لا يبدو أن القادة في الولايات المتحدة وأوروبا يعيرون الأمر اهتمامًا كبيرًا، لكن المذبحة الإسرائيلية المستمرة في غزة ساهمت أكثر من أي شيء آخر ربما في تقويض المبادئ الليبرالية التي حاولوا فرضها على الصعيد الدولي، والتي يدّعون الولاء لها.
تطلّب إيقاظ بعض الدول الغربية من سباتها شهرَين من الحصار الإسرائيلي المروّع على غزة منذ انهيار وقف إطلاق النار في آذار/مارس الماضي، إذ منعت إسرائيل دخول الموادّ الغذائية والمياه والأدوية إلى القطاع، وأقدمت على قصف مستشفياته. ففي 19 أيار/مايو، أصدرت ثلاث دول، هي فرنسا وكندا والمملكة المتحدة، بيانًا هدّدت فيه إسرائيل بفرض "عقوبات موجّهة" عليها إن لم توقف توسّعها في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وتعهّدت باتّخاذ "إجراءات ملموسة" إن لم تضع إسرائيل حدًّا لعملياتها العسكرية في غزة وترفع القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية. وفي اليوم التالي، أعلنت الحكومة البريطانية تعليق مفاوضاتها مع إسرائيل بشأن اتفاق التجارة الحرة، بينما صرّح وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أن اتفاق الشراكة مع إسرائيل سوف يخضع للمراجعة، حتى لو لم تُتَّخذ إجراءاتٌ أكثر صرامةً في الوقت الراهن.
حتى مع الإقرار بهذا التحوّل الملموس في المواقف الأوروبية، إذا كان الأمر يستغرق شهورًا لاتخاذ قرار بشأن مسألة بديهيّة لهذه الدرجة، مثل المطالبة بتوفير المواد الغذائية والمياه والمساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في غزة، فمن غير المستغرَب أن إسرائيل استطاعت ارتكاب ما يسمّيه باحثون وصحافيون إسرائيليون ودوليون بالإبادة الجماعية في القطاع. لكن غزة باتت أكثر من ذلك بكثير: فقد أصبحت أيضًا نقطة ارتكازٍ لدول الجنوب العالمي في إطار تحدّيها للبنية السياسية المنبثقة عن النظام الليبرالي الدولي الذي تأسّس في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
لكي نضع الأمور في نصابها الصحيح، عمَد أحد أقوى جيوش العالم خلال الأشهر التسعة عشر الماضية، إلى إلقاء شتّى أنواع الذخائر الثقيلة على مناطق مأهولة في الغالب بسكانٍ مدنيين مُعدَمين ومشرّدين، معظمهم من النساء والأطفال. ومن بين الإجراءات المُتَّخذة، انطوت هذه العملية على استخدام الجيش الإسرائيلي برنامجًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي ويُعرف باسم Lavender، بهدف قتل عناصر من حركة حماس كما زعم، مع العلم بأنه على دراية تامة بأن غالبية الضحايا سيكونون من المدنيين. في الواقع، دمّرت إسرائيل معظم المدارس والجامعات والمستشفيات في غزة، ومعها كل المؤسسات الضرورية للحفاظ على النسيج الاجتماعي في القطاع. أمّا نيّتها فهي ارتكاب التطهير العرقي بحقّ الفلسطينيين، ما يسهم مؤقّتًا في معالجة الخلل الديموغرافي الذي تواجهه نتيجة أعداد السكان العرب داخل إسرائيل والأراضي المحتلّة على السواء.
تشرح إسرائيل والجهات الداعمة لها يوميًا أن اللوم كلّه يجب أن يُلقى على حركة حماس، في إشارةٍ ضمنية إلى أن إسرائيل لا تتحمّل أي مسؤولية أخلاقية على الإطلاق عن الأعداد المهولة من القتلى الذين تسبّبت بسقوطهم في غزة. وهذا تكتيكٌ مناسبٌ يشتّت الانتباه عن تفضيلات إسرائيل الراسخة حيال القطاع. يجوز حتمًا توجيه قدرٍ كبيرٍ من الإدانة إلى حماس بسبب فظائع 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكن الحركة منحت أيضًا إسرائيل الفرصة لتحقيق ما كان يتوق إليه منذ فترة طويلة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرّف: تفريغ فلسطين من الفلسطينيين.
