المصدر: Getty
مقال

حول قراءة هرتزل في بيروت

أو كيف يشكّل غياب الرؤى حول "الآخر" الإسرائيلي عقبةً كأداء في مسار النضال التحرّري الفلسطيني.

نشرت في ٢٨ مايو ٢٠٢٥

يجد الفلسطينيون والإسرائيليون (اليهود) أنفسهم عالقين في مفارقةٍ غريبة ومدمِّرة. فغالبية كلا الشعبَين لا تعرف الطرف الآخر حقًّا، ومع ذلك تبدو مقتنعة تمامًا بأنها تعرفُه حقّ معرفةٍ، وتؤمن يقينًا بأن هذا الآخر يسعى إلى القضاء التام على شعبها.

في إسرائيل، بقيت معرفة الفلسطينيين، وخصوصًا أولئك الذين أُخضعوا لحكمٍ عسكري دام سبعة عشر عامًا بعد قيام إسرائيل في العام 1948، حكرًا في الغالب على شعبة الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن الداخلي، وعلى حفنةٍ من الأكاديميين "المُستعرِبين" الذين كانوا يقدّمون المشورة للسلطات. ولم يكن بإمكان سوى قلّةٍ قليلةٍ من الإسرائيليين، وأبرزهم أعضاء الحزب الشيوعي اليهودي العربي المشترك، القول إنهم "يعرفون" الفلسطينيين لغايات لا تتعلّق بمساعي السيطرة عليهم.

على المقلب الآخر، وكما يوضح جوناثان غريبيتز في كتابه الأخير بعنوان Reading Herzl in Beirut: The PLO Effort to Know the Enemy (قراءة هرتزل في بيروت: مساعي منظمة التحرير الفلسطينية إلى معرفة العدو)، كان التعرُّف إلى الآخر الإسرائيلي هدفًا أساسيًا لمركز الأبحاث الذي تأسّس في بيروت بقرارٍ من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1965. يُشار إلى أن غريبيتز أستاذٌ في قسم دراسات الشرق الأدنى وبرنامج الدراسات اليهودية في جامعة برينستون، وينبع اهتمامه هذا من كتابه السابق Defining Neighbors: Religion, Race, and the Early Zionist-Arab Encounter (تعريف الجيران: الدين والعرق والتفاعل المبكر بين الصهيونيين والعرب)، الذي تناول "تصوّرات العرب والصهاينة في فلسطين والمنطقة الأوسع لبعضهم البعض خلال العقود الأخيرة من الحكم العثماني". أظهر عمله هذا أن العرب المسلمين أدركوا أن "العودة إلى ]أرض[ صهيون هي فكرة محورية في التقاليد الدينية اليهودية"، فيما أقرّ الصهاينة "بأوجه التشابه الوثيقة بين اليهودية والإسلام، والتاريخ الطويل من العلاقات الودّية عمومًا بين اليهود والمسلمين في منطقة المشرق العربي" (ص. xii). في الواقع، "جادل بعض المثقفين العرب في المنطقة بأن النجاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لليهود في أوروبا يُظهر أن الساميين ليسوا أقلّ مقدرةً وكفاءةً من الأعراق الأوروبية. وبما أن العرب تربطهم قرابةٌ عرقية باليهود، فهم قادرون أيضًا على التفوُّق في هذه المجالات بالقدر نفسه". (ص. xiii). ومن اللافت أن الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون الذي أصبح لاحقًا أول رئيس وزراء لإسرائيل، كان يعتقد بأن "الفلاحين العرب في فلسطين لا تجمعهم فحسب روابط عرقية مع اليهود، بل هم أنفسهم يهودٌ أصليون من الناحية العرقية" (ص. xiii).

