يشاهد اللبنانيون برعبٍ إسرائيل وهي تواصل التدمير المُمنهَج للبلدات والقرى والأحياء في المناطق ذات الغالبية الشيعية في ضاحية بيروت الجنوبية والجنوب والبقاع، ويفكرون في الوقت نفسه في التداعيات الديموغرافية التي قد تنجم عن ذلك عند انتهاء الصراع.
استغّل خصوم حزب الله هذا الأمر لبثّ حالةٍ من الهلع داخل المجتمع اللبناني. فقد زَعَم شيخٌ شيعي مُعارِض للحزب في إطلالة تلفزيونية بأن حزب الله سيحاول، بعد الدمار الذي لَحِق بمناطق التركّز الديموغرافي الشيعي، إعادة بناء قدراته العسكرية في مناطق غير شيعية في لبنان. وهذه مسألةٌ تثير قلقًا بالغًا في نفوس الكثير من اللبنانيين لأنها تفسح المجال أمام احتمال اندلاع حربٍ أهلية. لكن قبل حمل سلاحنا أو حزم حقائبنا، فلنفكّك هذه الفكرة قليلًا.
ربما من الصائب الافتراض أن قيادة حزب الله وإيران تحضّران راهنًا خطة بديلة للصمود وإعادة بناء قدرات الحزب. ولكن من الصحيح أيضًا أن استراتيجية إسرائيل تهدف إلى ضمان أن يتمّ عزل الشيعة، أو بالأحرى أنصار الحزب داخل المجتمع الشيعي، في لبنان، وأن يصبح وجودهم في المناطق غير التابعة للحزب مصدرَ تهديد. وهكذا، يُحدث الإسرائيليون شرخًا بين النازحين الشيعة بمعظمهم وسائر فئات المجتمع اللبناني، وستفاقم هذا الوضع المطالب المتنامية في أوساط غالبية اللبنانيين بأن يوقف الحزب حربه مع إسرائيل. لكن ما يراه اللبنانيون فعليًا هو رغبة حزب الله في خوض الصراع إلى أجلٍ غير مسمّى، محاولًا الحفاظ على بقائه سياسيًا وعسكريًا، بدعمٍ من حلفائه الإيرانيين.
ولا بدّ من التساؤل: هل بإمكان حزب الله مواصلة حربه وسط عداء غالبية اللبنانيين الذين، حتى لو أنهم لا يكنّون أي تعاطفٍ مع إسرائيل، لا يرَوْن فائدةً تُجنى من هذه المذابح العبثية، في وقتٍ تعاني الطائفة الشيعية من عواقب الصراع المريرة؟ قد يردّ البعض بالإيجاب، لأن الحزب لا يكترث لرأي أبناء وطنه. وسيظلّ بقاؤه والأولويات الإيرانية دائمًا أهمّ من أي استياءٍ يُعبَّر عنه محليًا. قد يكون هذا صحيحًا، لكنه يعني أن الحزب يسمح لإسرائيل بالإمعان في تدمير بيئته الاجتماعية والاقتصادية التي لطالما كانت جوهر استقلاليته وقوته. ومن المستبعد جدًّا أن يتمكّن الحزب إعادة تشكيل ذلك في مناطق غير شيعية، على الأقلّ من دون أن يؤدّي الأمر إلى نشوب صراعٍ أهلي قد يغرق الحزب في حروب مصغّرة متعدّدة.
تطرّق أحد حلفاء حزب الله إلى نقطة ذات صلة في العام 2020، حين ألمَح إلى أن استجابة الحزب للانهيار المالي في لبنان لم تكن كافية. فقد حذّر أنيس النقاش في مقابلة أجرتها معه قناة الميادين الموالية لإيران، من أن الانخراط في المقاومة ينطوي على ما هو أكثر من العمليات العسكرية، إذ تَعيَّن على الحزب التفكير في تداعيات الأزمة الاقتصادية. وعلّل ذلك بالقول إن "الأمن القومي والوطني ليس محصورًا بالسلاح وبالدفاع بالسلاح. تعريفه […] يبدأ بالتعليم والاقتصاد والزراعة والصحة. والعمل العسكري جزءٌ أساسي منه ولكنه لا يكفي للدفاع عن الوطن".
