شهدت منطقة الخليج منذ العام 2011 ارتفاعًا كبيرًا في حجم عمليات الإتجار بالمخدّرات وتطوّرت الأساليب المستخدمة فيها على نحو ملحوظ. وازدادت بشكل خاص إمدادات الكبتاغون، وهي مادة مخدّرة تتكوّن من الأمفيتامين والثيوفيلين، ويشكّل تعاطيها آفةً تهدّد الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي. لكن المشكلة ليست محصورة بالجريمة المنظمة فحسب، بل تتعدّاه لتؤثّر على المجال السياسي أيضًا. فقد استخدم نظام الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه الإتجار بالكبتاغون كورقة للضغط على دول الخليج، من أجل إعادة سورية إلى الحضن العربي وانتزاع تنازلات تسمح للنظام بتعزيز موقعه بعد ثلاثة عشر عامًا من الصراع.
لكن، حتى هذا الأمر قد لا يكون كافيًا للحدّ من إمدادات الكبتاغون، إذ إن إنتاج هذه المادة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصالح مجموعات نافذة في سورية، بما فيها كبار المسؤولين في القيادة. ومن أجل ضمان تعاون نظام الأسد، ينبغي أن تكون التنازلات الخليجية كبيرة، وأن تلبّي حاجات النظام الماسّة إلى الموارد المالية، والمساعدات اللازمة لإعادة إعمار سورية، فضلًا عن الدعم السياسي في وجه المطالب الغربية بتغيير النظام، على الأقل هذا ما يطمح إليه النظام السوري. لكن حتى إذا تَحقَّق ذلك، يبقى من الضروري تذليل العقبات الخارجية التي تحول دون إبرام اتفاق، إلّا أن هذا الأمر يبدو مستبعدًا في المستقبل المنظور. ومن غير المتوقَّع إحراز تقدّم يُذكر في حلّ هذه المسألة من دون تنفيذ رزمة شاملة من الإجراءات التي تُعالج مختلف أبعاد تجارة الكبتاغون والأزمة الأوسع نطاقًا التي تعصف بسورية.
تهديدٌ مُحدِقٌ بالمجتمعات الخليجية
يوم 23 نيسان/أبريل 2022، أقدم رجلٌ من محافظة القطيف في المنطقة الشرقية من السعودية على إضرام النار داخل منزله بسكب مادة البنزين، ما أدّى إلى وفاة أربعة من أفراد أسرته. وتبيّن في التحقيق أن الجاني، وهو في العشرينيات من العمر، قد ارتكب الجريمة تحت تأثير تعاطي الشبو، وهو مخدّر شبيه في مفعوله إلى الكبتاغون، فكلاهما ينتميان إلى المادّة نفسها، وهي الأمفيتامين.
هذه الحادثة هي مجرّد مثالٍ واحد على الأضرار التي يُلحقها الكبتاغون بحياة الناس في المملكة. تُعدّ السعودية الوجهة الأساسية التي يستهدفها مهرّبو الكبتاغون من بين دول الخليج، بسبب سوقها الكبير واقتصادها الضخم وحدودها الشاسعة مع كلٍّ من الأردن والعراق. وذكر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدّرات والجريمة أن أكثر من نصف إجمالي كميات الكبتاغون التي تمّ ضبطها في المنطقة بين العامَين 2012 و2021، ونسبتها حوالى 67 في المئة، كانت في المملكة، ما دفع بعض وسائل الإعلام الدولية إلى وصفها بأنها أهم أهداف مهرّبي المخدّرات وجائزتهم الكبرى في الشرق الأوسط على الإطلاق.
بدأ تصنيع الكبتاغون في شركة الأدوية الألمانية "ديغوسا فارما غروب" (Degussa Pharma Gruppe) في العام 1961، كبديل لمادّتَي الأمفيتامين والميثامفيتامين، اللتَين كانتا تُستخدمان آنذاك لعلاج حالات النوم القهري (التغفيق) والإعياء والاضطرابات السلوكية. لكن تبيّن لاحقًا أن الكبتاغون يسبّب الإدمان الشديد ويُلحق الضرر بصحة الفرد العقلية والبدنية، وبحلول ثمانينيات القرن العشرين جزم المجتمع الطبي بأن مخاطره تفوق فوائده، فتمّ حظره حول العالم.
