أبيناو بانديا محلّل في شؤون السياسة العامة، متخصّص في قضايا مكافحة الإرهاب، والسياسة الخارجية الهندية، والجغرافيا السياسية لأفغانستان وباكستان. هو المؤسّس والمدير والرئيس التنفيذي لمؤسسة أوساناس (Usanas Foundation)، وهي مركز أبحاث بارز مقرّه الهند ويُعنى في الشؤون الأمنية والسياسة الخارجية. بانديا خرّيج جامعة كورنيل مع تركيز على الشؤون العامة، وحائزٌ على شهادة دكتوره من جامعة أو بي جيندال العالمية. هو أيضًا مؤلّف كتبٍ عدّة أحدثها يحمل عنوان Inside the Terrifying World of Jaish-e-Mohammad (داخل عالم جيش محمد المرعب) الصادر عن دار هاربر كولنز في العام 2024. أجرت "ديوان" مقابلة معه في مطلع تشرين الأول/أكتوبر لمناقشة العلاقات التي تربط الهند بالشرق الأوسط.
أرميناك توكماجيان: "الشرق الأوسط" مصطلحٌ يشير عمومًا إلى المنطقة الممتدّة ما بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، لكن ليس في الهند. أي تسمية تطلقون على هذه المنطقة، ولماذا؟
أبيناو بانديا: تشير وزارة الشؤون الخارجية في الهند إلى هذه المنطقة بتسمية غرب آسيا. وثمّة قسم خاص في الوزارة يحمل اسم غرب آسيا وشمال أفريقيا، لكنه لا يشمل إيران. يرى خبراء السياسة الخارجية والمؤرّخون في الهند أن مصطلح "الشرق الأوسط" يعبّر عن منظور أوروبي ويحمل دلالة استعمارية. وتعتبر وجهة النظر الأوروبية أيضًا أن دولًا مثل الهند والصين واليابان، إضافةً إلى بلدان أخرى في جنوب شرق آسيا، تشكّل الشرق الأقصى، وبالتالي ترى أن العالم العربي هو الشرق الأوسط. لكن من منظور الهند، تقع هذه المنطقة على الغرب منها، لذا نسمّيها غرب آسيا.
إن مصطلح "غرب آسيا" محبَّذٌ أكثر أيضًا لأنه يعبّر عن الروابط الحضارية والتجارية التي تجمع الهند بهذه المنطقة. فقد أقامت حضارة وادي السند علاقات تجارية مع مدينتَي دلمون (البحرين) ومجان (عُمان). وعُثر في سورية على نقوشٍ سنسكريتية ترقى ربما إلى السلالة الميتانية (بين 1500 و1350 قبل الميلاد)، ناهيك عن أن الأرقام الهندية وصلت إلى العالم العربي. وفي العصور الوسطى، احتلّ الغزاة المسلمون من غرب آسيا ووسطها أجزاء من الهند. كذلك، كان التأثير الفارسي قويًّا في بلاط المغول حيث كانت اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية.
توكماجيان: تُعدّ الهند خامس أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، ورابع أكبر دولة مستوردة للنفط، ناهيك عن أنها مُصدِّرة بارزة للتكنولوجيا والخدمات واليد العاملة. ما العوامل التي تحرّك السياسة الاقتصادية للهند في الشرق الأوسط؟
بانديا: أبرز العوامل التي توجّه سياسة الهند الاقتصادية في المنطقة تتمثّل في مخاوفها المتعلقة بأمن الطاقة والجالية الضخمة من العمّال الهنود في الشرق الأوسط. الهند هي ثالث أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم، وتعتمد على الاستيراد بنسبة كبيرة تزيد عن 85 في المئة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2021، تجاوزت قيمة واردات الهند من النفط الخام العراقي 3.1 مليارات دولار، ما نسبته 24.6 في المئة من واردات الهند من النفط الخام، وتلتها الواردات النفطية من المملكة العربية السعودية التي بلغت نسبتها 16.6 في المئة، ومن الإمارات العربية المتحدة التي سجّلت 12.5 في المئة. علاوةً على ذلك، كانت إيران أيضًا من أبرز ثلاث دول مورّدة للنفط إلى الهند. لكن دلهي اضطرّت، بضغطٍ من الولايات المتحدة بعد فرضها عقوبات على إيران، إلى اتّباع سياسة التنويع والبحث عن مصادر جديدة للنفط على غرار السعودية، والعراق، ونيجيريا، وأنغولا. وبعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، بدأت الهند باستيراد النفط الروسي بسعر مُخفَّض في محاولةٍ لتقليص فاتورة وارداتها النفطية. فارتفعت قيمة وارداتها من روسيا بشكل كبير مسجلةً أعلى مستوياتها على الإطلاق عند 4.5 مليارات دولار بحلول أيار/مايو 2023. مع ذلك، لا تزال واردات النفط من دول مجلس التعاون الخليجي تشكّل 50 في المئة من إجمالي واردات النفط الخام الهندية، وتسجّل واردات الغاز إلى الهند من هذه البلدان 70 في المئة، علمًا بأن قطر لا تزال أكبر دولة مُصدّرة للغاز إلى الهند. ويُرجَّح إلى حدٍّ كبير أن تبقى دول مجلس التعاون الخليجي أكبر مصدّرٍ للنفط والغاز إلى الهند، وأن تستمرّ في تأدية دور حاسم في أمن الطاقة في الهند.