أشار النقاش إلى أن قوة حزب الله يجب أن تنبع من قدرته على تشكيل قاعدة دعمٍ على جبهاتٍ كثيرة وإحاطة نفسه بمجتمعٍ له مصلحة في الدفاع عن حزب المقاومة ومؤسساته. لكن من الصائب أيضًا أن المجتمع المحيط بحزب الله يجب أن يمتلك الوسائل اللازمة لمساندة الحزب ماليًا ومعنويًا وسياسيًا وتزويده بالقوة البشرية.
لكن هل ما زال هذا الأمر ممكنًا اليوم؟ سيحافظ الحزب على ولاء طائفته في المستقبل المنظور، وهذا الشعور سيترسّخ إذا لقي وجود النازحين الشيعة مقاومةً في مختلف أنحاء لبنان، ما من شأنه تعزيز العصبية الطائفية. لكن الولاء يحمل أيضًا نصيبه من المسؤولية. فقد تعرّضت بيئة حزب الله الحاضنة للدمار والإفقار، وبات عليه الآن أن يرعاها، ومن المتوقّع أن يفعل ذلك. لذلك، سيبقى المجتمع الشيعي عبئًا كبيرًا يُثقل كاهل حزب الله في السنوات المقبلة، ما من شأنه جعل الجهود التي يبذلها الحزب لإعادة تشكيل قدراته العسكرية أصعب بكثير، ولا سيما في المناطق المعادية له.
علاوةً على ذلك، اقترف حزب الله أخطاء فادحة في الماضي من خلال انتهاك الكثير من الأعراف في العقد الاجتماعي الطائفي اللبناني. فقد اتُّهم بالضلوع في اغتيال شخصية سنّية كبرى هي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ونَشَر عناصره في سورية للقتال دفاعًا عن نظامٍ عارضه الكثير من السنّة، من أجل حماية المصالح الاستراتيجية لإيران الشيعية. كذلك، يحمّله الكثير من المسيحيين مسؤولية انفجار مرفأ بيروت، قبل أن يقتحم عناصره منطقة الطيونة المسيحية في تشرين الأول/أكتوبر 2021 لتقويض التحقيق في هذا الانفجار. إضافةً إلى ذلك، حاول الحزب فرض مرشّحه المسيحي الماروني لرئاسة الجمهورية، خلافًا لإرادة الغالبية العظمى من المسيحيين. إذًا، أثار الحزب مشاعر استياءٍ أينما كان، ومن الطبيعي أن يتوقّع حدوث ردود فعل قوية على أجندته، ربما من خلال حمل السلاح.
لكن، لنفترض نشوب صراعٍ طائفي يُغرِق لبنان مجدّدًا في حربٍ يخوضها حزب الله ضدّ مجموعة من الطوائف. هل ستسمح إيران للحزب بالوقوع في هذا الفخّ؟ إن تجربة منظمة التحرير الفلسطينية غنيّةٌ بالعبر. فقد أدّى انجرارها إلى براثن الحرب الأهلية في العام 1975 إلى إضعافها وتشتيت قواها. وهي تورّطت في الخصومات المحمومة بين القوى الإقليمية، ما استتبع بدايةً التدخل العسكري السوري في العام 1976، قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 لطرد الفلسطينيين من البلاد. يُشار إلى أن منظمة التحرير أبدت ندمها لاحقًا على انخراطها في الحرب، وقدّمت اعتذارًا علنيًا إلى اللبنانيين عن أي ضررٍ ألحقته بهم.
في حال اندلاع حربٍ أهلية جديدة في لبنان، من المؤكّد أن الكثير من الدول ستتدخّل لمساندة أعداء حزب الله، وليس أقلّها إسرائيل، للمساعدة في إلحاق الهزيمة بالحزب. ولا شكّ أن لبنان سيُدَمَّر، وسيخسر الجميع، لكن إيران لن تكون راضية عن النتيجة بشكلٍ خاص. لذلك، من الصعب تصوّر أن القادة في طهران سيعطون حزب الله الضوءَ الأخضر لاتّخاذ خطواتٍ من شأنها إشعال فتيل صراعٍ طائفي سيُلحق مزيدًا من الخراب بمجتمعٍ شيعي تكبّد أساسًا أضرارًا جسيمة.
