في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، خلال استقبال وفود المهنّئين بعيد الاستقلال في القصر الرئاسي في لبنان، انسحب رئيس الوزراء سعد الحريري فجأةً من صفوف متقبّلي التهاني قبل أن يعود بعد بضع دقائق. قيل إن السبب هو أنه أراد أن يشرب الماء. بيد أن الدافع الحقيقي هو أنه لاحظ وصول السفير السوري في لبنان، علي عبد الكريم علي، على رأس وفدٍ من السفارة، فانسحب لأنه لايريد مصافحته.
إنها السنة الثانية على التوالي التي يقوم فيها الحريري بخطوة مماثلة. غير أن السياق كان مختلفاً جدّاً هذا العام. في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، كان الحريري رئيساً للوزراء على رأس حكومة "وحدة وطنية" تضطلع بمهامها بعدما تشكّلت على إثر انتخابات رئاسية توافقية أُجريَت قبل عام من ولادة الحكومة. وكان يستعد لقيادة كتلته البرلمانية الكبيرة لخوض الانتخابات التشريعية في أيار/مايو 2018.
وكان الوضع في سورية مختلفاً أيضاً في العام 2017. فنظام الرئيس بشار الأسد كان في وضع صعب آنذاك، إذ لم يكن قد استعاد سيطرته بعد على عدد كبير من المناطق الخاضعة للمعارضة. لكن ومنذ ذلك الوقت، فرض النظام سيطرته من جديد على عدد كبير من تلك المناطق، ماعدا محافظة إدلب والمناطق الخاضعة للسيطرة التركية كما الكردية السورية. ويتردّد الآن كلامٌ عن إعادة بناء الاقتصاد، إنما أيضاً شبكات النظام، في إطار عمليةٍ تتمحور حول إعادة كتابة بعض أحكام الدستور قبل إجراء انتخابات رئاسية في العام 2021.
أما الحريري من جهته فهو أضعف بكثير مما كان عليه. فقد خسرت كتلته النيابية مقاعد في انتخابات أيار/مايو، ونجح العديد من خصومه السنّة الداعمين للنظام السوري في دخول الندوة البرلمانية. ويسعى الحريري جاهداً، منذ سبعة أشهر، لتشكيل حكومةٍ من خلال صيغةٍ تعكس المشهد السياسي الجديد، فيما تتيح له في الوقت نفسه الاحتفاظ بحد أدنى من النفوذ السياسي والحفاظ على ماتبقّى من هيبته. كذلك، يتزايد الحديث عن أن الحريري قد يُرغَم على التنحّي، مفسِحاً المجال أمام تكليف شخص آخر رئاسة الحكومة العتيدة.
أحد التفسيرات السطحية للمأزق أن ميزان القوى الداخلي الذي أنتجته الانتخابات ولّد وقائع لايمكن ترجمتها بسهولة إلى صيغة حكومية جديدة من شأنها أن تُرضي جميع الأفرقاء. بالفعل، كان على الحريري أن يعمل، طوال أشهر، على تخطّي سلسلة من العقبات السياسية عبر إجراء تعديلات في توزيع الحصص في حكومته، بهدف تلبية المطالب التي ترفعها إليه مختلف الأطراف. لكن فيما كانت حكومته توشك أن تُبصر النور، فرض حزب الله شرطاً تسبّب بتعثُّر العملية برمّتها، وأظهر أن المشكلة أعمق من مسألة الحصص.
فقد طالب أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، بتعيين وزير سنّي موالٍ لسورية في الحكومة، وبأن يكون هذا الوزير من حصّة الحريري الوزارية. وأكّد نصرالله أن هذا الشرط وُضِع منذ بداية المشاورات لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما أقرّ به الحريري لاحقاً. بيد أن رئيس الوزراء المكلّف أضاف أنه أبلغ الرئيس عون رفضه لهذا المطلب لأنه بمثابة انتحار سياسي له.
غير أن ما لم يقله الحريري هو أن الشرط الذي وضعه حزب الله رجّع صداه النظام السوري، منذ البداية، وأضاف إليه. فقد ردّد السوريون على مسامع محاوريهم في بيروت أن الحريري لن يصبح رئيساً للوزراء إذا لم يلتزم بإعادة بناء "العلاقات المميّزة" التي كانت قائمة بين لبنان وسورية قبل العام 2005، والتي لحقت بها أضرار جسيمة بعد اغتيال والده رفيق الحريري في العام نفسه. وقد حامت شبهات قوية حول تورّط سورية في الجريمة.
خلف إصرار حزب الله على منح حقيبة في الحكومة لوزير سنّي موالٍ للأسد، وتعنُّت الحريري في رفضه هذا الشرط، ينبغي النظر إلى العوامل الإقليمية التي تتسبّب بتعقيد الأوضاع، مثلما هو الحال في السياسة اللبنانية في معظم الأحيان. فمنذ الانتخابات، تطوّرَ الوضع الإقليمي في اتجاهات دفعت أحياناً المعسكرات اللبنانية المتخاصمة إلى الرهان على شروط من شأنها تعزيز قدرتها على المساومة.
يُشار في هذا الصدد مثلاً إلى أن المجموعة الجديدة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران ولّدت لدى الكثيرين اعتقاداً بأن النظام في طهران قد يتعرّض لإضعاف شديد. وتزامنت هذه الإجراءات مع فرض مزيد من العقوبات على حزب الله. قد تكون هذه التطورات سبباً خلف ميل الحزب راهناً ربما إلى استخدام لبنان درعاً، بشرياً واقتصادياً على السواء، لتوجيه رسالة مفادها أنه إذا غرق هو، فسوف يغرق لبنان أيضاً. لكنها قد تكون مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنه في حال أُرغِم الحريري على الاعتذار عن تشكيل الحكومة، فقد يجد حزب الله نفسه محروماً من مخفِّف صدمات مناسب بينه وبين المجتمع الدولي. ونظراً إلى الضائقة الاقتصادية الشديدة التي يتخبّط فيها لبنان، من شأن أي تأخير في ولادة الحكومة أن يُسرِّع أيضاً حدوث انهيارٍ اقتصادي سوف تتحمّل القاعدة الاجتماعية للحزب تبعاته الأشد وطأة، مايُشرِّع الأبواب على مخاطر اندلاع ثورة اجتماعية في بلادٍ ظلّت، حتى تاريخه، بمنأى عن الانتفاضات العربية.
ثم هناك سورية. ففيما يلوح في الأفق احتمال تحقيق النظام انتصاراً في محافظة إدلب، وفيما تصرّ روسيا على إعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد من خلال عملية إعادة الإعمار، قد يكون لبنان أوّل البلدان التي سوف تُضطر إلى التأقلم مع هذا الواقع الجديد. كما أن رغبة الحريري المعلَنة في أن يحقق لبنان فائدة من عملية إعادة الإعمار في سورية تضع رئيس الوزراء المكلّف في موقف أشد هشاشة. لذلك اعتبر معلّقون ساخرون أنه حتى لو سعى الحريري إلى تجنُّب مصافحة وفد السفارة السورية في عيد الاستقلال، فقد يُضطرّ ذات يوم إلى تجرُّع كأس السم بمعانقة بشار الأسد نفسه – أقلّه إذا كان يريد العودة إلى السلطة وحُكم البلاد.