وعلى الرغم من الحظر، استمر تصنيع الكبتاغون بصورة غير مشروعة في أوروبا الشرقية ولاحقًا في العالم العربي، وشاع استخدامه خلال الحرب في سورية بعد العام 2011. اشتهر الكبتاغون بأنه "مخدّر الجهاديين" أو "كوكايين الفقراء"، وهو يسهم في زيادة الانتباه والتركيز ويؤخّر الشعور بالنعاس والجوع، ما يفسّر نوعًا ما شعبيته في أوساط المقاتلين الذين كانوا يحتاجون إلى البقاء في حالة يقظة وتأهّب. مع ذلك، يمكن أن يسبّب تعاطي الكبتاغون أيضًا التشوّش الذهني والهلوسة، ما يقوّض قدرة الأشخاص على التحكّم بتصرّفاتهم واتّخاذ قرارات سليمة.
صحيحٌ أن تعاطي المخدّرات في السعودية ودول الخليج ليس ظاهرة جديدة، إلّا أنه لم يطرح مشاكل اجتماعية جسيمة إلى حين انتشار الكبتاغون. أشار تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدّرات والجريمة في العام 2023 إلى أن سورية ولبنان هما نقطة الانطلاق الأساسية لشحنات الكبتاغون المتدفّقة نحو دول الخليج. وقد دفع ذلك المملكة إلى اتّخاذ قرار حظر استيراد كافة المنتجات اللبنانية في العام 2021 لكبح تهريب المخدّرات. وفي آب/أغسطس 2022، كشف السفير السعودي في بيروت أن سلطات المملكة صادرت أكثر من 700 مليون حبّة كبتاغون هُرِّبت إلى أراضيها من لبنان منذ العام 2014. وخلال العام نفسه، ضبطت السلطات السعودية 46 مليون حبّة في شحنة من الدقيق إلى الرياض. وفي كانون الأول/ديسمبر 2022، تمّت مصادرة أكثر من 2.9 مليون حبّة كبتاغون في منفذ الحديثة البرّي على الحدود مع الأردن ومنفذ الربع الخالي على الحدود مع عُمان.
يستخدم المهرّبون النقل البرّي كما البحري لتصدير حبوب الكبتاغون، ويختارون أحيانًا مسارات تمرّ عبر أوروبا، ناهيك عن أنهم لجأوا إلى شتّى أنواع الأساليب لإخفاء هذه المادة. فعلى سبيل المثال، تمكّنت هيئة الزكاة والضريبة والجمارك السعودية في آذار/مارس 2023، من إحباط محاولة تهريب 3.3 ملايين حبّة كبتاغون في ثلاث شحنات – عُثِر على إحداها مُخبّأة في تجويف إطارات شاحنة في ميناء ضباء على البحر الأحمر، والثانية في خزان الهواء الخاص بشاحنة في الميناء نفسه، والثالثة في شحنة خضار وفواكه في منفذ الحديثة الحدودي. وفي نيسان/أبريل 2023، عُثر على 12.7 مليون حبّة كبتاغون مخبّأة داخل شحنة فاكهة الرمّان في ميناء جدّة، وفي الشهر الذي تلاه تمّ ضبط 8.3 ملايين حبّة كانت مخفيّة داخل شحنة مبيّض قهوة في الرياض. وفي كانون الثاني/يناير 2024، صادرت السلطات 841 ألف حبّة مخبّأة داخل صناديق حديدية في شاحنة عند معبر الحديثة، وأحبطت في آذار/مارس الفائت محاولة تهريب أكثر من مليون حبّة كبتاغون في ميناء ضباء، كانت مخبأة في شحنة فاكهة الشمّام.
