها الخاصة، وحصّةً من الفرص الاقتصادية، إلا أن قدرته على موازنة الزُمَر داخل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وإجراء عمليات استبدالٍ وتدويرٍ للقيادات، وترقية الجيل المقبل من الضبّاط داخل كلٍّ من هذه الهيئات بشكل منتظم، تُعَدّ إنجازًا فريدًا. ويتجلّى التباين بوضوحٍ عند مقارنة ذلك بالتنافس المُضني بين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير دفاعه عبد الحكيم عامر خلال العقد الذي سبق العام 1967، أو حتى بين الرئيس الجزائري الحالي والجيش، اللذَين يضطّران إلى التعامل باستمرار مع جماعات المصالح المتنافسة.113 نتيجةً لذلك، أصبح السيسي قادرًا أيضًا على دفع أجهزة الدولة كافّة، بما في ذلك أعضاء النظام الأساسيين، نحو تحقيق قدرٍ أعظم من الكفاءة والفعالية في بلوغ الأهداف وضمان التحسينات في الخدمات الأساسية والبنية التحتية، وتسجيل الشركات، والضرائب، وما إلى ذلك، حتى في ظلّ تسامحه مع سعي هذه الأجهزة إلى كسب الريع وجني الأرباح الفاحشة في المقابل.

الأوصياء العسكريون

صحيحٌ أن السيسي يمسك بجميع مفاصل السلطة، ولكن من الواضح أن القوات المسلحة هي محور سلطته. والنقاشات حول ما إذا كان هو أم القوات المسلحة المُهيمِن الحقيقي على البلاد إنما تُشتّت الانتباه عن تقارب تصوّراتهما ومصالحهما، لا بل انصهارها.114 فالسيسي يمكّن القوات المسلحة من إعادة تشكيل مصر على صورتها، في حين أن استحواذها على حصص تجارية وتوسّعها الاقتصادي يمثّلان نتيجةً منطقيةً وتجسيدًا للنظام الذي يبنيه السيسي بقدر ما يمثّلان سعيًا وراء المصلحة المالية. وبالتالي، تشكّل قدرة القوات المسلحة على الحفاظ على الاستقلالية المالية، ولا سيما خلال الأزمات المالية المتكرّرة التي عصفت بمصر على مدى العقد الماضي، عنصرًا أساسيًا في علاقتها بالرئيس، يسهم في ضمان ولاءٍ عموديّ داخل سلك الضبّاط الذين تحرّكهم الدوافع المادية والإيديولوجية على السواء.

مع ذلك، تشوب التوتّرات هذه العلاقة أحيانًا. فعلى سبيل المثال، استطاعت القوات المسلحة أن تقاوم محاولات السيسي طوال عقدٍ من الزمن لبيع حصصٍ في الشركات العسكرية إلى مستثمرين من القطاع الخاص، وعارضت صراحةً تأجير مرافق في منطقة قناة السويس للإمارات العربية المتحدة كوسيلةٍ لتسييل أصول الدولة. كذلك تفيد تقارير موثوقة بأن المؤسسة العسكرية رفضت مقترحاتٍ أجنبيةً لإعادة توطين سكان غزة الفلسطينيين في سيناء مقابل مساعدات مالية غربية كبيرة أو شطبٍ للديون، الأمر الذي يتعارض مع ميل السيسي.115 في المقابل، اضطّرت وزارة الدفاع إلى التخلّي عن السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي التي أجّرتها الحكومة للإمارات في إطار صفقة تطوير مدينة رأس الحكمة العقارية الضخمة التي أُبرِمَت في شباط/فبراير 2024، الأمر الذي ساعد الحكومة على تجنّب أزمة مالية كبرى.116

