المصدر: Getty
مقال

بين الساحل والمغرب العربي

يتجلّى التنافس المغربي الجزائري في العلاقات مع بوركينا فاسو والنيجر ومالي.

 ياسمين زغلول
نشرت في ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥

تشهد منطقة الساحل عملية إعادة اصطفافٍ استراتيجية ملحوظة، مدفوعةً باستعادة زخم النزعة القومية، وتراجع تأثير دول غربية كانت تتمتّع سابقًا بنفوذ كبير في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، واتّساع رقعة التنافس الجغرافي بين دولتَين قويتَين في منطقة المغرب العربي، وهما المغرب والجزائر.

على مدى عقود، تولّت فرنسا إدارة الإطار الأمني والنموذج الاقتصادي في منطقة وسط الساحل الأفريقي، الأمر الذي خلّف اعتمادًا شديدًا على فرنسا، على الرغم من إخفاقها في إرساء الاستقرار. وأدّى النهج الحازم الذي تبنّته بوركينا فاسو والنيجر ومالي في أعقاب الانقلابات العسكرية بين العامَين 2021 و2023، إلى إخراج فرنسا من المعادلة. فسارع كلٌّ من المغرب والجزائر لملء الفراغ الناجم عن ذلك، وحاولا منذ ذلك الحين استخدام مشاريع البنى التحتية الكبيرة كشكلٍ من أشكال "التوظيف الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية" خدمةً لأهداف السياسة الخارجية.

إذًا، في إطار هذا التنافس بين المغرب والجزائر، لم تعد الموانئ وخطوط الأنابيب مجرّد أدوات لتحقيق التنمية، بل باتت تؤدّي دورًا أساسيًا في الرؤيتَين المتنازعتَين لكلٍّ منهما حول القيادة والنفوذ في المنطقة. وخير مثالٍ على ذلك مشروع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب المطروح منذ عقدٍ من الزمن، فضلًا عن خط أنابيب الغاز العابر للصحراء، وهو مشروع جزائري تمّ تأخيره لفترةٍ طويلة. إذا اكتمل إنجاز هذَين المشروعَين، اللَذين سيمرّ كلٌّ منهما عبر دولٍ عدّة، فمن شأنهما إعادة رسم خريطة التفاعل بين منطقتَي الساحل والمغرب العربي. والجدير بالذكر أن مشروع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب أثار اهتمام الإمارات العربية المتحدة التي قرّرت المساهمة في تمويله.

لقد أدّى إنشاء تحالف دول الساحل في أيلول/سبتمبر 2023 إلى إرساء إطارٍ جديدٍ للتعاون الأمني والدفاع المشترك بين بوركينا فاسو والنيجر ومالي. علاوةً على ذلك، أفضى انسحاب هذه الدول من تكتّلاتٍ تقليدية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ومجموعة دول الساحل الخمس ذات التوجّه الأمني (التي انتهت عمليًا)، إلى منحها المرونة اللازمة لإقامة علاقات عملٍ جديدة ككتلة واحدة. هذا ما يُعطي التحالف قيمةً أكبر وتأثيرًا أقوى، ما يجعله شريكًا جذابًا محتملًا للمغرب والجزائر. إن بروز هذا التحالف كمنصّةٍ لتعزيز نفوذ دول الساحل أتاح وبشكلٍ غير مقصود الفرصة أمام كلٍّ من المغرب والجزائر لتوسيع نطاق تأثيرهما، وزاد بالتالي من تنافسهما.

في هذا السياق، تهدف المبادرة الملكية الأطلسية، التي أطلقها المغرب في العام 2023، إلى تمكين دولتَين من دول وسط الساحل الثلاث (وهي دولٌ غير ساحلية) من الحصول على منفذٍ إلى المحيط الأطلسي مباشرةً عبر الموانئ البحرية المغربية. وستنتهي الممرّات البرية عند ميناء الداخلة المغربي، وهو مرفقٌ في المياه العميقة من المُرتقب إنجازه بتكلفة 1.2 مليار دولار أميركي واستعماله لتفريغ وشحن أحجام كبيرة من البضائع. أما مالي، التي تسعى إلى الحدّ من اعتمادها على طرق التجارة التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، فتفتح المبادرة الأطلسية أمامها مجالاتٍ جديدة لتعزيز التنمية، ولا سيما أن اقتصادها يعتمد بشدّة على الصادرات. ولا يختلف وضع بوركينا فاسو عنها كثيرًا، إذ يُتوقّع أن يستفيد قطاعا الذهب والقطن في البلاد من الوصول بشكلٍ أسرع وأكبر إلى الأسواق العالمية. كذلك، يمكن أن تُحقّق النيجر مكاسب كبيرة من مشروع أنابيب الغاز العابر للصحراء، إذ من المتوقّع أن تمتلك هذه الدولة حصة 10 في المئة من خط الأنابيب هذا الذي يعبر نيجيريا والنيجر والجزائر، ما من شأنه أن يمكّنها من تعزيز إمداداتها المحلية من الغاز وتحقيق الإيرادات.   

