المصدر: Getty
مقال

تعديل المساعي الروسية في الشرق الأوسط

يناقش ليونيد نرسيسيان، في مقابلة معه، مصالح موسكو في دول المشرق وشمال أفريقيا في ظل حالة الجمود التي تشهدها الحرب في أوكرانيا.

نشرت في ٢ أغسطس ٢٠٢٣

ليونيد نرسيسيان خبير في الشؤون الدفاعية يركّز على السياسات الخارجية والعسكرية لروسيا ورابطة الدول المستقلة، ويتابع القضايا المتعلقة بالقطاع الدفاعي والنزاعات المسلّحة والحدّ من التسلّح. وهو باحث في معهد أبحاث السياسات التطبيقية في أرمينيا، ومرشّح لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة بيرمنغهام في المملكة المتحدة. أجرت "ديوان" مقابلة معه في تموز/يوليو للاطّلاع على وجهة نظره حول تأثير الحرب الأوكرانية وتبعاتها على الدور العسكري الروسي في الشرق الأوسط.

أرميناك توكماجيان: بعد مرور أكثر من عام على الحرب في أوكرانيا، لا يبدو أن هذا النزاع سينتهي قريبًا. كيف أثّرت هذه الحرب على الحضور العسكري الروسي في الخارج، ولا سيما في الشرق الأوسط؟

ليونيد نرسيسيان: بدأت الحرب الروسية الأوكرانية بالتأثير على الوجود العسكري الروسي في الخارج بعد فشل خطط موسكو الأولية بشنّ حرب خاطفة، وتحوُّل النزاع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. لا يخفى أن معظم أفضل الوحدات في مجموعة مرتزقة فاغنر انسحبت من سورية وليبيا وعددٍ من الدول الأفريقية، تاركةً وراءها حدًّا أدنى من القوات. وأصبحت هذه الوحدات التي أُعيد نشرها، مع قياداتها المخضرمة، نواة نمو مجموعة فاغنر في أوكرانيا، حيث وصل عديدها إلى 50,000 عنصر إبّان معارك باخموت الذائعة الصيت التي وقعت في وقتٍ سابق من هذا العام وشُبِّهت بـ"مفرمة اللحم".

إلى جانب عديد فاغنر، يُلاحظ منحى مهم آخر مرتبط بالقوات الروسية وقواعد موسكو العسكرية في الخارج. فقد أُعيد نشر أفضل الضباط والمتعاقدين العسكريين إلى أوكرانيا، فيما بدأ العناصر المصابون والأقل مقدرةً، إضافةً إلى المجنّدين، يحلّون مكانهم في القواعد الخارجية. في غضون ذلك، لا تزال المعدّات في هذه القواعد الخارجية كما هي قريبًا، إذ إن عددها لا يتناسب عمومًا مع نطاق المعارك الدائرة في أوكرانيا. فعلى سبيل المثال، لن يغيّر سحب طائرات من قاعدة حميميم في سورية (التي لا تضمّ سوى ست مقاتلات متعدّدة المهام، وست عشرة قاذفة خطوط أمامية، وست عشرة مروحية، وغيرها) كثيرًا في كفة المعارك الروسية الأوكرانية، لكن القيام بذلك من شأنه أن يضرّ بالمصالح الروسية في الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أن موسكو مهتمّة بشكل متزايد بمواصلة عمليات الصيانة والتزوّد بالوقود في قاعدة طرطوس البحرية، ولا سيما أن تركيا عمدت إلى تقييد حركة عبور السفن الحربية الروسية مضيق البوسفور في زمن الحرب. وسيتيح هذا المسعى لروسيا إبقاء جزءٍ من أسطولها في البحر المتوسط.

لم يتراجع اهتمام موسكو في الإبقاء على قوات روسية في الخارج. وفيما أعادت وزارة الدفاع الروسية نشر المتعاقدين العسكريين ووحدات حفظ السلام المحترفة من إقليم ناغورنو-كاراباخ وترانسنيستريا إلى أوكرانيا، فإن موسكو لا تبدو مستعدة للتخلّي عن هذه العمليات. مع ذلك، تشير بعض المصادر إلى أن بعثة حفظ السلام في ناغورنو-كاراباخ تشهد نقصًا في عديدها بنسبة 15 في المئة نتيجة النزاع في أوكرانيا. لكن مجلس الدوما الروسي صادق في نيسان/أبريل 2023 على قانون جديد يسمح للمجنّدين بأن يصبحوا جزءًا من عمليات حفظ السلام في الخارج. إذًا، بات باستطاعة موسكو الآن إشراك المجنّدين في عمليات حفظ السلام.