كان هذا التفكير قيد التشكّل منذ وقتٍ مبكر. ففي أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي بعد أسبوعَين فقط على هجوم حماس، نشرت وسائل الإعلام وثيقةً أعدّتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية وأوردت فيها قائمةً من الخيارات المطروحة أمام إسرائيل. لكن السلطات حاولت التقليل من شأنها بالقول إنها مجرّد "ورقة مفهومية"، ما ساهم بشكل غير مباشر في التأكيد على موثوقيتها. وشملت الخيارات "إجلاء السكان من غزة إلى سيناء"، و"إنشاء منطقة عازلة بعمق كيلومترات عدّة داخل الأراضي المصرية، وعدم السماح بعودة الفلسطينيين إلى النشاط أو السكن بالقرب من الحدود الإسرائيلية". إذًا، كان تهجير سكان غزة أحد المحاور الأساسية في المداولات الرسمية حتى في ذلك الحين.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2023 أيضًا، وصف الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي جيورا إيلاند، خيارات إسرائيل بهذا الشكل. فكتب أن على إسرائيل "تهيئة الظروف لجعل الحياة في قطاع غزة غير ممكنة"، ما يؤدّي إلى "التهجير الجماعي لسكان القطاع إلى مصر أو الخليج". والهدف النهائي هو "أن تتحوّل غزة إلى مكان لا يمكن لأي إنسان العيش فيه...". قلّة من الإسرائيليين توقّعوا بهذا القدر من الدقة حجم الدمار الذي ألحقته إسرائيل في غزة.
نظرًا إلى أن الإسرائيليين أفصحوا عن نواياهم بوضوح، وأن معظم الدول الغربية الكبرى لم تحرّك ساكنًا لمنعهم، بل استمرّت في تسليح إسرائيل، من غير المفاجئ أن تواجه هذه البلدان ردود فعل مشروعة حول العالم تنديدًا بتصرّفاتها أو تقاعسها إزاء هذا الوضع. كذلك، فشلت هذه الدول عمومًا في وقف الحملة الإسرائيلية الشرسة على مؤسسات تشكّل ركائز النظام الدولي القائم على القواعد – أي منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية – لا بل ساهمت حتى في تهميشها.
يلاحظ المرء بسهولة أن الكثير من الحكومات الغربية تتعامل مع القانون الدولي والقيم الإنسانية وكأنّهما أمران لا معنى لهما، عندما يتعارضان مع مصالحها وتحالفاتها. كنّا نعلم ذلك طبعًا، إلا أن أحداث غزة رفعت هذا الإدراك إلى مستوى نوعي جديد، ودفعتنا إلى طرح سؤال: لماذا؟ لماذا حظيَ الأوكرانيون بتعاطف واسعٍ وبترحيبٍ حار من الدول الغربية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022، بينما لم يحصل حوالى مليون مهاجر آسيوي وعربي في العام 2015، وأكثر من مليونَي شخص في غزة راهنًا، على مثل هذه المعاملة؟
سبق أن طرحتُ هذا السؤال في مقالٍ كتبتُه في العام 2022. كنتُ متردّدًا في نسب ازدواجية المعايير الغربية إلى العنصرية، مُجادِلًا أن العنصرية راسخةٌ في كلّ مكان، بحيث أن اللجوء إلى مثل هذا التفسير لا يكشف لنا الكثير فعليًا. لكن من خلال النقاشات حول غزة العام الفائت، وملاحظتي استعدادَ كثرٍ من الناس في المجتمعات الغربية للقبول بالمستويات المتزايدة من الهمجية الإسرائيلية، أو الإشاحة بنظرهم عنها، ورؤيتي لمدى نجاح إسرائيل في إسكات كلّ أصوات الإدانة الغربية عبر وصم منتقديها بـ"معاداة السامية"، لم أعد مقتنعًا بأن الغطاء الممنوح لإسرائيل من أجل مواصلة أعمال القتل الجماعي في غزة لا يرتبط بعرق الضحايا. أقول هذا لأن تجريد شعبٍ بأكمله من إنسانيته هو التفسير الوحيد الممكن لمدى تساهل الغرب مع مثل هذه الارتكابات الشائنة، وأن الأمر الوحيد التي يمكن تفسير هذا التجريد من الإنسانية هو النظر إلى الفلسطينيين على أنهم أقل استحقاقًا للحقوق العالمية التي تُمنح لغيرهم.