والأهمّ أن الدستور المُعدَّل للعام 2019 أظهر أن مقايضةً كان لا بدّ من التوصّل إليها بين السيسي والقوات المسلحة. فمقابل موافقة المؤسسة العسكرية على تعديلٍ يمدّد ولاية الرئيس الثانية لعامَين، ويسمح له بالبقاء لولاية ثالثة إضافية مدّتها ستّ سنوات، حصلت القوات المسلحة على تأكيدٍ على حقّها في التدخّل وفقًا لتقديرها الخاص من أجل الحفاظ على النظام السياسي في البلاد، من دون طلب موافقةٍ أو تصديقٍ من أيّ سلطة أخرى، بما في ذلك الرئيس.117 مع ذلك، من الواضح أن القيادة هي في يد السيسي. فالتغييرات المتكرّرة التي يجريها في القيادات العسكرية والمخابراتية تعكس حرصه على تجنّب أيّ تحدٍّ لقيادته، وتفكيك مراكز القوى، والحؤول دون نشوب نزاعاتٍ بين النخب. ولكن غالبًا ما يُبالَغ في أهمية هذه الخطوات. فالأهمّ من ذلك أن ترقية الضبّاط ذوي الرتب المتوسّطة في القوات المسلحة، وخاصةً في جهاز المخابرات العامة، تجري بشكل روتيني، وأن لهذه الشريحة من الضبّاط مصلحةً واضحةً في الحفاظ على النظام الذي يَعِدُها بالترقيات والمكافآت المادية.

ولم تقتصر المقايضات على ذلك، بل استثمر السيسي أيضًا رصيدًا سياسيًا وماليًا كبيرًا في تحسين عتاد القوات المسلحة وبنيتها التحتية، وتعزيز الاستقلالية الاستراتيجية لمصر. وقد حقّق ذلك من خلال تنويع مصادر استيراد الأسلحة، في خطوةٍ أرضَت ما يُسمّى بالمؤسَّسيّين المهتمّين بتطوير القوات المسلحة لتصبح جيشًا محترفًا. وفي الوقت عينه، أدار أزمة ليبيا في العام 2020 بمهارة، وكان على توافقٍ مع قادة القوات المسلحة بشأن تحدّيات السياسة الخارجية الأخرى، مثل تهديد مشروع سدّ النهضة الإثيوبي الكبير لحصّة مصر من مياه النيل، وتداعيات الصراعَين في السودان وغزة. فضلًا عن ذلك، أثبت السيسي قدرته على حشد الدعم المالي الدولي لمصر، وبالتالي الحفاظ على التمويل الضروري لمشروعات الأشغال العامة التي تديرها المؤسسة العسكرية وغيرها من المشروعات الضخمة، حتى إبّان جائحة كوفيد-19 والأزمتَين الماليّتَين خلال 2015-2016 و2022-2023.

ولذا، ما من سببٍ يدعو إلى نشوء توتّرٍ بين السيسي والقوات المسلحة بشأن تعامله مع التحدّيات المالية، والاجتماعية الاقتصادية، والبيئية، والجيوسياسية المتعاظمة خلال الفترة المتبقّية من رئاسته. على العكس، قد تؤدّي هذه التحدّيات إلى توحيد الصفوف بدلًا من توتير العلاقات داخل النظام، حتى وإن كانت تدفع القوات المسلحة وجماعات المصالح والنخب الرئيسة الأخرى إلى مضاعفة تحصيلها للريع ومصادر الدخل الأخرى. ولهذا السبب أيضًا من المستبعد أن تثير مسألة السماح للسيسي بالترشّح لولاية رئاسية أخرى، وهو أمرٌ يبدو حتميًا، معارضة عسكرية حقيقية. ليس واضحًا ما قد تطلبه القوات المسلحة مقابل الموافقة على تعديلٍ دستوري آخر، ولكن من غير المرجّح أن يخرج من صفوفها مرشّحون يرغبون في استعادة سياسات عهد مبارك لتحدّي السيسي، كما فعل القائدان العسكريان المتقاعدان سامي عنان وأحمد شفيق في العامَين 2014 و2018.118 إن المصالح الأساسية للقوات المسلحة مضمونة، ومن غير المتوقّع أن تغيّر هذه الأخيرة مسارها للشروع في عمليةٍ انتقاليةٍ بعيدًا عن السلطوية، وهذه عمليةٌ هي الوحيدة القادرة على تحقيقها سلميًا.119

