من الأسئلة التي أفرزتها الحرب بين حزب الله وإسرائيل في لبنان سؤالٌ عن الدروس التي قد يقدّمها هذا الصراع للعلاقات بين الطوائف في البلاد. والسبب هو أن ما نشهده اليوم سبق أن رأيناه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
كانت القصة، مرارًا وتكرارًا، قصة غطرسة – رغبة الطوائف اللبنانية في التحالف مع قوة خارجية، واستخدام مثل هذه الروابط لفرض هيمنتها في الداخل. ما تعلّمَتْه كل طائفة هو أن النظام الطائفي في البلاد، بغضّ النظر عن مدى تقويضه الشعور بالهوية الوطنية وتوطيده طبقةً سياسية استغلّت العداوات الطائفية لإدامة سلطتها، لديه قواعد يجب على مختلف الأطراف احترامها وإلّا فستتحمّل عواقب ذلك.
مهما كان ما فعلته الطائفية، فهي أنشأت نظامًا تعدّديًا بطبيعته، حتى لو أن ديمقراطيته أبعد ما تكون عن الكمال. ولم تسمح هذه التعدّدية فحسب ببروز قياداتٍ سياسية متناحرة داخل كلّ طائفة من الطوائف اللبنانية (التي اندمجت في الكثير من الأحيان ضمن مركزَي قوة متنافسَين)، بل أوجدت أيضًا حاجزًا طبيعيًا ضدّ طموح أي طائفة بالهيمنة على نظيرتها. وعلى مدى نصف القرن الفائت، حاولت كل الطوائف الرئيسة في لبنان – السنّة والدروز والموارنة والشيعة – فرض إرادتها على الجميع، ولكن مساعي كلٍّ منها باءت بالفشل في نهاية المطاف. ويبدو أن المحاولة الشيعية تتعرّض لعملية تقويضٍ اليوم.
بذل السنّة والدروز خلال السبعينيات جهودًا مشتركة للتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية من أجل استبدال النظام السياسي اللبناني الذي كان منحازًا لمصلحة الطائفة المارونية، بنظامٍ جديد أكثر ملاءمةً لهم. ولم يحدث ذلك عن طريق مؤسسات الدولة اللبنانية، بل على نحو أشدّ تدميرًا عبر القتال في الشوارع، وخصوصًا خلال العامَين الأوّلَين من الحرب الأهلية اللبنانية 1975 و1976. وما إن استشعر الموارنة اتّجاه الأحداث حتى بدأوا بالتسلّح قبل العام 1975، ليُضاف هذا المكوّن بدوره إلى المزيج الخطير الذي انفجر في العام 1975.
وماذا كانت النتيجة؟ في العام 1976، تدخّل النظام السوري بقيادة حافظ الأسد عسكريًا في لبنان، خوفًا من أن يثير استيلاء منظمة التحرير الفلسطينية على البلاد ردَّ فعلٍ إسرائيليًا من شأنه أن يورّط سورية في حربٍ على غربها. ومع أن اللوم أُنحي لاحقًا على القيادة المارونية لدعوتها السوريين إلى دخول لبنان، حظيت هذه الخطوة أيضًا بدعمٍ إقليمي ودولي، وخصوصًا من جانب الولايات المتحدة، التي توسّطت في ما سُمّي باتفاقية "الخطوط الحمراء" بين سورية وإسرائيل. وقد بدأ الانتشار السوري بوقوع مواجهة قصيرة الأمد بين الجيش السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها، قبل أن يتصالح الجانبان بعد زيارة أنور السادات إلى القدس في العام 1977.
تكبّد حلفاء منظمة التحرير الفلسطينية اللبنانيون عواقب سلبية عمومًا. فقد أُحبطت رغبتهم في تغيير النظام، واغتال السوريون الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في آذار/مارس 1977، وفرضت دمشق لمدة ثلاثة عقود تقريبًا هيمنتها على السنّة والدروز. ومع أنها سمحت لاحقًا لشخصيةٍ سنّية، رفيق الحريري، بتولّي دورٍ بارزٍ في لبنان ما بعد الحرب، فقد أُبقي دومًا تحت رقابة مشدّدة، وفي العام 1998 غادر منصبه بعد أن فرض السوريون العماد إميل لحود رئيسًا للجمهورية. وكان احتواء الحريري من بين المهامّ الرئيسة التي كُلِّف بها لحّود، ولم تُردَم قطّ فجوة انعدام ثقة السوريين في هذه الشخصية السنّية البارزة.
