المصدر: Getty
مقال

مكامن فشل 14 آذار

بعد مضيّ عشرين عامًا، لا يزال لبنان عالقًا في نظامٍ طائفيّ يعيق التغيير.

 عصام القيسي
نشرت في ١٨ مارس ٢٠٢٥

ليس يوم 14 آذار/مارس 2005 مجرّد يومٍ آخر مرَّ في تاريخ لبنان السياسي، بل هو يومٌ مطبوعٌ في الوعي الوطني. في ذلك اليوم، تقاطر مئات الآلاف إلى ساحة الشهداء في بيروت، مُشكّلين أكبر تظاهرةٍ شهدتها البلاد على الإطلاق. كانت تلك التظاهرة ردًّا عفويًا ومباشرًا، بالحجم والزخم، على تظاهرة حاشدة أخرى سبقتها بأيام فقط. ففي 8 آذار/مارس، احتشد حزب الله وحلفاؤه في بيروت من أجل توجيه "الشكر" إلى سورية على وجودها في لبنان، بعد أن اشتُبِه بأن نظامها وراء اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير من ذلك العام.

ولكن الطاقة في يوم 14 آذار كانت مختلفة، إذ اجتمع المتظاهرون، سنّةً، ومسيحيين، ودروزًا، وشيعةً (وهؤلاء غالبًا ما يُغفَل ذكرُهم ظلمًا)، للمطالبة بإنهاء عقودٍ من الهيمنة السورية. وفي حين أن مطالبهم تنوّعت، وتراوحت بين المطالبة بالكشف عن حقيقة اغتيال الحريري، والإفراج عن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من السجن، والترحيب بعودة ميشال عون من المنفى، توحّدوا حول مطلب واحد لا لبس فيه، ألا وهو خروج سورية من لبنان.

كانت تظاهرة 14 آذار استثنائيةً ليس فقط بسبب حجمها أو نطاقها، بل أيضًا بفضل روح التحدّي التي سَرَت في ذلك اليوم، تعبيرًا عن تمرّدٍ لم يكن بحاجة إلى إذن. فخلافًا لتظاهرات ثورة الأرز التي تكرّرت في ساحة الشهداء لإحياء الذكرى السنوية لذلك اليوم، لم يكن 14 آذار/مارس 2005 عرضًا لخطابات رنّانة أو مسرحًا سياسيًا مُنظَّمًا. يومذاك لم يخاطب سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع الحشود، ولم يكونوا محور الاهتمام. وحتى أنصار ميشال عون، الذين انفصلوا عن حركة 14 آذار في غضون أسابيع، وقفوا يومذاك جنبًا إلى جنب مع القوات اللبنانية والموالين للحريري. لم يكن ذلك اليوم يتمحور بعد حول تحالفاتٍ سياسية واضحة، بل كان ثورةً حقيقيةً خرج فيها اللبنانيون من سباتٍ سياسي فُرِض عليهم كمواطنين في وطنٍ طالَ احتجازه رهينةً. لم يرفعوا سوى العلم اللبناني، وأقسموا يمين الولاء لفكرة لبنان السيّد والآمن، الذي كان لا بدّ أن يتحرّر أخيرًا من قبضة آل الأسد.

لكن مظهر الوحدة هذا لم يَدُم، إذ سرعان ما تحوّلت ثورة الأرز من انتفاضة شعبية إلى تحالف سياسي طائفي. صحيحٌ أن خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان/أبريل 2005 كان إنجازًا كبيرًا، بيد أنه لم يُحدِث تغييرًا دائمًا في نهاية المطاف. فالنظام اللبناني، بتحالفاته الطائفية وترتيبات تقاسم السلطة فيه، ما لبث أن أعاد فرض نفسه بنسخة مُحدَّثة.