توكماجيان: على ضوء عملية التمرّد الفاشلة التي أطلقتها مجموعة فاغنر في روسيا، ورحيل يفغيني بريغوجين إلى بيلاروسيا، كيف تقرأ مستقبل قوات المرتزقة هذه؟ وكيف برأيك سيؤثّر هذا الوضع الجديد على حضور فاغنر في الخارج، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

نرسيسيان: من الواضح أن فاغنر لن تتلقّى من روسيا بعد الآن العقود الحكومية المهمة التي حصلت عليها خلال الحرب الروسية الأوكرانية. وظهرت مؤشرات على أن وزارة الخارجية الروسية تسعى إلى إخراج قوات فاغنر من الدول الحاضرة فيها. وسرت بعض التكهّنات بأن زبائن فاغنر الليبيين والسوريين ربما فقدوا إلى حدٍّ ما ثقتهم بالمجموعة. في غضون ذلك، نُشرت معلومات عن لقاء عُقد في 29 حزيران/يونيو بين بريغوجين وعدد من قيادات فاغنر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما يشير إلى أن الاحتمال لا يزال قائمًا بأن تعمل فاغنر نيابةً عن الدولة الروسية، على الرغم من أن مواردها ستبقى محدودة على الأرجح وسيتم نشرها خارج روسيا.

في ظل هذه المعطيات، يبدو مستقبل فاغنر أكثر إيجابيةَ مما خُيِّل إلينا في الأيام القليلة التي تلت التمرّد، لكن من شبه المؤكّد أن المجموعة لن تُمنَح القدر نفسه من الموارد التي كانت تمتلكها في العام 2022. أما في ما يتعلق بآفاق حضور فاغنر في الخارج، فستتمكّن المجموعة على الأرجح من الحفاظ على قواتها المنتشرة في أفريقيا وحتى تعزيزها، في حين أن أسواقها في الشرق الأوسط عرضة للخطر، إذ تربط سورية علاقة تعاون وتنسيق وثيقة جدًّا مع روسيا، ولن تبقي فاغنر في أراضيها في حال عمدت موسكو إلى فسخ عقودها مع المجموعة.

توكماجيان: تُعدّ روسيا منذ عقود من بين أكبر الدول المصدّرة للسلاح. كيف أثّرت الحرب في أوكرانيا على قطاع التصنيع الحربي الروسي وتصدير الأسلحة؟

 نرسيسيان: غيّر تحوّل النزاع في أوكرانيا إلى حرب طويلة الأمد، وتكبّد خسائر كبيرة في المعدّات، أولويات القطاع الدفاعي الروسي، إذ أصبح يركّز الآن أكثر بكثير على زيادة الإنتاج للسوق المحلّي بدلًا من التصدير. ثمة مؤشرات على تراجع أو توقّف تصدير أنواع كثيرة من المعدّات الروسية بعد انطلاق الحرب في أوكرانيا. على سبيل المثال، تظهر بعض الصور أن القوات المسلحة الروسية تستخدم في أوكرانيا دبّابات من طراز "تي-90" معدّلة للتصدير نحو الخارج، ما يشير إلى أن الزبائن لم يحصلوا عليها. والمثل الثاني هو أن أرمينيا، حليفة روسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، طلبت شحنات كبيرة من الأسلحة في آب/أغسطس 2021 ولم تتلقَّ أيًّا منها حتى الآن، ما دفع يريفان إلى البحث عن مورّدين آخرين، ولا سيما الهند وفرنسا.

يُلاحظ منحى آخر في قطاع الدفاع الروسي ينطوي على تبسيط عملية الإنتاج، إذ باتت تهدف إلى إنتاج كميات كبيرة خلال مهل زمنية أقصر. فعلى سبيل المثال، لم تعُد دبابات "تي-80 بي في إم" و"تي-72 بي 3" تُزوَّد بنظام "سوسنا-يو"، الذي يُعدّ من أفضل أنظمة الرؤية والتصويب المتوافرة ويتم إنتاجه في بلاروسيا، بل أصبحت تُزوّد بدلًا من ذلك بأنظمة رؤية وتصويب أبسط من طراز "1 بي أن-96 أم تي-02". وتستند هذه المقاربة إلى الفصل بين معدّل إنتاج الدبابات ومعدّل إنتاج أنظمة "سوسنا-يو" المعقّدة، التي يُعتبر إنتاجها محدودًا ويتطلّب وقتًا أطول.