باختصار، قد توفّر الخارطة الجغرافية الجديدة التي ترسمها الموانئ وخطوط الأنابيب والممرّات في مختلف أنحاء القارة الأفريقية مكاسب اقتصادية كبيرة، من بينها تحسين البنية التحتية المحلية، وتعزيز القدرة على الوصول إلى موارد الطاقة والأسواق، واستحداث فرص العمل، وتحقيق التكامل الإقليمي. ويُعدّ الانخراط في المشاريع الضخمة الخاصة بالطاقة والنقل جزءًا من الحسابات الاستراتيجية الأوسع نطاقًا للأنظمة الجديدة الحاكمة في بوركينا فاسو والنيجر ومالي، لضمان نمو اقتصادي مستدام، واستقرار الأوضاع السياسية في مواجهة التحديات الكثيرة، من بينها الضغوط الخارجية ردًّا على الانقلابات التي أوصلت هذه الأنظمة إلى السلطة.

مع ذلك، يتوقّف نجاح هذه المشاريع إلى حدٍّ كبير على تأمين التمويل اللازم واستتباب الأمن. فانعدام الاستقرار في المنطقة قد يُثني المستثمرين المُحتمَلين عن المشاركة فيها. إضافةً إلى ذلك، لا تزال الإمكانيات المالية لدول وسط الساحل محدودةً، على الرغم من الإعلان عن تأسيس البنك الكونفدرالي للاستثمار والتنمية في تموز/يوليو 2025، الهادف إلى تعزيز السيادة المالية لأعضاء تحالف دول الساحل. واقع الحال أن المشاريع الضخمة تتطلّب قدرًا من الاستقرار لا يمكن لدول الساحل توفيره، ما يجعل تنفيذها أمرًا غير مضمون.

مع ذلك، ثمّة عاملٌ آخر قد يكون أكثر أهميةً من ضمان الاستقرار، وهو إقامة شراكات استراتيجية مع دولتَين جارتَين (أو أكثر) نافذتَين وغنيّتَين بالموارد، حتى إن كانتا على خلاف مع بعضهما البعض. في هذا الصدد، تحقّق موريتانيا، بفضل موقعها الجيو-استراتيجي المميّز كجسر عبور بين شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، نجاحًا في إدارة هذا التوازن الدقيق، مع أنها ليست دولة حبيسةً ولا عضوًا في تحالف دول الساحل. فقد تبنّت موريتانيا تاريخيًا موقف الحياد تجاه صراع الصحراء الغربية، الذي يشكّل موضع خلاف بين المغرب والجزائر. واليوم، تعتمد نواكشوط النهج ذاته إلى حدٍّ بعيد في مجالات أخرى من سياستها الخارجية. فهي تبنّت، في ظلّ تخوّفها من اعتمادها الشديد على تمويل الجهات المانحة وعلى الصناعات الاستخراجية الخاضعة لسيطرة القوى الخارجية، والتي تمثّل أكثر من نصف صادراتها، استراتيجيةً قائمة على تنويع شراكاتها والتحوّط من المخاطر ضمانًا لاستقلاليتها واستقرارها.

على سبيل المثال، أعلنت موريتانيا انضمامها إلى المبادرة الأطلسية التي أطلقها المغرب ووقّعت اتفاقات عدّة مع الرباط بشأن مصائد الأسماك، والتعاون في مجال الكهرباء والطاقة المتجدّدة، والتعاون الصناعي. لكنها عمَدت في آنٍ إلى توطيد علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع الجزائر، بحيث تعاونت معها حول مشروع إنجاز طريق يربط ما بين مدينتَي تندوف الجزائرية وزويرات الموريتانية، وإقامة منطقة تجارة حرة مشتركة في تندوف، وتدشين خط بحري يصل الجزائر بنواكشوط. وبفضل هذه الاستراتيجية، تمكّنت موريتانيا من اقتناص الفرص الاقتصادية، مع حرصها في الوقت عينه على عدم معاداة الجزائر أو المغرب. ومن غير المرجّح أن تغيّر نواكشوط هذه الاستراتيجية ما لم تشهد موازين القوى الإقليمية إعادة اصطفاف رئيسة.

يمكن أيضًا الاسترشاد بنهج موريتانيا لتكوين فكرة عمّا ينتظر الدول الصاعدة في منطقة الساحل. ستتأثّر المنطقة لا ريب بالمحاولات التي يبذلها المغرب والجزائر لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية، في إطار مساعيهما المتضاربة لاكتساب مزيدٍ من النفوذ في أفريقيا. لكن مصير منطقة الساحل ليس مرهونًا بخصومة هاتَين الدولتَين فحسب. فكما تمكنت هياكل السلطة المحلية، ولا سيما الحكومات المدعومة من الجيش، من إقصاء الفرنسيين عن الترتيبات العسكرية والاقتصادية في بلدان وسط الساحل، ستنجح هذه الهياكل ذاتها أو من سيخلفها في تحديد مسار الانخراط الإقليمي لكلٍّ من المغرب والجزائر.

بعبارة أخرى، لا تعتمد العلاقات بين دول الساحل والمغرب العربي على هوية الجهة التي تبني أطول خط أنابيب بقدر اعتمادها على قرارات بوركينا فاسو والنيجر ومالي، وكذلك موريتانيا. فإذا اتّجهت هذه الدول نحو تنفيذ مشاريع منفردة مع المغرب أو الجزائر، أو كليهما، غالب الظن أن يتنامى نفوذ الرباط والجزائر إقليميًا. في المقابل، إذا انضمّت دول الساحل الثلاث الصاعدة حديثًا (ومعها موريتانيا ربما) إلى هذه المشاريع في إطار استراتيجية متّسقة، قد تستطيع الاستفادة من وحدتها وموقعها الجغرافي لتوسيع نفوذها الاقتصادي وحتى السياسي. ومن المرجّح أن تُحدّد أحداث العقد المقبل ما ستؤول إليه الأمور.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.