المصدر: Getty
مقال

لماذا قرّر الرئيس التركي خفض معدّلات الفائدة، متسبّبًا بزيادة التضخم وتراجع قيمة الليرة؟

مطالعة دورية لخبراء حول قضايا تتعلق بسياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومسائل الأمن.

نشرت في ٢ ديسمبر ٢٠٢١

مصطفى كوتلاي | محاضر بارز في قسم الدراسات السياسية في جامعة سيتي في لندن.

صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة أن معدل التضخم المرتفع هو نتيجة أسعار الفائدة العالية، ما يخالف النظريات الاقتصادية السائدة التي ترى أن العلاقة هي عكس ذلك. تسعى الحكومة، من خلال سلسلةٍ من التخفيضات لمعدلات الفائدة، إلى تحفيز الاستثمار المحلي ودعم القطاعات الموجهة نحو التصدير. كذلك، تتوقع أن يفضي تراجع قيمة الليرة التركية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز النمو الاقتصادي.

لكن قرار خفض أسعار الفائدة سيفاقم على الأرجح معدل التضخم. وفيما تتجه أسواق ناشئة عدة إلى تقييد سياساتها النقدية، أدت التخفيضات الإضافية لأسعار الفائدة، مصحوبةً بالتهديدات الجيوسياسية، إلى إضعاف العملة المحلية. ونظرًا إلى أن الاقتصاد التركي يعتمد على السلع المستوردة في قطاعات عدة، مثل الطاقة والمواد الخام والسلع الوسيطة، يسهم تدهور العملة في زيادة الضغط على أسعار المستهلك. ووفقًا للأرقام الرسمية، يبلغ معدل التضخم السنوي حاليًا قرابة 20 في المئة. كذلك، غالب الظن أن يفاقم ارتفاع أسعار المستهلك سوء توزيع المداخيل.

تتمثّل الاستراتيجية الملائمة لتركيا على المدى الطويل في تبنّي مجموعة متناسقة من السياسات العامة الرامية إلى تحسين قدرة البلاد الإنتاجية وأدائها التصديري، بغية الحفاظ على استقرار الأسعار وضبط العجز في الحساب الجاري. لا شك أن السياق السياسي يؤثّر في أي سياسة اقتصادية، لذا لا بدّ من التركيز على ثلاثة مقومات: تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، وبناء بيئة مؤسسية مؤاتية على المستويَين السياسي والاقتصادي، وصياغة سياسة تصنيعية يُعتد بها.


 

غونول تول | مديرة برنامج الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة.

يصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه بأنه "عدو أسعار الفائدة المرتفعة". فهو يريد خفض تكاليف الاقتراض، لكن هذا الأمر وحده لا يجعله سياسيًا غير تقليدي وفقًا للمعايير السائدة، بل لديه أفكار أخرى تثير قلق خبراء الاقتصاد. فهو يتبنّى نظرية اقتصادية غير تقليدية تقضي بأن أسعار الفائدة المرتفعة تسبّب التضخم. لذا، قرّر تطبيق رؤيته من خلال إجراء تخفيضات إضافية على أسعار الفائدة الأسبوع الماضي، فهوت الليرة التركية إلى مستويات متدنية قياسية. حدث انهيار العملة المحلية بعد عام صعب خسرت فيه 45 في المئة من قيمتها. ولا ينوي أردوغان التنازل عن خفض أسعار الفائدة، على الرغم من الانتقادات التي توجّهها إليه أحزاب المعارضة والاحتجاجات التي تشهدها شوارع أنقرة واسطنبول مطالبةً باستقالة الحكومة.

يرى الرئيس التركي أن المقاربة التي يعتمدها هي الأكثر منطقية. ويمكن تفسير نفوره من أسعار الفائدة المرتفعة جزئيًا انطلاقًا من خلفيته الإسلامية، إذ يعتبر أن الربا محرّم في الإسلام. لكن رؤيته الاقتصادية نابعة أيضًا من خبرته كرجل أعمال. فهو يعتبر أن أسعار الفائدة المنخفضة ضرورية لتحفيز النمو الاقتصادي واستحداث فرص العمل وجذب الاستثمارات الأجنبية، مجادلًا أن تكاليف الاقتراض المرتفعة تؤدي إلى تباطؤ العجلة الاقتصادية وارتفاع الأسعار لأن الشركات تستجيب لرفع تكلفة الاقتراض من خلال زيادة أسعار سلعها. من هذا المنطلق، يعتقد أردوغان أن تخفيض معدلات الفائدة سيعزّز الاستثمار والإنتاج والتوظيف، وأن ضعف الليرة سيعطي زخمًا للصادرات التركية، ويقلّص الواردات، ويقوّم العجز الحالي في الحساب الجاري، ما سيؤدي إلى خفض معدل التضخم.

