أصبحت الحرب في سورية محصورةً بقوسٍ في شمال البلاد، يمتدّ على طول الحدود مع تركيا. في الوقت الراهن، تشهد هذه المنطقة الممتدّة من محافظة إدلب غربًا إلى منطقة الجزيرة الواقعة على الحدود مع تركيا والعراق شرقًا، انتشار عشرات الآلاف من المقاتلين، بمن فيهم قوات نظام الأسد ومجموعات مسلحة أخرى مثل قوات سورية الديمقراطية وهيئة تحرير الشام. علاوةً على ذلك، ثمة ثلاثة "كانتونات" تركية، الأول شكّلته عملية درع الفرات العسكرية، والثاني أنشأته عملية نبع السلام، والثالث في مقاطعة عفرين. وفي المنطقة الحدودية الشمالية يتواجد عدد من القوات الدولية، بما فيها القوات الأميركية والروسية والتركية، فضلًا عن الشبكات الإيرانية.
في هذا السياق المعقّد، قد يعيد النظام السوري وتركيا فتح قنوات التواصل السياسية مع بعضهما البعض، في استكمالٍ للقنوات الأمنية التي تم إنشاؤها بعد محاولة الانقلاب التي شهدتها في تركيا في العام 2016. لكن واقع الحال أن نظام الرئيس بشار الأسد لم يعد قادرًا على العمل على المستوى الإقليمي. وشكّل ذلك عقبة أساسية منعته من تحويل نجاحاته العسكرية ضدّ المعارضة السورية إلى مكاسب سياسية ملموسة من شأنها السماح له بإعادة فرض سلطته، وبالتالي شرعيته، على كامل الأراضي السورية، وتعزيز نفوذه على الصعيد الإقليمي. لذلك، لا تزال أولويته اليوم استعادة السيطرة على المناطق الواقعة شرق الفرات وعلى ما تحويه من موارد اقتصادية كالنفط، لكن من المستبعد حدوث ذلك في المستقبل المنظور.
غالب الظن أن التقارب بين نظام الأسد والحكومة التركية سيندرج ضمن إطار مجموعة عمل الأستانة. وقد بدأ هذا المسار المحلي الإقليمي الذي يضمّ تركيا وإيران وروسيا في العام 2017، وحقّق نتائج مهمة على الأرض، وغيّر طبيعة النزاع السوري من محاولة الإطاحة بنظام الأسد إلى مسعى لاحتواء المجموعات المتمرّدة ضمن منطقة جغرافية محدودة، وترسيم خطوط المعركة في شمال غرب سورية. وعلى الرغم من فعالية مسار الأستانة، فإنه يبقى إطار عمل أمنيًا تتداخل فيه مصالح الأطراف المشرفة على العملية. وقد منح هذا الأمر النظام فرصةً لاستعادة أكبر مساحة ممكنة من الأراضي التي خسرها خلال الحرب. لكن مسار الأستانة لم يتطرق بوضوح إلى مسألة استعادة النظام سلطته السياسية.
وينطبق هذا بشكل خاص على مستوى العلاقات مع تركيا. فعلى الرغم من المكاسب العسكرية التي حقّقها نظام الأسد خلال السنوات الماضية، لم ينجح في استعادة علاقاته مع أنقرة، وذلك في الدرجة الأولى لأن الدولة السورية لا تملك شيئًا ذا قيمة تقدّمه إلى الأتراك. كذلك، لم يتمكن النظام من فرض سيطرته الكاملة حتى في المناطق التي استعادها الجيش السوري، كما في جنوب سورية مثلًا، ما خلّف بيئة غير مستقرة. علاوةً على ذلك، يُعتبر الاقتصاد السوري اليوم اقتصاد ندرة، وقد ألحقت العقوبات الاقتصادية الغربية تأثيرًا سياسيًا كبيرًا على النظام وساهمت في عزله إقليميًا ودوليًا. في غضون ذلك، تعاني الدولة السورية من الضعف على مستويَي الإدارة والحوكمة، إذ تفتقر إلى الموظفين المؤهلين لإدارة مؤسساتها.
مع ذلك، تمثّل المناطق الحدودية في شمال شرق سورية نقطة التقاء محتملة بين مصالح كلٍّ من أنقرة ودمشق، إذ يمتلك الطرفان مصلحة مشتركة في تفكيك مشروع قوات سورية الديمقراطية الرامي إلى إقامة منطقة حكم ذاتي خاضعة فعليًا لسيطرة الأكراد الذين يهيمنون على هذه القوات. لكن ذلك لا يزال مستبعدًا على المدى القريب بسبب تواجد قوات أميركية تنسّق بصورة مستمرة مع قوات سورية الديمقراطية وتوفر لها الدعم.
في هذا الإطار، ثمة عاملان قد يسهمان في زعزعة استقرار منطقة شرق الفرات مستقبلًا. يتمثّل الأول في إمكانية تحييد قوات سورية الديمقراطية عن المشهد، ما قد يؤدّي إلى حدوث فراغ أمني من شأنه أن يفسح المجال أمام الحرس الثوري الإسلامي الإيراني وحلفائه للتوسّع شمال الفرات، كما فعلوا جنوبًا بالقرب من دير الزور. عمومًا، يسود جو من التعبئة والجهوزية في أوساط زعماء القبائل والعشائر العربية في منطقة الجزيرة الواقعة في شمال شرق سورية. يُشار إلى أن قنوات الاتصال مفتوحة بين بعض شيوخ القبائل والمستشارين الإيرانيين، وأن القبائل العربية تعتبر أن منطقتهم خاضعة لسيطرة الأكراد، ما يثير استياءً عربيًا يتجلّى في الانقسام الحاد بشأن قضايا الهوية.
أما المصدر الثاني المحتمل لانعدام الاستقرار فيكمن في الحضور المستمر لخطر تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة، بما في ذلك داخل السجون والمخيمات المخصّصة لعائلات عناصره. لا تزال قوات سورية الديمقراطية تؤدّي دورًا كبيرًا في الحؤول دون ظهور نسخة جديدة من التنظيم، لذا يبدو الأميركيون غير مستعدّين للموافقة على تنفيذ هجوم تركي ضد المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية.
باختصار، ما لم ينجح نظام الأسد في فرض سيطرته على منطقة شرق الفرات، لن ينعم بالاستقرار وسيظل عاجزًا عن العمل على المستوى الإقليمي. وهذا أمرٌ تدركه دمشق تمام الإدراك، فالنظام لا يملك خيارًا سوى انتظار حدوث تحوّل إقليمي خلال السنوات المقبلة يمكن أن يصبّ في مصلحته في المناطق الحدودية. وقد أخبرتني شخصية موالية للنظام مؤخرًا أن "حل المشكلة في سورية لن يحدث إلا حين تنهار تركيا". قد يكون هذا مجرّد تفكير رغبوي، لكنه الرؤية الوحيدة للحل بالنسبة إلى نظام الأسد، لذا فهو لا ينفك يكرّرها على أمل أن تصبح يومًا ما نبوءة تحقّق ذاتها.