المصدر: Getty
مقال

الموت وعواقبه في غزة

سواء نجحت الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا في إدانة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة أم لا، لقد ألحقت ضررًا بالغًا بسمعتها.

نشرت في ٢٢ يناير ٢٠٢٤

بغضّ النظر عن نتيجة الحكم الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي، ألقت الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل استنادًا إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية تبعاتٍ كبرى على إسرائيل والنظام الدولي على حدٍّ سواء.

تُعرِّف هذه الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها ارتكاب أيٍّ من الأفعال التالية بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، ليس فقط عن طريق قتل أعضاء من الجماعة، بل أيضًا من خلال "إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة؛ أو إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروفٍ معيشية يُراد بها تدميرها المادّي كليًا أو جزئيًا؛ أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ أو نقل أطفال من الجماعة، عنوةً، إلى جماعة أخرى". وقد صاغ مصطلح "الإبادة" محامٍ يهودي بولندي يُدعى رافاييل ليمكين في أعقاب الهولوكوست (محرقة اليهود).

ترى جنوب أفريقيا أن الهجمات التي شنّتها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة تكشف عن نيّتها بارتكاب إبادة جماعية. وتطرّقت القضية إلى "نمطٍ واضح من السلوك"، على حدّ تعبير المحامي الجنوب أفريقي تيمبيكا نغوكايتوبي، أدّى إلى إلحاق دمارٍ هائلٍ بمناطق واسعة من غزة وأسفر عن مقتل أكثر من 24,000 من السكان المدنيين، 40 في المئة منهم من الأطفال، وإصابة 60,000 شخص، ناهيك عن الآلاف الذين ما زالوا في عداد المفقودين. إضافةً إلى ذلك، يواجه سكان غزة أزمة صحية حادّة، ويقفون "على حافة المجاعة"، وفقًا لسيندي ماكين، مديرة برنامج الأغذية العالمي. ومنذ بدء الجولة الراهنة من الصراع، لم تتورّع إسرائيل عن شنّ هجمات مدمّرة على الجامعات والمستشفيات والمدارس والكنائس والمحاكم وحتى مبنى الأرشيف المركزي في غزة. لذا لا تستطيع إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، الادّعاء بأن ممارساتها تندرج في إطار الدفاع عن النفس، وحتى لو زعمت ذلك، تعتبر جنوب أفريقيا أن حجم الضرر الذي ألحقته إسرائيل بالفلسطينيين لا يمكن تبريره تحت أي ظرفٍ. هذا وتتمثّل "الميزة الاستثنائية" لهذه القضية في أن التصريحات التحريضية التي أدلى بها قادة إسرائيليون تشير إلى وجود النية بارتكاب إبادة جماعية، وقد ردّد هذه الشهادات والمُفردات جنود إسرائيليون على الأرض. وتابعت مرافعة جنوب أفريقيا بأن الهجمات على غزة متجذّرة في الاعتقاد الإسرائيلي بأن العدو ليس فقط الجناح العسكري لحماس، بل أيضًا نسيج حياة المدنيين في غزة، وهو ما تسعى إسرائيل إلى تدميره. ولا يأتي هذا الخطاب من هوامش المجتمع الإسرائيلي، بل يندرج اليوم في صُلب سياسة الدولة.

ونظرًا إلى أن صدور الحكم في هذه القضية قد يستغرق سنوات، طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتّخاذ تدابير مؤقّتة لوقف إراقة الدماء ومنع خطر حدوث إبادة جماعية.

لا ينبغي الاستهانة برمزية أن جنوب أفريقيا تحديدًا هي التي رفعت هذه الدعوى، نظرًا إلى تجربتها السابقة وإدراكها العميق لعواقب تأخّر الاستجابة الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان. وقد أوضحت في قضيتها أمام محكمة العدل الدولية أن انتهاكات إسرائيل المتزايدة لحقوق الفلسطينيين تندرج ضمن ما تعتبره جنوب أفريقيا نظام "الأبرتهايد" (الفصل العنصري)، مصحوبةً بتقاعس المجتمع الدولي، يسمحان لإسرائيل بالاستمرار في ارتكاب المذابح في غزة والإفلات من العقاب.

ولم تنسَ جنوب أفريقيا أيضًا تواطؤ إسرائيل مع نظام الأبرتهايد الذي حكمها سابقًا، وإبرامهما "تحالفًا غير مُعلَن" خلال فترة الحرب الباردة. وتُشير هذه العبارة (The Unspoken Alliance) إلى عنوان كتابٍ وضعه ساشا بولاكو-سورانسكي عن العلاقات السرّية التي جمعت بين دولةٍ تأسّست بعد الهولوكوست ونظامٍ قادته الأقلية الأفريكانية القومية التي دعمت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وارتكزت هذه العلاقة على تعاون أمني سرّي دام لعقود، وعلى "إيديولوجيا البقاء للأقليات" على حدّ تعبير بولاكو-سورانسكي، والتي حرصت على تصوير هاتَين الدولتَين على أنهما امتدادٌ للحضارة الأوروبية ويهدّدهما "البرابرة على الأبواب". وقد انتهت هذه العلاقة مع إلغاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

