المصدر: Getty

ركائز ثلاث لإطلاق عملية إعادة إعمار سورية

ينبغي إشراك جميع مكوّنات المجتمع ووضع البلاد على مسار التحوّل الديمقراطي خلال مرحلتها الانتقالية من أجل تحقيق تعافٍ ناجحٍ بعد سنوات الحرب والحفاظ على النسيج الوطني.

 جوزيف ضاهر
نشرت في ٨ مايو ٢٠٢٥

مقدّمة

بعث سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 الأمل بمستقبل أفضل في سورية. لكن هذا التفاؤل الأوّلي انحسر وحلّت مكانه صعوباتٌ متناميةٌ، شملت التشرذم المناطقي، والانقسام السياسي، والتدخّل والاحتلال الأجنبيَين، والتوتر الطائفي. وقد أثّر ذلك سلبًا على إمكانية تحقيق تعافٍ اقتصادي وإطلاق عملية إعادة الإعمار، وهو ما تحتاج إليه البلاد بشدّة. وقد تراوحت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بين 250 و400 مليار دولار. هذا ولا يزال أكثر من نصف السكان يعيشون كنازحين، و90 في المئة منهم تحت خط الفقر، ناهيك عن أن 16.7 مليون شخص في سورية (أو 75 في المئة من السكان) احتاجوا إلى مساعداتٍ إنسانيةٍ في العام 2024، وفقًا للأمم المتحدة.

في هذا السياق، سبق أن انطلقت المناقشات حول التعافي الاقتصادي والتنمية بين القوى الاجتماعية والسياسية السورية والممثلين الدوليين. مع ذلك، لا بدّ من توافر ركائزَ أساسية ثلاث لضمان نجاح عملية إعادة الإعمار والتعافي الوطني على نحو مستدام. تتمثّل الركيزة الأولى في تحقيق انتقالٍ سياسيٍّ شاملٍ للجميع يتيح مشاركة مختلف قطاعات المجتمع في الحكم. وتكمن الثانية في إرساء ثقلٍ موازنٍ لمن هم في السلطة يُعزّز الانتقال الديمقراطي في المشهد السياسي السوري. أما الركيزة الثالثة فهي تحسين الظروف الاجتماعية الاقتصادية من أجل زيادة الانخراط من القاعدة، ولا سيما في أوساط الفئات السكانية الأكثر احتياجًا التي تواجه ظروفًا معيشيةً صعبة.

ما لم تتوافر هذه الشروط، ستبقى عملية تعافي الاقتصاد السوري معرّضةً للخطر، وسيزداد احتمال انعدام الاستقرار وسط استبعاد قوى سياسية واجتماعية مختلفة. والأسوأ من ذلك حتى أن استمرار السلطاتِ الجديدةِ في محاولة فرض إرادتها قد يتسبّب باندلاع صراعٍ مسلّح. وبالمثل، من الممكن أن يؤدي العجز عن إشراك قطاعاتٍ أوسع من السكان بشكل ناشطٍ أكثر في المرحلة الانتقالية إلى الإضرار بشرعية هذه الأخيرة. وما لم يتم إشراك جميع مكوّنات المجتمع السوري، قد تتفاقم التوترات الطائفية والعرقية، ما يلحق ضررًا إضافيًا بالنسيج الوطني.

السياق السياسي بعد سقوط الأسد

بعد انهيار نظام الأسد، ركّزت هيئة تحرير الشام، التي قادت الهجوم ضدّ القوات الحكومية السورية، السلطة في يديها. كلّف قائدها أحمد الشرع، بُعيد تسلّمه الحكم، محمد البشير بتشكيل حكومةٍ لتصريف الأعمال. وكان البشير قد ترأس سابقًا حكومة الإنقاذ السورية في إدلب. وتألفت حكومته الجديدة حصرًا من أفراد من هيئة تحرير الشام أو مقرّبين منها. وفي كانون الثاني/يناير 2025، اتّخذ الشرع خطوةً أبعد بتنصيب نفسه رئيسًا للمرحلة الانتقالية، قبل أن يُعلن تشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ خاضعةٍ لسلطته في 29 آذار/مارس تتولّى مهمة إدارة شؤون البلاد إلى حين إجراء الانتخابات.