وقد اتّبع الموارنة مسارًا مماثلًا في فترة 1981-1982، عندما تحالف زعيم القوات اللبنانية آنذاك بشير الجميّل مع إسرائيل قُبَيل اجتياحها في العام 1982. وكان هدف الجميّل أن يصبح رئيسًا للجمهورية، ونجح في ذلك، مع أنه سُرعان ما أدرك الثمن الذي سيدفعه مقابل وصوله إلى هذا المنصب على ظهر دبّابة إسرائيلية. في النهاية، لم يكن الأمر ذا أهمية كبيرة لأنه اغتيل بعد ثلاثة أسابيع في تفجير قنبلة، وكان منفّذ العملية حبيب الشرتوني، وهو عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وأعقبت ذلك سنواتٌ من الفوضى في صفوف القوات اللبنانية، خاضت الميليشيا خلالها سلسلةً من الصراعات على الخلافة، بالتوازي مع صراع الجبل الذي أسفر عن طرد عشرات آلاف المسيحيين من قضاءَي الشوف وعاليه في العام 1983، ومن المناطق الواقعة شرق صيدا في العام 1985. وبلغ تقهقر الموارنة ذروته في الحرب التي دارت رحاها بين القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع والجيش اللبناني بقيادة ميشال عون في العام 1990. مزّقت هذه الأحداث المجتمع المسيحي، إذ تسبّبت بهجرة عشرات آلاف المسيحيين من لبنان، فضلًا عن تراجع النفوذ الماروني، وهو أمرٌ لم تتعافَ منه الطائفة فعليًا حتى الآن.
من الملاحظات التي يمكن استخلاصها من هذه التجارب أن الطوائف، بعد أن تتلقّى ضربةً، تُنشئ علاقة مختلفة تمامًا مع الدولة. فقد أصبح السنّة، خصوصًا بعد أن منح اتفاق الطائف رئيس الوزراء المزيدَ من الصلاحيات، ينظرون إلى مؤسّسات الدولة باعتبارها تجسيدًا لقوّتهم الطائفية. ومع الموارنة، كان سير الأمور مختلفًا. ففي شباط/فبراير وآذار/مارس 1989، عندما حاول عون، الذي كان آنذاك رئيسًا للحكومة العسكرية، إغلاق الموانئ غير الشرعية التابعة للميليشيات، حظي بتأييد الكثير من أبناء وطنه باختلاف طوائفهم.
في الشارع المسيحي خصوصًا، ثمّة كثرٌ ممّن دعموا في السابق القوات اللبنانية، ثم أصبحوا يؤيّدون عون الذي رأوا فيه ممثّلًا للدولة التي كانوا يتوقون إليها خلال سنوات الحرب الأهلية. وحدثت هذه النقلة أيضًا لأنهم اعتبروا عون قائدًا مارونيًا قويًا، وبالتالي لم يهدّد التخلّي عن الميليشيا بالضرورة مكانةَ الطائفة. إذًا، احتضن الموارنة الدولةَ بالتزامن مع الحرب، أما تمسّك السنّة بالدولة فتجلّى بشكله الأوضح بعد انتهاء الحرب في العام 1990.
والسؤال اليوم، هل الطائفة الشيعية ماضيةٌ في مسارٍ مماثل؟ في أعقاب انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005، بدأ حزب الله بإرساء أُسس الهيمنة التي سيديرها نيابةً عن إيران. وبعد الحرب ضدّ إسرائيل في العام 2006، عزّز الإيرانيون دعمهم وزادوا حجم مساعداتهم العسكرية للحزب الذي بات أمينه العام حسن نصر الله يضطلع خلال العقد اللاحق بدور متنامٍ ضمن شبكة التحالفات الإقليمية الإيرانية الممتدّة من العراق إلى اليمن.
