هاروتيون أكديديان زميل أبحاث مابعد الدكتوراه في مشروع "توثُّب الأطراف"SFM) ) التابع لكارنيغي في جامعة أوروبا الوسطى، وباحث زائر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة ولاية بورتلاند. نشر مؤخرًا مقالًا على موقع كارنيغي بعنوان "الحقل الديني يستمر في التوسّع في سورية"، تناول فيه سياسات النظام السوري إزاء الحقل الديني والأهداف الكامنة وراءه. يعمل أكديديان حالياً على وضع كتاب عن دور الحقل الديني في العلاقات بين الدولة والمجتمع في سورية.
أجرت "ديوان" مقابلة معه في مطلع أيار/مايو لمناقشة مقاله بشكل خاص والمجال الديني في سورية عموماً.
مايكل يونغ: كتبت مؤخراً مقالاً نشره موقع كارنيغي حول مساعي النظام السوري الرامية إلى تعزيز الرقابة على وزارة الأوقاف. ما الذي تناقشه ولمَ يكتسِ هنا أهمية؟
هاروتيون أكديديان: أعتقد أن مساعي النظام المستمرة لزيادة حضور وخضوع الحقل الديني، نابعة من حصيلتين متوازيتين للنزاع السوري: أولاً، ونظراً إلى قدرتها الآخذة في التوسّع ودورها طوال فترة النزاع، اكتسبت الشبكات الدينية مستوى غير مسبوق من الحضور العلني والنفوذ في الحياة اليومية، من خلال قدرتها على تلبية الاحتياجات الاجتماعية والإنسانية ضمن البلدات والمناطق. ثانياً، وعلى ضوء تفكّك بُنى الدولة، سعى النظام إلى إعادة إنتاج الهيكليات الموروثة من أجل تعزيز سيطرته الاجتماعية-السياسية.
كل ذلك يخلق انفصاماً النظام السوري. فمن جهة، ثمة مستوى من الحذر وعدم الثقة المتأصلة إزاء أي كيان ذي حضور محلي كبير وقدرة اجتماعية-اقتصادية، على غرار الحقل الديني. ومن جهة أخرى، يدرك النظام أنه في حاجة إلى الحقل الديني لتلبية المتطلبات الاجتماعية-الاقتصادية للبلدات والمدن المتضررة جراء الحرب.
من هذا المنطلق، يُعتبر القانون الرقم 31، الذي تمّ إقراره في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2018 ويوسّع صلاحيات وزارة الأوقاف، أداة قانونية ضمن صندوق عدّة متعدد الاستعمالات يواصل النظام استخدامه لدعم الشبكات الدينية المعتمدة عليه لتحقيق التوقعات المرجوة. ويكتسي هذا الأمر أهمية، إذ هو يلقي الضوء على هيكليات السلطة التي برزت خلال فترة النزاع في سورية. فالهيكليات في فترة مابعد النزاع ستستند إلى البُنى التي أنشئت وتعزّزت خلال النزاع. وبالتالي، يسلّط توسيع الشبكات الدينية الضوء على عمليات تمتين البُنى القائمة على الطوائف وتوسُّع قاعدتها الشعبية في ظل ضمور الدولة.
يونغ: كيف توسّع دور الشبكات الدينية في سورية خلال النزاع، في المناطق الخاضعة إلى سيطرة الحكومة وتلك الخاضعة لسيطرة المعارضة على حدّ سواء؟
أكديديان: لعبت الشبكات الدينية أدواراً مختلفة خلال الحرب السورية، تبعاً للظروف، والموقع الجغرافي، والقرب من مناطق الحرب، والعلاقات مع أجهزة الأمن القائمة، وكذلك القدرة على التواصل مع شبكات وقنوات تمويل عابرة للأوطان. سيكون من المستحيل معرفة الاختلافات والفوارق بينها هنا. لكن من حيث القواسم المشتركة، يمكن القول إن الكيانات الدينية القادرة على ترسيخ نفسها أو الحفاظ على تواجدها ضمن البلدات، تملك قدرة هائلة على تلبية الطلبات البلدية والاجتماعية والاضطلاع بمسؤوليات على غرار التعليم وتوزيع الموارد والمساعدات الإنسانية، من جملة أمور أخرى. من هذا المنطلق، لعبت الشبكات الدينية سواء في المناطق الخاضعة إلى سيطرة الحكومة أو إلى سيطرة المعارضة دوراً أساسياً في هيكليات السلطة المحلية وفي مواجهة سياسات الموت والتجويع والاستنزاف في السياق الأشمل للحرب السورية. وعليه، تمّ تدعيم الحقل الديني بفعل قدرته على الحفاظ على الشروط الأساسية للحياة والنظام الاجتماعي.
