المصدر: Getty
مقال

وقائع لا مفرّ منها في لبنان

فيما تستعدّ البلاد للانتخابات الرئاسية، يُعدّ هامش المناورة المتاح أمامها ضيّقًا للغاية.

نشرت في ٩ يناير ٢٠٢٥

السؤال الأهم في لبنان اليوم هو من سيفوز بالانتخابات الرئاسية في 9 كانون الثاني/يناير. لا شكّ في أن المرشّح الأساسي هو قائد الجيش جوزيف عون، الذي يحظى على ما يبدو بدعم المجموعة الخماسية التي تعقد منذ سنتَين اجتماعاتٍ حول الملفّ اللبناني - وهي الولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية، وقطر، ومصر. وقد نقل الموفد السعودي يزيد بن فرحان موقف المجموعة المؤيّد لترشيح عون الأسبوع الماضي، وعبّر عن ذلك أيضًا مبعوث الرئيس الأميركي الخاص آموس هوكستين.

ينطوي انتخاب عون على تعقيداتٍ جمّة، لكنها تبقى أقل بكثير من مطالبة الكتل المتناحرة في مجلس النواب بالتوصّل إلى توافق حول مرشّحٍ بديل، خصوصًا إذا عنى ذلك مجافاة الأميركيين والسعوديين. لذا، وحتى إشعارٍ آخر، لا يزال قائد الجيش المرشّح الأوفر حظًّا، وكل ما نشهده في هذه المرحلة من نشاطٍ متعلقٍ بالانتخابات هو عبارة عن مناورات تجريها القوى السياسية اللبنانية لمعرفة المكاسب التي يمكن أن تنتزعها من الصفقة حول عون. مع ذلك، ثمّة احتمالات أخرى لا تزال واردة، وعون ليس بالضرورة المرشّح الوحيد الذي قد يحظى بفرصة انتخابه رئيسًا. لكن ثمّة وقائع يجب أخذها في الحسبان عند تقييم حصيلة الانتخابات، ولا يمكن تجاهلها بصرف النظر عمّن سيفوز بالرئاسة في نهاية المطاف.

الواقع الأول هو أن الكثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تنظر إلى الانتخابات الرئاسية باعتبارها امتدادًا لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701 وتوطيد أركان النظام اللبناني في مرحلة ما بعد حزب الله. لقد خلّفت هزيمة حزب الله في الصراع الأخير مع إسرائيل فراغًا، ويبدو أن الأميركيين وسائر أعضاء المجموعة الخماسية يعتقدون أن الجيش اللبناني هو الوحيد الذي يستطيع ملأه، لا بل ينبغي عليه ذلك. يُضاف إلى ما سبق أن عون، الذي يُعدّ قائدًا ذا مصداقية عالية، قد تجاوز سنّ التقاعد، وبالتالي إذا كانت النية إبقاءه منخرطًا في اللعبة السياسية، فيجب التوصّل إلى آليةٍ ما تسمح بذلك.

يبدو أن المجموعة الخماسية خلُصت إلى أن الرئاسة تشكّل هذه الآلية. فبهذه الطريقة، سيكون عون قادرًا على ممارسة نفوذٍ مستمرّ على القوات المسلحة والشبكات التي يسيطر عليها لضمان تنفيذ الجيش القرار 1701. وعلى القدر نفسه من الأهمية تقريبًا، سيؤدّي عون في موقع رئاسة الجمهورية دورًا أساسي في تعيين خلفه في قيادة القوات المسلحة، ما يضمن استمرارية قدرة الجيش على ملء الفراغ الأمني الذي خلّفه حزب الله.

إن تطبيق القرار 1701 ضروريٌّ للبنان أيضًا. فاتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصّل إليه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي (وهو فعليًا صكّ استسلام) يمنح إسرائيل حرية التدخّل عسكريًا داخل لبنان في حال حدوث أي خروقات لاتفاق وقف إطلاق النار من جانب حزب الله. وقد أتاحت الولايات المتحدة ذلك لإسرائيل في وثيقة جانبية، ومن المتوقَّع أن يقوم الإسرائيليون في عهد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتفسير ذلك بصورة فضفاضة أكثر ممّا يفعلون راهنًا حتى. يصادف الموعد النهائي لانسحاب القوّات الإسرائيلية من جنوب لبنان بعد 20 كانون الثاني/يناير، وهو موعد تسلّم ترامب سدّة الرئاسة، لذا إن وجد الإسرائيليون أعذارًا لمواصلة احتلال الأراضي اللبنانية بعد هذا التاريخ، فسيلقون بالتأكيد آذانًا صاغية في واشنطن.

قد يفترض المرء أن كلّ ما سبق يجعل حزب الله معاديًا بوجهٍ خاص لترشيح جوزيف عون، وبالتالي غير مستعدٍّ لتحسين حظوظه الانتخابية. لا شكّ في أن الحزب يساوره القلق من قائد الجيش، لكن خياراته محدودة. يُعزى سبب ذلك إلى أن الانتخابات تنطوي على واقعٍ ثانٍ لا يمكن لحزب الله تجاهله: وهو الحاجة إلى ضمان تجدُّد الاهتمام الخليجي بلبنان، إذ من غير الواضح في ظلّ غياب هذا الدعم، مَن سيموّل تكاليف إعادة الإعمار، أو جزءٍ منها، بعد الدمار الذي طال الأحياء والقرى والبلدات الشيعية خلال الصراع الأخير مع إسرائيل.