شكّل الشرع، فور توليه منصبه، "مجلسًا تشريعيًا مؤقّتًا" بعد حلّ مجلس الشعب وتجميد الدستور. وعيّن أيضًا وزراء وشخصيات أمنية ومحافظين تابعين لهيئة تحرير الشام، أو لجماعات مسلّحة مقرّبة منها تابعة للجيش الوطني السوري. فعلى سبيل المثال، عُيّن في البداية أنس خطّاب رئيسًا لجهاز الاستخبارات العامة إلى أن حلّ محله حسين السلامة في أيار/مايو. يشار إلى أن خطاب أسهم في تأسيس جبهة النصرة، قبل أن تصبح هيئة تحرير الشام، وكان الشخصية الأمنية الرائدة فيها، ناهيك عن أنه تولّى منذ العام 2017 إدارة شؤونها الداخلية وسياستها الأمنية. وأعلن خطّاب عن إعادة هيكلة الأجهزة الاستخباراتية، وسط سعي السلطات أيضًا إلى تشكيل جيشٍ سوري جديد. فعيّنت قادة هيئة تحرير الشام كأعلى ضباطه رتبة، واختارت مرهف أبو قصرة وزيرًا للدفاع، بعد ترقيته إلى رتبة لواء. ومن خلال إعادة بناء الجيش، سعى النظام الجديد إلى تعزيز سيطرته على المجموعات المسلّحة المبعثرة في سورية وحصر السلاح بيد الدولة.

وبالمثل، تشغل شخصياتٌ مقرّبةٌ من الشرع مناصبَ رئيسة في الحكومة الانتقالية الجديدة. على سبيل المثال، احتفظ أسعد الشيباني وأبو قصرة بمنصبَيهما كوزيرَي خارجية ودفاع على التوالي، بينما عُيّن خطّاب وزيرًا للداخلية. لكن الصلاحيات الفعلية للحكومة تبقى موضعَ تساؤل، ولا سيما أن مجلس الأمن القومي في سورية، الذي يرأسه الشرع، ويضمّ معاونيه المقرّبين (وزراء الخارجية والدفاع والداخلية ومدير الاستخبارات العامة)، شُكّل في الوقت نفسه بهدف تنسيق وإدارة السياسات الأمنية والسياسية. وفي سياقٍ مماثلٍ، أنشأت وزارة الخارجية الأمانة العامة للشؤون السياسية في نهاية آذار/مارس للإشراف على إدارة النشاطات والفعاليات السياسية داخل سورية، وصياغةِ ورسمِ السياسات والخطط العامة المتعلقة بالشأن السياسي، وإعادةِ توظيفِ أصول حزب البعث المُنحل.

اتّخذت السلطات السورية الجديدة أيضًا تدابيرَ لتعزيز سيطرتها على الجهات الفاعلة الاقتصادية والاجتماعية. فعمدت، على سبيل المثال، إلى إعادةِ هيكلةِ غرف التجارة في البلاد من خلال استبدال غالبية الأعضاء وتعيين أعضاءَ آخرين، بما في ذلك غرف التجارة في محافظات دمشق وريف دمشق وحلب وحمص. ويُعرف عن عددٍ من أعضاء مجالس إدارة الغرف الجدد علاقاتهم الوثيقة بهيئة تحرير الشام، من بينهم الرئيس الجديد لاتحاد غرف التجارة السورية، علاء العلي، الذي كان الرئيس السابق لغرفة تجارة وصناعة إدلب التابعة لهيئة تحرير الشام. بالإضافة إلى ذلك، عُيّن ماهر الشرع، شقيق أحمد الشرع، أمينًا عامًا لرئاسة الجمهورية في منتصف نيسان/أبريل، وتشمل مهامه إدارةَ الشؤون الإدارية والتنظيمية في الرئاسة والعمل كحلقةِ وصلٍ بين الرئاسة ومؤسسات الدولة.