وعلى الرغم من عدم توافر بيانات رسمية جديدة حول تعاطي الشباب للمخدّرات في المملكة، صرّح أمين عام اللجنة الوطنية لمكافحة المخدّرات السعودية في العام 2015 أن معظم مدمني المخدّرات في المملكة تتراوح أعمارهم بين 12 و22 عامًا. لا بدّ من إجراء المزيد من الأبحاث لدراسة العوامل التي تدفع الشباب السعودي إلى تعاطي الكبتاغون، لكن الأدلة المتناقلة تشير إلى أن الطلاب مثلًا يتناولون هذه المادة لمساعدتهم في التأقلم مع الامتحانات؛ بينما يستخدمها العمّال لتعزيز قدرتهم على العمل لفترة أطول وزيادة إنتاجيتهم؛ ويلجأ البعض إلى تعاطي الكبتاغون كعقارٍ ترفيهي، بسبب شعورهم بالملل، أو نتيجة ضغط الأقران، أو لمجرّد القيام بتجربة جديدة.
نظرًا إلى خطورة آفة الكبتاغون على المجتمع، حاولت السلطات السعودية محاربتها بشتّى الطرق، علمًا أنها أعطت الأولوية للحلول الأمنية. ففي أيار/مايو 2023، توعّد وزير الداخلية السعودي الأمير عبد العزيز بن سعود باستهداف مهرّبي المخدّرات، قائلًا: "ضربة تتلوها ضربات، لن ينجو منها مروّجو ومهرّبو المخدّرات، ومن يستهدفون مجتمعنا ووطننا". وأعلنت المديرية العامة لمكافحة المخدّرات عن اعتقال أفراد بتهمة بيع الكبتاغون. علاوةً على ذلك، عزّزت المملكة التنسيق بين أجهزتها الأمنية وخصّصت جزءًا أكبر من ميزانيتها لمكافحة تهريب المخدّرات. واستخدمت أيضًا الذكاء الاصطناعي بهدف التصدّي لتجارة المخدّرات العابرة للحدود ومكافحة غسل الأموال. وعلى الرغم من الجهود السعودية الكبيرة والقوانين الصارمة التي تعاقب على استيراد المخدّرات غير المشروعة وتصنيعها وحيازتها واستخدامها، يبدو أن هذا النهج يواجه تحديات عدة أبرزها كثافة محاولات التهريب إلى المملكة واستهدافها من الخارج.
اتّبعت المملكة أيضًا طرقًا أخرى لمكافحة آفة المخدّرات في أوساط الشباب. فركّزت على إعادة التأهيل مثلًا، مشدّدةً على أن التدخل المبكر يعزّز فرص التعافي من الإدمان ويقلّل من احتمالات حدوث انتكاسة. في الوقت نفسه، أطلقت الحكومة، وفقًا لمصدَرين على اطّلاع، مبادرات لإشراك الشباب في أنشطة ثقافية، ما يقلّص احتمالات تعاطيهم المخدّرات. يرى المسؤولون في الواقع أن انخراط الشباب في الأنشطة الثقافية يمكن أن يسهم في تعزيز شعورهم بالانتماء، ويوفّر لهم آليات تأقلم صحية، ويحسّن تقديرهم لذاتهم، ما قد يقلّل من خطر تعاطي المخدّرات. وبات شائعًا قيام المواطنين بالتوعية على مخاطر المخدّرات عبر نشر تغريدات عبر منصة أكس (X)، والتذكير بعقوبات التورّط في أنشطة مرتبطة بالمخدّرات. لكن هذه المبادرات لم تخفّف كثيرًا من فداحة خطر المخدّرات، ما فتح الباب للّجوء إلى الحلول السياسية ومكافحة المخدّرات من مصدرها بهدف التصدّي لعمليات إنتاج وتوزيع الكبتاغون أو احتوائها.
