يبدو واضحًا أن إسرائيل عادت إلى تهديداتها بشنّ عملية عسكرية موسّعة على لبنان. قد يحدث ذلك بالفعل، أو قد يكون الهدف الإسرائيلي مجدّدًا رفع السقف من أجل زيادة الضغط على حزب الله في المفاوضات غير المباشرة معه لدفعه إلى القبول بترتيبات أمنية جديدة على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قوله يوم الاثنين، في حديث جمعه مع مبعوث الرئيس الأميركي الخاص آموس هوكستين، إن "'العمل العسكري' بات 'السبيل الوحيد' لإنهاء أشهرٍ من العنف عبر الحدود بين إسرائيل وحزب الله..." وفي غضون ذلك، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توسيع أهداف الحرب لتشمل الآن إعادة سكان الشمال إسرائيل إلى بيوتهم.
على الرغم من كل هذا الكلام عن الحرب، لا يزال من غير الواضح ما الذي يأمل الإسرائيليون في تحقيقه من تصعيد الصراع مع لبنان، والذي قد ينطوي على محاولة اجتياح جنوب البلاد. واقع الحال هو أن المعادلة لم تتغيّر بشكل جوهري منذ أشهر. ويبدو أن إسرائيل تقف أمام خيارَين أساسيَّين في التعاطي مع لبنان: إمّا توسيع منطقة إطلاق النار الحرّ على طول الحدود لوقف هجمات حزب الله عبر الحدود؛ أو احتلال أجزاء من جنوب لبنان وتشكيل نسخة أخرى من الحزام الأمني الذي أنشأته قبل عقود، أي الإبقاء على قوات احتلال داخل الأراضي اللبنانية حتى أجلٍ غير مسمّى.
يبقى لغزًا كيف يمكن لأيٍّ من هذَين الخيارَين أن يُعيد الأمن والاستقرار إلى شمال إسرائيل. فمنطقة إطلاق النار الحرّ القائمة اليوم بحكم الأمر الواقع على طول الحدود لم تحمِ إسرائيل. وحتى إن اجتاحت قواتها لبنان، سيبقى باستطاعة حزب الله شنّ هجمات فوق منطقة انتشارها وإلحاق دمارٍ كبيرٍ في الشمال. وقد شدّد نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم على ذلك في كلمة ألقاها يوم السبت الماضي، محذّرًا إسرائيل من أن إشعال حربٍ شاملة لن يؤدّي إلّا إلى "نزوح مئات الآلاف الإضافية [من الإسرائيليين]" من الشمال. من المستحيل أن يسمح حزب الله بعودة سكان الشمال إذا أقدم الجيش الإسرائيلي على غزو لبنان، بل في وسع الحزب أيضًا أن يشنّ بسهولة هجمات على الشمال من خلف نهر الليطاني إذا حاولت إسرائيل إبعاده حتى هذه النقطة.
لعلّ الإسرائيليين اكتشفوا صيغة سحرية ما للتعامل مع الوضع. لكن إذا كان الأمر كذلك، فما من إجماعٍ على ما يبدو حول هذه المسألة بين أعضاء المجلس الوزاري المصغّر في إسرائيل، وسط تقارير تشير إلى انقسامهم بشأن قرار توسيع العمليات العسكرية مع لبنان. أما السؤال الآخر فهو إلى أي مدى يُعدّ الجانبان مستعدَّين للتصعيد. فقد أُفيد بأن هوكستين أبلغ غالانت أنه لا يعتقد أن العملية العسكرية الإسرائيلية ستُعيد سكان الشمال إلى ديارهم، بل يخشى أن تُشعِل في الواقع صراعًا إقليميًا أوسع. لكن هل نقطته الثانية صائبة حُكمًا؟
من المحتمل طبعًا أن يبدأ حزب الله وحلفاؤه بضرب أهداف مدنية وبنى تحتية في إسرائيل إذا أقدمت على اجتياح لبنان. لكن إذا امتنع الإسرائيليون عن قصف المدن والبنى التحتية اللبنانية، من الوارد أيضًا أن يفكّر حزب الله مرّتَين قبل أيّ تصعيد كبير يرقى إلى هذه المستويات، على الأقل في القريب العاجل، مفضّلًا أن يترك للميدان تحديد خياراته. لطالما صوّر حزب الله قدرته على قصف المدن الإسرائيلية باعتبارها تأتي في إطار الردّ على قيام إسرائيل بذلك أولاً. إذا كان الحزب قادرًا على إيقاع خسائر فادحة في صفوف الجنود الإسرائيليين الذين يدخلون لبنان، وفي الوقت نفسه الحؤول دون تصعيد المواجهة إلى مستوى قصف المدن والبنى التحتية، فقد يكون ذلك أفضل له لأنه يجنّبه أي ردود فعل سلبية مناهضة لخياراته في الداخل اللبناني.