دولة موازية

ترافَقَ نقل صلاحيات الإشراف والرقابة على القضاء إلى السيسي، أو إلى المؤسسة العسكرية التي يقودها، مع انتقالٍ أوسع نطاقًا لأصول الدولة إلى هيئات شبه حكومية. هذه هيئات تخضع لسيطرة أو ملكية أو إدارة السلطات الحكومية، وظيفتها الاضطلاع بأنشطةٍ تجاريةٍ، وقد أنشأ السيسي بعضها منذ تولّيه السلطة. واللافت أن هذه الهيئات تخضع لسيطرة الرئيس المباشرة، وإن كانت مُسجَّلةً بوصفها كيانات قانونية تمارس أنشطتها نيابةً عن الدولة المصرية. الواقع أن القوات المسلحة، إلى جانب جميع الهيئات والشركات العسكرية الأخرى، لطالما كانت معفاةً رسميًا من الرقابة الحكومية والبرلمانية، غير أن نطاق هذا الإعفاء وُسّع مذّاك الحين ليشمل الهيئات شبه الحكومية المدنية الخاضعة لسيطرة السيسي.

أولى هذه الهيئات شبه الحكومية هي صندوق تحيا مصر، الذي أُطلِق في العام 2014، وكُلّف بتمويل مشروعات تنموية، وهو تحت إدارة جنرالات القوات المسلحة. وكان السيسي يأمل في تحويله إلى "صندوق سيادي للأجيال"،120 إلا أنه لم يرقَ إلى مستوى هذه التطلّعات، فعمَد بدلًا من ذلك إلى تأسيس صندوق مصر السيادي، بعد أربع سنوات، "كصندوق استثمار خاص... [بهدف] الاستغلال الأمثل للأصول المملوكة للدولة".121 وقد منح القانون رقم 177 للعام 2018، الذي أُسِّس الصندوق السيادي بموجبه، رئيسَ الجمهورية صلاحية نقل أصول الدولة غير المستغلّة إليه، بينما وسّع مرسومٌ لاحقٌ هذه الصلاحية لتشمل نقل أيٍّ من أصول الدولة.122 لكن أداء صندوق مصر السيادي كان ضعيفًا، إذ لم يجذب سوى 37 مليار جنيه مصري (أقلّ من 1.48 مليار دولار) من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في السنوات الخمس الأولى من إطلاقه.123 وربما لهذا السبب نقل السيسي تبعية الصندوق إلى مجلس الوزراء في تشرين الأول/أكتوبر 2024، وإن كان لا يزال من غير الواضح بعد أكثر من ستّة أشهر ما إذا كان سيتبع وزير المالية، أم وزير قطاع الأعمال العام، أم رئيس الوزراء، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحًا.124

لكن النشاط شبه الحكومي الأكثر أهميةً على الإطلاق هو ذلك الذي تتولّاه الهيئات العسكرية المختلفة. ومع أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة والهيئات التابعة لها، مثل إدارة المشروعات الكبرى، ليست كيانات تجارية بحتة، فإنها أدارت ما يقرب من ربع مجموع مشروعات الإسكان والبنية التحتية المُموَّلة من الحكومة في الفترة الممتدّة بين العامَين 2013-2018، لترتفع نسبة هذه المشروعات إلى ما بين 27.5 و38 في المئة بحلول آب/أغسطس 2020.125 ويتّسم تخصيص عقاراتٍ تجاريةٍ رسميًا لشركات وهيئات مملوكة للمؤسسة العسكرية بالقدر نفسه من الأهمية في ما يتعلّق بنموذج الاقتصاد السياسي المتغيّر المُتَّبَع في ظلّ إدارة السيسي. وأبرز مثالٍ على ذلك العاصمة الإدارية الجديدة، وهي قيد الإنشاء منذ العام 2015، بتكلفةٍ توقّعت الحكومة أن تصل إلى 58 مليار دولار.126 وتمتلك وزارة الدفاع 51 في المئة من شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية المعنيّة بإدارة هذا المشروع الضخم.127 وإضافةً إلى جني الشركة أرباحًا من بيع العقارات في العاصمة الجديدة وتأجيرها، مُنِحَت حقّ تطوير عقاراتٍ فاخرة في وسط القاهرة.