واستقدمت السلطات شخصياتٍ جديدةٍ تابعة لها من أجل تولّي رئاسة النقابات العمّالية والجمعيات المهنية. والجدير بالذكر أنها اختارت مجلسًا لنقابة المحامين السوريين، يتألف من أعضاء مجلس نقابة المحامين الأحرار التي كانت تعمل في إدلب. وردًّا على هذه الخطوة، نظّم المحامون السوريون عريضة للمطالبة بتنظيم انتخابات حرّة لنقابة المحامين المركزية.

تجلّى افتقار النظامِ الجديدِ إلى آليات الديمقراطية التشاركية أيضًا في المبادرات والمؤتمرات واللجان الرامية إلى تشكيل مستقبل سورية. على سبيل المثال، بعد أن أجّلت السلطات مؤتمر الحوار الوطني السوري في البداية، عُقد في شباط/فبراير 2025 بحضور 600 مشاركٍ تقريبًا. ومع ذلك، تعرّضت العملية لانتقادات لاذعة. أولًا، شُكِّلت اللجنة التحضيرية قبل أقل من أسبوعَين من انعقاد المؤتمر، ووُجّهت الدعوات عمومًا قبل يومَين فقط، ما حال دون مشاركة الكثير من المدعوّين من خارج البلاد. علاوةً على ذلك، كان الوقت المخصّص للمناقشات في جلسات العمل - حول العدالة الانتقالية، والاقتصاد، والحريات الشخصية، والدستور - محدودًا بأربع ساعات، وحال دون الغوص بشكل أكبر في النقاشات. برز أيضًا غياب مشاركين من مناطق معيّنة أو نقص في تمثيلهم، مثل جنوب سورية والمناطق الساحلية، في حين استنكرت القوى السياسية الكردية الرئيسة، الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية والمجلس الوطني الكردي، عدم دعوتها للمشاركة في المؤتمر.

تعرّض الدستور المؤقت، الذي وقّعه أحمد الشرع في آذار/مارس، لانتقاداتٍ لاذعةٍ من جهاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، بسبب محتواه وانعدام الشفافية في معايير اختيار لجنة الصياغة. وتُحافظ الوثيقة على أحكام من الدستور السابق، بحيث يبقى الاسم الرسمي للبلاد هو الجمهورية العربية السورية، واللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة، إضافةً إلى وجود بندٍ ينصّ على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام. ومع ذلك، أصبح الفقه الإسلامي الآن "المصدر الرئيس للتشريع" وليس "مصدرًا رئيسًا للتشريع". وعلى الرغم من أن الدستور المؤقت يؤكّد على مبدأ الفصل بين السلطات، إلّا أنه منح الرئاسة صلاحياتٍ واسعة النطاق تعيق ذلك. فللرئيس الحقّ باقتراحِ القوانين، وإصدارِ المراسيم، والاعتراضِ على قرارات مجلس الشعب، إضافةً إلى كونه مسؤولًا عن تسمية أعضاء المحكمة الدستورية، ما يُعزّز صلاحيات السلطة التنفيذية.

أما على صعيد الاقتصاد، فلم يُناقَش توجّه الحكومة أو يُعلن عنه إلّا ضمن دائرة ضيّقة من المسؤولين، الذين يتمثّل هدفهم الرئيس في الحفاظ على السلطة. سعت القرارات التي اتخذتها السلطات الجديدة إلى فرض رؤيتها الاقتصادية، المتجذّرة في تعميق النيوليبرالية والإجراءات التقشّفية. وتصبّ هذه السياسات عمومًا في مصلحة طبقة رجال الأعمال. في هذا الإطار، عقد أحمد الشرع ووزراؤه اجتماعات عدّة مع ممثلي غرف التجارة والصناعة في البلاد، وكذلك مع رجال أعمال سوريين داخل سورية وخارجها، للاستماع إلى مظالمهم وشرح رؤاهم الاقتصادية.