استراتيجية نظام الأسد والمعضلة الخليجية
يعمد النظام السوري إلى الإتجار بالكبتاغون كمصدر رئيس لتوليد العملة الصعبة، وإن كان نفى تورّطه في إنتاج هذا المخدّر وتوزيعه على دول الخليج، علمًا أن الشبكات المنخرطة في هذه العمليات تضمّ شخصيات من الدائرة الداخلية للقيادة السورية. ويرى النظام أنه باستخدامه الكبتاغون للضغط على دول الخليج، قد يتمكن من إعادة دمج سورية في العالم العربي، وإنهاء عزلتها السياسية والاقتصادية.
أشار تقريرٌ صادر في العام 2021 عن مركز التحليلات العملياتية والأبحاث، وهو مؤسسة استشارية تُعنى بالمخاطر السياسية والشؤون التنموية، إلى أن سورية يجب اعتبارها مركزًا لتجارة الكبتاغون الإقليمية، إذ تشكّل نقطة عبور وسوقًا استهلاكية على حدٍّ سواء. كذلك لفت التقرير إلى أن إنتاج الكبتاغون اتّخذ طابعًا صناعيًا متزايدًا، وأصبح أكثر تكيّفًا، وأكثر تطوّرًا من الناحية التكنولوجية عمّا كان عليه في السابق، ما دفع إلى إقرار قانون الكبتاغون في مجلس النواب الأميركي في العام 2022. وهذا القانون يقضي بأن تضع الحكومة الأميركية استراتيجيةً مشتركةً بين الوكالات بهدف تعطيل إنتاج المخدّرات والإتجار بها، وتفكيك الشبكات المرتبطة بنظام الأسد. وقد قدّمت إدارة بايدن خطّتها في العام 2023 استجابةً لهذا المقتضى.
لا بدّ من الإشارة إلى أن سورية لم تكن معروفةً بإنتاج المخدّرات وتوزيعها قبل انتفاضة العام 2011، لا بل كانت لديها قوانين صارمة ضدّ تعاطي المخدّرات. ولكن بعد أن فرضت الولايات المتحدة والدول العربية عقوبات اقتصادية عليها بدءًا من العام 2011، ردًّا على انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكِبَت ضدّ السكان، حوّل النظام سورية إلى أكبر مُصدّر للكبتاغون في العالم. ومذّاك الحين، أصبحت وسائل الإعلام تطلق على سورية تسمية "دولة المخدّرات"، إذ إن تجارة المخدّرات تشكّل جزءًا كبيرًا من اقتصادها.
من الصعب تحديد الأرباح التي يجنيها نظام الأسد من تجارة الكبتاغون، إلا أن تحقيقًا أجرته مجلة دير شبيغل الألمانية قدّر قيمة الإيرادات التي درّها هذا المخدّر في العام 2021 بحوالى 5.7 مليارات دولار، فيما قدّرت مصادر أخرى الرقم بما يصل إلى 30 مليار دولار للعام نفسه. في الواقع، بلغ الناتج القومي الإجمالي لسورية، وفقًا للبنك الدولي، 8.9 مليارات دولار في العام 2021، مُسجّلًا تراجعًا كبيرًا عن 60.04 مليار دولار في العام 2010. هذا الأمر يُظهِر فقدان الدخل الذي تكبّدته الحكومة السورية جرّاء الصراع، والدور الكبير الذي تضطلع به تجارة الكبتاغون في الاقتصاد السوري اليوم. وقد زعمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن قيمة تجارة الكبتاغون في سورية تبلغ حوالى ثلاثة أضعاف تجارة كارتلات المخدّرات المكسيكية مجتمعةً.
يعتمد نظام الأسد على شبكة معقّدة من الحلفاء لإنتاج الكبتاغون وتوزيعه، تضمّ بحسب مركز التحليلات العملياتية والأبحاث وحداتٍ عسكرية وأمنية أساسية، مثل الفرقة الرابعة المدرّعة النخبوية في الجيش السوري، التي يقودها شقيق بشار الأسد ماهر، والمخابرات الجوية، والحرس الجمهوري. كذلك تتألّف الشبكة من ميليشيات محلية، بما فيها قوات الدفاع الوطني، وكتائب البعث، وسرايا العرين، وهي ميليشيا مقرّها اللاذقية، إضافةً إلى قوات مسلحة أجنبية ذات انتماءات مختلفة، على غرار الحرس الثوري الإسلامي الإيراني وحزب الله.