لكن هنا تكمن المشكلة، إذ يحذر الخبراء الاقتصاديون من أن خفض أسعار الفائدة سيتسبّب برفع معدل التضخم الذي هو أعلى بأربع مرات من المستوى الرسمي المستهدف، وبتآكل إيرادات المواطنين الأتراك ومدّخراتهم، من دون أن يسهم في تعزيز الإنتاج. فالكثير من المنتجين يعتمدون على الطاقة والسلع المستوردة، ما يعني أن تكاليف مدخلات الإنتاج التي يتحمّلونها سترتفع أيضًا. كذلك، يُعتبر منطق جذب الاستثمارات نتيجةً لضعف الليرة إشكاليًا لأن أردوغان يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير لاستقطاب المستثمرين الأجانب الذين لا تجذبهم "تركيا الجديدة" التي انهارت مؤسساتها وتم فيها تقويض دولة القانون، فيما تحدّد نزوات رجل واحد كل شيء في البلاد، بما في ذلك السياسة النقدية.


 

أيكان إردمير | مدير أول لبرنامج تركيا في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن العاصمة.

كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حاسمًا في محاربته لأسعار الفائدة العالية، التي ندّد بها في العام 2018 ووصفها بأنها "أداة استغلال" شبيهة بـ"تجارة الهيروين" وبأنها "مصدر كل الشرور". ولم تقتصر حملة أردوغان هذه على مجرد إطلاق تصريحات شديدة اللهجة، بل بلغت حدّ ممارسة ضغوط حادة على المصرف المركزي التركي ولجنة السياسة النقدية التابعة له لخفض معدلات الفائدة.

علاوةً على ذلك، لا تكشف الرؤية الاقتصادية غير التقليدية للرئيس التركي عن قناعاته الإيديولوجية الراسخة وحسب، بل أيضًا عن ديناميكيات غريبة في النظام الرأسمالي التركي القائم على المحسوبيات. من الناحية الإيديولوجية، لا تقتصر رؤية أردوغان على اعتقاد المسلمين بأن الربا من الأمور المحرّمة في الشرع، بل يتبنّى أيضًا نظرية المؤامرة النابعة من مواقفه المعادية للسامية. فهو عبّر مرارًا عن معارضة ما وصفه بـ"لوبي أسعار الفائدة"، في إشارة إلى ما يعتبره مجموعة سرية من الممولين اليهود الذين يسعون إلى تدمير الاقتصاد التركي للسيطرة على البلاد.

أما من الناحية غير الإيديولوجية، فتسهم شبكات المحسوبيات القوية في دعم الائتلاف الحاكم، الذي يعوّل على قدرة أردوغان على تضخيم فقاعة العقارات وإدامتها، نظرًا إلى أنها تشكّل ركيزة نظامه المعقّد لتمويل مشروعه السياسي وتوزيع الغنائم. ويتطلّب هذا النظام الهشّ تحفيزًا نقديًا متواصلًا لتعزيز الاستهلاك وإبقاء رجال الأعمال المقرّبين من الرئيس صامدين ماليًا.

وعلى الرغم من أن هذا المزيج الخطر من الإيديولوجيا والسعي إلى تأمين المصالح المادية قد أدّى إلى تراجع غير مسبوق في قيمة الليرة التركية وتسجيل معدل التضخم رقمًا مزدوجًا، يبدو أن أردوغان غير مستعد للتخلي عن مؤامراته أو عن دائرة أتباعه.


 

هنري باركي | أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاي.

لطالما كان الرئيس رجب طيب أردوغان مقتنعًا بأن التضخم في بلاده ناجم عن معدلات الفائدة المرتفعة التي تزيد تكلفة الاقتراض والتصنيع. فقد وضع حدًّا لاستقلالية المصرف المركزي التركي ومارس ضغوطًا لخفض معدلات الفائدة في سياسته النقدية، ما يتناقض مع المبادئ الاقتصادية السائدة. ويعتقد بعض المراقبين أن معارضته لمعدلات الفائدة المرتفعة نابعة من معتقداته الإسلامية الراسخة.