أما في ما يتعلق بالجالية الهندية ، فيعمل حوالى 8.7 ملايين هندي، معظمهم من الشباب، في غرب آسيا ويشغلون في الدرجة الأولى مهنًا يدوية، وتتجاوز قيمة تحويلاتهم المالية 30 مليار دولار. يتواجد أكبر عدد من العمّال المهاجرين الهنود في الإمارات ويصل إلى 3.4 ملايين عامل، يليهم 2.6 مليون في السعودية، و1 مليون في الكويت، و750 ألفًا في قطر، و700 ألف في عُمان. يعمل القسم الأكبر منهم في قطاع البناء ولا سيما مشاريع البنية التحتية الضخمة، ثم في قطاعَي الرعاية الصحية والضيافة حيث يقوم الهنود في الدرجة الأولى بأعمال التنظيف والخدمة.
تسعى الهند أيضًا إلى تنويع علاقاتها الاقتصادية من خلال إقامة شراكات جديدة في مجالات التكنولوجيا، والطاقة المتجدّدة، والفضاء، والمجال السيبراني، والسياحة، والأدوية، والاستثمار في البنية التحتية. وفي سنة 2023 المالية، بلغ حجم التبادلات التجارية الثنائية مع السعودية 52.76 مليار دولار، ومع الإمارات 85 مليار دولار، ومع إسرائيل 4.42 مليارات دولار (من دون أن يشمل ذلك قطاع الدفاع)، ومع البحرين 1.7 مليار دولار. علاوةً على ذلك، وقّعت الهند اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة مع الإمارات في العام 2022، وتسعى الدولتان إلى تحقيق هدف وصول قيمة التجارة الثنائية غير النفطية بينهما إلى 100 مليار دولار بحلول العام 2030. في هذا الإطار، برزت الإمارات كرابع أكبر مَصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة في الهند، مُركّزةً بشكل كبير على البنية التحتية والمناطق الاقتصادية الخاصة.
توكماجيان: تحافظ الهند على علاقات مهمّة مع كلٍّ من إسرائيل وإيران، إذ تدعم حلّ الدولتَين في فلسطين وتدين في الوقت نفسه الهجمات الشرسة التي نفّذتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأيضًا الحرب الهمجية التي تشنّها إسرائيل على غزة. هلّا شرحت المنطق الكامن خلف هذه السياسة الخارجية؟ وكيف تستطيع الهند تحقيق هذا التوازن وسط الانقسام الحادّ السائد في عالمنا اليوم؟
بانديا: أولًا، بُعيد استقلال الهند عن بريطانيا في عهد جواهر لال نِهرو، كانت سياستها الخارجية تتّسم بنزعةٍ مثالية تأثّرت بقيم الهند الثقافية والحضارية، وبماضيها الاستعماري الذي أفضى إلى موقفها الداعم للفلسطينيين، ولا سيما أنها لم تكن تعترف بإسرائيل. وبين العامَين 1950 و1990، ظلّت الشريحة النافذة من الأكاديميين والخبراء الاستراتيجيين في الهند تعتبر إسرائيل قوة احتلالٍ للأرض الفلسطينية.