على النحو نفسه، مُنِح جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع أيضًا لوزارة الدفاع، وهيئات عسكرية أخرى حقّ الانتفاع التجاري من واجهة النيل في القاهرة، وعقارات سياحية مميّزة على طول سواحل البحرَين الأبيض المتوسط ​​والأحمر، وعشرات الجزر الواقعة في البحر الأحمر.128 وفي تطوّرٍ آخر، حلّ جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة، التابع للقوات الجوية، والذي يدير مشروعاتٍ ضخمةً لاستصلاح الأراضي الصحراوية وزراعتها، وتخزين الحبوب، في منطقة الدلتا الجديدة وصعيد مصر، محلَّ الهيئة العامة للسلع التموينية التابعة للحكومة، في كانون الأول/ديسمبر 2024، بصفتها المستورد الحكومي الحصري للقمح.129

تدلّ الأهمية المتعاظمة للهيئات شبه الحكومية على نشوء اقتصادٍ هجينٍ يقوم على قطاعَين عامَّين مختلفَين: المؤسسات المملوكة للدولة والهيئات الاقتصادية العامة الخاضعة لإشراف مجلس الوزراء؛ وتلك التي تخضع لرئيس الجمهورية. يسود تعاونٌ وتكاملٌ واسعا النطاق بينهما، إلا أن اقتران سلطة السيسي المطلقة بتحكّمه بمفاصل الاقتصاد يُحفّز على نشوء اتجاهات جديدة. أوّل هذه الاتجاهات هو أن "الدولة المعيارية"، المؤلّفة من الوزارات الحكومية والخدمة المدنية التقليدية، تتصارع باستمرار مع "دولة الامتيازات" التي تضمّ الهيئات شبه الحكومية العاملة وفقًا لقواعد يضعها الرئيس وتُفيد قواعد النظام الأساسية بينما يُفترَض أن تخدم الوطن.130 ويعتمد التوازن بين الاثنين جزئيًا على القوة النسبية لرئيس الوزراء. فمصطفى مدبولي، الذي يشغل منصبه منذ العام 2018، يتمتّع بنفوذٍ كبير لأنه ينفّذ توجيهات السيسي بإخلاص، ولأنه يتبنّى تمامًا منطق هذه التوجيهات وأهدافها، ولا سيما في ما يتعلّق بتعزيز القطاع العقاري بوصفه محرّكًا اقتصاديًا، وتحويل أصول الدولة إلى مصادر دخل.

ونتيجة الثقة الممنوحة لمدبولي، عملت مجموعة المجالس "القومية" و"العليا" التي أنشأها السيسي لتحديد أولويات السياسات في مختلف المجالات، والتي يشكّل صعودها اتجاهًا جديدًا ثانيًا في رئاسته، مع الحكومة على أساس شراكةٍ أكثر منه على أساسٍ تنافسيّ. وهذا صحيحٌ على الرغم من أن هذه المجالس تميل إلى أن تطغى على الوزارات المسؤولة اسميًا عن تلك القطاعات. وبغضّ النظر عن نفوذ مدبولي، وسّعت دولة الامتيازات باطّرادٍ نفوذها ليفوق نفوذ الدولة المعيارية من خلال "توأمةٍ" غير رسمية إما يشرف فيها ضباط القوات المسلحة والمخابرات على وظائف نظرائهم في الخدمة المدنية، وإما يحاكونها، خصوصًا في قطاع الإعلام، ولكن أيضًا في بعض القطاعات الاقتصادية. فضلًا عن ذلك، يضطلع مستشارو الرئيس العسكريون بدورٍ إضافي في التوجيه الاستراتيجي لاستثمارات الدولة، وفي قطاعاتٍ مثل التحوّل الرقمي للحكومة، فيما يحضر قادة القوات المسلحة الاجتماعات التي يعقدها السيسي لمناقشة الشؤون الاقتصادية والمالية، في غياب تام للمسؤولين المدنيين في الكثير من الأحيان. هكذا، وإن كان جهاز الدولة المترامي الأطراف قد يبقى غير خاضع للمساءلة إلى حدٍّ كبير، ومقاومًا لأيّ تقليصٍ لاستقلاليته أو امتيازاته، سواء الرسمية أم العرفية، يعمل السيسي على تهميشه، بمساعدة القوات المسلحة، بدلًا من السعي بشكلٍ أكبر إلى زيادة فعاليته وكفاءته.131

