يتكرّر السؤال نفسه حين يتعلّق الأمر بلبنان، وهو: كيف صمد بلد تنخر فيه الكثير من أوجه القصور والانقسامات بعد العام 2011، خاصة حين نضع في الاعتبار قربه من مرجل يغلي في سورية. وعلى الرغم من أن الوضع كان تراقص على شفير الكارثة عدّة مرات، إلا أن لبنان أثبت باستمرار للمتشائمين أنهم على خطأ.
يمكن تفسير الوضع من خلال عاملين، على الأقل: الأول يتعلق بالحرب الباردة الإقليمية منذ اندلاع الانتفاضات العربية في 2011، والثاني مستمد من التوازن الداخلي اللبناني بين أطرافه السياسية والطائفية. فحزب الله وداعمه الإقليمي إيران، لم يرغبا في حدوث مواجهة داخل البلاد مع خصومهما اللبنانيين، في حين لم يملك المعسكر المُعارض لحزب الله وداعميه الوسائل اللازمة للانخراط في أي مواجهة.
وبينما تُعتبر سورية واحدة من العديد من المسارح في المعركة بالوكالة المندلعة بين إيران ودول الخليج، وفي الطليعة السعودية، ساهم الطرفان خلال معظم الصراع السوري في استقرار لبنان، كل لأسبابه الخاصة.
بالنسبة إلى إيران، كان اتخاذ القرار سهلاً. فحزب الله هو الجوهرة في تاج شبكات طهران للهيمنة والغزو الإقليميين. وربما تأثرّ الحزب سلباً بالتوترات والصراع في لبنان، فيما كان منهمكاً في خوض معركة دموية طويلة، وأحياناً محفوفة بالمخاطر، ووجودية في سورية. لذلك، كان لابدّ من وجهة نظر حزب الله، من القيام بكل مايلزم لضمان أن يكون ظهره محمياً في بلاده، بحيث يمكن أن تكون موارده مكرّسة بالكامل لاتمام مهمته في سورية، المتمثّلة في حماية نظام الأسد ووضع حدّ للانتفاضة.
أما بالنسبة إلى السعودية، فلطالما كان للبنان مكانة خاصة في إطلالة المملكة الإقليمية. وهذا مستمد من العلاقات التاريخية، وحتى العاطفية، بين البلدين، فضلاً عن الدور الذي لعبه لبنان بالنسبة إلى قادة الخليج عموماً، وقادة السعودية على وجه الخصوص. فبالنسبة إليهم وإلى أُسرهم، لطالما كان لبنان موقعاً يقصدونه للترفيه والاستجمام، فضلاً عن كونه المكان الذي يمكنهم فيه استثمار أموالهم أو إدارتها. وقد ساهم ذلك أيضاً في تحصين لبنان بعد العام 2011.
تأتي بعدها مسألة القدرات. كانت السعودية راعياً وحامياً لتكتل 14 آذار/مارس المُعارض لحزب الله، ولاسيما تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري. لكن هذا التكتل تلقّى صفعة قوية في العام 2008، عندما حاول تحدي نظام حزب الله في لبنان. بعد ذلك، أُجبر السعوديون على الاعتراف بأن لبنان سقط في حضن خصومهم الإقليميين، مادفعهم إلى رعاية مصالحة بين الحريري والنظام السوري. وبعد العام 2011، انهار التفاهم السعودي- السوري الجديد حول لبنان، وكانت هذه التجربة السيئة إحدى التجارب التي يرغب السعوديون في طيّ صفحتها بعد الانتفاضة في سورية.
أما الترجمة اللبنانية لهذا الواقع السياسي بعد العام 2011 فكانت ماسمُي "بسياسة النأي بالنفس"، وقد سعى لبنان من خلالها إلى البقاء على مسافة متساوية من جميع الأطراف في شرق أوسط مقسّم. وقد اعتُمد هذا النهج خلال ولاية الرئيس ميشال سليمان، وجرى استكمالها، ولو بقناعة أقل، بعد انتخاب ميشال عون رئيساً في العام 2016 وما مثّله ذلك من انتصار سياسي لحزب الله، وبشكل من الأشكال للنظام السوري. وفي الصفقة التي دفعته إلى تأييد انتخاب عون، تفاوض سعد الحريري على الإبقاء على سياسة النأي بالنفس، لكنه كان يعلم أيضاً أن علاقات الدولة اللبنانية كانت قد تغيّرت بشكل جذري خلال الفترة الانتقالية بما لايصبّ في مصلحته.