ثمّة مؤشراتٌ ملموسةٌ على أن هيئة تحرير الشام تريد تسريع عملية الخصخصة وفرض إجراءات تقشّفية. فقبل حضور الشيباني في كانون الثاني/يناير المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، الذي يُجسّد مصالحَ النخبِ النيوليبراليةِ والرأسماليةِ العالميةِ، صرّح لصحيفة فاينانشال تايمز بأن السلطات السورية تخطط لخصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز التجارة الدولية. وأضاف أن الحكومة "ستستكشف الشراكات بين القطاعَين العام والخاص لتشجيع الاستثمار في المطارات والسكك الحديدية والطرق". هذا وخفّضت دمشق الرسوم الجمركية أيضًا على أكثر من 260 منتجًا تركيًا، ما أضرّ بالإنتاج الوطني، ولا سيما في قطاعَي الصناعة والزراعة، اللذَين يواجهان صعوبةً في منافسة الواردات التركية. وبلغ إجمالي الصادرات التركية إلى سورية خلال الربع الأول من العام الجاري حوالى 508 ملايين دولار، في زيادةٍ بنسبة 31.2 في المئة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2024، وفقًا لوزارة التجارة التركية.

طبّقت الحكومة أيضًا إجراءاتٍ تقشّفية. فمنذ كانون الأول/ديسمبر، رفعت سعر ربطة الخبز المدعوم (وزن 1100 غرام) من 400 إلى 4000 ليرة سورية، بعد أن كان وزنها في البداية 1500 غرام. وأعلنت عن اعتزامها وقف دعم الخبز خلال الأشهر التالية، من دون تحديد تاريخ معيّن. وفي كانون الثاني/يناير 2025، صرّح وزير الكهرباء عمر شقروق أن الحكومة ستخفّض دعم أسعار الكهرباء أو حتى تلغيه، لأن "الأسعار الحالية منخفضةٌ جدًّا، وأقل بكثير من تكاليف الإنتاج، ولكن ذلك سيتم تدريجيًا ولن ينفّذ إلّا إذا ارتفع متوسط الدخل". الجدير بالذكر أن الدولة لا توفر راهنًا التيّار الكهربائي أكثر من ساعتَين يوميًا في المدن السورية الرئيسة. وفي غضون ذلك، شهد سعر أسطوانة الغاز المنزلي ارتفاعًا من 25 ألف ليرة إلى 150 ألف ليرة سورية، ما يؤثّر بشكل كبير على الأُسر السورية.

بين كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير، أعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية تسريحَ ما بين ربع وثلث القوى العاملة في القطاع العام، أي الموظفين الذين يتقاضون رواتب من دون إنجاز أي عمل فعلي، وفقًا للسلطات الجديدة. وذهب وزير التنمية الإدارية محمد السكاف، الذي يشرف على تعداد العاملين في القطاع العام، إلى أبعد من ذلك، قائلاً إن مؤسسات الدولة تحتاج إلى ما بين 550 و600 ألف موظف، أي أقل من نصف العدد الحالي. ومنذ ذلك الحين، لم تُعلن أيّ أرقام رسمية عن عدد الموظفين المفصولين، بينما مُنح بعضهم إجازةً مدفوعةَ الأجر لمدّة ثلاثة أشهر ريثما يتّضح وضعهم. وعقب هذا القرار، اندلعت احتجاجاتٌ نظّمها العمّال المفصولون أو الموقوفون عن العمل مؤقتًا في مختلف أنحاء البلاد.

في الوقت نفسه، كرّرت السلطات السورية الوعودَ التي قطعتها منذ بداية العام بزيادة رواتب العاملين في القطاع العام بنسبة 400 في المئة وتحديد الحدّ الأدنى للأجور عند 1.12 مليون ليرة سورية (حوالى 86 دولارًا أميركيًا). وعلى الرغم من أن هذه الخطوات تسير في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لا تزال تنتظر التنفيذ، ولا تكفي الرواتب لتغطية تكاليف المعيشة في ظل أزمةٍ اقتصاديةٍ مستمرة. وفي نهاية آذار/مارس، قُدِّر الحدّ الأدنى لتكاليف المعيشة لأسرةٍ مكوّنةٍ من خمسةِ أفراد تعيش في دمشق بنحو 8 ملايين ليرة سورية (ما يعادل 666 دولارًا أميركيًا).