لكن في العام 1965، "كان التفاعل السياسي بين الصهاينة والعرب قد تغيّر بشكلٍ جذري، ولم يعد يشبه ما كان عليه من قبل". بحلول تلك الفترة، كانت معرفة العدو موضوعًا خلافيًا. وهذه هي الحال اليوم أيضًا، بعد مرور 60 عامًا. يركّز كتاب غريبيتز الجديد على جانبٍ محدّدٍ من الأحداث التي دارت في تلك الأثناء، ويوضِح أهمية ذلك. هو مؤرّخ لا يستند إلى النظريات التجريدية، بل إلى النظرة العملية، ويتّسم أسلوبه بالحصافة والتوازن والحياد في عرض الوقائع. وهو يستخدم كذلك أدوات المنهج الإثنوغرافي ليسلّط الضوء على الأفراد الذين انخرطوا ليس فقط في إنشاء مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، بل أيضًا في تشكيل إرثه الفكري والسياسي. إن السردية التي ينسجها غريبيتز على متن 278 صفحةً تنمّ عن تعاطف إنساني مُلفت: فهو لا يحجب مسائل مثل رؤى الفلسطينيين أو ظروف تهجيرهم من أرضهم خلال مراحل قيام إسرائيل، ولا يتعامل مع هذه المعاناة على أنها حالةٌ استثنائية معزولة عن إطارها التاريخي. يغوص غريبيتز عميقًا في الفكر السياسي الذي تبنّاه مؤسّسو المركز وباحثوه، وفي الطروحات الثقافية والإيديولوجية التي أثّرت على توجّهات القيّمين عليه، ليقدّم لنا قصةً إنسانية مؤثّرة.

أُشدّد على هذا الموضوع لأن التاريخ الذي يرويه غريبيتز يعنيني على الصعيد الشخصي: ففايز صايغ، مؤسّس مركز الأبحاث الفلسطيني، وأنيس صايغ، الذي تولّى إدارة المركز بدءًا من العام 1966، كانا عمّيَّ. لم أكن قد بلغت سنّ المراهقة عندما تأسّس المركز، لكن مساره اللاحق تداخل مع تكوين وعيي السياسي، إنما أيضًا، وعلى نحوٍ لا يقلّ أهميةً، مع قيمي الإنسانية. وأكثر ما أدهشني أثناء قراءة كتاب غريبيتز هو ذاك التشابك المذهل للخيوط التي يفكّكها في سرده التاريخي، مع تلك التي يُحاك منها نسيج المواجهات الراهنة التي تبدو كارثية، ومن ضمنها قضايا مثل معاداة السامية، ومناهضة الاستعمار، ومعرفة الآخر/الذات. لم يكن في وسع غريبيتز ولا دار النشر توقّع صدور هذا الكتاب في خضمّ هذه الحالة من الانقسام الحادّ التي أفرزها كلٌّ من هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والحرب الإسرائيلية على غزة، لكن من المناسب، في هذا التوقيت تحديدًا، أن نتذكّر تلك الحقيقة "الراديكالية" ومفادها أن منظمة التحرير الفلسطينية رأت قبل ستة عقود خلت، ومن خلال مركز أبحاثها، أن دراسة النصوص الصهيونية والتاريخ اليهودي أمرٌ مهمٌّ، لا بل ضروري.

كان من أبرز نتائج هذا المسعى نشرُ مركز الأبحاث الفلسطيني نقدًا مُسهَبًا لأسعد رزّوق تناول "الخرافات الأوروبية المُعادية للسامية ونظريات المؤامرة حول التلمود" وعلاقتها بالصهيونية (ص. 106). دحضَت دراسة "التلمود والصهيونية" زيف "بروتوكولات حكماء صهيون" باعتبارها مزوَّرة، داعيةً إلى ضرورة نبذ معاداة السامية والتخلّص منها – كل هذا باللغة العربية، لجمهورٍ عربي، لا كدعايةٍ موجّهة إلى الجمهور الغربي. وقد نشرت وزارة الثقافة الفلسطينية نسخةً إلكترونية من كتاب رزّوق في العام 2009.

