حارث حسن زميل أول غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط، وباحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تركّز أعماله على العراق، والطائفية، وسياسات الهوية، والقوى الدينية، والعلاقة بين الدولة والمجتمع. نشر للتو دراسةً لكارنيغي بعنوان Iraq’s Development Road: Geopolitics, Rentierism, and Border Connectivity (طريق التنمية في العراق: الشؤون الجيوسياسية والريعية والممرّات الحدودية)، حول المشروع العراقي الرامي إلى إنشاء شبكة بنية تحتية تشمل ميناء وطرقًا وسككًا حديدية تربط بين الخليج وتركيا. أجرت "ديوان" مقابلة معه في شهر آذار/مارس لمناقشة هذه الدراسة والتأثيرات الإقليمية الأوسع نطاقًا لطريق التنمية وسط التنافس الإقليمي المتزايد.
مايكل يونغ: صدرت لك للتو دراسة لكارنيغي حول مشروع طريق التنمية في العراق. لماذا وقع اختيارك على هذا الموضوع تحديدًا وما الفكرة الأساسية من ورائه؟
حارث حسن: يتّسم هذا الموضوع بالأهمية لسببَين. أولًا، تُبدي دول المنطقة والعالم اهتمامًا متزايدًا لإنشاء طرق جديدة للتبادلات التجارية الدولية العابرة للحدود، بحيث أصبح الشرق الأوسط اليوم ساحةً للتنافس الجيو-اقتصادي بين مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومشاريع أخرى تحظى بدعم الولايات المتحدة، من ضمنها الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي سُلِّطت عليه الأضواء مؤخّرًا بسبب الحرب الدائرة في غزة والهجمات التي شنّتها جماعة أنصار الله على سفن الشحن التجارية في البحر الأحمر. في هذا السياق، أصبحت الممرّات التجارية بين الدول والمناطق مرتبطة أكثر فأكثر بالاصطفافات الجيوسياسية.
ثانيًا، يشهد العراق، على غرار دول أخرى في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية ومصر وسائر بلدان الخليج، تحوّلًا في الاهتمام نحو المشاريع الكبرى والتجارة العابرة للحدود. فبعد سنوات من الانقسامات الإثنية والطائفية، تبحث النخبة السياسية عن مصادر جديدة لإضفاء الشرعية على حكمها، فعادت فكرة "التنمية" مجدّدًا إلى صُلب الخطاب الوطني لكن بطريقة مختلفة عن المساعي التنموية الاشتراكية الشعبوية التي شهدتها مرحلة ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. فالنموذج الجديد أكثر ميلًا نحو الأسواق المفتوحة، ودمج الاقتصادات المحلّية في الاقتصاد العالمي، وتوسيع قطاعات الخدمات. ويرتبط طريق التنمية أيضًا بالاقتناع السائد بأن العراق في أمسّ الحاجة إلى تنويع اقتصاده ومصادر إيراداته لتقليص الاعتماد الكامل على عائدات النفط.
يونغ: ما هي أبرز العوائق التي تعترض هذا المشروع في داخل العراق وخارجه؟ ونظرًا إلى هذه العراقيل، ما هي فرص تنفيذ المشروع؟
حسن: ثمة عقبات عدّة قد تحول دون إمكانية تحقيق مشروع طريق التنمية، ما يشير إلى أن الطموحات العراقية ربما تكون متضخمة. تشمل هذه العراقيل الفساد المستشري، وسوء الإدارة، ومساعي المجموعات الحاكمة في العراق للاستيلاء على الدولة ومواردها بأشكال تؤدّي إلى تفكّك مؤسسات الدولة وتقويض قدرة الحكومة على تنسيق عملية التخطيط والتطبيق بشكلٍ دقيق. كذلك، تسهّل الطبيعة الفئوية للسياسات العراقية والتقلّبات الكثيرة التي تخوضها البلاد الحسابات القصيرة المدى، على حساب المشاريع الطويلة الأمد التي يتم تحييدها جانبًا.