من الممكن أيضًا أن يكون الخطاب العسكري العدواني الصادر عن إسرائيل هذه الأيام ببساطة استكمالًا لما شهدناه سابقًا، أي محاولة لزيادة الضغط على حزب الله للقبول بتسوية تفاوضية. في هذا الصدد، ربما سرّب هوكستين محادثته مع غالانت إلى صحيفة نيويورك تايمز لجعل حزب الله أكثر استعدادًا لقبول مقترحاته في المفاوضات غير المباشرة الجارية. إذا كان ما ذكرته التقارير الصحافية الإسرائيلية صحيحًا بأن عددًا من الوزراء الإسرائيليين البارزين، ومن ضمنهم رون ديرمر، وزير الشؤون الاستراتيجية وحليف نتنياهو، يعارضون توسيع الحرب على الجبهة الشمالية مع لبنان، فمن المحتمل أن رئيس الوزراء يستخدم ورقة هذا التهديد لزيادة هامش المناورة في مكان آخر.
حتمًا، لم تبدُ عودة سكان الشمال إلى بيوتهم حاجة ملحّة في تموز/يوليو الماضي، حين أعلن وزير التربية الإسرائيلي يوآف كيش أن الطلاب من شمال إسرائيل يمكنهم الالتحاق بالمدارس في المناطق التي نزحوا إليها. ينبغي على نتنياهو أن يأخذ غضب سكان الشمال على محمل الجدّ، لكن ليس أكثر من سخط مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين يلقون اللوم عليه لعدم اكتراثه على ما يبدو بمصير الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة. ومثلما تعامل نتنياهو مع المطالب المتعلّقة بالرهائن، سيقاوم أيضًا ضغوط سكان الشمال إذا شعر أن إشعال حربٍ موسّعة مع لبنان قد يهدّد بقاءه السياسي.
قد يضحك كثرٌ على مثل هذا الاستنتاج نظرًا إلى التفوّق العسكري الإسرائيلي الكاسح على حزب الله. لكن المشكلة أن ما من نتائج نهائية فعلية يمكن لإسرائيل تحقيقها في حربها ضدّ الحزب. هل من مرحلة محدّدة يستطيع عندها نتنياهو إعلان الانتصار؟ كلّا. إذا نجح الإسرائيليون فعلًا في التوغّل داخل الأراضي اللبنانية، قد تصبح كلّ تلّة أمامهم موقعًا يستخدمه حزب الله لاستهدافهم منه، ما يبرّر قيامهم بالسيطرة على هذا الموقع وبالتالي إغراق إسرائيل أكثر فأكثر في مستنقع الصراع. قد لا ترغب إسرائيل في الانجرار إلى حرب تطول إلى ما لا نهاية مع لبنان، لكن حزب الله قد يعتبر هذا الأمر مؤاتيًا له، ولا سيما في ظلّ غياب هدف معيّن تسعى القوات الإسرائيلية إلى تحقيقه.
يُدرك نتنياهو كل ذلك، لذا قد يفكّر مرّتَين قبل أن يزجّ بنفسه داخل وكر الدبابير في لبنان. لكن رئيس الوزراء ماهرٌ في ممارسة البهلوانية السياسية — إذ يسعى إلى كسب ودّ حلفائه من اليمين المتطرّف تارةً، ويحاول استرضاء عائلات الرهائن طورًا، ثم يؤكّد بصوتٍ عالٍ لسكان الشمال أنه لم يَنسَهم، ليعود ويتحايل على الأميركيين بعد أن لمس تخبّطهم. قد تكون الحرب على لبنان ببساطة آخر تلاعباته، وقد لا تكون كذلك. لكن المؤكّد أن بنيامين نتنياهو لن يشنّ حربًا قد تكبّده تكاليف باهظة، وتقوّض بالتالي بقاءه السياسي.