وإلى جانب المؤسسة العسكرية، تستفيد الهيئات شبه الحكومية من الآلية القانونية التي يتمّ بموجبها توكيلها إدارة الأصول "العامة" باعتبارها ملكيةً "خاصةً" للدولة. هذا الأمر يسمح للهيئات بأن تحدّد بنفسها جداول الرواتب، والمنافع الإضافية، وقواعد تقاسم الأرباح، وأن تحتفظ بالإيرادات الصافية وتعيد استثمارها لمصلحتها الخاصة. ويُعَدّ مزيج التوتّر الدائم و"التعاون العملي" بين أساليب الحكم المختلفة في القطاعَين العامَّين من خصوصيّات جمهورية السيسي الجديدة. ولكنه يسهم أيضًا في طمس الحدود بين العام والخاص بشكلٍ أكبر، وهو اتّجاه كان واضحًا أساسًا في عهد أسلاف السيسي، بحيث توضَع الإيرادات المتراكمة العائدة إلى الدولة، وغير الخاضعة لآليات المساءلة، أكثر فأكثر تحت تصرّف النخب والأفراد المرتبطين بالنظام.132

طبقة رجال الأعمال: ضرورية ولكن خاضعة

لطالما نظرت القوات المسلحة إلى طبقة رجال الأعمال المصرية على أنها منافسٌ سياسيٌّ محتملٌ لها، ولا سيما خلال العقد الأخير من حكم مبارك، حين تفوّق عليها في النفوذ رجال الأعمال المقرّبون من نجله جمال. وهكذا، مع أن برنامج الخصخصة الذي أطلقته مصر في العام 1991 أنتج علاقةً تكافلية جديدة بين مسؤولي الدولة والرأسماليين المحسوبين على السلطة، لم تنفّذ القوات المسلحة ببساطة أوامر الطبقة الرأسمالية، كما لم تتوافق مصالحهما.133 والواقع أن ثورة العام 2011 والانقلاب العسكري في العام 2013 أضرّا برجال الأعمال ذوي الارتباطات السياسية الذين استفادوا من المعاملة التفضيلية في طريقة حصولهم على الدعم، والحماية، وأراضي الدولة أو غيرها من الأصول، مثل الشركات العامة المُخصخَصة في عهد مبارك.134 وكان جزءٌ كبيرٌ من السياسة الاقتصادية اللاحقة لإدارة السيسي مُوجَّهًا نحو تفكيك النخبة الاقتصادية وإعادة تنظيمها. وقد شمل هذا المسار استعادةَ سيطرة الدولة وإدخال هيئات حكومية مثل القوات المسلحة في الإدارة الاقتصادية من جهة، وعلاقاتٍ متقلّبةً مع قطاع الأعمال الخاص من جهة أخرى. فثمّة ممارسات عدّة لا تزال تقوّض التدابير الداعمة لقطاع الأعمال، مثل الترهيب المباشر وعمليات الاستحواذ القسري، واحتكار أسواق الائتمان، والمنافسة غير العادلة من الشركات التابعة للنظام، وانتزاع التبرّعات لصندوق تحيا مصر التابع للرئيس، وغير ذلك من السلوكيات الافتراسية من جانب القوات المسلحة وأجهزة النظام. إن الأعمال التجارية مُرحَّب بها إذًا، ولكن بشروط النظام.

فيما منَعَ نظام ما بعد العام 2013 إعادة التأهيل السياسي لرجال الأعمال المحسوبين على مبارك، بقي أيضًا على مسافةٍ من رجال الأعمال المستقلّين، الذين لم تعتمد ثروتهم على الروابط المتميّزة مع صانعي القرار السياسيين. فقد حرمت إدارة السيسي هاتَين الفئتَين من رجال الأعمال من الشراكة السياسية وفرصة رسم السياسة الاقتصادية واستراتيجية الاستثمار الحكومية.135 ومع ذلك، كانت بحاجة إلى معرفتهم التقنية، وإمكاناتهم التشغيلية، وقدرتهم على الوصول إلى الرأسمال المالي لتنفيذ الأشغال العامة. ولذا، اتّبعت الإدارة نهجًا مزدوجًا: فقد منحت الكثير من العقود من الباطن في المشروعات المُموَّلة من الحكومة للشركات الصغيرة والمتوسّطة بغية بناء قاعدة موالية للنظام، بينما لجأت إلى الشركات الأكبر حجمًا عند حاجتها إلى موارد أكبر. وسعيًا منها إلى استرضاء قطاع الأعمال في سنواتها الأولى، اتّخذت تدابير صديقة للأعمال، من بينها مثلًا تأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على معاملات البورصة، التي فُرِضَت في العام 2014، وخفض معدّل ضريبة الشركات القياسي في العام 2015.136 وقد حافظت الحكومة على هذه الإجراءات مذّاك الحين، ما جعل معدّلات ضريبة الشركات ومعدّلات ضريبة الشركات إلى الناتج المحلي الإجمالي من بين الأدنى في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسّط.137 كذلك رضخت لضغوط الشركات الكبرى لإعفائها من فترات إغلاق العمل خلال جائحة كوفيد-19، وقمعت بشدّة الحراك العمّالي.