على الرغم من أن إيرادات العراق من صادرات النفط تتراوح بين 8 و9 مليارات دولار شهريًا بفضل ارتفاع أسعار النفط، تحوم الشكوك حول قدرة الدولة على تمويل مثل هذا المشروع الضخم وتنفيذه، ولا سيما نظرًا إلى حجم الفساد المستشري على المستوى الوطني واستخدام الموارد لتمويل القطاع العام المتضخم وبرامج الدعم الحكومي العراقي. كذلك، تشمل العقبات احتمال أن يشهد العراق حالةً من انعدام الأمن والاستقرار، ما قد يؤدّي إلى انسحاب المستثمرين الأجانب أو الدول الساعية إلى الاستفادة من طريق التنمية. وتتمثّل العقبة الأهم ربما في أن العراق سيكون مضطرًّا إلى حجز مكانٍ لنفسه وسط مشهد إقليمي يخيّم عليه التنافس الجيوسياسي والجيو-اقتصادي، نظرًا إلى إطلاق مشاريع عدّة تهدف إلى إنشاء ممرّات تجارية، على غرار مبادرة الحزام والطريق الصينية، والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وطموحات إيران لأن تصبح مركزًا للتجارة العابرة للأقاليم.
يونغ: ما هو احتمال أن تدعم دول الخليج البارزة العراق لضمان نجاح مشروع طريق التنمية، ولا سيما نظرًا إلى تأثير إيران الملحوظ على العراق؟ ما الدول الخليجية الأكثر ميلًا إلى المساعدة في هذا الصدد، ولماذا؟
حسن: في الوقت الراهن، يبدو أن قطر هي الدولة الخليجية الرئيسة المهتمة بالمساعدة لتحقيق تقدّمٍ في هذا المشروع، ويُعزى سبب ذلك جزئيًا إلى التجارب المريرة التي عاشتها خلال الحصار الذي فرضته عليها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بين العامَين 2017 و2021، ما دفع القيادة القطرية إلى البحث عن طرق بديلة للتجارة. علاوةً على ذلك، تجمع قطر علاقات وثيقة مع تركيا، التي تُعدّ حليفتها الإقليمية الأساسية قبل الحصار وخلاله. وتدعم تركيا بحماس مشروع طريق التنمية لأنه يوفّر طريقًا مختصرًا إلى منطقة الخليج ويلبّي أيضًا طموحات أنقرة لأن تصبح مركزًا للتبادلات التجارية العالمية.
يمكن للإمارات أيضًا أن تكون شريكًا محتملًا، ولا سيما بعد أن طلب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مساعدتها في إدارة ميناء الفاو، الذي يشكّل حجر زاوية هذا المشروع. وقد ينسجم ذلك مع اهتمام الإمارات في تعزيز حضورها في العراق، والحفاظ على موقعها كطرفٍ أساسي في إدارة الموانئ أو الإشراف عليها على مستوى العالم. مع ذلك، قد تكون الإمارات أقل ميلًا إلى المشاركة في المشروع نظرًا إلى احتمال أن يصبح ميناء الفاو منافسًا لموانئها، وإلى النفوذ الذي تتمتّع به المجموعات المسلّحة الموالية لإيران والمعادية للإمارات في العراق. تجدر الإشارة إلى أن الإمارات قد تفضّل التريّث قبل الالتزام بمثل هذا المشروع، نظرًا إلى الاهتمام الذي يحظى به الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا خلال حرب غزة، وإمكانية عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركية.
أخيرًا، تعتبر الكويت ميناء الفاو منافسًا لميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان، الذي أثارت أعمال بنائه المستمرة توتّرات بين العراق والكويت. ولا يُعزى سبب ذلك إلى النزاع حول الحدود البحرية بين البلدَين فحسب، بل إلى وجهة النظر العراقية القائلة إن ميناء مبارك الكبير قد يقوّض حظوظ ميناء الفاو. وقد أدّت هذه الخلافات إلى تعليق العمل في مشروع الميناء الكويتي لفترة من الوقت، إلّا أنّ الحكومة أعلنت في تموز/يوليو 2023 استئناف أعمال إنجازه.