في ضوء هذا الوضع، كيف يمكن لأيّ أحدٍ أن يقبل بعد الآن لغة المعايير والقيم الدولية عندما تصدر عن قادة دولٍ غربية؟ أليس هذا ما كانت تردّده أصواتٌ كثيرة في الجنوب العالمي على مدى عقود – أن هذا الخطاب مزدوجٌ ويُخفي وراءه أجندة هيمنة، تمنح قوّةً هائلة لأولئك الذين نصّبوا أنفسهم القيّمين على منح صكّ القبول الدولي؟ مع ذلك، إن القيم العالمية لا يزال لها معنى ويجب صونها، ما يفسّر لماذا شكّل الوضع في غزة كارثةً حقيقية للأميركيين والأوروبيين الذين يدّعون بأنهم يجسّدون القيم الليبرالية وحقوق الإنسان على أفضل وجه.
ليس المقصود هنا أن قادة دول الجنوب العالمي يستيقظون كل صباحٍ وهم يفكّرون في غزة. بل إن بعض الدول البارزة ضمن هذا التصنيف الجيوسياسي، مثل الهند، سارت في رُكب إسرائيل. لكنهم غالبًا ما يستيقظون وهم يفكّرون في الولايات المتحدة وأوروبا، اللتَين لم تكفّا عن وعظهم حول طريقة التصرّف أو سعَتا إلى تعديل سلوكهم بما يتماشى مع الأولويات الغربية. وقد يكون الانتقاد من الخارج مبرّرًا في الكثير من الأحيان. لكن فيما توالت الأحداث في غزة، ازداد على نحو غير مسبوق الهامش المُتاح أمام دول الجنوب العالمي لقلبِ الطاولة على محقّقيهم الغربيين والتنديد بهم بوصفهم منافقين.
خلال آخر كلمةٍ ألقاها نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي في تموز/يوليو 2024، حين حظيَ بالتصفيق الحارّ وقوفًا 58 مرة، تجرّأ على القول إن إسرائيل "تُقاتل دفاعًا عن الحضارة" في "صراعٍ بين الهمجية والحضارة". تجدر الإشارة إلى فكرتَين هنا: أولًا، لم تُلحق أيّ دولة غربية ضررًا بقيم الغرب – أو ما يسمّيه نتنياهو "الحضارة" – أكثر من إسرائيل، التي نجحت بطريقةٍ ما خلال العقود الستة الماضية وعلى مرأى العالم أجمع، في مواصلة احتلالها العسكري غير القانوني والوحشي والقمعي للضفة الغربية وقطاع غزة، وبالكاد سُمعت همسة احتجاجٍ على ذلك من الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية. وثانيًا، من خلال تقديم رئيس الوزراء الإسرائيلي هذه الثنائية لخدمة مصالحه، لا بدّ من أنه أَحرج حلفاءه الغربيين الجَزِعين، عبر توريطهم بصورةٍ غير مباشرة في جرائمه في غزة.
لقد وقع الضرر بالفعل. وباتت غزة تمثّل منعطفًا حاسمًا في مسار انهيار المبادئ الليبرالية الدولية التي تتبنّاها الدول الغربية. لكن لم يكن بالإمكان توقّع صمود هذه المبادئ لفترة طويلة بعد أن بدأ مروّجوها بتطبيقها بانتقائيةٍ فاضحة.