شهدت الأسابيع الأخيرة من العام 2024 تطوّرَين بارزَين في المشهد الاقتصادي المصري. ففي 11 كانون الأول/ديسمبر، أعلن رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي أن الحكومة ستطرح عشرة شركات مملوكة للدولة، ومن ضمنها أربع شركات عسكرية، للخصخصة في العام 2025. وبعد نحو أسبوعَين على هذا البيان، أكّد صندوق النقد الدولي توصّله إلى اتفاقٍ على مستوى الخبراء يتيح لمصر الحصول على شريحة جديدة من الإقراض تبلغ 1.2 مليار دولار، شرط موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد.
غالب الظن أن صدور هذَين الإعلانَين في توقيتَين متقاربَين لم يكن مجرّد صدفة. فقد سبق أن أعلن مدبولي ووزراء آخرون عن الخصخصة الوشيكة للشركات المملوكة للدولة، ومن بينها شركات عسكرية، في محاولةٍ للتأثير على المفاوضات الدائرة مع صندوق النقد، تمهيدًا لإبرام اتفاقاتٍ بشأن قروض جديدة أو لإجراء الصندوق مراجعاتٍ حول مدى التزام مصر بتطبيق الشروط المُتّفَق عليها. لكن الأهم هو أن صندوق النقد وغيره من المؤسسات المالية الدولية والهيئات المانحة قد تكيّفت على ما يبدو مع الحضور الاستراتيجي للمؤسسة العسكرية داخل الاقتصاد المصري ودورها فيه.
يبدو صندوق النقد مستعدًّا لمجاراة الحكومة المصرية، على الرغم من إخفاقها على نحو ملحوظ في إجراء الإصلاحات الهيكلية اللازمة التي تضمّنها اتفاق القرض الأخير المُوقَّع في كانون الأول/ديسمبر 2022، والذي جرى تعزيزه من خلال زيادة الموارد المالية المتاحة بموجبه في آذار/مارس 2024. والأهم أن الحكومة تعهّدت بإدراج جميع الشركات المملوكة للدولة - بما في ذلك الشركات العسكرية - ضمن إطار موحّد للإدارة المالية والإبلاغ المالي بصورة شفّافة، ونشر تقارير سنوية ونصف سنوية شاملة ومفصّلة عن الإنفاق الضريبي، وإلغاء الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة، فضلًا عن تحسين الإجراءات الجمركية ومشاركة المعلومات.
لم يُبصر أيٌّ من هذه الوعود النور تقريبًا، باستثناء إزالة الإعفاءات الضريبية للشركات المملوكة للدولة – علمًا أن ذلك لم يُطبَّق على الشركات العسكرية. كذلك، يؤكّد مسؤولون في صندوق النقد والبنك الدولي في مجالسهم الخاصة أن الإبلاغ الضريبي المُقدَّم من الحكومة لا يزال أقلّ بكثير من المطلوب. ومن الواضح أيضًا أن إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي قد تجاهلت مناشدات صندوق النقد الدولي المتكرّرة منذ تفشّي جائحة كورونا بإبطاء وتيرة الإنفاق الضخم على مشروعات الأشغال العامة العملاقة التي تديرها المؤسسة العسكرية. على ضوء هذه النواقص مجتمعةً، تصبح عناصر كثيرة من البرنامج الإصلاحي المُتّفَق عليه عديمة الجدوى. مع ذلك، عمَد صندوق النقد إلى زيادة قيمة القرض الممنوح لمصر من 3 مليارات دولار مُتّفَق عليها أساسًا في العام 2022 إلى 8 مليارات دولار في العام 2024، ناهيك عن توفير شريحة تمويلية أخرى منه.