وبالاستناد إلى المنطق نفسه، بدأت وزارة الدفاع الروسية باعتماد مقاربة أكثر مرونةً بكثير تجاه المشتريات في زمن الحرب. فمثلًا، تبدو أنظمة التوجيه UMPK، التي يجري استخدامها لتحديث القنابل الانزلاقية العادية من طراز "فاب-500" من خلال تحويلها إلى قنابل موجّهة بالأقمار الصناعية (مثل حزمة ذخائر الهجوم المباشر المشترك الأميركية) أشبه بنموذج أولي مبكر لم يدخل بعد مرحلة الإنتاج المتسلسل، لكن على الرغم من ذلك يتم شراؤه واستخدامه. 

توكماجيان: شهد قطاع التصنيع العسكري التركي نموًا ملحوظًا خلال العقد الماضي. فهل ستصبح تركيا مُصدّرًا رئيسًا للأسلحة؟ وهل من تنافس بين موسكو وأنقرة على الأسواق نفسها؟

نيرسيسيان: عمومًا، نما قطاع الدفاع التركي بقوّة خلال العقد الماضي، إذ تجاوزت قيمة صادرات تركيا من الأسلحة 4 مليارات دولار في العام 2022. وذكر تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام في آذار/مارس 2023 أن البيانات بين العامَين 2018 و2022 وضعت تركيا في المركز الحادي عشر من حيث حصتها في صادرات الأسلحة العالمية، واحتلّت المراتب الثلاث الأولى الولايات المتحدة (40 في المئة) وروسيا (16 في المئة) وفرنسا (11 في المئة). ولفت التقرير نفسه إلى أن أبرز الدول التي تشتري الأسلحة من تركيا كانت قطر والإمارات العربية المتحدة وعُمان، في حين أن أبرز الجهات المشترية من روسيا كانت الهند والصين ومصر.

يأتي نجاح تركيا في سياق النجاح التجاري الذي حققته طائرة "بيرقدار تي بي 2" العسكرية المسيّرة، بعد حملات الترويج الكثيفة التي استندت إلى أدائها في سورية وليبيا وإقليم ناغورنو-كاراباخ. واعتُقد أيضًا أن هذه الطائرة المسيّرة قد تُحدث فرقًا في أوكرانيا، بيد أن الحرب هناك تُظهر أن حملات الترويج لها كانت مُفرَطة وأن مثل هذه المقاتلات الكبيرة ضعيفة للغاية في وجه الدفاعات الجوية. وبالتالي، قد تحقّق المقاربة التركية الرامية إلى تطوير طائرات مسيّرة ضخمة وبيعها، ومن ضمنها طائرات بيرقدار وأقنجي وأنكا، عائدات مستقبلية أقل ممّا كان في الحسبان. لذا، لا تُعدّ تركيا حتى الآن منافسًا جديًّا لروسيا في سوق التصنيع العسكري، لكن ذلك قد يتغيّر في المستقبل.

توكماجيان: كيف تصف العلاقات بين روسيا وإسرائيل اليوم، ولا سيما على ضوء التقارب الروسي مع إيران والتقارير التي أفادت عن محاولة طائرة روسية اعتراض تدريبات عسكرية أميركية إسرائيلية مشتركة فوق البحر المتوسط في شهر كانون الثاني/يناير الماضي؟

 نيرسيسيان: يمكن وصف العلاقة الروسية الإسرائيلية بأنها "شراكة باردة". ترى روسيا بوضوح أن إسرائيل حليفة الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، لكن واقع أنها لم تقدّم حتى الآن دعمًا عسكريًا مباشرًا لأوكرانيا هو أمرٌ إيجابي جدًّا لموسكو. ويمكن قول الأمر نفسه عن سورية. فمن الواضح أن إسرائيل ليست صديقة موسكو أو دمشق، لكن يُنظَر إلى هذه الخصومة فقط كجزء من منافسة محلية بينالدول لا تجعل منها بالضرورة أعداء.

من المرجّح أن الآراء مشابهة على الجانب الإسرائيلي، إذ إن الدخول في مواجهة شاملة مع روسيا لن يحمل فائدة كبيرة، حتى لو أن الدعم الروسي المباشر لخصوم إسرائيل الإقليميين، ومن بينهم إيران، قد يولّد الكثير من المشاكل الجديدة.