وقد أظهر تحقيق أجرته مجلة دير شبيغل حول شحنة مؤلّفة من 14 طنًّا من الكبتاغون جرت مصادرتها في ميناء ساليرنو الإيطالي في تموز/يوليو 2020، أن المخدّرات التي تضمّنتها الشحنة من تصنيع سامر كمال الأسد، رجل الأعمال السوري الثري وابن عمّ الرئيس. فسامر يدير مجموعة متنوّعة من الكيانات التجارية، ويملك أحد معامل الكبتاغون الواقعة في البصّة جنوب اللاذقية. وكشف التحقيق أيضًا أن الشحنة انطلقت في البداية من ميناء اللاذقية، الخاضع لسيطرة ماهر الأسد، الذي يُقال إنه يشرف على جزءٍ كبير من إنتاج الكبتاغون وتوزيعه من خلال الفرقة الرابعة.
والواقع أن نطاق هذه الشبكة وعمقها اتّضحا بعد أن فرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عقوبات على أفراد سوريين متورّطين في تجارة الكبتاغون في آذار/مارس 2023، تضمّنت تجميد أصولهم وفرض حظر سفرٍ عليهم. وشملت قائمة العقوبات سامر كمال الأسد؛ وعبد اللطيف حميدة، وهو رجل أعمال بارز يستخدم مصانعه لتوضيب حبوب الكبتاغون، وارتبط اسمه بشحنة الكبتاغون المضبوطة في ساليرنو في العام 2020؛ وعماد أبو زريق ومصطفى المسالمة، وكلاهما من قادة الميليشيات في جنوب سورية؛ وطاهر الكيالي، رجل الأعمال البارز المرتبط بصناعة الكبتاغون؛ والسياسي السوري عامر خيتي الذي يشرف على شركات تسهّل إنتاج الكبتاغون وتهريبه؛ وحسن محمد دقّو، الملقّب بـ"ملك" أو "إمبراطور" الكبتاغون، الذي تربطه صلات بحزب الله. كذلك تضمّ القائمة محمد شاليش الذي يعمل في مجال الشحن؛ وراجي فلحوط، أحد قادة الميليشيات في السويداء الذي يستخدم مقرّ الميليشيا لإنتاج الكبتاغون؛ ووسيم بديع الأسد، وهو ابن عم آخر للرئيس يساعد في تصنيع الكبتاغون والإتجار به؛ ونوح زعيتر، تاجر المخدّرات اللبناني البارز المرتبط بنظام الأسد وحزب الله.
يُعَدّ هامش الربح من تجارة الكبتاغون مرتفعًا للغاية، ما يفسّر جاذبية هذه التجارة للنظام السوري وحلفائه، خصوصًا أن سكان الخليج الأثرياء يستطيعون تحمّل الكلفة العالية نسبيًا لهذا المخدّر، الذي يظلّ باهظ الثمن وإن كانت أسعاره أقّل من أسعار أنواع أخرى من المخدّرات. فحبّة الكبتاغون الواحدة يكلّف إنتاجها حوالى دولار واحد، ويمكن بيعها بمبلغ يتراوح بين 14 و20 دولارًا. مع ذلك، لا تقلّ الأهداف السياسية للإتجار بالكبتاغون أهميةً لنظام الأسد، الذي يرى في هذا المخدّر ورقة تسهم في رأب علاقاته بدول الخليج وتحسينها. فهذه العلاقات بالغة الأهمية لإضفاء الشرعية على النظام كما لتأمين مساعدات إعادة الإعمار والدعم المالي بعد سنوات الحرب.