يخلص غريبيتز إلى أن انخراط مركز الأبحاث الفلسطيني في دراسة "الدين اليهودي والنصوص اليهودية الجوهرية" من أجل مكافحة معاداة السامية، شكّل "إرثًا قيّمًا للمركز" (ص. 122). ويبدو هذا المسعى أكثر إثارةً للإعجاب عند النظر إليه من منظور الحاضر، على ضوء ما نشهده من إقدام سلطاتٍ حكومية وجامعية – بما في ذلك مجموعات يمينية صريحة بمعاداتها للسامية – على استغلال مكافحة معاداة السامية لخدمة أغراضٍ سياسية في عددٍ من الدول الغربية. واقع الحال أنها تستخدم مرارًا وتكرارًا تعريف معاداة السامية الذي وضعته منظمة التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، "كأداةٍ فجّة لوصم أي شخصٍ بمعاداة السامية"، وفقًا لبيانٍ صادرٍ عن كينيث ستيرن، العضو البارز في هذه المنظمة وكبير صائغي هذا التعريف. وهكذا، يُستخدَم التظاهر بالتقيّد بالقيم الليبرالية على نحوٍ انتهازي للتغطية على ممارساتٍ مثل إسكات الأصوات المُعارِضة لما يُرتكب في فلسطين، والتواطؤ في ترسيخ المشاعر المعادية للإسلام والعنصرية ضدّ المهاجرين، فضلًا عن تبرير الهجوم الشامل على الحريات الأكاديمية.

كان عدد القرّاء الفعلي لهذا النتاج الأكاديمي حول الدين اليهودي والحركة الصهيونية صغيرًا على الأرجح. وأعترفُ أن أكثر ما كنتُ أقدّرهُ من بين منشورات المركز مجلة "شؤون فلسطينية"، التي بدأَت كمجلّةٍ فصلية ثم أصبحت تصدر شهريًا، ونجحَت في الوصول إلى جمهورٍ واسعٍ من الفلسطينيين والعرب. ومن خلال هذه المجلّة بالأخصّ، نجح المركز في تحقيق ما أسماه غريبيتز "التفاعل في الاتّجاهَين" (bidirectionality)، من خلال الربط بين الأبحاث الأكاديمية والأهداف السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبين النشاط الفكري والانخراط السياسي. ويَستشهد بـ"المقال الرائد الذي طرح برنامجًا سياسيًا"، بقلم القيادي البارز في منظمة التحرير الفلسطينية صلاح خلف (المعروف باسمه الحركي أبو إياد)، الذي دعا من خلال مجلّة "شؤون فلسطينية" الفلسطينيينَ إلى الاعتراف بالواقع العملي وتبنّي المسار الدبلوماسي بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 العربية الإسرائيلية. شكّلت تلك أولَ خطوة علنية في مسارٍ بلغ ذروته في نهاية المطاف بتبنّي منظمة التحرير الفلسطينية خيارَ الدولتَين لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واعترافها رسميًا بحق إسرائيل في الوجود في العام 1988. كان خلف يدافع عن نهجٍ عارضه أنيس صايغ بشدّة حتى آخر أيامه، ولكن التزامه كمُحرّر بالنقاش الحر والنزاهة الفكرية هو ما كرّس مجلّة "شؤون فلسطينية" منبرًا احتضن الأصوات الفلسطينية المختلفة والتيّارات الإيديولوجية المتنوّعة، ما سمح بالخوض في مسائل كانت الفصائل الفلسطينية شديدة الانقسام حولها.

لا يتّسع المجال هنا لأكثر من الإشارة إلى بعض القضايا التي يتناولها غريبتز. وإحداها العلاقة المشحونة التي جمعت رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بأنيس صايغ خصوصًا وبمركز الأبحاث الفلسطيني عمومًا (وهذه مسألةٌ تناولها أنيس في مذكّراته)، والتي أدّت إلى الاحتجاز المؤقّت للروائي اللبناني الراحل الياس خوري، الذي تولّى تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" بين العامَين 1975 و1979. قد يساعد هذا الخلاف أيضًا في تفسير المصير المؤسف الذي لاقاه أرشيف المركز: فبعد أن استولت القوات الإسرائيلية عليه أثناء اجتياحها لبيروت الغربية في أيلول/سبتمبر 1982 – بالتزامن مع مجزرة مخيّمَي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين التي نفّذتها ميليشياتٌ لبنانية يمينية مدعومة من إسرائيل – تمّ إرجاعه إلى منظمة التحرير الفلسطينية كجزءٍ من صفقةٍ لتبادل الأسرى. لكن عرفات نقله إلى معسكر تابع لمنظمة التحرير في الجزائر، حيث اندثر في نهاية المطاف.