إرساء ثقل موازن لمن هم في السلطة

يتطلّب نجاح عملية تعافي سورية وإعادة بنائها شرطًا أساسيًا يتمثّل في وجود مجتمعٍ مدني قويّ قادرٍ على أن يشكّل ثقلًا موازنًا لمن هم في السلطة. ولا يقتصر المجتمع المدني على المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، بل يشمل أيضًا الأحزاب السياسية والنقابات العمّالية والجمعيات المهنية والمنظمات النسائية والبيئية والجمعيات المحلية، وغيرها. ويكمن الهدف من ذلك في معارضةِ الديناميكياتِ السلطويةِ الجديدةِ في البلاد، وترسيخ هيئة تحرير الشام لسلطتها من خلال مؤسسات الدولة وتوجهاتها الاقتصادية. ويُعتبر الانتقال الديمقراطي في المشهد السياسي مهمًا لجهة تشجيع مشاركة قطاعات واسعة من المجتمع في إعادة بناء بلادهم على الصعيدَين الاقتصادي والسياسي. يُضاف إلى ذلك أن مشاركة غالبية السكان، وخاصةً الطبقات الفقيرة والعاملة، في تعافي البلاد أمرٌ بالغُ الأهمية، إذ لا ينبغي أن تقتصر هذه العملية على النخب السياسية والاقتصادية والطبقات الأكثر ثراءً في المجتمع. ومن أجل تعزيز هذا النهج، ينبغي توافر شرطَين أساسيَين ألا وهما: ضمان السلم والأمن الأهليَين، وتحسين البيئة الاجتماعية الاقتصادية في سورية.

يبقى تحقيق السلم الأهلي في سورية بعيدَ المنال اليوم. فقد سادت حالة من انعدام الأمن في بعض المناطق، وخاصةً في حمص والمناطق الساحلية، وتجلّت في حوادث طائفية عنيفة ارتكبتها أجهزة الأمن الجديدة والجماعات المسلّحة المرتبطة بها، بما فيها عمليات إعدامٍ وتصفية. ففي آذار/مارس، ارتكبت هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري مجازر طائفية بحقّ المدنيين العلويين في المناطق الساحلية، ما أسفر عن مقتل المئات. وبينما دفعت هجمات فلول نظام الأسد المنظّمة على عناصر من الأجهزة الأمنية والمدنيين، طال الردّ جميع العلويين، وفقًا لمنطق الكراهية الطائفية والانتقام. وفي نيسان/أبريل وأيار/مايو، شنّت مجموعاتٌ مسلّحةٌ مرتبطةٌ بالسلطات أو داعمة لها هجمات ضدّ المنتمين إلى الطائفة الدرزية.

تقع مسؤولية المجازر التي حصلت في آذار/مارس، وعمليات القتل المستمرة ضدّ المدنيين العلويين، والآن الدروز، بشكل أساسي على عاتق السلطات السورية الجديدة. فقد فشلت في منعها، بل تورّطت فيها بشكل مباشر، وهيّأت الظروف السياسية التي أتاحت حصولها. كذلك عجزت عن وضع آليّةٍ تُعزّز تطبيق عدالةٍ انتقاليةٍ شاملةٍ للجميع من أجل معاقبة كلّ الأفراد والفصائل المتورّطة في جرائم الحرب خلال النزاع السوري. كان من الممكن أن يؤدي هذا دورًا حاسمًا في منع الأعمال الانتقامية وكبح جماح التوترات الطائفية المتصاعدة. مع ذلك، لا يُبدي أحمد الشرع وحلفاؤه أي اهتمامٍ بالعدالة الانتقالية، ويكاد يكون مؤكّدًا أنهم يخشون إمكانية خضوعهم للمحاكمة على الجرائم والانتهاكات التي ارتكبوها ضدّ المدنيين.