باختصار، يتّخذ أردوغان هذه الإجراءات في الوقت الراهن ترقّبًا لانتخابات حزيران/يونيو 2023. ويُقلقه الانكماش المصاحِب لارتفاع أسعار الفائدة الذي قد يهدّد أمرًا هو بأمسّ الحاجة إليه، أي اقتصاد مزدهر قادر على استحداث فرص عمل جديدة. لقد أرخى وباء كوفيد-19 بظلاله على تركيا، تمامًا كما فعل في سائر الدول، إلا أن الاقتصاد التركي سُرعان ما حقّق تعافيًا قويًا بنسبة 21 في المئة تقريبًا في الربع الثاني من العام 2021، وكان من المتوقّع أن يؤدي ذلك إلى تسجيل نمو بنسبة 8.5 في المئة على أساس سنوي. مع ذلك، يتوقّع معظم الخبراء الاقتصاديين عودة إلى النمو الخجول في العام 2022.

لا يزال أردوغان في السلطة دونما انقطاع منذ العام 2003، وهي المرة الأولى التي يواجه مستويات مماثلة من التضخم. وهو يفتقر إلى المعرفة والخبرة الضروريتين للتعامل مع هذه الأزمة، ويعوزه الصبر، وهو على قناعة تامة بأنه محق وأن معرفته تفوق بكثير معرفة غيره. علاوةً على ذلك، أحاط نفسه بأشخاص خانعين لا يجرؤون على معارضته، ويبدو ذلك واضحًا في تغطية الصحف الموالية به، والتي تنقل ببساطة كل ما يقوله ويؤمن به بحذافيره. إذًا، نجح أردوغان في إخضاع جميع مؤسسات الدولة لإرادته.


 

سينان أولغن | باحث زائر في مركز كارنيغي-أوروبا في بروكسل.

تبنّى الرئيس رجب طيب أردوغان وفريقه من المستشارين الاقتصاديين نظرية اقتصادية مختلفة تمامًا عن السائد. فهم يتوقّعون أن يؤدي السعي إلى تحقيق معدلات فائدة حقيقية سلبية، وما يرافقه من تراجع في قيمة العملة المحلية، إلى تحسين قدرة تركيا التنافسية في الساحة الدولية من خلال زيادة الصادرات التركية وبالتالي تعزيز الإنتاج وفرص العمل والقيمة المضافة. وهذا الانتعاش الاقتصادي يصب في خدمة الحكومة إذ ستزداد شعبيتها تمهيدًا للانتخابات الرئاسية والتشريعية الحاسمة المزمع إجراؤها في منتصف العام 2023.

لكن ثمة عيوب كثيرة تشوب هذه النظرية. أولًا، يُرجّح أن تلغي وتيرة التضخم المتسارعة الناجمة عن هذه العملية أي تحسّن في القدرة التنافسية على المستوى الدولي في المدى المتوسط. والأهم أن معدلات الفائدة السلبية ستدفع الناس باطّراد إلى تحويل المدخرات من الليرة التركية إلى العملات الأجنبية، إذ ما من حافز يدفع المودعين المحليين حاليًا إلى إبقاء مدخراتهم المصرفية بالليرة التركية، بل على العكس، ستواصل قيمة مدخراتهم تراجعها طالما أن معدلات الفائدة الإسمية أدنى من معدل التضخم. لذا، نتيجةً لهذا التفاوت، سيستمر الطلب على العملات الأجنبية، ما سيتسبّب بانخفاض قيمة الليرة التركية وارتفاع معدل التضخم عمومًا.

ثانيًا، أدّى التدهور السريع في قيمة العملة المحلية إلى إفقار المواطنين الأتراك، على وقع تهاوي قدرتهم الشرائية بشكل ملحوظ. كذلك، تراجع الدخل السنوي للفرد الواحد بالدولار الأميركي في تركيا إلى نحو 7,000 دولار. يُشار إلى أن دخل الفرد بالدولار الأميركي يشهد انخفاضًا سنويًا منذ العام 2013 الذي بلغ فيه نمو الاقتصاد التركي ذروته. إذًا، غالب الظن أن تؤدي هذه التجربة الاقتصادية غير المدروسة إلى انكماش مصحوبٍ بتراجع مطّرد في شعبية القيادة السياسية الحالية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.