يونغ: تقول إن القانون الرقم 31 يتعامل مع وزارة الأوقاف باعتبارها طرفاً اقتصادياً مهماً في البلاد. ما هي الأهداف المحددة في هذا القانون، وكيف سيتجلى نفوذ الوزارة الاجتماعي والاقتصادي مستقبلاً؟
أكديديان: كما قلت، نصّ القانون على توسيع حضور وزارة الأوقاف وفريق عملها وتعزيز سلطاتهما. كما زوّد القانون الوزارة بدرجة من النفاذ والنفوذ على المؤسسات الأساسية التي تقدّم المعرفة، ولاسيما وسائل الإعلام والتعليم. وعكست هذه الأحكام في مجملها تنازل النظام عن العلمانية، من خلال سحب صلاحية الدولة من المسؤوليات الاجتماعية ونقلها إلى الحقل الديني. وبالتالي، يواصل النظام السماح بنمو الحقل الديني في وقت يحاول فيه استمالته.
من بين مجموعة من الوظائف – تعريف النسخة "الصحيحة" للإسلام وتحديد آليات التعيين في المناصب الدينية والعقوبات في حال ارتكاب انتهاكات – يهدف القانون أيضاً إلى الإبقاء على الدور الاقتصادي والاجتماعي للوزارة وتعزيزه. على سبيل المثال، يتضمن القانون 31 أحكاماً عدة تتعلّق باستخدام أراضي وممتلكات الوزارة وتطويرها لأغراض تجارية ولدرّ الأموال. ويعزّز هذا الأمر مهمة الوزارة في إعادة التوزيع، ويمحو الفواصل بين العمل الاجتماعي والحراك الديني. وسيتجلى نفوذ الوزارة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي من خلال حضورها الواسع وتأثيرها على القطاعات الاجتماعية والتعليمية التي كانت في ما مضى خارج قبضتها.
يونغ: كيف قد تؤثر ديناميكيات الزبائنية والمحاباة التي تمارسها الدولة في الحقل الديني على الأوضاع في المدن والأرياف في سورية خلال المرحلة المقبلة؟
أكديديان: خلال العقود الماضية، صبّ النظام السوري جلّ اهتمامه وموارده بشكل تدريجي على تطوير المدن. وكشفت جغرافية الانتفاضات الشعبية والنزاع المسلّح بُنى السلطة غير المتكافئة التي اعتمد عليها النظام. فقد زوّدت المدن، بفضل تركّز الموارد فيها، النظام بوسائل مختلفة لفرض سيطرته. وتعدّ السلطة العسكرية أحد الأمثلة، في حين تكتسي العلاقات بين العمالة ورأس المال أهمية موازية. ونظراً إلى أن المدن برزت كأماكن لتوظيف رؤوس الأموال والعمالة، تمّ إفقار المجتمعات الطرفية، سواء في الأرياف أو في ضواحي البلدات والمدن، بشكل كبير وباتت تعتمد على المدن للحصول على دخل وفرص توظيف. وعلى رغم تهميش هذه المجتمعات وإفقارها، وجد النظام أن جغرافية التوزيع غير المتكافئ للموارد أداة موثوقة للحفاظ على تركّز السلطة.
عموماً، أتوقّع أن يسير الحقل الديني في الطريق نفسها، مع تواجد كبير وانخراط في المدن وتهميش مستمر في أماكن أخرى. وفي الوقت نفسه، سيواصل النظام دمج الترتيبات القائمة على الزبائنية مع الأطراف الدينية، من خلال تغذية السجالات الداخلية داخل الحقل الديني عبر التنافس على قطف عطايا المحاباة التي تمارسها الدولة.