في غضون ذلك، قد لا تكون إيران قادرة على تقديم الكثير من المساعدة لحزب الله ومناصريه. فإعادة تسليح الحزب بالتزامن مع إعادة إعمار المناطق الشيعية ستكلّفانها مليارات عدّة من الدولارات قد لا تستطيع تأمينها في ظلّ الضائقة الاقتصادية التي يشهدها الاقتصاد الإيراني. والأهم، على المسؤولين في طهران أن يتساءلوا عمّا إذا سيكون الاستثمار الكبير في حزب الله مجدّدًا أمرًا يستحق العناء حقًّا اليوم. فالحزب غير قادرٍ على جرّ مجتمع الشيعية إلى محنةٍ جديدة من الموت والدمار، نظرًا إلى تضاؤل قدراته العسكرية ربما لعقودٍ من الزمن. وينطبق الوضع نفسه تقريبًا على حركة حماس في غزة. هذا الواقع يفرض على الإيرانيين إجراء تقييم موضوعي لاستراتيجية "وحدة الساحات" الكارثية التي يتّبعونها، وما إذا كانت جديرةً بالإنقاذ حتى.
تتبادر إلى الذهن هنا فكرتان. في حال نشوب حربٍ أهلية متعدّدة الجبهات، هل سيكون حزب الله في موقعٍ يمنحه أفضلية؟ إن الانتشار الجغرافي للطائفة الشيعية اليوم يجعلها عرضةً للتهديدات. فثمّة مناطق ثلاث يتركّز فيها الشيعة وهي جنوب لبنان، والبقاع الجنوبي والشمالي، والضاحية الجنوبية لبيروت. في أفضل الأحوال، سيكون من الصعب الربط بينها في زمن النزاع، لأن المناطق التي تصلها ببعضها تقع ضمن دوائر نفوذ الطوائف الأخرى. لكن إذا حاول حزب الله، كما يدّعي بعض مروّجي الذعر، ترسيخَ وجودٍ له في مناطق غير شيعية لا يملك فيها حاضنة اجتماعية، فسيكون من الأصعب عليه بكثير خوض حربٍ، وتحديدًا حرب يعتبر أعداؤه أنها تنطوي على عواقب وجودية.
تخطر في البال فكرة ثانية أيضًا. ماذا عن الجيش اللبناني؟ نميل إلى نسيان أن في البلاد قوة مسلّحة قادرة على لجم الاضطرابات إذا لزم الأمر، بل إنها مستعدة حتى للتدخّل واستخدام قوتها النارية عند الضرورة للحفاظ على السلم الأهلي. وهذا تحديدًا ما فعلته خلال حادثة الطيونة، عندما منعت مسلّحي حزب الله وحركة أمل من التوغّل في الأحياء ذات الغالبية المسيحية. لا شكّ أن الجيش يدرك اليوم أنه أقرب ما يكون، منذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1990، إلى فرض سلطة الدولة (مهما كانت قاصرة) على المجتمع.
تلوح في أفق لبنان مشقّاتٌ كثيرة تُضاف إلى المصاعب الجمّة التي واجهها خلال السنوات الخمس الماضية. قلّةٌ هي الدول التي اضطرّت إلى تحمّل هذا الكمّ من الأزمات في مثل هذه المدّة القصيرة. لكن قصة التخويف الأخيرة بأن حزب الله يعيد تشكيل نفسه في المناطق غير الشيعية تُبسِّط، على نحو مضلِّل، مخطَّطًا بالغ التعقيد. فخلال السنوات المقبلة، سوف يصطدم حزب الله، في أفضل الأحوال، بجبلٍ من التحديات الذي يتعيّن عليه تسلّقه. ومن غير المرجَّح أنه يرغب في النهوض بهذه المهمّة وهو في حالة حربٍ مع سائر أقطاب المجتمع اللبناني.