يونغ: يتزامن مشروع طريق التنمية مع مساعي الصين للدفع قدمًا بمبادرة الحزام والطريق. ما النواحي التي يتعارض فيها المشروعان أو يتكاملان، ولا سيما أن العراق تلقّى تمويلًا صينيًا ضخمًا مُخصّصًا لمبادرة الحزام والطريق؟
حسن: أثار موقع العراق في مبادرة الحزام والطريق تساؤلات مهمة في الداخل العراقي، حيث تساءل مراقبون وناشطون عمّا إذا كان مشروع طريق التنمية مرتبطًا بتطلّعات بيجينغ أم منفصلًا عنها. ففي العام 2021، أصبح العراق أكبر المستفيدين من التمويل الذي خصّصته الصين لمبادرة الحزام والطريق، إذ تلقّى 10.5 مليارات دولار من أصل 60 مليار دولار تقريبًا. وقبل ذلك، كانت حكومة عادل عبد المهدي قد اتّفقت مع الصين على تأسيس صندوق مشترك تُستخدم فيه إيرادات 100 ألف برميل يوميًا من صادرات النفط العراقي لتسديد القروض والاستثمارات الصينية في عملية إعادة الإعمار والمشاريع التنموية في العراق. لقد بات "التوجّه نحو الصين" جزءًا من الخطاب السياسي لبعض الفصائل السياسية العراقية - خصوصًا تلك المقرّبة من إيران – التي صوّرت ذلك كوسيلة لمواجهة الهيمنة الأميركية.
لكن عمليًا، لا يحتلّ العراق مكانة أساسية في الخطط الصينية الرامية إلى الاستفادة من مشاريع الممرّات الإقليمية. فالطريق البرّي الذي اقترحته بيجينغ على نطاق واسع لا يمرّ عبر العراق، بل عبر آسيا الوسطى وتركيا. لذا عمدت الحكومة العراقية إلى تصوير ميناء الفاو على أنه مشروع مكمّل للمبادرة، يوفّر طريقًا بحريًا جديدًا يمكن أن يخدم الصين والقوى الاقتصادية الناشئة في آسيا، إذ يُفترض أن يقلّص مدّة وصول البضائع إلى أوروبا وكلفة التبادلات التجارية. لكن العراق يواجه أيضًا منافسة شديدة من الدول المجاورة، فبعضها منخرطٌ بصورة أكبر في التجارة الدولية وإدارة الموانئ والشحن، على غرار الإمارات، وبعضها الآخر قادرٌ على عرقلة خطط العراق الرامية إلى تنفيذ مشروع طريق التنمية، مثل تركيا وإيران والكويت.
يونغ: برأيك، كيف ستؤثّر هذه المبادرات المرتبطة بالبنى التحتية والممرّات العابرة للأوطان على الحدود بين دول الشرق الأوسط في المستقبل؟ هل ستحوّل المناطق الحدودية إلى ساحات تعاون أم ستفضي إلى اشتداد المنافسة بين الدول؟
حسن: يشير إطلاق مشاريع متنافسة لإنشاء ممرّات جيو-اقتصادية في منطقة الخليج والشرق الأوسط الأوسع إلى أن هذه المساعي قد تفاقم الخصومات السياسية بدلًا من تحقيق هدفها المُعلن المتمثّل في تعزيز التكامل والتعاون في المجال الاقتصادي. للعراق تاريخٌ حافلٌ بالنزاعات الحدودية مع معظم جيرانه، أسفرت عن حروبٍ وغزوات مع إيران والكويت. لذلك، قد تؤدّي محاولات إعلاء القيمة الاقتصادية للمناطق الحدودية عبر شبكات جديدة من الموانئ والطرق إلى احتدام التوترات الكامنة ونشوب مزيدٍ من الصراعات. لهذا السبب أيضًا قد لا تتحقق أبدًا الآمال الكبيرة المعلّقة على مشروع طريق التنمية.