ربما كان الإقرار بضرورة التعاون مع النظام السوري لمعالجة مسألة الإتجار بالكبتاغون أحد العوامل التي أثّرت على تقارب السعودية وسائر دول مجلس التعاون الخليجي مع نظام الأسد في أيار/مايو 2023. وفيما وافقت سورية على التعاون مع كلٍّ من الأردن والعراق في تحديد مصادر إنتاج المخدّرات والإتجار بها، يجب النظر إلى هذا الالتزام بحذر لأسباب عدّة.
أولًا، نظرًا إلى الأرباح الهائلة التي يجنيها نظام الأسد من تجارة الكبتاغون، قد يكون متردّدًا جدًّا في كبحها ما لم يحصل على حوافز كبيرة. فوسط الأزمة الاقتصادية التي تشهدها سورية، خصوصًا في ظلّ الضغط الذي يرزح تحته اقتصادها بفعل العقوبات الأميركية والأوروبية، من المستبعد أن يتخلّى النظام عن صناعةٍ تدرّ مليارات الدولارات. فقد كان الناتج المحلي الإجمالي السوري 22.6 مليار دولار عند إقرار الكونغرس الأميركي قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية في العام 2019، ثم انخفض بعد عام واحد إلى 11.16 مليار دولار. يُضاف إلى ذلك أن الأسد وشركاءه يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على عائدات تجارة الكبتاغون للحفاظ على ولاء الوحدات العسكرية والميليشيات، ويُعَدّ هذا الولاء عاملًا أساسيًا في بقاء النظام. إذًا، لن تضحّي القيادة السورية بهذه التجارة من دون تأمين مصادر تمويل بديلة.
ثانيًا، حتى لو أراد نظام الأسد كبح إنتاج الكبتاغون وتوزيعه، ما من ضمانات بأنه قادرٌ على فعل ذلك بصورة فعّالة. فقد يواجه صعوبةً في ضبط الجهات كافة المتورّطة في تجارة الكبتاغون، لأن هذه الشبكة واسعة النطاق وتضمّ الكثير من اللاعبين الخارجين عن سيطرته. يُضاف إلى ذلك أن الجيش السوري والأجهزة الأمنية أصبحا مُفكَّكَين وفاسدَين، فيما تسعى الميليشيات الموالية للنظام والمنتفعون إلى تحقيق أجنداتهم الخاصة، وللكثير منهم مصلحة راسخة في السماح باستمرار تهريب الكبتاغون. ونظرًا إلى تزايد الجهات الأمنية الفاعلة وتنامي وتيرة التدخّل الأجنبي، باتت العلاقات المدنية العسكرية أكثر تقلّبًا، ما يزيد احتمال أن يواجه النظام تحدّيًا لسلطته.
بتعبيرٍ آخر، ما من دائرة داخلية من الجنرالات والمستشارين الموثوقين حول الرئيس يملون ما يجب فعله، بل ثمة "شبكات تعمل بطريقة شبه مستقلّة"، وتتألّف من أطرافٍ فاعلة مختلفة، بدءًا من الجيش، والأجهزة الأمنية، وقطاعات الأعمال والصناعة، ووصولًا إلى الميليشيات المحلية، والجريمة المنظّمة، والمتاجرين، وتتمتّع هذه الأطراف جميعها بدرجةٍ كبيرةٍ من اللامركزية. فضلًا عن ذلك، تعتمد قوة النظام على علاقات مصلحية ونفعية ومتقلّبة مع الفصائل المحلية والقوى الخارجية، ولا سيما روسيا وإيران. لذا، لا توجد أوامر من أعلى إلى أسفل يمكن للأسد أن يصدرها ويتوقّع تنفيذها من دون تعقيدات. وبالفعل، في الشهر نفسه الذي استضافت فيه الرياض الأسد لحضور القمة العربية في أيار/مايو 2023، صادرت 8 ملايين حبّة كبتاغون مصدرها سورية.