استقرّ نظام السيسي، بعد أكثر من عقدٍ على تولّيه السلطة، على أنماط متفاوتة من العلاقات مع مجموعات فرعية مختلفة في قطاع الأعمال الواسع. أبرز هذه المجموعات مجموعة صغيرة من الشركات المستقلّة، بما فيها تكتّل أوراسكوم التابع لعائلة ساويرس، ومجموعة منصور، ومجموعة السويدي للصناعات، التي تحظى بحمايةٍ من الترهيب وباستقلاليةٍ نسبيةٍ بفضل وجود أجزاء كبيرة من رأسمالها وعملياتها خارج مصر.

يشكّل رجال الأعمال المحسوبون على نظام مبارك، والذين سُمِح لهم باستئناف نشاطهم التجاري في مصر بعد التوصّل إلى تسويات مالية مع السلطات الجديدة، مجموعةً فرعيةً ثانية. ومن بين أعضاء هذه المجموعة أحمد عز، قطب صناعة الصلب، وأحمد هيكل، رئيس شركة القلعة القابضة، ومحمد أبو العينين، رئيس مجموعة كليوباترا، وجميعهم أعادوا بناء ممتلكات كبيرة لكنهم لا يزالون مُجرَّدين من النفوذ السياسي. ويمثّل مطوّر العقارات هشام طلعت مصطفى استثناءً نادرًا، إذ أصبح ذا شأنٍ بفضل دوره في التوسّط في صفقة رأس الحكمة مع الإمارات العربية المتحدة، وهو يكشف كيف توفّر العلاقات التاريخية مع الخليج بعض الحماية لرجال الأعمال من حقبة مبارك، ما يجعلهم أقلّ عرضةً للاستغناء عنهم. فضلًا عن ذلك، يكشف سَجنُ صفوان ثابت، مالك شركة جهينة للصناعات الغذائية الناجحة للغاية، في العام 2020، بتهمٍ ملفّقةٍ لإرغامه على التنازل عن حصّة من الأسهم لهيئةٍ "سيادية"، أن هذه المجموعة الفرعية لا تزال عرضةً للضغوط والابتزاز.138

وتضمّ مجموعة فرعية ثالثة شركاتٍ جديدةً نسبيًا حصلت على عقود مربحة في مشروعات ضخمة تموّلها الدولة، مع أن بعض "روّاد الأعمال الجدد" هؤلاء ورثوا ببساطة من آبائهم شركاتٍ تعود إلى عهد مبارك.

أما المجموعة الفرعية الأخيرة، فتُمثَّل بأذرع النظام، أبرزهم إبراهيم العرجاني، الميليشياوي السابق من سيناء الذي تحوّل إلى رجل أعمال، وصبري نخنوخ، مدير شركة "فالكون" الخاصة للأمن والحراسة التي تدير حملات السيسي الانتخابية. وقد استغلّ الرجلان علاقاتهما بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية لبناء هيئات قابضة تجارية تعمل في مصر وخارجها.