في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2005، اتّسمت الانتخابات النيابية بتحالفاتٍ فاضحة، بما فيها التحالف بين الحريري وجنبلاط وحزب الله وحركة أمل والقوات اللبنانية في بعض الدوائر. وحتى حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة التي تلَت تلك الانتخابات، والتي هيمن عليها تحالف 14 آذار، ضمّت حليفَي سورية، حزب الله وحركة أمل، في دلالةٍ على أن سياسة التحالفات الطائفية في لبنان بقيت راسخةً على الرغم من كل ضجيج الثورة. وبالرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها الكثيرون في ثورة الأرز للتحرّر من الحقبة السابقة، سُرعان ما أضعف عنف حزب الله السياسي واغتيالاته الحركةَ، محطّمًا آمالها في بناء لبنان سيّد ومزدهر ومنفتح على العالم.

وها هو لبنان، بعد مرور عقدَين من الزمن، يقف مجدّدًا أمام فرصةٍ لبداية جديدة بعد الانتكاسات الكبرى التي مُني بها حزب الله في صراعه مع إسرائيل، وسقوط نظام بشار الأسد. فقد شكّل انتخاب جوزاف عون رئيسًا للجمهورية وتشكيل حكومة نواف سلام مصدرًا للتفاؤل. واضطّر حزب الله، الذي هيمن على لبنان فعليًا من العام 2008 حتى العام 2024، إلى تقديم تنازلاتٍ سياسية كان يرفضها سابقًا، فيما تعهّد الرئيس الجديد باستعادة احتكار الدولة لقرار السلم والحرب.

مع ذلك، لم يتبلور التغيير الحقيقي حتى هذه اللحظة، إذ ما زال حزب الله متمسّكًا بما تبقّى من ترسانته، ولا يزال الكثير من النخب الطائفية التي حكمت البلاد في العام 2005 في السلطة. لقد شهد التمثيل السياسي بعض التحوّل، ولكن ليس بشكلٍ كبير. فالقوات اللبنانية بزعامة جعجع هي من دون شكّ في صعود، بينما التيار الوطني الحرّ بزعامة ميشال عون شهد صعودًا ثم أفولًا، والساحة السنّية تعاني تشرذمًا، في وقت ينتظر كثرٌ عودة سعد الحريري المُحتملة بعد انسحابه من الحياة السياسية في العام 2022. في غضون ذلك، يحافظ حزب الله وحركة أمل على هيمنتهما على الطائفة الشيعية، ولا يزال جنبلاط زعيمًا للدروز. إذًا، لا يزال النظام الطائفي متجذّرًا كما كان.

والأسوأ أن النظام الاقتصادي في لبنان، أي النظام عينه الذي أدّى إلى الأزمة المالية في العام 2019، لا يزال أيضًا كما هو إلى حدٍّ كبير. فكارتل المصارف الذي استفاد من النظام المالي غير السليم للدولة اللبنانية، الذي انهار في نهاية المطاف، ما زال يتمتّع بنفوذٍ كبير، ناهيك عن أن الاحتكارات، الخاصة والرسمية، ظلّت بمعظمها على حالها. إن البلاد أشبه بحصنٍ منيعٍ يقاوم أيّ إصلاحٍ مُجدٍ، تاركًا الشعب يتخبّط في حالة من الإحباط.

ربما يكون أحد أعظم الدروس التي يمكن استخلاصها من تاريخ لبنان هو أن نظامه السياسي عصيٌّ على التغيير، لا بسبب المصالح الراسخة الموُزَّعة على أُسُسٍ طائفية فحسب، بل أيضًا لأن النظام نفسه يفاقم هذه الانقسامات (الأمر الذي يُديم بدوره المصالح الراسخة). ففي صميم هذا النظام تكمن الأبقار الحلوب للدولة، أي الإيرادات الضريبية، والمصرف المركزي، والاحتكارات الاقتصادية، وغيرها. وكل جماعة طموحة تسعى، بدافع حاجتها لضمان حصّتها من السلطة، إلى توحيد طائفتها وتشكيل التحالفات لزيادة نفوذها في المركز. وزعماء الطوائف يصلون إلى القمة من خلال التأكيد على هوية طائفتهم ومظلوميّتها، الأمر الذي يسهم في تعميق الشقاق بين الطوائف اللبنانية.