كيف يمكن إذًا تقييم مقرضٍ يدّعي أنه يروّج للإصلاح الاقتصادي الهيكلي، ومع ذلك يرضى مرارًا وتكرارًا بإجراءات سطحية هي أقرب إلى سراب؟ تشير حقيقة أن الحكومة المصرية أثارت الكثير من الضجة حول جهودها الرامية إلى خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة على مدى السنتَين الماضيتَين، مع أن صندوق النقد لم يلحّ على ذلك، إلى أن عملية الخصخصة المحدودة عبارة عن وسيلة إلهاءٍ لجأت إليها السلطات لحجب تمنّعها عن إجراء إصلاحات هيكلية. وعلى المنوال نفسه، فإن الحديث عن طرح حصص حفنةٍ من الشركات العسكرية أمام القطاع الخاص هو بالمثل تشتيتٌ للانتباه عن التحدّي الحقيقي الكامن في تحقيق الشفافية المالية لجميع الشركات العسكرية – التي يتجاوز عددها 70 شركة حتى الآن – ومشروعات الأشغال العامة التي تديرها المؤسسة العسكرية. كذلك، لم يتمّ فعليًا طرح سهمٍ واحد من أسهم الشركات العسكرية في البورصة المصرية بعد مرور ثماني سنوات على اقتراح ذلك للمرة الأولى.
من المنصف القول إن الحكومة المصرية تفتقر إلى السطوة السياسية اللازمة لفرض رقابتها المالية على الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية القويّة، حتى لو كانت تريد ذلك حقًا. لقد أدرك صندوق النقد هذا الأمر منذ البداية، وكان إنجازًا يُشهد له أنه نجح في حمل الحكومة المصرية على الاعتراف رسميًا بأن الشركات العسكرية تُصنّف في خانة الشركات المملوكة للدولة، وبالتالي يجب تصحيح أوضاعها المالية. لكن الضغط من أجل اتّخاذ إجراءات أكبر من ذلك بكثير كان ليشكّل محاولةً مفرطة الطموح ومصيرها الفشل بالنسبة إلى الصندوق، فلم يكن مُرجَّحًا بطبيعة الحال أن يستخدم رصيده السياسي المحدود للإصرار على إحراز تقدّم معيّن في ما يتعلّق بالشركات العسكرية، أو لجعل الإصلاح شرطًا أساسيًا ينبغي استيفاؤه لصرف تمويلٍ إضافي للحكومة ضمن برنامج القرض.
يشدّد مسؤولون في صندوق النقد في مجالسهم الخاصة على ضرورة إدراج الشركات العسكرية ضمن الإطار الموضّح في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية التي أرفقتها الحكومة المصرية مع اتفاق القرض للعام 2022. لكن المغزى الفعلي لتشديدهم اللفظي هذا غير واضح. يُعدّ البنك الدولي طرفًا ثانويًا في هذا الصدد، مع أنه أول من عبّر علنًا عن مخاوفه بشأن دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد في العام 2020. لكن بعض خبرائه يجادلون في المجالس الخاصة لصالح اتّباعٍ النهج القائل "إذا لم تستطع التغلّب عليهم فانضمّ إليهم": أي، بما أن إحداث تغييرٍ حقيقي في مكانة الشركات العسكرية يبدو مستحيلًا، من الأفضل تزويدها بالمساعدة التقنية على أمل تحسين كفاءتها وفعاليّتها في السوق، وبالتالي مواءمتها في نهاية المطاف مع معايير الممارسة الفضلى. في مقابل ذلك، يُلاحَظ أن رئيس صندوق مصر السيادي قدّم استقالته من منصبه في آب/أغسطس 2024 بسبب إقدام المؤسسة العسكرية طوال خمس سنوات تقريبًا على عرقلة مساعيه الرامية إلى تهيئة أيٍّ من الشركات العسكرية لطرح أسهمها في البورصة أو عرضها في عمليات بيع خاصة على ما يُعرَف بـ"المستثمرين الاستراتيجيين". لذا، يبدو واهمًا اعتقاد الخبراء الدوليين أن بإمكانهم تحقيق نتائج أفضل.