ثالثًا، ليست السعودية ودول الخليج الأخرى في وضع يسمح لهما بتلبية مطالب نظام الأسد، حتى إذا كانتا راغبتَين في ذلك. وفيما تستطيع دول مجلس التعاون الخليجي إضفاء بعض الشرعية السياسية على سورية بإشراكها في اجتماعات القمة العربية، يبقى تأثيرها على الأرض في البلاد محدودًا. في المقابل، تمارس تركيا قدرًا أكبر من السيطرة في إدلب، وكذلك الولايات المتحدة في منطقة شمال غرب سورية الخاضعة إلى سيطرة الأكراد، في حين أن العملية السياسية لحلّ الأزمة السورية لا تزال متعثّرة بسبب الخلافات بين القوى الرئيسة، مثل روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
أما على صعيد إعادة الإعمار، فحتى لو كانت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى على استعداد للمشاركة في هذه العملية، لن تستطيع فعل شيء قبل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية. لكن واشنطن تعارض أيّ تقارب دبلوماسي أو اقتصادي بين الدول العربية وسورية. إذًا، في ظل هذه القيود، ونظرًا إلى أن نظام الأسد لن يحدّ على الأرجح من تجارة الكبتاغون، ليس للسعودية حافزٌ كبير لتقديم الدعم المالي له. هذا الوضع يسلّط الضوءَ على مشكلة هيكلية في إطار مكافحة الإتجار بالكبتاغون، غالبًا ما تتكرّر عند التعامل مع سورية. فالنظام يبذل جهودًا كبيرةً لتعزيز نفوذه في تعاملاته مع الدول الأخرى، إلا أنه قلّما يكون على استعداد للتخلّي عن أوراق الضغط التي في حوزته متى حقّق أهدافه، إذ يرى في هذا التنازل خطوةً من شأنها حرمانه من السلطة السياسية التي راكمها. ولهذا السبب تبدو اليوم جميع الحلول لمعالجة مسألة إنتاج الكبتاغون والإتجار به بعيدة المنال.
خاتمة
إن تأثير الكبتاغون على مستقبل العلاقات بين دول الخليج وسورية رهنٌ بتبنّي مقاربة متعدّدة الأوجه تُعالج التحديات اللوجستية الفورية المتعلّقة بكبح تهريب المخدّرات، فضلًا عن التداعيات الجيوسياسية الأوسع لتجارة المخدّرات. وتنطوي هذه المقاربة على تعزيز التعاون الدولي، وتشديد الإجراءات الأمنية على الحدود، وتوفير بدائل اقتصادية للأشخاص المتورّطين في الإتجار بالمخدّرات. علاوةً على ذلك، من شأن اتّباع سياسة إقليمية أكثر تكاملًا تضمّ أصحاب المصلحة الأساسيين، أي سورية ودول الخليج والقوى الدولية، أن يوفّر حلًّا مستدامًا للمشكلة. لكن تطبيق استراتيجية مماثلة يتطلّب التوصّل إلى حلٍّ للصراع السوري، الأمر الذي يُعدّ مهمة صعبة.
تقتضي معالجة آفة الكبتاغون أيضًا فهم أسبابها وتبعاتها المتجذّرة بعمق. لا يمكن لدول الخليج التخفيف من وطأة هذه الأزمة وبناء مستقبل أكثر استقرارًا وأمنًا إلّا من خلال بذل جهود إقليمية ودولية شاملة ومتّسقة من دون الاعتماد على نظام الأسد. لهذه الغاية، باستطاعة دول الخليج والمجتمع الدولي تقديم الدعم للمنظمات والمجتمعات المحلية السورية التي تنشط في مكافحة المخدّرات، ما يسهم في الحدّ من نفوذ النظام. إضافةً إلى ذلك، يمكن لاستخدام القنوات الدبلوماسية من أجل إبرام اتفاقات حول مكافحة المخدّرات مع جهات غير تابعة للنظام أن يقوّض بشكل أكبر سيطرة نظام الأسد على تجارة الكبتاغون.
تصحيح: أُجري تغييرٌ على الجملة التي تتناول حادثة نيسان/أبريل 2022، للإشارة إلى أن الجاني كان تحت تأثير تعاطي مخدّر الشبو، وليس الكبتاغون.