كذلك، يطرح غريبيتز ثلاث قضايا أكثر صلةً بواقعنا الراهن وذات أهمية قصوى لحركةٍ وطنية فلسطينية تُجاهد لتلمُّس مسارها. أولًا، وإلى جانب مكافحة معاداة السامية، سعى مركز الأبحاث الفلسطيني لأن يستند في وجهات نظره إلى موقف اليهود غير الصهاينة أو المناهضين للصهيونية، ولا سيما في الولايات المتحدة، والذين لطالما "شعروا بالقلق من السياسات التي تنتهجها إسرائيل بحق اللاجئين الفلسطينيين والعرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي"، على حدِّ تعبير الصحافي الأميركي بيتر ماس. وشكّل هذا المسعى جزئيًا امتدادًا لانخراط فايز صايغ في التواصل مع منظماتٍ يهودية أميركية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهو ما تناوله جيفري ليفين مؤخرًا في كتابه Our Palestine Question (مسألتنا الفلسطينية)، في وقتٍ "أكّد قادة منظماتٍ يهودية كبرى في الولايات المتحدة بوضوح تام على أن معاداة الصهيونية ليست في جوهرها شكلًا من أشكال معاداة السامية". ويبني غريبيتز على هذا الموضوع، مُجادلًا: "نظرًا إلى أن طبيعة الهوية اليهودية ما زالت موضع نقاشٍ في القرن الحادي والعشرين، وإلى أن تأثيرات الناجمة عن كيفية تعريف الهوية اليهودية ما زالت مهمّة، قد تنشأ تقاربات وتحالفات جديدة غير متوقّعة شبيهة بسابقتها" (ص. 136).

ثانيًا، يشير غريبيتز إلى أن "تركيز مركز الأبحاث الفلسطيني انصبّ أيضًا على المجتمع الدولي"، مجادلًا تحديدًا بأن المركز أدرك أهمية القانون الدولي لتأطير الحجج، ما أثّر في "قرار القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالانخراط في المسار الدبلوماسي الدولي" (ص 4). في الواقع، أثبتت البنية التحتية المؤسّسية للقانون الدولي عجزَها الكارثي عن وقف عنف الإبادة الجماعية التي تعرّضت لها شعوبٌ عدّة على مدى العقد الماضي - في كلٍّ من ميانمار، والسودان، وجمهورية الكونغو الديموقراطية، وغزة راهنًا - ما أدّى إلى خيبة أمل في أوساط الكثير من الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم. مع ذلك، لا يزال آخرون، مثل بشير أبو منّة، يعتبرون أن القانون الدولي هو "المعيار العالمي للعدالة ويجب أن يكون في صميم استراتيجية التحرير الفلسطينية الناشئة". وكما توضِح لوري ألين في كتابها المعنون A History of False Hope: Investigative Commissions in Palestine (تاريخٌ من الأمل الزائف: لجان التحقيق في فلسطين"، تندرج هذه الخيبة في إطار نمطٍ مستمرّ منذ قرنٍ من الزمن، سعى خلاله الفلسطينيون مرارًا وتكرارًا إلى التماس العدالة والحماية من القانون الدولي، بيد أنه خذلهم في كل مرّة.