للعدالة الانتقالية بُعدٌ اجتماعي اقتصادي أيضًا، إذ إنها تتضمّن تدابير لاستعادة الأصول العامة ومقاضاة مرتكبي الجرائم المالية. تشمل هذه التدابير خصخصةَ هذه الأصول وتوزيع الأراضي العامة لرجال أعمال تابعين للنظام السابق على حساب السكان وحقّهم في الاستفادة من موارد الدولة بشكل عام. لكن التفضيلات الاقتصادية للسلطات الجديدة، التي تتضمّن التوصّل إلى اتفاقاتٍ ومصالحاتٍ مع بعض رجال الأعمال المرتبطين بنظام الأسد وتعميق السياسات النيوليبرالية وخصخصة أصول الدولة، تتعارض مع الديناميكيات المرتبطة بعدالةٍ انتقاليةٍ شاملةٍ للجميع.

وفي أوائل آذار/مارس، وقّعت الحكومة مذكرةَ تفاهم مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، وسعت أيضًا إلى التقارب مع بعض الدروز في السويداء. وأظهرت هذه المبادرات حاجتها إلى تعزيز شرعيّتها وطنيًا وإقليميًا ودوليًا، إذ إنها تضرّرت بشدّة جرّاء المجازر في المناطق الساحلية. مع ذلك، لا يزال تنفيذ هذه المبادرات بحاجة إلى تقييم، فالمجتمعات المحلية في شمال شرق سورية والسويداء تُعارضها، حيث اندلعت تظاهراتٌ مناهضةٌ للدستور المؤقت ولسياسات السلطات الحاكمة، بما في ذلك عدم استعدادها لمعاقبة المجموعات المسلّحة التي شاركت في عمليات القتل في المناطق الساحلية. علاوةً على ذلك، استؤنف الاقتتال الطائفي في نيسان/أبريل مرّةً أخرى في بعض مناطق البلاد مستهدفًا الطائفة الدرزية. ومن أجل تهدئةِ التوتراتِ ومنع التدخّل الخارجي في الشؤون الوطنية، وخاصةً من جانب إسرائيل، أبرمت الحكومة السورية وممثلين عن الطائفة الدرزية اتفاقًا في مطلع أيار/مايو يُعالج القضايا الأمنية.

فضلًا عن خطر التشرذم الذي تواجهه سورية، لدى بعض الدول الأجنبية، وخاصةً إيران وإسرائيل، مصلحةً في تأجيج العنف الطائفي والعرقي. فبهذه الطريقة، يُمكنهم تصوير أنفسهم كمدافعينَ عن طائفة مُعيّنة، ومواصلة زعزعة الاستقرار. على سبيل المثال، أدلى مسؤولون إسرائيليون بتصريحاتٍ أعربوا فيها عن استعدادهم لحماية دروز سورية عسكريًا، وكان آخرها شنّ غاراتٍ جويةٍ تحذيريةٍ بعد اندلاع معاركَ قرب دمشق في مدينتَي جرمانا وصحنايا، حيث يقيم عددٌ كبيرٌ من الدروز. رفضت القوى الدرزية الاجتماعية والسياسية الرئيسة هذه الدعواتَ إلى حدّ كبير، وأكدّت ولاءها لسورية والتزامها بوحدة البلاد. في الوقت نفسه، لم يُوقف الجيش التركي تهديداتِه ضدّ السكان الأكراد في شمال شرق البلاد تمامًا، على الرغم من الاتفاق الذي تم التوصّل إليه بين دمشق والإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية.

أما الشرط الأساسي الثاني الذي من شأنه أن يُساعد في توسيع المجال السياسي في سورية فهو تحسين البيئة الاجتماعية الاقتصادية للبلاد، وهو ما يُعتبر ضروريًّا بشكل خاص نظرًا إلى الدمار الهائل الناجم عن الحرب وحقيقة أن 90 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر. فعجز قطاعاتٍ واسعةٍ من السكان عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، من بدلات إيجار ورسوم كهرباء وأقساط مدرسية وغيرها، يعيق قدرتهم على المشاركة في عملية إعادة الإعمار التي لهم مصلحةً مباشرةً وموضوعيةً في نجاحها.