تشكّل طبقة رجال الأعمال عمومًا قاعدةً داعمةً للنظام، تستفيد بدرجاتٍ متفاوتةٍ من إعادة إنتاج الأنماط الريعية أو الزبائنية في الاقتصاد السياسي المصري، مع بقائها خاضعةً لهذا النظام. مع ذلك، يبدو أن العلاقات تشهد تحوّلًا طفيفًا، في ظلّ ترسيخ النظام سلطتَه داخليًا، واضطلاع القوات المسلحة بدورٍ قياديّ في وضع استراتيجيات الاقتصاد واستثمارات الدولة وإدارتها. فعلى سبيل المثال، عزّزت القوات المسلحة شراكاتها مع بعض أكبر الشركات الخاصة في مصر منذ العام 2019، إن يكن قبل ذلك، من خلال نقل إدارة عددٍ من المشروعات الضخمة إلى هذه الشركات كي يتسنّى للمؤسسة العسكرية التوسّع في قطاعات اقتصادية وأنشطة تجارية جديدة ومتنوعة. لكن السيسي يواصل بوضوح الاستفادة من المصادر الخارجية لتدفّقات رأس المال والاستثمار لإبقاء طبقة رجال الأعمال المحليين تحت السيطرة، مُعزّزًا في الوقت عينه موقعه الخاص عن طريق توجيه الدعم الخارجي عبر مكتبه. وعلى نحو مماثل، تُوجَّه جهود الوصول إلى الأسواق الخارجية (خصوصًا فرص إعادة الإعمار في ليبيا وسورية وغزة) نحو جهاتٍ تابعة للنظام، بما فيها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ومجموعة العرجاني. إن البحث عن حلولٍ خارجيةٍ للأزمة المالية المصرية بهذه الطريقة يؤدّي فعليًا إلى تفادي بناء اقتصاد سوقٍ في الداخل.

وهكذا، تبقى علاقات إدارة السيسي بطبقة رجال الأعمال المصرية شديدة التقييد، ولكنّ تحوّلًا طفيفًا قد يكون قيد التبلور. تُعدّ الحدود الفاصلة بين القطاعَين المُصنّفَين اسميًا على أنهما عام وخاص سطحية منذ فترة طويلة، ويتمّ تعديلها الآن لتشمل القوات المسلحة، نظرًا إلى "قدرتها على العمل كقطاع خاص وعام في الوقت نفسه"، واستحواذها على أصول باتت مملوكة للدولة ملكية خاصة، بعد أن كانت مُلكًا عامًّا في السابق.139 والواقع أن تغلغل القوات المسلحة في الاقتصاد يحوّلها إلى "برجوازية جديدة"، كما ترى الباحثة سارة تونْسي،140 بحيث يندمج كبار الضبّاط، ونظراؤهم في الأجهزة الأمنية، وإدارات الدولة، وقطاع الأعمال العام، مع الشريحة العليا الصاعدة للطبقة الوسطى.141 لم تصبح طبقة رجال الأعمال شريكًا سياسيًا بعد، كما إنها ليست جهةً قادرةً على نقض القرارات في المجال الاقتصادي، ولكن تقارب مصالحها مع مصالح الطبقة الحاكمة الجديدة قيد التشكّل قد يغيّر في نهاية المطاف طبيعة النظام في السنوات المقبلة.142

 خاتمة

بنى الرئيس عبد الفتاح السيسي دولةً قويةً تتألّف، على حدّ تعبير الدبلوماسي المصري السابق عز الدين شكري فشير، من "الحاكم والأجهزة الأمنية الداعمة له، وهي المخابرات العامة والمخابرات الحربية (وكلاهما تحت سيطرة الجيش) وإدارة 'أمن الدولة' التابعة لوزارة الداخلية".143 إن النظام الحاكم الحالي قويٌّ ومتماسكٌ في قمة الهرم، لكنه أشبه برجلٍ مفتول العضلات من فوق، إلا أنه يقف على ساقَين نحيلتَين بالكاد تحملانه. ويعاني النظام من نقطتَي ضعفٍ أساسيّتَين تجعلان استمرارية الجمهورية الثانية موضع شكّ.