أما ثالثًا وأخيرًا، من المفيد أن نستذكر تأثير فايز صايغ، الذي "استند باستمرار إلى منظور وجودي لإيضاح تأثير الحالة الاستعمارية على الذات العربية"، وفقًا لما أورده غريبيتز نقلًا عن يوآف دي كابوا (ص. 16). يذكّر ذلك بالتوجّه الفكري للثائر فرانز فانون المارتينيكي الأصل الذي جايَل فايز، والذي تتبَّع مسارَه بدقّة شديدة كتاب آدم شاتز بعنوان The Rebel’s Clinic: The Revolutionary Lives of Frantz Fanon (عيادة متمرّد: حيوات فرانز فانون الثورية). لذا من غير المستغرَب أنّ جيلًا جديدًا من الناشطين يُعيد اليوم اكتشاف مآثر هذَين الرجلَين، ويتداول ملاحظات فايز حول القضاء على الاستعمار في مقاله المُعنوَن Zionist Colonialism in Palestine (الاستعمار الصهيوني في فلسطين)، الذي نشره مركز الأبحاث الفلسطيني في العام 1965، إلى جانب كتابات فانون المتنوّعة عن الاستعمار. من شأن الاعتراف بكلٍّ من التجربة التي تُكابدها الذات المستعمَرة وفظاعة معاداة السامية، أن يشكّل جسرًا نحو تحقيق التضامن. في هذا السياق تحديدًا، يجري إشهار التعريف الذي وضعته منظمة التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست كسلاحٍ ليس لقمع الفلسطينيين فحسب، بل أيضًا اليهود المعارضين للسياسات والممارسات الإسرائيلية. أما التضامن الحقيقي فيأخذ في الحسبان الترابطَ المهم والمستمر بين المصيرَين الفلسطيني واليهودي، وهو نقاشٌ جرى التطرٍّق إليه مثلًا في حلقة بعنوان Talking About Antisemitism (الحديث عن معاداة السامية) من بودكاست On the Nose.

حدّثني عمّي أنيس عن المقاومة التي واجهها بدايةً في أوساط فلسطينيين وعرب كانوا يعارضون عزم المركز على دراسة كل ما يمتّ إلى إسرائيل بِصلة. مع ذلك، مهّدت هذه المساعي الطريق لإنشاء عددٍ لا بأس به من البرامج المكرَّسة "للدراسات الإسرائيلية" في الدول العربية منذ ذلك الحين. عندما حاولتُ في الآونة الأخيرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أن أعرف أكثر عن التحوّلات الإيديولوجية في صفوف ضباط الجيش الإسرائيلي، أتاني ردٌّ مفاده: "كلّهم صهاينة، لا فرق بينهم". أنيس، الذي أُصيب بتشوّهات جسدية بعد أن تلقّى ذات يوم رسالة مفخَّخة أرسلها له جهاز الموساد في العام 1972، ثم أثبت مجدّدًا موقفه المناهض للصهيونية كمتحدّثٍ باسم تحالف الفصائل الرافضة لاتفاقيات أوسلو التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل في العام 1993، لم يكن ليُعجَب بذاك الردّ، على أقلّ تقدير. فهو، التزامًا برسالته المعرفية، دعاني ذات مرّة للتحدث في منتدى اللقاء الثقافي الفلسطيني الذي أسّسه، والذي ضمّ فلسطينيين مقيمين في بيروت، عن انطباعاتي حول الضباط الإسرائيليين الذين التقيتُ بهم بصفتي مفاوضًا في محادثات السلام.

لقد تغيّرتْ إسرائيل بصورةٍ جذرية منذ أن انكبّ مركز الأبحاث الفلسطيني على دراسة حياتها السياسية، وحكومتها، ومجتمعها، واقتصادها. لكن تم الاستحواذ على جانبٍ كبير من خطاب "اعرف عدوّك" من قبل أمثال يحيى السنوار وغيره من "خرّيجي" السجون الإسرائيلية في حركة حماس، ممّن زعموا فهمَ عدوّهم جيّدًا. لكن ما ارتكبه مقاتلو حماس بحقّ المدنيين في جنوب إسرائيل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 أثبت أنهم لا يعرفون هذا العدو كما يدّعون. بل على العكس، عبّر ذلك عن نقصٍ شديدٍ في فهمهم لإسرائيل على النحو الذي كان مركز الأبحاث الفلسطيني ومجلّة "شؤون فلسطينية" سبّاقَين فيه. من الطبيعي أن يختلف الفلسطينيون في ما بينهم على مسائل شتّى، وهم يختلفون بالفعل، لكنّ غياب ما يكفي من الجهات المستعدّة لاستضافة النقاشات الصعبة وقبول الاختلافات القائمة بحسن نيّة كما كانت تفعل مثل هذه المؤسسات الرائدة سابقًا، يُمثّل عائقًا كارثيًا في مسار النضال الفلسطيني.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.