بلغ هذا الوضع ذروته في العام 2023 حين انخرط حزب الله في خطة حملت منذ البداية نُذر الكارثة، وهي استراتيجية "وحدة الساحات". والمقصود بذلك، إذا هاجمت إسرائيل أحد الفصائل المنضوية تحت لواء ما يُسمّى محور المقاومة التابع لإيران، فسيتحرّك سائر الأعضاء لمساعدته وتطويق إسرائيل عمليًا بحلقة نار. هدفت جبهة الإسناد التي فتحها حزب الله ضدّ إسرائيل في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بشكلٍ أساسي إلى تعزيز هذه الاستراتيجية بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، مع أن احتمال ألّا تجاريه إسرائيل في ذلك كان كبيرًا. أطلق الحزب هذا العمل الحربي من دون التنسيق أو الحصول على موافقة الدولة اللبنانية أو الطوائف الأخرى. وبمنتهى التكبّر والتهوّر، جرّ لبنان الذي لا يزال يرزح منذ 2019-2020 تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، إلى صراعٍ يعرف أن البلاد لا تستطيع تحملّه. قَبِلت إسرائيل خوض مواجهة محدودة لمدّة عامٍ تقريبًا، إلى أن شنّت هجومًا ضاريًا على حزب الله، أظهر أن معادلة الردع التي استند عليها هو وإيران كانت غير ناجعة إلى حدٍّ كبير.
منذ ذلك الحين وإسرائيل تُمعِن في التدمير المُمنهَج للمناطق ذات الغالبية الشيعية، على غرار ما فعلته في غزة خلال العام الماضي. فسوّت بالأرض مراكز شيعية في مختلف المناطق اللبنانية، واغتالت زعيم الحزب الكاريزماتي وخلفه المُحتمَل، وهجّرت أبناء المجتمع الشيعي بحيث وصل عدد النازحين إلى نحو 1.2 مليون شخص، ودمّرت عددًا كبيرًا من المؤسسات التي ساهمت في لُحمة الطائفة، وأحدثت تغييرًا كاملًا بالبيئة التي مارس فيها حزب الله سلطته. قد تحتاج الطائفة الشيعية عقودًا لتتعافى من الخراب الذي لَحِق بها اليوم. ومع أن حزب الله ما زال لديه آلاف المقاتلين ويحظى بدعم طائفة كبيرة، يبدو من المُستبعَد جدًّا، إن لم نقُل من المستحيل، أن يكون قادرًا على الانخراط في أي نشاط عسكري فعّال ضدّ إسرائيل خلال السنوات المقبلة، لأن تكلفة العدوان الإسرائيلي الراهن باهظة للغاية.
لن يتمكّن حزب الله من العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل 8 تشرين الأول/أكتوبر بعد انتهاء الحرب في لبنان، هذا إذا افترضنا أنها ستنتهي بشكل واضح. ويبدو أن الطوائف الأخرى غير مستعدّة بعد الآن للرضوخ إلى إملاءات الحزب. وتعني الخسائر البشرية المروّعة التي تتكبّدها الطائفة الشيعية أن قدرًا كبيرًا من اهتمام الحزب خلال السنوات المقبلة سوف ينصبّ على إدارة شؤون الطائفة وإعادة إحيائها، ما سيفرض عليه إقامة علاقة جديدة مع الدولة، فهي الوحيدة التي يُتوقَّع أن تسهم في تأمين المبالغ الطائلة اللازمة لإعادة إعمار المناطق الشيعية.
أشار بعض المسؤولين السياسيين إلى أن حزب الله قد يُضطرّ إلى الدخول في حوار بشأن سلاحه، وهو أمرٌ قاومه لغاية الآن. هذا غير مؤكّد بتاتًا اليوم في ظلّ مواصلة الحزب صموده في المعركة ضدّ القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان. لكن إذا فُرض على لبنان اتفاقٌ دولي ما، وأُفسح المجال أمام الجيش اللبناني لتطبيق القرار 1701، قد يكون الحزب أمام خيارَين، إما الموافقة على تسوية مماثلة بخصائصها كافة، أو خوض مواجهة مع الجيش وأي قوة دولية تدعمه، ومع الطوائف الأخرى التي لا تريد أكثر من نزع سلاح حزب الله وتسليمه للدولة.
هل من المرجَّح أن تتحقّق مثل هذه النتيجة؟ وهل ستمثّل لحظةَ الحقيقة للشيعة، مثلما فعلت الصدمات التي هزّت طوائف لبنانية في السابق وشكّلت عاقبةً لغطرسة السنّة، والدروز، والموارنة؟ وهل ستُعيد الشيعة إلى كنف الدولة؟ الزمن وحده كفيلٌ بالإجابة عن هذه الأسئلة، لكن حزب الله قد يُضطرّ مُرغمًا إلى الإقرار بأن استمراره في تجاهل قواعد المعادلة الطائفية قد يكبّده عواقب وخيمة، في وقتٍ تزداد عزلة أبناء الطائفة الشيعية، التي باتت تعتمد الآن أكثر من أي وقتٍ مضى على حسن نيّة سائر اللبنانيين.