ماذا حدث؟
بل أن السؤال بالواقع هو، ما الذي لم يحدث؟ والجواب أن أمورًا عدة لم تتحقّق. أولًا، لم يُصدر صندوق النقد الدولي بعد المراجعة الأولى التي يجريها خبراؤه لمدى تنفيذ مصر شروط برنامج القرض الجديد البالغة قيمته 3 مليارات دولار (والمعروف بالتسهيل الائتماني الممتدّ)، الذي تمت الموافقة عليه في كانون الأول/ديسمبر 2022. كان من المتوقّع أن تصدر المراجعة في 15 آذار/مارس 2023، أو في غضون ثلاثة أشهر من هذا الموعد، إلا أن فريق عمل الصندوق لم يحدّد حتى الآن الموعد المتوقّع لإنهاء مراجعته.
ثانيًا، لم تجمع الحكومة المصرية مبلغ المليارَي دولار بالعملات الأجنبية المطلوب لزيادة صافي احتياطيات مصر بواقع 6 مليارات دولار بحلول نهاية حزيران/يونيو، كما هو مُتّفَق عليه مع الصندوق. ويعكس فشلها في تلبية معيار الأداء الكمّي هذا تعثُّر برنامج طرح شركات ومنشآت مملوكة للدولة للاكتتاب العام، الذي أعلن عنه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في شباط/فبراير، وهو الوسيلة التي اقترحتها الحكومة لجمع مبلغ المليارَي دولار الذي تحتاج إليه.
أخيرًا وليس آخرًا، أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والبنك المركزي المصري إلى أن معدلات الفائدة لن تُرفع أكثر، ما يعني أن القاهرة قد لا تفي باتفاقها مع صندوق النقد القاضي باعتماد نظام سعر صرف مرن بالكامل من شأنه السماح بتحرير سعر صرف الجنيه المصري في أسواق العملات. في المقابل، وصفت كريستالينا غيورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، استنزاف دعم الجنيه لاحتياطيات مصر من العملات الأجنبية بأنه "أشبه بسكب الماء في وعاء مثقوب".
أين تكمن أهمية المسألة؟
الحزم الذي أبداه صندوق النقد الدولي غير اعتيادي، وقد أثار تكهّنات حيال ما ينتظر مصر في المرحلة المقبلة، فيما ترسم الإحصائيات صورة قاتمة. ففي نيسان/أبريل، توقّع صندوق النقد الدولي أن يبلغ إجمالي الدين العام (أي الديون المحلية والخارجية مجتمعةً) الذي تتحمّله الحكومة 92.9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2023، على أن ينخفض لاحقًا، فيما قدّرت وكالة التصنيف الائتماني فيتش أن يرتفع إلى 96.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ويُرجّح أن يصيب التوقّع الثاني، إذ إن الأرقام الأحدث للدين الخارجي تُظهر ارتفاعًا من 162.9 مليار دولار في كانون الأول/ديسمبر 2022 إلى 165.4 مليارًا بحلول آذار/مارس من العام 2023، على الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة لخفض الطلب على العملات الأجنبية من خلال حظر بعض الواردات وإبطاء وتيرة العمل في بعض المشاريع الإنشائية. وقد أقدمت وكالات التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز، وموديز، وفيتش على تعديل نظرتها المستقبلية لـ"قدرة مصر على تحمّل عبء دينها واستدامته" من مستقرة إلى سلبية، وسط مخاوف من أن البلاد قد تتخلّف عن سداد ديونها السيادية أو أن تسعى على الأقل إلى إعادة هيكلتها.
لم تنعدم بعد الخيارات المتاحة أمام مصر، لكن الكثير في المستقبل القريب يعتمد على صندوق النقد، الذي لم يضع مدة زمنية ثابتة لإجراء المراجعة الأولى لمدى التزام مصر بتنفيذ الشروط المتّفَق عليها، نظرًا إلى أن المذكرة التقنية الملحقة بالاتفاق مع مصر لم تحدّد مهلة لذلك. لكن المشكلة هي أن مصر لن تحصل على الشريحة الثانية من القرض البالغة قيمتها 354 مليون دولار قبل أن يتمّ الصندوق مراجعته. وقد كان هذا التأخير مكلفًا لمصر بالفعل، ليس بسبب المبلغ المالي المرتقب، بل بسبب الرسالة السلبية التي يوجّهها ذلك إلى الأسواق العالمية، ما يؤدّي إلى إثباط عزيمة الدائنين والمستثمرين.
في معرض شرح التأخير الحاصل للمجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، الذي يجب أن يوافق على الإفراج عن التمويل الإضافي، باستطاعة فريق عمل الصندوق أن ينسب ذلك إلى أسباب تقنية؛ أو يمكنه أن يقيّم أن مصر أحرزت تقدّمًا كافيًا في تنفيذ البرنامج، ما يبرّر توصيته للمجلس بالموافقة على صرف الشريحة الثانية من القرض. ونظرًا إلى أن المذكرة التقنية مع مصر لا تنصّ على مهل زمنية لازمة أو تحدّد إجراءات عقابية نتيجة عدم تطبيق النقاط المرجعية المتّفَق عليها، من غير المرجّح إبطال اتفاق القرض في وقتٍ قريب.