في أيّ حال، تجعل التحوّلات في الاقتصاد المصري هذه الأسئلة كلّها بلا جدوى. فلم تتنامَ الحصة الاقتصادية الإجمالية للمؤسسة العسكرية فحسب، بل تعاظَم أيضًا دورُها المباشر في صنع السياسات والقرارات الاقتصادية. إن كبار الضباط، مثل المستشار المالي لرئيس الجمهورية، أو وزيره المفوّض كامل الوزير، الرئيس السابق للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، الذي يُطرَح اسمه حاليًا كمرشّح محتمل لتولّي منصب رئيس الوزراء، يتمتّعون بنفوذ أعظم من نفوذ معظم وزراء الحكومة في ما يتعلّق باستراتيجيات الاستثمار العام. يُضاف إلى ذلك أن كبار القادة العسكريين يحضرون جميع الاجتماعات التي يعقدها الرئيس لمناقشة القضايا الاقتصادية، فيما تضطلع الهيئات العسكرية بأدوارٍ جديدةٍ في إدارة استيراد السلع الأساسية مثل القمح.
إذًا، إن الحديث عن تحسين الحوكمة الداخلية والإدارة المالية في الشركات العسكرية يغفل جوهر القضية إلى حدٍّ كبير. كان لا يزال من المُبرَّر، حتى وقتٍ قريب، أن يتعامل صندوق النقد والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية مع الوضع الخاص للشركات العسكرية في الاقتصاد المدني بوصفه جزءًا من المشاكل الهيكلية الأوسع في الاقتصاد السياسي المصري. لكن الاقتصاد العسكري بلغ كتلة حرجة تجعل هذه المقاربات غير كافية على الإطلاق. والأهمّ من ذلك أن هذا التطوّر يعني أن الإطار الوحيد المُجدي لتوجيه السياسات والمساعدات الدولية هو الإصلاح الهيكلي على النطاق الشامل الذي وعدت به الحكومة المصرية في مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية.
طرحت المذكّرة رؤيةً للتغيير كانت لتكون ثوريةً لو طُبّقَت. لكن صندوق النقد الدولي لم يَعُد ليشير إلى المذكّرة مذّاك الحين، بل ركّز عوضًا عن ذلك على وثيقة سياسة ملكية الدولة التي أصدرتها الحكومة المصرية في أواخر العام 2022 باعتبارها المعيار الأساسي لبرنامج القروض الخاص به. والواقع أن هذه الوثيقة لم تتجاهل فحسب مسألة أنشطة المؤسسة العسكرية في المجال المدني، بل توخّت أيضًا التضليل من خلال حرف النقاش السياسي من الإصلاح الهيكلي إلى الملكية. وبالفعل اختُزِلَت سياسة ملكية الدولة إلى بيانٍ ينادي بملكية الدولة وتدخّلها في الاقتصاد على نطاق واسع، بل وبشكلٍ متزايد في بعض الحالات. تفتقر الوثيقة بشكل جوهري إذًا إلى المقوّمات التي تجعلها مخطّطًا للإصلاح الهيكلي.
ما فعله صندوق النقد، والبنك الدولي، ومؤسسات مالية دولية أخرى، مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، كان أكثر بكثير من مجرّد السماح بتلاشي قضية الشركات العسكرية، بل إن هذه المؤسسات تخلّت عن التزامها الحقيقي برؤية الإصلاح الهيكلي يتحقّق في مصر. ربما تدرك فِرَقُها القطرية بشكل واضح التباينَ بين الخطاب والواقع في الدول المتلقّية للمساعدات مثل مصر، إلّا أن مجالسها التنفيذية تخدم في المقام الأول أجندةً سياسية، تتأثّر إلى حدٍّ كبير، في حالة صندوق النقد الدولي، بالإدارة الأميركية القائمة. وقد تعلّم الخبراء التقنيون في صندوق النقد بعد تجارب مريرة أن إقناع السلطات المصرية بـ"نقل تمثال أبو الهول إلى الناحية الأخرى من هرم خوفو أسهل من إقناع الحكومة بالوفاء بالتزاماتها في ما يتعلّق بالإبلاغ الضريبي"، على حدّ تعبير أحد الخبراء المخضرمين. ولكن مجلس إدارة صندوق النقد، بقبوله هذه النتيجة أو التغاضي عنها، إنما يساعد السلطات المصرية ويشجّعها على الاستمرار في إعادة تشكيل الاقتصاد المصري بطرقٍ تتعارض تمامًا مع أهداف الصندوق المُعلَنة.