ما من مؤشرات تدلّ على أن إيران، باقتصادها المأزوم، ستكون قادرةً على تأمين مليارات الدولارات اللازمة لإعادة إعمار ما تهدّم، ولا سيما أن هذه الخطوة لا تحظى بالشعبية إلى حدٍّ كبير في الجمهورية الإسلامية. سيتعيّن على الإيرانيين على الأرجح، بعد خسارة نفوذهم في سورية، إعادة تقييم استراتيجيتهم الإقليمية، إذ من غير المنطقي منح لبنان مبالغ مالية طائلة قد يكون من الأفضل صرفها محليًا. لقد خصّصت إيران بعض التمويل لتمكين الناس من استئجار شققٍ لمدّة سنة. لكن هذا الأمر يجب أن يثير قلق مناصري الحزب، إذ كشف ربما محدودية ما تستطيع طهران تقديمه.

إذًا، إن حزب الله ليس في موقعٍ يسمح له بمجافاة السعوديين. فمن غير المحتمل على ما يبدو أن ينشقّ القطريون، الذين اضطلعوا بدور محوريّ في تمويل إعادة الإعمار عقب حرب العام 2006، عن بقية أعضاء المجموعة الخماسية، ولا سيما السعودية، ويموّلوا بمفردهم عملية إعادة إعمار المناطق الشيعية. وهذا يضع حزب الله في مأزق، لأنه يدرك أنه ما لم يتمكّن من تعويض أنصاره عمّا فقدوه، فسيشهد تآكلَ قبضته على المجتمع الشيعي. وإذ أصبحت سورية الآن أولويةً للمساعدات الخليجية، سيواجه لبنان في جميع الأحوال صعوبةً في تأمين التمويل الخليجي. إذا كان جوزيف عون هو الممرّ الضروري الذي يتيح ذلك، فقد ينظر إليه حزب الله على أنه أهون الشرَّين.

وثمّة أمرٌ آخر أيضًا يتعلّق بحزب الله والطائفة الشيعية عمومًا. مع شعور الطائفة السنّية في لبنان باستعادة حيويّتها بعد سقوط نظام الأسد في سورية، سيكون من المهمّ لحزب الله أن يحظى بدعم الدولة، والقوات المسلحة على وجه الخصوص، للسيطرة على التداعيات المحتملة. قد يكون الحزب سعى إلى تهميش المؤسسة العسكرية على مدى العقود الماضية، ولكن مع مواجهة مجتمعه أمثلةً على إعادة تأكيد النفوذ السنّي، خصوصًا من جانب الجماعات الإسلامية، سيحتاج إلى دعم جيشٍ حازمٍ لتجنّب الخلافات الداخلية والصراع الطائفي. ولذا، قد تكون رئاسة عون ضمانةً لمثل هذا الحزم من القوات المسلحة.

والواقع الثالث هو، بصورة أعمّ، أن المجتمع الدولي سَئِم تمامًا من الطبقة السياسية اللبنانية وسياساتها التي وصلت إلى طريق مسدود. قد لا يكون الرئيس الجديد قادرًا على اجتراح المعجزات، ولكن مع وجود الجيش إلى جانب عون، سيكون لهذا الأخير على الأقلّ نفوذٌ أكبر من مرشّح تسويةٍ ضعيفٍ تفضّله القيادات الطائفية. وثمّة قضايا يرغب أعضاء المجموعة الخماسية في حصول تقدّمٍ فيها، بدءًا من الإصلاح المالي والاقتصادي، والحدّ من الإتجار بالكبتاغون، وصولًا إلى توطيد سلطة الدولة على طول الحدود مع سورية وإسرائيل. من المفهوم أن زعماء الطوائف لا يستسيغون أيَّ تحدٍّ لوضعهم الراهن، ولكن من منظور الدول الأجنبية، إن وجود مُحاوِرٍ موثوقٍ به في بيروت، يفتح الباب أمام تغيير الأمور، هو أفضل من استمرار الوضع القائم. ومن شأن العديد من اللبنانيين الذين رأوا قادتهم عاجزين تمامًا عن معالجة الانهيار المالي في العامَين 2019-2020، أن يتبنّوا الرأي نفسه.

ستبقى هذه الوقائع قائمة، أيًّا يكن ما يفضّله حزب الله وزعماء الطوائف، وأيًّا تكن أجنداتهم السياسية. لقد استسلم لبنان لشكلٍ من أشكال الوصاية الموهِنة في السنوات الأخيرة، وهو أمرٌ لم يكن واضحًا للغاية لفترة طويلة، باستثناء الدور الاستشاري الذي اضطلعت به المجموعة الخماسية حيال ملفّ الرئاسة. ولكن في ظلّ هزيمة حزب الله، والتغييرات الهائلة التي شهدها المشرق، فرض واقعٌ جديدٌ نفسه على البلاد. فالقوى الإقليمية والدولية تعتزم إخضاع لبنان لرؤيتها الجديدة للمنطقة. وبينما قد تعرقل القوى المحلية هذا التوجّه مؤقّتًا، من المستبعد للغاية أن تتمكّن من إيقافه.

يوحي هذا الوضع بأن الأطراف الإقليمية والدولية ستنال في نهاية المطاف مبتغاها في لبنان. ولكن لنفترض للحظةٍ أن جوزيف عون لم يُنتخَب، وأن السياسيين المحليين فرضوا أنفسهم ضدّ تحالف إقليمي ودولي لديه فكرة واضحة عمّا يريده للبلاد. في هذه الحالة، قد تكون تكلفة النجاح باهظة، سواء من ناحية تعاظم السلوك الإسرائيلي العدائي، أم غياب المساعدات المالية، أم حتى توتّر العلاقات الطائفية، وهذا أمرٌ لا يستطيع أيٌّ من السياسيين اللبنانيين تجاهله مهما رغبوا في ذلك.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.