ما المضاعفات على المستقبل؟
تلوح بارقة أمل لمصر بفضل عدم التفصيل المشار إليه. في 8 حزيران/يونيو الماضي، جدّد صندوق النقد الدولي التأكيد على أن مراجعته لبرنامج القرض ستشمل أربعة بنود هي: 1 ) تنفيذ سياسة ملكية الدولة للتخارج من بعض القطاعات (الصادرة في العام 2022)، والتي ستعمد الدولة المصرية بموجبها إلى إنهاء ملكيتها لشركات في قطاعات اقتصادية محدّدة، أو خفض هذه الملكية؛ و2 ) تحقيق الحياد التنافسي، أي تسوية الملعب الاقتصادي بين القطاعَين العام والخاص، من خلال ضمان عدم استفادة الشركات والهيئات الاقتصادية المملوكة للدولة من إعفاءات ضريبية وجمركية لا يحظى بها منافسوها في القطاع الخاص؛ و3 ) إبطاء وتيرة المشاريع الاستثمارية القومية الكبرى التي دفعت بالحكومة إلى الاستدانة وأدّت إلى استنزاف احتياطي العملات الأجنبية؛ و4 ) اعتماد المرونة في سعر الصرف باعتبارها أساسية لتحفيز الصادرات وخفض العجوزات التجارية. وقد تمسّك صندوق النقد الدولي حتى الآن بموقفه في ما يتعلق بالبنود الأربعة، ولكن ثمة احتمال قوي بأن يتمّ مراجعته لبرنامج القرض في حال سمحت الحكومة المصرية بتحرير سعر صرف الجنيه الذي لا يزال الصندوق يعتمده شرطًا غير قابل للتفاوض.
وهنا تحديدًا يمكن أن تبرز متاعب إضافية. فمع بلوغ معدّل التضخم الإجمالي السنوي رقمًا قياسيًا ناهز 32.7 في المئة في أيار/مايو الماضي، ما يفوق بنسبة كبيرة معدّل الفائدة على الودائع الذي حدّده البنك المركزي المصري عند 18.25 في المئة، أبدت الحكومة المصرية والسيسي معارضة شديدة ومتزايدة لتحرير سعر الصرف، من منطلق أن البلاد تحتاج إلى تكوين احتياطياتها من العملات الأجنبية أولاً كي تتمكن من التعامل مع أي خفض إضافي لسعر الجنيه المصري، الذي خسر 50 في المئة من قيمته مقابل الدولار منذ العام 2022.
من الصعب تحديد ما الذي يمكن أن يؤدّي إلى الخروج من هذا المأزق. تحدّث الخبير الاقتصادي هاني جنينة، وكيل مساعد لمحافظ البنك المركزي سابقًا، عن أن مصر قد تلغي برنامج الإصلاح مع الصندوق أو تؤجل استكماله. واقع الحال أن الحكومة تنوي تأمين نحو 49 في المئة من موازنة 2023-2024 عن طريق الاقتراض، لذلك هي بحاجة ماسّة إلى موافقة الصندوق. وبما أن خدمة الدين تستحوذ على 56 في المئة من الموازنة، فضلًا عن تجاوز مصروفات خدمة الدين العام 116 في المئة من إجمالي إيرادات الدولة، نحن أمام حالة تقليدية من اللجوء إلى الديون الجديدة لتغطية الديون القديمة. ولكن نظرًا إلى أن رفع الفائدة بنسبة 1 في المئة - الذي يترافق مع أي خفض إضافي لقيمة العملة - يكلّف الدولة، وفق بيان لوزارة المالية، عجزًا إضافيًا بقيمة 70 مليار جنيه (نحو 2.65 مليار دولار بحسب سعر الصرف الرسمي)، فإن استيفاء هذا الشرط الذي وضعه الصندوق قد يدفع بمصر إلى الدوران في حلقة مفرغة.
لقد استخدم الصندوق حتى الآن نفوذه بصورة فعّالة وبحنكة، لكن تطبيق الحكومة المصرية للنقاط المرجعية المُتّفَق عليها كان محدودًا واقتصر إلى حدٍّ كبير على الإبلاغ الإلكتروني عن بعض المشتريات. يُضاف إلى ذلك إلى أن الحكومة لم تحقّق أهداف المرحلة الأولى المهمة على غرار قيام جميع الشركات المملوكة للدولة بإصدار تقريرٍ سنوي شامل للنفقات الضريبية، بما في ذلك تفاصيل وتقديرات الإعفاءات والمنح الضريبية المفصّلة بحسب التصنيف.
وفيما تبدي الحكومة والرأي العام في مصر معارضة متزايدة لخفض قيمة العملة وأيضًا للّجوء إلى استخدام الخصخصة لتوليد إيرادات بالعملات الأجنبية، بحيث يرى البعض في هذه العملية مجرّد استبدالٍ للاحتكارات العامة بأخرى خاصة لا تقلّ عن نظيراتها إثارةً للمشاكل، ثمة حجة معقولة تجعل الصندوق يعيد النظر في ترتيب أولوياته. فالخطوة التي أقدمت عليها الحكومة المصرية بخفض قيمة العملة بنسبة 50 في المئة بعد إقرار الصندوق برنامج القرض في العام 2016 لم تسفر عن تطبيق إصلاح هيكلي، وهو ما لم يتحقق أيضًا بعد الخفض المماثل في قيمة العملة بنسبة مماثلة في العام الماضي. في الواقع، وفي خضم الأزمة المالية الناجمة إلى حدٍّ كبير عن مشاريع البناء الباهظة التكلفة التي تنفّذها الحكومة، جاءت الحوافز الجديدة التي أقرّتها هذه الأخيرة للشركات في أيار/مايو 2023 لتمنح من جديد امتيازات للقطاع العقاري.