كذلك، سلّط تضامن جنوب أفريقيا مع الفلسطينيين الضوء على الشرخ القائم بين بعض دول الغرب وسائر دول العالم. وأعاد أيضًا فتح صفحةٍ من صفحات التاريخ الاستعماري الغربي، حيث تشكّل أحداث الهولوكوست بحق اليهود في الدول الغربية أساسًا ذروة العنف الذي مارسه الغرب ضدّ شعوب غير غربية، نتيجة الترويج لنظريات التفوق العرقي والسياسات الأحيائية (biopolitics) والتمادي في العنف. في هذا السياق، حمل انتقاد ناميبيا للموقف الألماني الداعم لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية دلالات كثيرة. فقد ذكّرت الحكومة الناميبية أن أول إبادة جماعية في القرن العشرين ارتكبتها ألمانيا على الأراضي الناميبية بين العامَين 1904 و1908، وراح ضحيتها 70 ألفًا من شعبَي هيريرو وناما. وتابع بيان ناميبيا أن "ألمانيا لا تستطيع التعبير عن التزامها الأخلاقي باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، بما في ذلك التكفير عن ذنبها في الإبادة التي ارتكبتها بحق ناميبيا، فيما تدعم ما يعادل الهولوكوست والإبادة الجماعية في غزة".

في ظل هذه الأجواء المشحونة، ألقت قضية جنوب أفريقيا بثقلها أيضًا على النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا تبيّن أن الدول الكبرى تعتمد معايير مزدوجة دفاعًا عن حلفائها، فسيقوّض ذلك أركان مفهوم النظام الدولي. وكانت هذه تحديدًا الحجة التي قدّمها الخبير القانوني الألماني ستيفان تالمون، حين انتقد تدخّل بلاده لدعم إسرائيل في محكمة العدل الدولية بأنه قرار "متسرّع" و"مليء بالدوافع السياسية"، محذّرًا من أن هذه المقاربة قد تُرغم برلين على تبنّي تفسيرٍ ضيّق لمفهوم النية بارتكاب إبادة، على خلاف ذاك الذي اعتمدته في دعوى سابقة رفعتها غامبيا ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية. إذا حدث ذلك، فسيعتبره الكثير من دول الشطر الجنوبي من العالم دليلًا على المراوغة والكيل بمكيالَين في تقدير قيمة الحياة الإنسانية.

كذلك، ساهمت قضية غزة أمام محكمة العدل الدولية في تعرية أسطورة تأسيس إسرائيل. فما يعرفه كثرٌ في الغرب أن إسرائيل تأسّست في أعقاب الهولوكوست بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في مرحلة اتّسمت بمساعٍ حثيثةٍ من أجل إرساء ضوابط ومعايير دولية لمنع تكرار جرائم بهذا الحجم. وكما جادل الكاتب البريطاني توني جُت في مقالٍ لصحيفة هآرتس في العام 2006، دفعت هذه العوامل إسرائيل إلى التشديد لفترة طويلة على "عزلتها وفرادتها، وادّعائها بأنها البطل والضحية في آن، في إحالةٍ إلى المعركة التوراتية بين داود وجليات".

أدّت هذه العوامل مجتمعةً إلى تشكيل حالة الاستثناء الإسرائيلي انطلاقًا من معاناة الشعب اليهودي. وسمح ذلك للقادة الإسرائيليين بتجاهل مسؤوليتهم عن الانتهاكات المستمرة ضدّ الشعب الفلسطيني، في ظل قبول جزءٍ كبير من المجتمع الدولي بهذا الوضع. فقد تغاضت القوى السياسية العالمية الكبرى في الغالب عن الاحتلال الطويل الأمد للأراضي الفلسطينية وممارسات إسرائيل الرامية إلى إخضاع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس، بدءًا بإجراءات حظر التجول ونقاط التفتيش والطرق الالتفافية، ومرورًا بالاستيلاء على الأراضي والاعتقالات والاحتجازات التعسفية، ووصولًا إلى هدم المنازل والتهجير وأعمال العنف والاغتيالات الموجّهة.

ويقع اليوم التدمير الوحشي لقطاع غزة والخسائر المروّعة في الأرواح على مرأى مئات الملايين من الأشخاص، وقد شارك بعضهم في مظاهرات حاشدة في عواصم العالم للمطالبة بوقفٍ فوري لإطلاق النار. وهكذا، تداعت الصورة التي صاغتها إسرائيل بعناية عن دولةٍ ليبرالية بناها الناجون من إحدى أفظع الجرائم التي عرفتها البشرية. وعلى الرغم من شراسة هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أظهر حجم الموت والدمار في غزة مجدّدًا أن الفلسطينيين هم ضحايا. وبات كثرٌ حول العالم ينظرون إلى احتلال إسرائيل واستيطانها للأراضي الفلسطينية، وسياساتها القائمة على الفصل العنصري التي أصبح خبراء قانونيون إسرائيليون يطلقون عليها هذه التسمية أيضًا، على أنها بقايا مرحلة استعمارية غابرة.

مهما كانت نتيجة الحكم الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية، يبدو أن ارتكابات إسرائيل في قطاع غزة والتهمة التي وجّهتها إليها جنوب أفريقيا، قد ألحقتا ضررًا بالغًا بسمعتها. من الآن وصاعدًا، لم يعد سهلًا ربما على العالم التغاضي عن انتهاكات دولةٍ كثيرًا ما بقيت فوق المساءلة والمحاسبة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.