من جهة، يعمَد السيسي إلى تعديل، بدلًا من تحويل، النظام الزبائني الأبوي الجديد الذي حافظ على تماسك الدولة طوال عقود لكنه جوّف مؤسساتها، ما يجعل هشاشة الدولة دائمة.144 في المقابل، عكَف على تبديل وتضييق دائرة المستفيدين تماشيًا مع التغييرات الأساسية التي أجراها على الاقتصاد السياسي والعقد الاجتماعي في مصر. وبدلًا من بناء اقتصاد سوق يتطلّب تحرير القوى الاجتماعية المنتجة، أشرف على نقل ملكية الأصول إلى إدارة وملكيّة هجينتَين، عامة وخاصة في آن.145 في الواقع، استغلّت إدارة السيسي اعتمادَ القطاع الخاص في مراكمة الثروة على أجهزة الدولة التي تتحكّم بقدرته على الحصول على العقود العامة والتراخيص والتصاريح البيروقراطية، والأراضي، والقروض المصرفية. وهدف إدارة السيسي هو إمّا إخضاع طبقة الأعمال وتوجيهها نحو إعادة رسملة الأصول والمشروعات المملوكة للدولة وتسييلها، أو إقصاؤها من الأسواق. من الناحية النظرية، باستطاعة الإدارة التخلّي عن نمط العلاقات هذه وإفساح المجال أمام التعافي والنمو الاقتصاديَين من خلال منح الوزراء المدنيين سلطاتٍ يُعتدّ بها، لكن حتى في ظلّ تعيين شخصيات تكنوقراط موالين للنظام، قد تمهّد هذه الخطوة الطريقَ أمام تفكيك النظام الحاكم.

من جهة أخرى، يبدو نظام السيسي مقيّدًا بسبب عجزه عن فرض هيمنةٍ اجتماعية وسياسية، إذ يلجأ إلى الهيمنة الإيديولوجية والسيطرة على الفضاء الإعلامي، لكن هذا الأمر لا يمكن أن يستبدل الحاجة إلى تحقيق توافق حول الأهداف والوسائل، وهو ما يُعرَف في بعض الأحيان بمفهوم "الاقتصاد الأخلاقي" الذي ينطوي على الحوافز والتوقّعات والالتزامات الناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع. في الواقع، يجري الحفاظ على الاستقرار السياسي من خلال مزيجٍ من التدابير القمعية والإجراءات الاقتصادية التخفيفية، على غرار برامج الدعم النقدي للفئات الفقيرة. لكن هذه المساعي لا تؤدّي إلى تحقيق توافق فعلي نظرًا إلى التخفيض الحادّ الذي لحق بالنفقات المُخصَّصة لتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، وإحجام الإدارة عن تطبيق الإصلاحات اللازمة لتوسيع نطاق المشاركة الاقتصادية، وزيادة الادّخار، ورفع حجم الإنتاج في الأنشطة والقطاعات غير الخاضعة لسيطرة الدولة. وخلال السنوات القليلة الماضية، سعى النظام إلى الحدّ من احتمال إضعافه سياسيًا من خلال توسيع دائرة المستفيدين من شبكات المحسوبية التابعة للدولة بشكلٍ انتقائي، لكن هذا الأمر لا يفضي سوى إلى مفاقمة العبء الذي يُثقل كاهله، وسط تقلُّص الموارد المالية. يحافظ النظام على تماسكه من خلال الاقتراض، ويتمكّن من تدبّر أموره اقتصاديًا بفضل المساعدات الخارجية، لكن استقراره مهدَّدٌ دومًا بسبب اعتماده المفرط على القوة القسرية.

لا يمكننا الافتراض بأن القوى السياسية ذات الأهمية في مصر اليوم هي فقط التي ستضطلع بالأهمية في المستقبل. فالقوى الاجتماعية المقموعة أو المُهمّشة قد تعاود الظهور في حال تزعزع استقرار النظام الذي بناه السيسي والقوات المسلحة، أو في حال شهد عملية إعادة اصطفافٍ داخلية على وقع تعاظم التحدّيات المالية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والأمنية. وعلى أساس الحصيلة التي ستؤول إليها الأمور، سوف يتحدّد مصير الجمهورية الثانية، سواء كانت ستوطّد أركانها أم ستراوح مكانها أم ستتداعى. على المدى القصير، ستشكّل قدرة السيسي على ضمان انتخابه لولاية رئاسية إضافية أو على تسليم الحكم لخلفٍ يحظى بموافقة القوات المسلحة من دون التسبّب بشرخ داخل النخب، دلالةً على استمرار تماسك النظام وصموده. أما على المدى الأطول، فمن المحتمل أن تكون الوسائل والأساليب التي يستخدمها النظام لضمان بقائه هي السبب في انهيار الجمهورية الثانية.

هوامش

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.