تُفاقم القرارات الاقتصادية للسلطات الجديدة من إفقار شرائح واسعة من السكان، وتُعيق التنمية في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية في سورية. لذلك، لا يُمكن للسلطات أن تحدّ مناقشاتها برجال الأعمال والجهات الفاعلة الأجنبية، بل يجب أن تُوسّعها لتشمل قوى اجتماعية وسياسية محلية أخرى، بما فيها النقابات العمّالية والجمعيات الفلاحية والمهنية. لذلك، ينبغي أن يشكّل تنشيط هذه المنظمات أولويةً، يُمكن تحقيقها من خلال انتخابات حرّةٍ ونزيهةٍ تشجّع مشاركة قواعدها الناخبة، فضلًا عن حشد القوى العاملة الوطنية.

إن إعادة تشكيل المنظمات العمّالية الديمقراطية أمرٌ أساسيٌّ لتحسين ظروف معيشة وعمل السكان، وتوسيع مساحة التمثيل السياسي والطبقي في عملية إعادة الإعمار. في ضوء ذلك، كانت احتجاجات موظفي القطاع العام المُسرّحين في مختلف المحافظات خلال كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2025 واعدةً، وكذلك محاولاتُ تشكيل نقاباتٍ عمّاليةٍ بديلةٍ، أو على الأقل تنسيقياتٍ عمّالية. وقد طالبت هذه الكيانات الجديدة، فضلًا عن الاعتراض على عمليات التسريح والفصل الجماعية، بزيادة الرواتب والأجور، ورفضت خطط الحكومة الساعية إلى خصخصة أصول الدولة. مع ذلك، قلّصت المجازر الطائفية في المناطق الساحلية بشكل كبير من زخم الاحتجاجات، خوفًا من إمكانية ردّ المجموعات المسلّحة المقرّبة من النظام بالعنف.

لن يؤدي إطلاق عملية إعادة إعمار حصرية تقودها النخب سوى إلى إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية، والإفقار، وتركيز الثروة في أيدي أقليّة، وغياب التنمية الإنتاجية. يجب أن نتذكّر أن جميع هذه العناصر كانت من بين الأسباب الكامنة وراء الانتفاضة الشعبية ضدّ حكم الأسد في العام 2011. لذلك، فبناء عملية انتقالية في مرحلة ما بعد الأسد على هذه الأسس سيأتي بنتائج عكسية.

ماذا يخبّئ المستقبل لسورية؟

أيُّ خلفٍ آخر لنظام بشار الأسد كان سيواجه تحدّياتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ اقتصاديةٍ جمّة. وهذا أمرٌ لا يمكن الاستهانة به. مع ذلك، لم تسهم الاستعدادات السياسية والاجتماعية الاقتصادية لهيئة تحرير الشام سوى في زيادة صعوبة توافر الركائز الأساسية لنجاح عملية إعادة إعمار سورية خلال المرحلة الانتقالية على نحو مستدام. وأفضى هذا إلى وجود مجتمعٍ أفقر وأكثر تشرذمًا اجتماعيًا وسياسيًا، ما قد يُنذر باندلاع موجات جديدة من أعمال العنف والتوترات الطائفية. وبالتالي، من المستبعد تحقيق أي تعافٍ اقتصادي، ناهيك عن نجاح جهود إعادة الإعمار. تقف سورية إذًا عند مفترقِ طرق. ففي حال لم تُتّخذ أي تدابير لوضع البلاد على مسارٍ ديمقراطيٍ وتشاركيٍ، ستستمر معاناة سورية، وقد تؤدي هذه الظروف إلى حكمٍ سلطويٍ جديدٍ وأشكالٍ جديدةٍ من الإقصاء، ما قد يُغرق البلاد في دوّامةٍ كارثيّةٍ.

هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية. للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الرابط التالي: نَسبُ المصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية | المشاع الإبداعي

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.