إن زيادة النفوذ في المركز يدفع كلّ طائفةٍ من الطوائف اللبنانية إلى البحث عن راعٍ خارجي لها، أملًا منها في استغلال ذلك لترجيح كفّة ميزان القوى لصالحها. ولذا كانت النتيجة، خلال الأيام المُفعمة بالأمل سواء في آذار/مارس 2005 أم تشرين الأول/أكتوبر 2019، حينما انتفض الشعب اللبناني ضدّ الطبقة السياسية، أن اصطدمت كل محاولة لتجاوز الطائفية لصالح أجندة وطنية، بالحقائق الثابتة للمعادلة السياسية اللبنانية. وما لم يتوقّف النظام اللبناني عن تأجيج الانقسامات الطائفية، وهو أمرٌ يبدو مستحيلًا بعد عقودٍ من هذا النهج، ليُنتِج قضاءً وبرلمانًا قادرَين على محاسبة المسؤولين، فغالب الظنّ أن الإصلاح سيظلّ مرهونًا بإملاءات القوى الأجنبية، التي قد تتوافق مصالحها مع الإصلاح إن حالفَنا الحظ.

وعلى غرار آذار/مارس 2005، يبدو لبنان في آذار/مارس 2025 وكأنه يقف مجدّدًا على أعتاب مرحلة جديدة، إلا أن هذه اللحظة من التأمّل تكشف عن حقيقة مُقلِقة. فكما كانت الحال في العام 2005، تبدو البُنى نفسها التي كبّلت البلاد عصيّةً على التغيير. لقد ثبُت أن لحظة 14 آذار، التي أُشيد بها على أنها صحوةٌ وطنية وقطيعةٌ مع الماضي، لم تكن في نهاية المطاف سوى إعادة تشكيلٍ للآلية الطائفية نفسها. والمخاطر ليست مختلفة اليوم. فالمَيل هو، كما الحال دائمًا، نحو المبالغة في تقدير إمكانات التغيير، وافتراض أن مجرّد إضعاف طرفٍ مُهيمِن واحد (حزب الله) سيؤدّي بسهولة إلى تفكيك نظامٍ صمَد لعقودٍ بالرغم من الآمال الزائفة والوعود غير المُنجَزة.

ربما ينبغي على اللبنانيين أن يكفّوا عن التظاهر بأن الإصلاح ممكنٌ ضمن نظامٍ معطّل بوضوح. قد يكون المسار الأكثر واقعيةً للمضيّ قدمًا إجراء إعادة هيكلةٍ جذريةٍ تتمحور حول اللامركزية، أي إعادة توزيع الموارد بعيدًا عن السلطة السياسية المركزية. فمن خلال منح الطوائف اللبنانية قدرًا أكبر من الاستقلالية ضمن إطارٍ وطنيّ أوسع، يُمكِن للامركزية أن تكسر دوّامة الشلل السياسي. والحلّ يكمن في إرساء نظامٍ يعترف بالطوائف من دون أن يدفع الواحدة منها إلى الهيمنة على الأخرى، حيث لا تعيق الولاءات الطائفية سيادةَ القانون والمساءلة، وحيث يقلّ التدخّل الأجنبي.

وإذا كانت السلطة محليةً أكثر، فقد يصبح قادة الطوائف أكثر خضوعًا للمساءلة المباشرة أمام مجتمعاتهم، بدلًا من أن يتمكّنوا من استغلال التوتّرات الطائفية على المستوى الوطني للتملّص من المسؤولية. فمع تراجع التركيز على التنافس على مستوى الدولة المركزية، قد تضعف بعض الديناميات التي تتيح للنخب اللبنانية تجنّبَ الإصلاح، سواء في القضاء أم في السياسات الاقتصادية. واللامركزية لن ترغم القادة على الاستجابة لمطالب قواعدهم الانتخابية فحسب، بل قد تحدّ أيضًا من قدرتهم على استخدام خطاب الصراع الطائفي الأشمل لإلقاء اللوم على الآخرين.

ويمكن للبنان أن ينطلق من أحكام اتفاق الطائف المتعلّقة باللامركزية، أو حتى يوسّعها لتشمل إعادة هيكلةٍ أوسع للسلطة المالية والسياسية. ومن شأن نقل السلطة إلى المستويات المحلية أن يتيح للبلاد فرصةً للخروج من دوّامة الأمل العابر الذي تليه خيبة أمل حتمية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.