كان للحرب الدائرة في قطاع غزة تأثيرٌ تناقضي على سورية ونظام الأسد في دمشق. فمن جهة، زادت التوتّرات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل في سياق الصراع في غزة خطرَ انزلاق سورية إلى حرب لا تستطيع تحمّلها. لكن من جهة أخرى، أعاد الصراع تحويل الانتباه الدولي إلى منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك سورية. بعد العام 2023 الذي كان صعبًا للنظام وتكبّد خلاله سلسلةً من الانتكاسات – بدءًا من فشل محاولات المصالحة بين دمشق وأنقرة، وتعثّر عملية التقارب بين سورية والدول العربية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ما أشعل موجةً من الاحتجاجات، ولا سيما في السويداء - استعادت سورية بعضًا من مكانتها، واستأنفت عملياتٍ سياسية كانت متعثّرة.
يُعدّ دور النظام السوري في الصراع الدائر بين إسرائيل وكلٍّ من إيران وحلفائها الإقليميين ضئيلًا في أفضل الأحوال، ما دفع البعض إلى التساؤل بشكلٍ تهكّمي عمّا إذا خرجت سورية من محور المقاومة. فبعد مرور قرابة العام على الهجمات التي نفّذتها حركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، خلص النظام على ما يبدو إلى أنه لا يستطيع تحمّل أيّ تصعيد. فالجيش السوري مُنهك القوى، وعلى خلاف حزب الله في جنوب لبنان، ليست لديه جبهة واضحة مع القوات الإسرائيلية في القنيطرة. وقد يُقابَل اضطلاعه بدور أكبر بإقدام إسرائيل على شنّ أعمالٍ انتقامية أشرس ضدّ النظام، الذي يكمن هدفه الأساسي هذه الأيام في الحفاظ على بقائه، وليس المقاومة.
ارتدى الدور السوري الهامشي هذا طابعًا رسميًا في شهر آب/أغسطس، حين قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، "ليس مطلوبًا من سورية أن تدخل في القتال بسبب ظروفها الداخلية"، قبل أن يضيف أن على دمشق أن تؤدّي دورًا داعمًا.
في حال أقدمت إسرائيل على اجتياح لبنان، ستوفّر سورية على الأرجح دعمًا أكبر، إنما بشكلٍ حذر. فالخيار الذي ستفضّله دمشق في الغالب لن يكون التصعيد، بل توسيع دورها كجبهة إسناد، وخصوصًا كممرٍّ بين إيران وحزب الله. صحيحٌ أن الرئيس السوري بشار الأسد سيواجه ضغوطًا متزايدة من هذَين الطرفَين للسماح بذلك، لكن غالب الظن أيضًا أنه سيوافق على هذا القرار طَوعًا. فالنظام ما زال يرى في حزب الله لاعبًا أساسيًا ومؤثّرًا في السياسات اللبنانية والإقليمية. يُرجَّح أن تردّ إسرائيل بقوة على خطوة كهذه من أجل قطع الشريان الحيوي الذي يمدّ حزب الله بالسلاح والعتاد، علمًا أنها قد تتجنّب استهداف النظام السوري إن لم تمتدّ رقعة الصراع إلى مرتفعات الجولان المحتلة، وإن بقي المجال الجوي السوري مفتوحًا أمام الضربات الجوية الإسرائيلية.
على الرغم من المخاطر التي تطرحها الحرب في غزة، استفاد النظام من تجدُّد الاهتمام الدولي بالشرق الأوسط. فبعد انهماك روسيا بحربها في أوكرانيا، عاودت اهتمامها بالمنطقة، وبسورية خصوصًا، وإن بشكلٍ محدود. وخير على ذلك قيام موسكو بإنشاء نقطة مراقبة إضافية في القنيطرة خلال الشهر الفائت، على طول خطّ فكّ الاشتباك بين القوات المسلحة السورية والإسرائيلية.
لقد استفاد النظام السوري من نواحٍ أخرى أيضًا. فهو واجه مظاهرات مناهضة له في شهر آب/أغسطس 2023 في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، والمجاورة للقنيطرة، احتجاجًا على تردّي الأوضاع الاقتصادية، ورفع المتظاهرون أيضًا مطالب سياسية. تعاملت دمشق بحذر مع هذه الاحتجاجات، إذ اختارت التريّث والسماح لها بأن تأخذ مجراها، معتمدةً على استغلال الانقسامات بين الزعماء الدينيين، وزيادة الضغوط الاقتصادية. من خلال قرار النظام عدم اللجوء إلى العنف، نجح في تفادي إثارة ردّة فعلٍ قوية في أوساط الدروز المُتمرّدين تاريخيًا، وتجنّب أيضًا السيناريو الأسوأ، أي استتباع التدخّل الخارجي. في نهاية المطاف، أدّت تكتيكات النظام، إضافةً إلى الحرب الدائرة في غزة، التي صرفت الانتباه عن الاضطرابات المحلّية، إلى انحسار حجم الاحتجاجات وتواترها، إذ تقلّص حجم المشاركين فيها من الآلاف إلى مئات الأشخاص، وباتت تقتصر على أيام الجمعة.