هذه الاعتبارات على الصعيدين المحلي والإقليمي آخذة في التبدّل الآن. وهي تتغيّر، على وجه التحديد، لأن الحرب في سورية، حتى لو لم تنته بعد، وصلت على الأقل إلى مرحلة يبدو فيها أن نظام الرئيس بشار الأسد سيتمكّن على الأرجح من النجاة. وبما أن الوضع السوري يتجه نحو تخفيف التصعيد، ويأخذ النزاع هناك أبعاداً جديدة، قد تكون المفارقة بأن المخاطر المتعلقة بلبنان قد تتزايد، بينما لم تعد الأسباب التي جعلته في منأى عما يحصل حتى الآن قائمة.
إقليمياً، تسعى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة راهناً إلى التعويض عن خسارة سورية التي شكّلت ميداناً لتحدّي إيران واستنزافها. وقد تدفعهما الرغبة المتجدّدة في قلب حظوظهما الإقليمية، إلى استعادة موطئ قدمهما في لبنان. فدول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة لاترغب في أن تجني إيران ثمار الانتصار في سورية، كما أن لبنان هو المكان الوحيد الذي يمكنها فيه العمل على إعادة التوازن إلى العلاقة الإقليمية مع طهران في بلاد الشام، إن شاءت ذلك، على الرغم من المخاطر الكثيرة التي تترافق مع هذا المجهود.
في مثل هذه الحالة، ليس أمام حزب الله أي خيار سوى قبول هذا التحدّي، ولاسيما إذا دخلت إسرائيل على الخط، على الرغم من حرصه على عدم المجازفة بملاذه الآمن في لبنان. وسيتحقّق ذلك على وجه الخصوص في حال سعت إسرائيل إلى الانتقام من حزب الله بسبب حربها المُحبِطة ضدّه في العام 2006، لكن أيضاً لأن هذا سيتيح للحزب أن يضع إسرائيل مجدّداً في صلب أولوياته، بعد سنوات من الانخراط الميداني في سورية.
قد يؤدّي هذا الوضع في سورية إلى زعزعة الداخل اللبناني. فحين تستقر سورية، تعود إحدى المسائل الشائكة بين الطرفين لتطل برأسها مجدّداً، وهي: متى وإلى أي مدى سيحتاج لبنان إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد؟
ثمة العديد من المسائل التي تشلّ حكومة سعد الحريري اليوم، إلا أن مسألة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد هي التي قد تقضي على حظوظها بالكامل. ففيما يناشد الوزراء المحسوبون على حزب الله وعون سائر الأفرقاء إلى الوقوف صفّاً واحداً مع دمشق، دُعي الحريري وحلفاؤه إلى السعودية لتعزيز الجبهة التي قد تناوئ حزب الله. وقد يجد الحريري نفسه مضطرّاً للانضمام إلى مثل هذا التحالف كي لايثير حفيظة رعاته السعوديين. وهذه المواجهة، إن وقعت، ستؤثّر على مروحة واسعة من القضايا الثنائية التي تؤرق الجانبين اللبناني والسورية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالأمن والحدود واللاجئين، وكيف يمكن أن يفيد لبنان من عملية إعادة إعمار سورية، التي يبدو أن الحريري بات مهتمّاً بها لحل مشاكله المالية الخاصة.
تشكّل الظروف الجيوسياسية الجديدة المتربّصة بلبنان أهم العوامل الدافعة إلى القلق العميق. فأمام إدارة ترامب الشرسة جهاراً، والتي تعمد إلى تشديد العقوبات المفروضة على حزب الله وإيران، يتناهى إلى مسامع بيروت قرع طبول الحرب مع إسرائيل، حيث يعتقد كثر أن نشوب النزاع في السنوات المقبلة أمرٌ لامفر منه. ويترافق ذلك مع همّ آخر يحمله لبنان، ويتمثّل في وجود حوالى مليون ونصف لاجئ سوري في البلاد، وسيتوارون في غياهب النسيان والحرمان مالم يتم التوصٌل إلى "حل" شافٍ في سورية.
في خضم هذا السياق، قد يُنظر إلى الحرب في سورية على أنها وقتٌ مستقطعٌ من الهدوء النسبي، قبل هبوب عاصفة الخصومات الإقليمية. لكن اللبنانيين يعقدون آمالهم على أن يُجانب الصواب المتشائمين مرة أخرى.