إضافةً إلى ذلك، تجنّبت الهند الانضمام إلى تكتّلات القوى العالمية مؤيّدةً مبدأ عدم الانحياز. وكان نِهرو ذا ميولٍ اشتراكية وتأثّر بالثورة البلشفية التي أدّت إلى قيام الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، أدّت هذه العوامل دورًا حاسمًا في تشكيل سياسته المناهضة لإسرائيل. مع ذلك، استمرّت العلاقات الأمنية والاستخباراتية غير الرسمية بين الهند وإسرائيل، بدءًا من ستينيات القرن الماضي. وفي الثمانينيات، بدأت الهند تواجه مشاكل أمنية داخلية كبيرة بسبب الأعمال الإرهابية المدعومة من باكستان في البنجاب وكشمير، ما زاد من ضرورة إقامة علاقات أقوى مع إسرائيل. وبحلول أوائل التسعينيات، تفكّك الاتحاد السوفياتي الذي جمعته علاقة جيّدة بالهند، فباتت دلهي بحاجةٍ إلى أصدقاء جدد، واعترفت بإسرائيل في العام 1994، ما عزّز بعدئذٍ العلاقات الإسرائيلية الهندية. وخلال حرب كارجيل التي اندلعت بين الهند وباكستان خلال الفترة الممتدّة من أيار/مايو إلى تموز/يوليو 1990، قدّمت إسرائيل دعمًا استخباراتيًا ودفاعيًا مهمًّا للهند.
ثانيًا، تستند السياسة التي تنتهجها الهند في غرب آسيا إلى عامل مهمّ، وهو مراعاة دلهي مشاعر ومعتقدات الأقلية المسلمة الكبيرة في البلاد. فالهند تحتلّ المركز الثاني في العالم من حيث عدد السكان المسلمين، الذي يُقدَّر بنحو 172 مليون نسمة، وتأتي بالترتيب بعد إندونيسيا التي يبلغ عدد سكانها المسلمين 209 ملايين نسمة. ويمثّل المسلمون في الهند ما نسبته 15 في المئة من سكان البلاد. وتشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى أن التعداد الفعلي ربما يتراوح من 225 إلى 230 مليون نسمة. وتُعدّ الغالبية العظمى من المسلمين في الهند معادية لإسرائيل بشدّة وتنظر إلى هذا الصراع باعتباره قضية إسلامية. وفي الآونة الأخيرة، نظّم المسلمون احتجاجات مناهضة لإسرائيل في مناطق مختلفة من الهند عقِب إقدام إسرائيل على اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله. هذا وتشهد الهند أساسًا انقسامًا طائفيًا حادًّا وجنوحًا نحو التطرّف، لذا من شأن إقصاء المسلمين بسبب موقفهم من القضية الفلسطينية أن يؤدّي إلى تداعيات أمنية خارجية وداخلية خطيرة تلقي بظلالها على البلاد.
لطالما دَعَت الأحزاب السياسية اليمينية، مثل حزب بهاراتيا جاناتا وحزب جان سانغ، إلى إقامة علاقات أقوى مع إسرائيل. وخلال حكومات حزب بهاراتيا جاناتا بقيادة كلٍّ من أتال بيهاري فاجبايي وناريندرا مودي، تعزّزت الروابط الهندية الإسرائيلية. وتستفيد الهند اليوم من التعاون الوثيق مع إسرائيل في المجالات الاستخباراتية والدفاعية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية. لكن حالة الانقسام بين الهندوس والمسلمين تزداد حدّةً باطّراد، والشرخ القائم بينهما آخذٌ في الاتّساع. يُشار إلى أن ناخبي حزب بهاراتيا جاناتا يتألّفون إلى حدٍّ كبير من الهندوس اليمينيين الذين يدعمون إسرائيل بشدّة، ولا سيما السياسات التي تنتهجها لمكافحة الإرهاب.
لذا، تُبدي الدوائر السياسية والمجتمع الاستراتيجي والجمهور العريض تأييدًا كبيرًا وحبًّا لإسرائيل، فيما يقتصر التعاطف مع فلسطين على المسلمين وشريحة ضئيلة من المثقفين والأكاديميين الهندوس اليساريين.
لكن على المستوى الدبلوماسي، تؤيّد الهند حلّ الدولتَين وتمتنع في الغالب عن التصويت على القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية. لم تصنّف الهند بعد حركة حماس في خانة التنظيمات الإرهابية، على الرغم من المطالبات الكثيرة بذلك نظرًا إلى الدعم الذي تحظى به إسرائيل والعلاقات التي أقامتها حماس مع جماعات إسلامية معادية للبلاد مثل الجبهة الشعبية للهند. لكن دعم الهند لحلّ الدولتَين يقتصر في الغالب على البيانات الرسمية ويفتقر إلى الجديّة التي كان يتمتّع بها قبل العام 1990، وبالتالي هو شكلي لا معنى حقيقي له. ثمّة ثقة وتفاهم قوي بين إسرائيل والهند يعوّضان عن الإزعاج الطفيف الذي يطرأ عندما تمتنع الهند عن التصويت في الأمم المتحدة بشأن فلسطين. إذًا، لا تسعى دلهي عمليًا إلى تحقيق توازنٍ بين فلسطين وإسرائيل، إذ مالت دفّة السياسة الخارجية الهندية بحكم الأمر الواقع نحو إسرائيل بالكامل.