أما في ما يتعلق بتطبيع العلاقات بين دول المنطقة وسورية، فقد عبّرت تركيا ودول عربية وحتى أوروبية مجدّدًا عن اهتمامها برأب علاقاتها مع الحكومة في دمشق. وشكّلت حرب غزة سياقًا جديدًا وجّهت بموجبه الأطراف الساعية إلى الانخراط في الشرق الأوسط أنظارها أيضًا نحو سورية، بسبب دورها المحوري في صراعات المنطقة. لكن هذا الانخراط لا يزال يركّز على قضايا قائمة منذ وقت طويل، ومرتبطة بالأمن واللاجئين والاستقرار الإقليمي.
لا شكّ من أن العلاقات مع تركيا تشكّل المثال الأبرز على هذه الاتصالات المتجدّدة. فقد بادر العراق هذا الصيف إلى التوسّط من أجل استئناف المحادثات السابقة التي توسّطت فيها روسيا بين أنقرة ودمشق. يُشار إلى أن الحرب في غزة، وما أفرزته من تحديات للولايات المتحدة، أتاحت ربما الفرصة أمام سورية وتركيا وروسيا للضغط على قوات سورية الديمقراطية الخاضعة لسيطرة الأكراد وداعميها الأميركيين، وإن كان لكل طرفٍ أسبابه الخاصة. مع ذلك، لا تزال القضايا الأساسية العالقة على حالها. فالأمن يُعدّ هاجسًا رئيسًا لدمشق وأنقرة، تليه المسائل الديموغرافية والاقتصادية وغيرها. ونظرًا إلى نفوذ تركيا المهم، يُعدّ الانخراط معها حيويًا. فإذا نجحت هذه المساعي، ستُحدث تحوّلات في مسار الصراع السوري على الأرض وعلى الصعيد السياسي.
عربيًا، لا تزال مساعي تحقيق التقارب بين سورية والدول العربية تراوح مكانها منذ العام الماضي، بعد تعثُّر محاولة إعادة إحيائها في نيسان/أبريل الماضي. شكّل ذلك انتكاسةً، إلّا أنها لم تكن انتكاسةً كبرى لدمشق، نظرًا إلى أن هذه الجهود انطوت على عملية سياسية ومجموعة من المطالب لنظام الأسد. في المقابل، يفضّل النظام تعزيز العلاقات الثنائية، إذ أحرز تقدّمًا طفيفًا إنّما ملموس في هذا الصدد، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية. فقد سلّمت المملكة حصة كبيرة من ملف الحج والعمرة إلى النظام السوري في كانون الثاني/يناير 2024، بعد سحبه من يد المعارضة، وعيّنت سفيرًا لها لدى دمشق في أيار/مايو الفائت، لكنه لم يتوجّه بعد إلى سورية. وفي الآونة الأخيرة، صرّح القائم بأعمال المملكة في دمشق، قائلًا: "علاقاتنا مع سورية تسير نحو الأفضل وستعود إلى ما كانت عليه قبل العام 2011".
المفاجأة الأكبر كانت الخطوة الجريئة التي اتّخذتها إيطاليا في تموز/يوليو الفائت، إلى جانب النمسا وكرواتيا وقبرص وجمهورية التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا، وتمثّلت في دعوة الاتحاد الأوروبي إلى "تغيير استراتيجيته" تجاه سورية. وبُعيد ذلك، عيّنت إيطاليا ستيفانو رافانيان، الذي كان يشغل منصب المبعوث الخاص لوزارة الخارجية لشؤون سورية، سفيرها الجديد لدى دمشق. تكمن أهمية هذا التطوّر في أن السياسة تجاه سورية باتت قيد المناقشة في بروكسل، ما قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى تعديلها، بعد أن تمّ إقرارها في العام 2017. يشكّل هذا الأمر إنجازًا دبلوماسيًا صغيرًا للنظام، إنما ليس إنجازًا كاملًا، ذلك أن تحديث السياسة لن يعني بالضرورة حدوث تقارب. وحتى إذا ازداد انخراط الدول الأوروبية مع النظام، من الصعب جدًّا إحراز تقدّم يُذكر في هذا الصدد نظرًا إلى مدى تعقيد القضايا الشائكة.
مع ذلك، يُعتبر الوضع الراهن مؤاتيًا أكثر ممّا كان عليه الحال في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. لكن إذا كانت إسرائيل عازمة على تحييد التهديدات النابعة من حدودها الشمالية، فمن المستبعد أن تزول احتمالات اندلاع حرب في المستقبل المنظور. حتى الآن، استفاد النظام من استئناف العلاقات السياسية المتنوعة، ولا سيما الثنائية منها، بدلًا من المفاوضات السياسية الواسعة النطاق. وإن أمكن استخلاص عبرة واحدة منذ العام 2021، حين عمَد الأردن إلى فتح كوّة في جدار العزلة السورية، فهو أن إحراز تقدّم في سورية أمرٌ بطيء، هذا إن حدث على الإطلاق. نظرًا إلى أن الوضع القائم عميق التجذّر وتداعيات الحرب شديدة التعقيد، بات من النادر أن تؤدّي الفرص القليلة السانحة لإحراز تقدّم على جبهات عدّة إلى تحقيق أي إنجاز يُعتدّ به.