وللهند أيضًا روابط حضارية وتاريخية مع إيران ترقى إلى العصور القديمة والعصور الوسطى. يُشار إلى أن التأثير القوي للنظام الإسلامي الإيراني على العدد الكبير من السكان الشيعة في الهند، واعتماد هذه الأخيرة على واردات النفط من إيران يدفعان دلهي إلى إقامة علاقات وديّة مع طهران. شكّلت الانفجارات التي وقعت سابقًا خارج السفارة الإسرائيلية في دلهي، وتورّط إيران المزعوم فيها، مصدرًا للاحتكاك بين الهند وإسرائيل، إذ لم يكن الإسرائيليون راضين عن جدّية وعمق التحقيق الذي أجراه الجانب الهندي. في المستقبل، ونظرًا إلى التوتّرات المتزايدة بين إسرائيل وإيران، ستواجه الهند صعوبةً في تحقيق التوازن بين البلدَين. يُضاف إلى ذلك أن العلاقات الهندية الإيرانية في ظلّ حكومة مودي القومية الهندوسية متشنّجة للغاية، وقد انتقد المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، الهندَ بسبب إلغائها الوضع الخاص لإقليم كشمير ومعاملتها للأقلية المسلمة في البلاد.
توكماجيان: كيف أثّرت الحرب الدائرة في غزة على مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، نظرًا إلى توتّر العلاقات بين إسرائيل من جهة، والأردن والسعودية والإمارات من جهة أخرى؟ وإذا أخذنا في الحسبان احتمال تخفيف حدّة هذه التوترات، مع أن انحسارها مستبعَدٌ في المستقبل القريب، هل ستنتظر الهند انتهاء الأزمة في الشرق الأوسط أم ستبحث عن حلٍّ بديل؟
بانديا: أبدت الهند حماسة كبيرة لمشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا لأنها تحتاج إلى طريق تجاري بديل. في الوقت الراهن، تجري حركة التبادلات التجارية من الهند إلى أوروبا عبر قناة السويس، وبالتالي من الممكن أن يشكّل هذا المشروع ممرًّا اقتصاديًا بديلًا ومكمّلًا للقناة. وبحسب الأرقام الصادرة عن المفوضية الأوروبية، من المرجّح أن يسهم المشروع في تقليص مدّة وصول البضائع بنسبة 40 في المئة وكلفة التبادلات التجارية بنسبة 30 في المئة. مع ذلك، تساور الهند شكوكٌ حول مستقبل الممرّ بسبب النزاعات المتنامية في الشرق الأوسط، ولأن معظم البنى التحتية الضرورية لم تُشيَّد بعد. كذلك، عبّرت الهند عن قلقها إزاء قناة السويس نظرًا إلى احتمال قيام جهات دولتية بإغلاقها وتعرّض سفن الشحن هناك لهجمات على أيدي جهات غير دولتية مثل الحوثيين.
دفعت هذه المخاوف الهند إلى البحث عن مشروع ممرٍّ استراتيجي بديل، هو ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يعبر إيران وأذربيجان وروسيا نحو أوروبا. لكن هذا المشروع ينطوي على تحديّات أخرى: فهو يعبر أذربيجان التي تربطها علاقات وثيقة مع باكستان، الخصم اللدود للهند، ومع تركيا التي تُعدّ داعمًا أساسيًا لباكستان في قضية إقليم كشمير. من الأفضل للهند أن يمرّ المشروع عبر أرمينيا المجاورة وليس عبر أذربيجان. علاوةً على ذلك، تبرز مخاوف وشكوك حيال مستقبل المشروع في ضوء تدهور العلاقات بين الدول الأوروبية وروسيا.
مع أن التصريحات الرسمية الهندية قلّما تتطرّق إلى هذا التشاؤم وغياب الجدّية وغموض السياسات المتعلقة بمشاريع الممرّات الاستراتيجية، يُذكر أن الهند لا تسعى راهنًا بشكلٍ حثيث وراء أيٍّ من هذه المشاريع، بل تولي أهمية أكبر للالتزامات الثنائية والمصغّرة. فقد وقّعت مثلًا اتفاقًا مدته عشر سنوات مع إيران لتطوير وتشغيل ميناء تشابهار الذي يطلّ على خليج عُمان ويتضمّن منطقة تجارة حرة.